محسن الرملي
أوراق بعيدة عن دجلة
.. إلى الذين جاعوا وناموا على أرصفة المحطات في المنافي.
.. إلى الذين جاعوا وناموا على أرصفة المحطات في المنافي.
قرفتُ غرناطة وسيل طنين الحنين العربي الزائف إليها (نَدعو لأندلسٍ إن حُوصرت حلب) وكدتُ تنفيذ قراري بهجرها ودراستي فيها إلى الأبد، لو لا أنني قد شُغفتُ مؤخراً بفتاة غجرية شقراء ـ شقراء لأنها غجرية غير أصيلة ـ أخذتها إلى محل نسميه (دكان أبو هيثم العراقي)، يُرحب فيه بالعراقيين باشّاً ومسارعاً إلى تقديم (شاي أبو الهيل) وآخر طُرفة عن سعدي الحلي، معيداً حكاية فراره من الوطن ونومه على أرصفة المحطات وبيع السجائر خلل مطاردات (البوليص) كما يلفظه، أو (الإبليس) كما يسميه، حتى أصبح تاجراً للذهب هنا في حي البيازين في هذا المحل/ الدكان… حال دخولي قال:" أهلاً.. هاي أنت وين يا معوّد؟.. أقدم لك ابن خالتي سعدي، شاعر مثلك، وصل قبل أسبوع".. شاعر عراقي أيضاً؟ ـ أيضاً ـ شاعر شاب أشيب الشَعر، شديد الحزن ـ أيضاً ـ فسألته عن آخر (نُكتة) أيضاً، فقال بصوت هادئ وأكثر جدية من زيتونة:" آخر نكتة؛ إنني الآن أبيعك الذهب لفتاتك الشقراء ورأسي مثقل بصور مخاط أطفال العراق، وأضلاع أطفال السنغال الذين ذهبت لأعلمهم القرآن فعلمتهم أُنشودة المطر".. سُكوت.. صمت أوسع من عيون غجريتي التي لم تفهم شيئاً وأربك أقداح الشاي في يديّ أبي هيثم الذي استطال الصمت فقطعه قائلاً:" هذا هو سعدي دائماً ـ بطران ـ يحمل هموم الدنيا على رأسه، ولا يجلب إلا الكآبة، ذبحني يا رجل؛ منذ مجيئه وهو يسمي الذهب لزبائني بالخراب والخواء والخراء الأصفر، ولكن فليتدلل سَعّودي لخاطر عيون خالتي نشمية الله يرحمها"...
ألفتُ التقاء آلاف الوجوه طوال اغترابي، واعتدتُ افتعال السرور بلقاء أبناء البلد وإضمار التوجس، لكن نظرات سعدي الميتة المميتة وصوته الهادئ، المُستفِز وحزن وجهه وصمته شيء آخر.. يحيلني إليّ ويحضر لحظات انفجار تراكماتي.. تماماً كتلك اللحظات التي أكون فيها وحيداً في حجرتي الضيقة بالكتب والدخان جادلاً خطواتي بالذهاب والمجيء مفكراً بالانتحار... لن أقول بعد الآن." فتاتي أو غجريتي أو شقرائي" على الرغم من أن قصتي معها كانت أكثر مرارة من قبض دكتاتور على السلطة، وأعذب من يوم الإطاحة به... سأقول: الفتاة أو الغجرية أو الشقراء، لأنني لم أعد أشعر بامتلاكها ولا امتلاك أي شيء آخر منذ أول جملة قالها سعدي... جلسنا أنا وأبو هيثم فيما ظل سعدي واقفاً وراء منضدة البيع محدقاً عبر الباب إلى غيوم راحلة. رفَضَت الشقراء شاينا وانشغلت بتأمل القلائد والأقراط والأساور، وقال أبو هيثم وهو يربت على ركبتي بمودة:" سعد درس الهندسة ولكنه سيئ الحظ، لم يُوظف ولم يتزوج. أمضى حياته في السجون، ثم ذهب إلى الأردن عمل في الفوسفات، وإلى اليمن راعياً للأغنام في قرية مجهولة، ثم أريتيريا والسنغال والسودان... وإلى أين أيضاً؟.. لا أدري.. الخلاصة؛ أنه أمضاها من سيئ إلى أسوأ". التفت إلينا سعدي وقال:" الأصح من أسود إلى أسود.. لقد ضلّلني رامبو" وتنهد، فضرب أبو هيثم ركبتي المجاورة لركبته وقال:" أنا لا أفهم أكثر ما يقوله سعّودي ولكنه طيب، إنني أحبه، كانت أمه تناديه هكذا ـ سعّودي ـ كانت أفضل من يصنع الطرشي في النجف، ماتت في القصف يرحمها الله". ثم أضاف ضاحكاً:" الغريبة أن اسمه سعدي ولا يحب سعدي الحلي". قلتُ:" ألا تكف عن هذركَ يا أبا هيثم؟.. اليوم جمعة". قال:" إبليس نزل في البصرة".
كلما كنت أشعر بطغيان الحزن أجيء إلى أبي هيثم لنضحك من كل ما هو حزين، لكنني جئت هذه المرة مع الشقراء مسروراً لأهدي لها شيئاً بالاستدانة منه فوجدت الحزن مستوطناً عنده في سعدي الذي شعرت بأنه.. أنا الحقيقي، حين أكون وحيداً في منتصف الليل بين الكتب والدخان، أُجادل خطواتي في حجرتي الضيقة، وأفكر بالانتحار. قلت:" هل تكتب الشِعر حقاً؟". قال:" لا.. لقد كففتُ عن ذلك منذ أن استشعرت بأن هذا الوجود هو أول وآخر وأعظم قصيدة ولكنني قد أعاود كتابة الشِعر إذا ما جربتُ وجوداً آخر.. أو جربت العدم"… وعلى امتداد شهر بعدها ـ في كل لحظة ـ كنتُ أريد الذهاب لألتقي سعدي ولا أذهب. شعور بالشوق والحاجة والانجذاب لرؤيته وتردد وتساؤل وخوف… لن أكتب لكم قصة عشقي للغجرية الغرناطية الآن رغم أهميتها، ذلك أن سعدي قد هز كل شيء… أجادل خطواتي في حجرتي الضيقة بين الجدران والكتب والدخان لا أفكر بالانتحار بل باللقاء بسعدي، حتى ذهبتُ وحيداً بلا فتاة غجرية شقراء فلم أجده هناك. قال أبو هيثم:" لقد اختفى منذ أسبوع، لم يُخبر أحداً بشيء ولا ندري إلى أين..". قلت:" ألم يترك شيئاً؟". قال:" أبداً ولا حتى نكتة.. لقد خَرّب دفتر حسابات المحل بخربشات غريبة حتى اضطررت إلى فتح سجل جديد" فسألته:" وأين الدفتر القديم؟". قال:" ذاك هو، رميته في الزبالة". سارعت إلى التقاط الدفتر من سلّة الزبالة وانطلقت إلى غرفتي أدخن… رسوم وأرقام وأوصاف تحاول تسجيل المبيعات بين خطوط الصفحات بشكل يوحي بعدم معرفة بالتجارة، أو عن تعمد شاعري خاص:" في هذا اليوم/ امرأة بدينة أخذت قلادة صفراء وأعطتني ورقة حمراء عليها رقم 2000 ومعها ثلاث قطع معدنية عليها أرقام 100"…" رجل باكستاني ومعه إنكليزية مَطليّة بمكياج زادها قبحاً، أخذا أربعة أساور من ذهب ـ لن تُحلّيها ـ وأعطياني ورقة زرقاء عليها الرقم 10000"، وهكذا حتى وجدته قد سجل في تاريخ زيارتي العبارة التالية:" عصر اليوم، شاب عراقي ـ ربما شاعر أيضاً ـ وصاحبته الشقراء، أخذا قرطين وقلادة ولم يعطياني شيئاً.. الذي قدمتَ له الشاي و(النُكات) أيضاً يا أبا هيثم"، وعلى الأوجه الأخرى من صفحات تسجيل المبيعات ثمة رسوم وعبارات بلغات مختلفة، أسجل منها ـ هنا ـ ما استطعتُ قراءته بالعربية:
" جئتُ إلى غرناطة بحثاً عن لوركا علّه يستطيع الكتابة عمن قُتل من أهلي فوجدته مقتولاً".
* * *
" بعد أن قرأتُ تاريخ حروب بلادي ظللتُ أحلم في كل ليلة أنني عملاق أضع إحدى قدميّ في زاخو والقدم الأخرى في الفاو وأتغوط غائطاً بركانياً كبيراً".
* * *
" روت لي الحاجّة نشمية قبل أن يُحطم عنها قيد الحياة، بأن شيخاً اسمه جبر قد مر على مقبرة إحدى القرى فوجد أسماء الموتى مكتوبة على شواهد القبور، وتحتها أعمارهم التي لم يتجاوز أطولها عشرة أعوام، فأصابته الدهشة وراح يسأل أهل القرية عن سر هذه الأعمار القصيرة، فقالوا له: إن من عادتنا ألا نسجل إلا عدد الأعوام السعيدة من عمر الإنسان قبل انقضائه... فتنهد جبر وقال لنفسه بعد أن استعرض سنوات عمره: إذاً سيُكتَب على شاهدة قبري:" جبر.. من فَرّج أمه إلى القبر".
* * *
ـ 1 ـ
" خُذ دهشتكَ واعرض عن سُخريتهم وكن كما أنت.. كما أنت، كما النبتة البريّة، تبزغ أينما يأتيها التفتح، تدفع القشرة.. القشور.. آه يا قشوركم.. يا متراس الزيف ودرع الجَهالة الصدئ… تنزرع حيثما جاء الانزراع/ الأوان/ القَدر، ربما على شفة بِركة ماء.. ربما على حواف صخرة بليدة، ربما وسط غائط جاف.. ربما أينما تكون.. أقول لك: خُذ قسطكَ من الدهشة واعرض عن تصنعاتهم/ تصانعاتهم/ صناعاتهم/ تمصنعهم.. كُن يا أنتَ.. يا أيها الأكثرهم معرفة وأكثرهم لجماً لقواه كي لا يُشعرهم بضعفهم.. ما أكرمك عليهم لو يشعرون!.. ما أقساكَ على نفسكَ!.. لو ترحمها قليلاً.. قليلاً فقط بحجم قطرة في بحر ظلكَ الذي تحجب بع عَظَمَتك عنهم كي لا يتعبوك… ولكي تنتظر.. ماذا تنتظر؟ أوَ ثمة أصدق وأعذب وأعظم وأكثر إغراءً ومدعاة للحلم.. أوَ ثمة ما يستحق الحلم خيراً من الموت؟!!".
ـ 2 ـ
" أيها الذي أفرُ منكَ وأبتعد وأرحل وأتشاغل وأتجاهل أدّعي الحلم وأرتكب الجدّية وأقترف الصبر.. أهربُ منكَ قصداً وأبتعد، فأجدك أمامي.. أمامي.. أينما ولّيتُ قلبي، أينما قلّبت قلبي.. حيثما قلّيتُ قلبي.. حيثما تناسيت أو هربت.. رحلتُ، رحلتُ بعيداً: من هناك إلى هناك إلى هنا وقلت لن يعرف طريقي، فتنفستُ فقط ووجدتكَ أمامي، معي، مني، ، فيّ.. أنا وعرفتُ اسمكَ يا سيدي عنوة.. يا مُستعمِري ورفيقي الإجباري حتى النهاية، عرفتُ اسمكَ.. إنكَ الجرح.. أنت الجرح إذاً، فأنت جرحي ولأنك استعمرتني حتى الفناء واسّتَحَلتَ إليّ كُليّ أنتَ، فأنا أنت وأنت أنا.. اسمك جرح واسمي سعدي، أو اسمي جرح واسمك سعدي، أو اسمك جرح سعدي، أو اسمي سعدي الجريح، أو اسمك الجرح السعدي، أو اسمي السعدي الجريح، أو اسمك جرحي، أو اسمي سعديك، أو اسمك كارثة السعدي، أو اسمي أرض الجرح…………….".
ـ 3 ـ
" في النهاية، في البداية.. نحن اثنان فقط، ولن نكون ثلاثة أبداً، سنرحل معاً ونتصارع ونحب بعضنا ونكره بعضنا ونظلم بعضنا، فنحن بعضنا لبعضنا إلى أن أنتهي فتنتهي، أو تنتهي فأنتهي… لن نكون ثلاثة ولن نكون واحداً، نحن اثنان دائماً، وحين يحاول الموت التفريق بيننا سنموت وسيموت هو………………….".
ـ 4 ـ
" إن الأربعة صليبكَ وفيها عمود مشنقتكَ، مشنقتي.. أحلم بكِ (يا مشنقة) تحتضنين رقبتي لأنك احتضنتِ رقبته وأُمنا واحدة، احتَضَنَته أولاً ثم احتضنتني ثم ماتت، وأنتِ احتضنت رقبته فاحتضني رقبتي ومُوتي.. لا تكوني لغيرنا، لا تكوني رخيصة.. لا تكوني عاهرة.. كوني عاشقة، لتكوني معشوقة ونحنُ أنانيون بالحب، فكوني مثلنا واكتفي بنا دون باقي الناس، لأننا عنهم: نحن كباش سماء قلوبهم، نحن فتاة الجسر العباسي، فتاة جسر أبيها… الله، يا فتاة الجسر العباسي، يا شَعركِ.. يا شِعركِ.. يا قلبكِ.. أحبك.. أحبكِ.. خذيني إليكِ وليس في عين الجسر الأخرى ولكن في الأخرى الثالثة.. أقصد معكِ لنبقى واقفين. أنتِ تُديمين حياة جسر أبيك في شمالنا وأنا أُديم حياة سلوكك.. سلوكه.. إنه أنتِ.. هو التضحية وأنا الضحية.. أنا عاشقها، عاشقكِ، عاشقكم، عاشق عشقكم، عاشـ…….".
ـ 5 ـ
" هل للّحظات وثائقية اللحم والدم؟. هل للذكرى فاعلية الصدمة الأولى، ورد فعل دائم الموازاة والحيوية؟. أقول ذلك لأن المرارة في الحلق لم تغادره بعد الكارثة، وفي العيون تحجر عدم التصديق.. وفي القلب ـ صدقاً ـ شجرة حزن شوكية تكبر كل لحظة… هل لهم أن يصنعوا.. يصطنعوا عذوبة اللحظة وتشكيلها وفق وعيهم العادي، ذلك الجماعي السهل المَج الفَج.. هل هم على صواب؟ هل نحن على ذلك في تساؤلنا؟ هل ثمة معيارية للتفاضل في تفاصيل كهذه.. كتلك؟. إن غالبية أمورها ـ الحياة ـ من هذه الصبغة، من هذه الضبابية ولذلك ننتهي جميعاً، للاعتراف بعدم الفهم، أو إذا ما تنكرنا لذلك فإننا نتقمّص كبرياء زائفة، نعلم في قرارتنا.. أنه ليس كذلك.. ليس كذلك!!؟؟".
* * *
طَويتُ الأوراق.. هَدأ الدخان... قررتُ الرحيل. أما قصة العشق فسوف أكتبها في زمن آخر أو وجود آخر غير هذا الوجود.. أو عندما أُجربُ العَدم، فربما أُعاود الكتابة... حَزمتُ الحقيبة... سأرحل دون أن أخبر أحداً ولا أدري إلى أيــن..
في حي البيازين في غرناطة
هناك 3 تعليقات:
Zanmi Rebecca Gorley dijo
Me encanta ...Alhambra y Granada, ...un dia, me gustaria entender todos tus palabras
سرد ممتع واتقان جميل
راوي بامتياز
محبتي الاكيدة
قاسم زهير
سيّد محسن,, هذه الكتلة أبكتني بسهولة,,
لي سؤال: تبدو لي حادثة حقيقيّة,, أهي كذلك؟؟؟
هاني عبدالجواد
إرسال تعليق