السبت، 27 أكتوبر 2018

محسن الرملي: الرواية كتاب معرفي وليست حكايات للتسلية /حنان عقيل

حوار
محسن الرملي: الرواية كتاب معرفي وليست حكايات للتسلية
الشاعر والروائي والمترجم العراقي يؤكد أن الرواية العراقية لم تتناول حتى الآن مراحل التاريخ الثريّة، وأن جودة العمل لها الأولوية على صيت الجوائز. 

حنان عقيل
محسن الرملي، شاعر وروائي ومترجم عراقي، يقيم في إسبانيا منذ ثلاثة وعشرين عامًا. وصفته صحيفة “الغارديان” بأنه من نجوم الأدب العربي المعاصر. وهو صاحب تجربة ثريّة في الشعر والنثر والترجمة والمسرح. وقد أدرجت روايته “ذئبة الحُب والكتب” في القائمة القصيرة لنيل جائزة الشيخ زايد للكتاب عام 2015. “العرب” حاورت الرملي حول بعض ملامح مشواره الإبداعي وتجربته مع الترجمة.
رغم سنوات البُعد عن الوطن لا يزال الروائي العراقي محسن الرملي مسكونًا بالهم العراقي وتاريخه المُثقل بالهزائم والانكسارات في أعماله الأدبية. يرى الرملي أن العراق ليس فقط ذاكرته وإنما “هو وجهي، ملامحي، جيناتي، والدي، جرحي، دمي وبصمتي، وهذه أشياء يستحيل التخلص منها أو الانفصال عنها مهما ابتعدت في المكان أو الزمان، ومهما تغيّرت أفكاري وقناعاتي وطبيعة حياتي اليومية، وأشياء كهذه ستبقى تهمك وتؤثر عليك، شخصيّا وعلى أعمالك”.

التجربة والروايات 

من حكايات العراق

تحفل أعمال الرملي الروائية بهموم فكرية مختلفة. نجده يكتب عن الهوية الدينية والاجتماعية والدكتاتورية وتأثيرات العولمة وغير ذلك من القضايا والانشغالات الفكرية. نسأله إن كان الاشتغال الجمالي فحسب للرواية غير كاف وعليها دومًا أن تعكس الأفكار وتحللها؟
عن ذلك يجيب الرملي “نعم، فأنا ممن يعتقدون بأن العمل الروائي لا بد أن يحتوي على عنصرين أساسيين معًا وليس أحدهما فقط، وهما المتعة والمعرفة، وهذا الأمر أطبقه حتى في أسلوبي التدريسي وفي تفاصيل الحياة، ولا أتفق مع الذين يرون أن الرواية هي للمتعة فقط، لأن وسائل المتعة كثيرة ومختلفة ومتوفرة وأسهل، وبعضها أكثر متعة، وعند تفحص كل الأعمال الروائية الخالدة عبر التاريخ نجد أنها تضم هذين العنصرين (المتعة والمعرفة)، ومعروف أن الأدب كان مصدرًا للكثير من الفلسفات والأفكار ومنطلقًا للعديد من النظريات الفكرية والعلمية، بل وحتى منطلقًا لعلوم صرفة واختراعات استمدت بذورها من روايات الخيال الأدبي عمومًا ومن روايات الخيال العلمي بشكل أخص، والكثير من المفكرين والعلماء استعانوا بالأدب لتوضيح طروحاتهم وتحليلاتهم ومنهم فرويد على سبيل المثال في تأسيسه لعلم النفس. على هذا الأساس، أنا أتعامل مع الرواية على أنها كتاب معرفي كأي كتاب آخر، وليست مجرد حكاية للتسلية”.
يلفت الرملي إلى أن كل ما يرد في رواياته من شخصيات ومواقف وقضايا وغيرها، له بذوره وجذوره في الواقع مهما بدا خياليًا، وتبقى الفروق في مدى نسبة ما نأخذه من الواقع ومدى قربه الشخصي منا، مضيفًا “أنا بذلك لا أختلف كثيرًا عن غيري من الكتاب. أميل لأخذ الأقرب إلى تجربتي ومعرفتي ورؤيتي عادة، لم آخذ شخصية كاملة من الواقع كما هي أبدًا ولم أخترع أية شخصية من اللاشيء”.
يحضر البُعد الذاتي للرملي في الكثير من الأعمال بتنويعات مختلفة. في كتاباته القصصية والروائية نجد أجزاء من سيرته الذاتية. يوضح الكاتب “أستقي جل أعمالي من تجربتي الشخصية، فأنا أفهم الفن بتعريفه التقليدي والكلاسيكي، وهو: ترشيح الطبيعة أو الواقع من خلال ذات الفنان. وأكتب عما أعرفه وعما أريد معرفته أفضل مما يخصني ويخص الذين يهمونني، أكتب لأن ثمة شيئا أريد أن أقوله أنا بحسي ولساني ورؤيتي”. 
مساحات إضافية من حيث الجغرافيا والثيمات

في ظل كثرة الإبداعات الروائية العراقية في الفترة الأخيرة يرى البعض أنها لا تزال أسيرة لواقعها وظروفها وماضيها التاريخي وأن السرد العراقي على اتساع رقعته لا يزال غير قادر على التحليق في عوالم مغايرة لهذه المنطقة.
 يُعلِّق الرملي “مهما قيل عن كثرة الروايات العراقية في الفترة الأخيرة، فهي لا تزال قليلة جدًا قياسًا إلى كثرة وثراء المواضيع والهموم والقضايا العراقية الحاضرة، عدا أن مراحل التاريخ العراقي الثرية لم تتناولها الرواية لحد الآن، لذا أتمنى أن يتم إنتاج روايات عراقية أضعاف أضعاف ما أُنتِج لحد الآن، والأدب العراقي ليس ملزمًا بالابتعاد عن مناخات منطقته، فالصيني يكتب عن الصين والإسباني يكتب عن إسبانيا والأميركي عن أميركا ولم يطالبهم أحد بالكتابة عن غير مناطقهم وثقافاتهم”.
يشير الكاتب العراقي إلى أنه انتهى لتوه من رواية جديدة بعنوان “أبناء وأحذية” صدرت منذ أيام، وقد حاول فيها مد خطوات تجربته نحو مساحات إضافية من حيث جغرافيتها ومن حيث ثيماتها، وابتعد فيها عن أجواء الحرب والدكتاتورية التي تناولها في أعماله السابقة.
كما أنه أنهى الرواية التي يمكن اعتبارها بمثابة جزء ثان لـروايته “حدائق الرئيس”، وإن كان يمكن قراءتها كعمل مستقل أيضًا، وهو الآن في مرحلة المراجعات والتحرير والمناقشات مع ناشرها الإنكليزي.

الأدب كوثيقة

بالموازاة مع الكتابة الإبداعية في الشعر أو النثر، ترجم الرملي العديد من الأعمال من وإلى العربية. في هذا الإطار يعتقد أن نظرة الغرب وغير الغرب نحو الأدب بشكل عام هي في طور التغير، وما عادت التصنيفات الجغرافية والقومية من الأولويات، وإنما يتم الاهتمام بأي عمل جيد فنيًا وعميق إنسانيًا بغض النظر عن جنسية كاتبه، ذلك أن العالم أصبح مفتوحًا على بعضه البعض، أما عن الجانب الوثائقي الاجتماعي والسياسي الذي يُشكّل اهتمام الغرب الرئيسي في أحايين كثيرة بترجمة كتابات عربية محددة فهو موجود بشكل أو بآخر في طيات كل عمل فني، ولكن ليس هو العنصر الأهم على الرغم من أهميته، وأي عمل فني هو في نهاية الأمر يعد شهادة أو وثيقة على عصره حتى وإن كان عملاً خياليًا بحتًا. وبشكل عام فإن الأدب العربي المعاصر أخذ يحقق حضورًا تدريجيًا عبر أعمال جيّدة وباستحقاق، يعني ‘بذراعه’ وليس بمِنّة أو دعم أو تعاطف من أحد”. 
قصة المذابح في العراق

وفيما يتعلق بدور الجوائز في تعزيز الاهتمام الغربي بترجمة الأعمال العربية المتوجة بجوائز هامة يوضح الرملي “لا شك أن الجوائز تمثل دعمًا ولفت انتباه إلى الأعمال الحاصلة عليها، لكن ذلك لا يكفي لمسارعة الناشر الغربي إلى الاهتمام بالعمل، فالجوائز كثيرة جدًا في العالم، كما أن أعمال الجوائز العربية التي قامت هيئات الجوائز نفسها بترجمتها، لم يحظ أغلبها بالنجاح والاهتمام الغربي، لا من قبل الناشرين ولا من قبل القراء، لذا فجودة العمل لها الأولوية على صيت الجوائز. وأعمال عربية مثل ‘طوق الحمامة’ و’ألف ليلة وليلة’ و’حي بن يقظان’ وغيرها تمت ترجمتها إلى أغلب لغات العالم وفي أزمنة مختلفة، دون أن تكون حاصلة على أية جائزة من أي نوع. مع ذلك، وبشكل عام، أنا أرى أن مسألة الجوائز إيجابية، بغض النظر عن إشكالياتها المعروفة، فكل ما يصب في مصلحة الدعم والترويج لما هو ثقافي وفني أهلًا به”.
نسأل الرملي عما يمثله له وصول أعماله وترجمتها للغات أخرى؟ وهل ثمة اختلاف في قراءة ونقد أعمالك في الوطن العربي عنها في الخارج بمعنى أنها أكثر أو أقل تعمقًا وتوغلًا في فهم أبعاد العمل؟ ليجيبنا “إنه يطمئنني على أن أعمالي تحتوي على أبعاد إنسانية تهم الآخرين من ثقافات أخرى على الرغم من مناخاتها ومواضيعها التي تبدو محلية، وأنني بالتالي نجحت في إيصال ما هو هَم إنساني في بيئتي المحلية ووصله بالإنساني العام، أما عن النقد والقراءات فهما بصراحة نعم يختلفان، نبهني النقد الغربي إلى مسائل عديدة من حيث الشكل والموضوع لم ينبهني إليها النقد العربي، منها على سبيل المثال أنني أصف الموت بجمالية وأن تركيزي على طبيعة العلاقات بين الشخصيات يفوق تركيزي على المكان وحتى على الحدث نفسه أحيانًا، وأمور عديدة من هذا النوع، لكن ذلك لا يعني أن القراءات النقدية العربية قاصرة، وإنما تتناول الأعمال بشكل مختلف”.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشر في صحيفة (العرب) العدد 11106 بتاريخ 12/9/2018 لندن

*ونشر في صحيفة (المشرق) العدد 4143 بتاريخ 19/9/2018 العراق
http://www.al-mashriq.net/inp/view.asp?ID=129151

الجمعة، 26 أكتوبر 2018

بطل رواية (أبناء وأحذية) يهدي الأمومة

بطل رواية يهدي طفلا لأيّ امرأة تحلم بالأمومة
الكاتب العراقي محسن الرملي يخرج في روايته "أبناء وأحذية" عن مواضيع الحروب والدكتاتورية، موسعا من مساحة المكان الذي تدور فيه الأحداث. 

صحيفة: العرب
بغداد - يبتعد الكاتب العراقي محسن الرملي في روايته الجديدة “أبناء وأحذية”، الصادرة حديثا عن دار المدى في بغداد وبيروت، عن مواضيع الحروب والدكتاتورية التي كان قد تناولها في رواياته السابقة، كما يوسع من فضاءات أحداثها التي تجري في العراق وإسبانيا وكولومبيا، مفتتحا إياها بهذه العبارة اللافتة “انتقاما من موت طفلتي في العراق، أنجبت سبعة وعشرين طفلا في إسبانيا وكولومبيا”، ويهديها “إلى الذين بعثرت الأقدار أحلامهم، فرمَّموها بأخرى”. 

تنوّع ثري في الشخصيات
بطل الرواية وساردها شاب مولع بالمسرح يمنعه أبوه الشرطي من دراسة المسرح، فيخالف إرادة ذلك الأب بعد أن يلتقي بشابّة تشبهه في حبها للمسرح، وأجبرها والدها رجل الدين على دراسة الشريعة، حيث يكسر الشاب ذراعه بإرادته كي يستطيع الانتقال من كلية الرياضة إلى المسرح حبا به وبتلك الشابّة، التي يتزوجها وينجب منها طفلة، لكن الطفلة تموت بعد ساعات من ولادتها، ويدفنها قبل أن تفيق الأم من التخدير، فتغضب منه وتقرر تطليقه، وعلى إثر ذلك تتغيّر حياته، ويوجد لنفسه، لاحقا، مسوغات نفسية، قائلا إنه يهدي طفلا لأيّ امرأة تحلم بالأمومة.
تحفل الرواية بالتنوّع الثري في الشخصيات والأحداث والمواقف والأفكار والعواطف، مؤكدة التقارب بين الأفعال والقيم الإنسانية في العمق، على الرغم من الاختلاف في الثقافات. وتعيد طرح التساؤلات حول المصير الفردي، والقضايا الإنسانية الكبرى، والمفاهيم التي طالما أعادت الآداب الخالدة طرحها في مختلف العصور: الخير والشر، الحب، الحلم، الحرية، القدر، الموت، الأخلاق، والعلاقات العائلية وأثرها في رسم مصائر الأشخاص.
جاءت الرواية، بحسب الرملي، انطلاقا من حسرة يقول إنها رافقته كل عمره، بعد أن وقفت عائلته ضد رغبته في دراسة المسرح. ومن ثم فقد حاول عبر هذه الرواية أن يقوم بما لم يستطع القيام به آنذاك، مستندا في ذلك إلى تجربته الشخصية التي قادتها الصدفة أو الظروف إلى دراسة اللغة الإسبانية، ومن بعدها معرفته ببلدان أخرى كإسبانيا وكولومبيا.
أمّا بالنسبة إلى عنوان الرواية، فيشير الرملي إلى أنه مأخوذ من عبارة وردت على لسان البطل يقول فيها “لم تكن حياتي سوى أبناء وأحذية… أبناء وأحذية، وكلاهما للآخرين وليس لي”.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في صحيفة (العرب) العدد 11100 بتاريخ 6/9/2019 لندن
https://s3.eu-west-2.amazonaws.com/alarabuk.prod/s3fs-public/2018-09/11100_0.pdf?m0Bbyi2zjDIlayhofj6r6Lmx_bfHxPa8#page=14

حوار مع محسن الرملي، دليل في حدائق الأدب الإسباني

مفكرة المترجم
مع محسن الرملي.. دليل في حدائق الأدب الأسباني
علينا في العالم العربي أن نخطط لترجمة ألف كتاب سنوياً في كل اختصاص
من المحبذ أن تكون للمترجم محاولات أو تجارب كتابية
في حديثه إلى (العربي الجديد) عوائق يواجهها المترجمون العرب بين غياب المشاريع الجديّة 
ومؤسساتها وصعوبة التفرغ للترجمة كمهنة يعتاش منها

مدريد ــــ العربي الجديد
كيف بدأت حكايتك مع الترجمة؟
ـــــ بدأت عندما كنت طالبًا في المرحلة الثانية أو الثالثة من دراستي للغة الاسبانية في جامعة بغداد، حيث عثرت على لقاء مع رافائيل ألبرتي في نشرة معهد ثربانتس في بغداد، والذي كنت أتردد عليه وعلى مكتبته كثيرًا، ففرحت لأنني فهمته كله عند قراءته ولذا سارعت إلى ترجمته، وبعثته إلى إحدى الصحف الرئيسية آنذاك ففأجأتني سرعتهم في نشره ومطالبتي بالمزيد من الترجمات.
ما هي آخر الترجمات التي نشرتها، وماذا تترجم الآن؟
ــــ كتاب (الأدب الإسباني في عصره الذهبي) وهو كتاب مرجعي في خمسمائة صفحة وصدر عن دار المدى، وأعمل الآن، بالاشتراك مع زوجتي الدكتورة نهاد بيبرس، على ترجمته رواية جوكا تيرون (الحزن العجيب لنمر الثلوج)، لصالح دار الخان للترجمة والنشر الكويتية.
ما هي، برأيك، أبرز العقبات في وجه المترجم العربي؟
ـــــ ضعف المكافأة المادية للمترجم، بحيث أن أغلب المترجمين لا يستطيعون العيش من مردود الترجمة المادي وحده، فيما لو اتخذوا الترجمة مهنة رئيسية في حياتهم، وهنا أتكلم عن الترجمة الأدبية تحديدًا، والمعوق الآخر أن الكثير من المترجمين يجدون صعوبة في العثور على دور نشر تهتم وتتبنى كتبًا ترجموها باختيارهم هم.
هناك قول بأن المترجم العربي لا يعترف بدور المحرِّر، هل ثمة من يحرّر ترجماتك بعد الانتهاء منها؟
ـــــ شخصيّا لم أسمع بهذا القول، وأتمنى لو تتكرس لدينا ظاهرة المحررين سواء للترجمات أو للنصوص الأدبية، فدور المحرر مهم وضروري جدًا، أما عن تجربتي الشخصية فقد عملت على تحرير ترجماتي بنفسي لأنني لم أجد من يحررها من بعدي، ومع ذلك عادة ما أطالب الناشرين بإيجاد مصحح أو مُراجِع لغوي لها بالعربية على الأقل، لأننا كثيرًا ما نقع في الترجمات بنقل تراكيب اللغة المنقول عنها كما هي.
كيف هي علاقتك مع الناشر، ولا سيما في مسألة اختيار العناوين المترجمة؟
ـــــ علاقتي مع كل الناشرين الذين تعاملت معهم جيدة، ولم أواجه أية مشاكل معهم في كل ما ترجمته، ربما أن هذا راجع لمعرفتنا الشخصية ببعضنا والثقة المتبادلة، وخاصة ثقتهم هم بي ومدى معرفتي بالمادة التي أريد ترجمتها، بل أن أغلبهم يستشيرني أحيانًا حول عناوين يطرحها عليهم مترجمين آخرين.
هل هناك اعتبارات سياسية لاختيارك للأعمال التي تترجمها، وإلى أي درجة تتوقف عند الطرح السياسي للمادة المترجمة أو لمواقف الكاتب السياسية؟
ــــ لا، ولم أواجه أية إشكالية من هذا النوع لحد الآن، لأن اختياراتي تنصب أساسًا على أهمية العمل الأدبية والثقافية وأهمية مؤلفه في هذا المجال، وبالطبع سأمتنع عن ترجمة أي كتاب يحمل هو أو كاتبه نَفسًا عُنصريًا أو مسيئًا لقضايا العرب الرئيسية.
كيف هي علاقتك مع الكاتب الذي تترجم له؟
ــــ بعضهم أصدقائي، وبعضهم لا أعرفهم معرفة شخصية، وبعضهم متوفي منذ قرون، وهم الأغلبية لأن أغلب ترجماتي من الأدب الكلاسيكي وهي التي أفضلها وتقع ضمن تخصصي الأكاديمي.
كثيراً ما يكون المترجم العربي كاتباً، صاحب إنتاج أو صاحب أسلوب في ترجمته، كيف هي العلاقة بين الكاتب والمترجم في داخلك؟
ـــــ نعم، وهذه أعتبرها من الأمور الجيدة والمحمودة، لذا فإن أفضل الترجمات في مختلف اللغات هي تلك التي قام بها مترجمون كُتاب أو شعراء أو على الأقل لديهم محاولات وتجربة كتابية، وبالنسبة لي فإن الكاتب في داخلي وفي خارجي هو الذي يتغلب دائمًا على المترجم، بحيث أتصرف أحيانًا بإعادة صياغة مقاطع على حساب الدقة في الترجمة.
كيف تنظر إلى جوائز الترجمة العربية على قلّتها؟
ـــــ أية جوائز في أي ميدان ومنها الترجمة هي شيء إيجابي، وأتمنى لو تزداد وتنتشر وتتنوع لأن ذلك يثري الميدان، نعم، لا تزال جوائز الترجمة العربية قليلة، وغير معروفة لجمهور القراء بحيث يمكنها التأثير على اختياراتهم في القراءة وتشجيعها، كما تفعل الجوائز الأدبية مثلًا.
الترجمة عربياً في الغالب مشاريع مترجمين أفراد، كيف تنظر إلى مشاريع الترجمة المؤسساتية وما الذي ينقصها برأيك؟
ــــ هناك مشاريع ترجمة مؤسساتية رائعة وكان لها تأثير كبير وأثرَت الثقافة العربية، منها على سبيل المثال، دار المأمون العراقية سابقأ، إصدارات المجلس الأعلى للثقافة المصري ومشروعه القومي للترجم وسلسلة الجوائز، مشروع كلمة الإماراتي، سلسلة عالم المعرفة الكويتي وغيرها.. وأغلبها ينقصها الاستمرارية بثبات وتخطيط يعمل على ترسيخ نظامها ويجدد ويوسع اختياراتها ومترجميها.
ما هي المبادئ أو القواعد التي تسير وفقها كمترجم، وهل لك عادات معينة في الترجمة؟
ـــــ أن أقتنع أولًا بأهمية ما أُترجمه، أن تكون المكافأة مجزية للجهد والوقت الذي سأبذله فيه، وأسعى لأن تكون الترجمة سلسلة القراءة بالعربية قدر الإمكان. أما عن العادات فإنني أجمع وأقرأ ما أستطيع من المعلومات عن العمل قبل البدء بترجمته، وعندما أبدأ، أحرص على اتباع نظام عمل روتيني يومي تقريبًا، كي أبقى متعايشًا مع مناخه ومتشبعًا به منذ البداية وحتى النهاية.
كتاب أو نص ندمت على ترجمته ولماذا؟
ـــ فصل عن بورخس من كتاب (لماذا نقرأ الكلاسيكيين) لإيتالو كالفينو، لأنني ترجمته مبكرًا قبل أن تتحسن لغتي وقبل أن أستوعبه تمامًا، عدا كونه من لغة وسيطة أصلًا.
ما الذي تتمناه للترجمة إلى اللغة العربية وما هو حلمك كمترجم؟
ـــــ أتمنى لو يتم تأسيس مشروع عربي شامل وجاد ونهضوي للترجمة ويُقَر في إحدى قمم الرؤساء العرب، بحيث يتم استحداث وزارات للترجمة أو مؤسسات عليا في كل بلد وترتبط بإدارة عربية مشتركة للتنسيق ومن خلالها يتم وضع خطط لترجمة ألف كتاب سنويًا، على الأقل، في كل اختصاص، وتوضع قوانين وميزانية وافية وجوائز حقيقية ودعم إعلامي، وبهذا سنستطيع مواكبة الجديد في العالم وإحداث نهضة ثقافية ومعرفية حقيقية ستؤثر على كل الميادين الأخرى. أما حلمي الشخصي الفردي كمترجم، أتمنى لو أجد الوقت الكافي كي أترجم أعمال أحبها، ولكي أترجم أطروحة الدكتوراه التي كتبتها بالاسبانية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بطاقة:
كاتب ومترجم عراقي من مواليد 1967 ومقيم في إسبانيا منذ 1995 ويكتب باللغتين العربية والإسبانية. من مجموعاته القصصية: "أوراق بعيدة عن دجلة" و"برتقالات بغداد وحب صيني". ومن رواياته: "ذئبة الحب والكتب" و"حدائق الرئيس". أما في الترجمة، فمن أبرز ما قدّم: "المسرحيات القصيرة" لميغيل دي ثربانتس، و"الأدب الإسباني في عصره الذهبي" الذي عرّب فيه أبرز نصوص القرنين السادس عشر والسابع عشر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشر في صحيفة (العربي الجديد) العدد 1471 بتاريخ 11/9/2018

السبت، 20 أكتوبر 2018

قراءة في قصة (أنا وبقيّة ابن بقيّ) للكاتب محسن الرملي / حسني مليطات

 التخاطر الذي أوصل شاعر الموشحات الأندلسي ابن بقي

إلى بغداد القرن الواحد والعشرين

حسني مليطات
يُعرَّف التخاطرُ بأنه "قراءةُ الأفكارِ" بين شخصين متباعدَين في الزمان أو المكان، وهو فرعٌ من علم ما وراء النفس، أو ما يُطلق عليه "الباراسيكلوجي"، الذي يدرسُ الظواهرَ الخارقةَ، الخارجة عن المعقول.
وحتى يتمَّ التخاطر لا بدَّ من التجانس "الروحيّ" بين الشخصيةِ الأولى "التي تقومُ بفعل التخاطر"، والشخصية الثانية "المتحاوَرِ معها"، ويكون التجانسُ من خلال الأفكارِ والموضوعاتِ المتشابهة بين الشخصيتين، وهي الجزئيةُ المركزية لبناء فكرة التخاطر بينهما.
ويقسمُ التخاطر إلى عدة أقسامٍ، أهمها: التخاطرُ مع الماضي، ويقصد به محاكاةُ الشخصياتِ التاريخية أو البعيدةِ عن الزمن الواقعي الذي يعيشه الشخصُ الأول الراغبُ بالقيام بفعل التخاطر، بهدف إحياء موضوعٍ ما، وتأسيسِ وجهة نظرٍ متشابهة مع تلك التي كانت موجودةً في الزمن المُرَادِ التخاطرَ معه.
وإدخالُ فنّ التخاطر إلى الأدب جزءٌ من التكوين الدلالي في النصّ الأدبي، وبنيةٌ استعاريةٌ مهمة في التعبير عن الموضوعاتِ المطروحة المتشابهة عادةً بين الزمنَين المستحضرَين في المتن الحكائي، التاريخيّ منها والواقعي. والتخاطرُ أسلوبٌ حكائي حداثي، يُخرجُ النصَّ من إطار التقليد إلى التجديد، ويساعد كما يقول الناقدُ الأمريكي (فريدريك جيمسون) على "حساب القيمةِ الجمالية للنصوص"، التي يشكّل فيها التكوينُ الفانتازي البنيةَ التأسيسية للحكاية.
وقد شاع استخدام التخاطر في روايات الخيال العلمي العالمية، ومثال ذلك رواية "الحمراء" للروائية الألمانية كريستن بويه، التي تحدثت فيها عن شخصية الشاب بوسطن، الذي يذهب مع أصدقاءه في رحلة إلى مدينة غرناطة، وهناك يدخل إحدى محال بيع التحف، ويضع يده على واحدة منها، لينتقل إلى الزمن الأخير من وجود المسلمين في غرناطة، ليعيش بوسطن في ذلك الزمن، ويتحاور مع أهم شخصياته التاريخية، مثل الملكة إيزابيلا، وبعض الشخصيات الرمزية، التي تعكس جوانب الحياة المستحضرة في الراوية.
وتعدُّ قصة "أنا وبقية ابن بقي" للروائي العراقي محسن الرملي، من النصوص النموذجيةِ التي استحضرت التخاطرَ. نُشرت بداية في مجلة "المسلة" العراقية عام 2000م، وبعد ذلك نشرها الكاتب ضمن مجموعته القصصية "برتقالات بغداد وحب صيني"، الصادرة عن دار فضاءات عام 2012م، ثم ضمن أعماله القصصية التي تحمل عنوان (تحفة السهران) الصادرة عن دار المدى عام 2017م، وفيها محاكاة شخصية الشاعر الأندلسي ابن بقي الطليطلي، أحدُ شعراءِ الموشحاتِ المعروفين ذلك العصر.
تتحدث القصةُ عن مفهوم الهجرةِ، وقسوةِ المنفى، من خلال استحضار بعضِ الشخصياتِ التي عانت من قسوة الحروب في بلدانها، مثل الفلسطيني والعراقي، وآخرون هاجروا بلدانهم بهدف السعي للحصول على المكمل الآخرِ لحياتهم كالمغربي والجزائري.
الكل يحلمُ في الوصول إلى مبتغاه، ليكونَ اللقاءُ بينهما على متن قاربٍ يرافق صاحبَه الأندلسي ابن بقي، شاعرُ الموشحات المعروف، الذي وضعه لسانُ الدين بن الخطيب من أوائلِ روادِ فنّ التوشيح في كتابه المعروف "جيش التوشيح". وقد كان ابنُ بقي في رأيه من أربابِ هذه الصناعة، وناهجُ الطريق المثلى في التعبير عمَّا يختلجُ في نفسه. يقول واصفاً أشعارَه: "هناك من توشيحاتِه ما يطلعُ زهراً وينفح بروض الإحسان زهرا". نُفي ابن بقي مع عائلتِه من طليطلة، واستقرَّ به المقام في الأندلس، وقد استعان محسنُ الرملي بهذا التاريخ ليبنيَ من خلاله أفكار قصته، فابن بقي عاشَ تجربةَ المنفى وعبّرَ عنه في بعض قصائدِه، وساردُ القصةِ العراقي، يخرج من بلاده مُكرَهاً، بسبب ويلاتِ الحروب المتكررة التي تعيشُها بلاده، فكلاهما يشترك في معايشةِ المنفى والشعورِ بآلامه، وهنا تتحقَّقُ أهمُّ شروط التخاطر بينهما.
بُنيت كلُّ أحداث القصةِ على المشاهد الحواريةِ بين الساردِ العراقي وابن بقي، وكان "الخطاب القولي" بينهما متوافقاً مع الثقافة التي نشأ كل منهما عليها، فالشاعرُ الأندلسيّ عبّر عن أفكاره بقصائده الشعريةِ المعروفة، مع إضافة بعضِ العباراتِ المتخيَّلة، والساردُ العراقيّ فسَّرَ واقعَه باللغة المعاصرة، ليجدَ كلّ واحدٍ منهما وسيلَتَه في التعبير عن الواقع الذي يعيشه.
كانت بداية اللقاء بينهما، تحديد الهوية، والمكانَ الذي قدما منه، يقول السارد: "فسألتْه من أين أنت؟ قال: أنا أندلسيٌّ أحلمُ بالذهاب إلى العراق. فهتفتُ: ماذا؟! أأنت أندلسيٌّ من أرض الأجداد؟ وهل يترك عاقلٌ بلاد الأندلس؟! ليلقيَ على مسامعِه بعضَ أبياتِ ابنِ خفاجة التي يصورُ فيها الأندلسَ. فيردَّ عليه ابنُ بقي ساخراً: "هذا إعلانٌ سياحيّ قديم من مؤسسة ابنِ خفاجة للدعاية"، علامةٌ قوليةٌ مهمة تشيرُ إلى ما لحقَ بالأندلس من دمارٍ وتخريب، ليعبّرَ ابنُ بقي عن الواقع الفعلي الذي عاشه، قائلاً:
قــالوا تغربْتَ عن أقطارِ أندلــس     ومن يقيمُ على هَوْنٍ وإقلالِ
مــــالي وإيطانِها داراً وقد سئِمَتْ   في المُقامِ بها خَيلي وأحمَالي
نفضَتْ فيها من العيشِ الهَنيّ يدِي    وهل يعيشُ كريمٌ بين بِخالِ؟
بنى الكاتبُ من خلال هذه الأبياتِ بعضَ المشاهدِ المتخيَّلةَ التي عبَّر عنها ابنُ بقي ببعضِ العبارات التي تربطُ بين التاريخ والواقع، منها حديثُ ابنِ بقي عن "الكيفية" التي كان يعيشها في الأندلس، متنقلاً بين إشبيلية وقرطبة، كالأعمى البصير أو أعمى البصيرة، يجالسُ فئاتِ المجتمعِ كافةً، يهادن في سبيل البقاء حرّاً، في ظلّ الحروبِ الداخلية التي كانت تعيشُها الأندلسُ آنذاك، يتحدث عن سياسة دولةِ الموحدين، فيقول: لقد انضممْتُ إلى الموحدين لكنهم فرقونا، فيردُّ عليه الساردُ العراقيُّ قائلاً: "تماماً كما فعله القوميون بنا".
بعدَ ذلك، يتحدثُ ابنُ بقي عن محاولاتِه للهروب من الأندلس والذهاب إلى المشرق، يفكّرُ في بلاد المتنبي، إلا أنَّ الحروبَ الداخليةَ كانت قد أهلكت تلكَ البلادَ، فعدَلَ عن فكرته، وهاجرَ إلى سلا في المغرب، آملاً العيشَ حراً، بعيداً عن فتنةِ الاقتتال، التي أهلكت البشرَ والحيوانَ والحجر، ولم يبقَ إلا من أسَّسَ تلك الحروب، ليحققوا أهدافهَم على دماءِ الأبرياء من أبناء بلدانهم.
وتحدث ابنُ بقي بعد ذلك عن شعراء العراق، قائلاً: "حدّثني عن الشعراء هناك، الجواهري والسياب وسعدي يوسف و... قاطعتُه قائلاً: منهم من قضى نحبَه ومنهم من تشرَّد. قال: توقعتُ ذلك منذ أخبرتَنا بمقتل أبيهم المتنبي، أصبحوا كأفراخِ الدجاجِ بعد ذبح أمّهم".
وهنا مركزية فن التخاطر في القصة، وبيان أثره الجمالي في تركيب دلالة النص فيها، فالبعد الزمني بين ابن بقي وهؤلاء الشعراء علامة على أهميتهم وأثرهم في الثقافة العربية عامة والعراقية خاصة، بالإضافة إلى تحديد "المصير" الذي عاشه الأدباء العراقيون بعد الحروب القاسية التي عاشوها، وهو المصير المشابه الذي تعرض له ابن بقي وغيره من شعراء الأندلس.
نلاحظُ "المفارقةَ الزمنيةَ" التي تحدثَ فيها ابنُ بقي، يتساءلُ عن رواد الشعر العراقي في القرن العشرين، وكأنه مُطلِعٌ على نتاجِهم، متأثرٌ بقضاياهم، وهذا مشهدٌ حواريٌّ رمزي، يشيرُ الكاتب من خلاله إلى حال الثقافةِ العراقيةِ في ظلّ الحروبِ المتتابعة التي عاشتها البلاد، الحالُ نفسُها عاشَها ابنُ بقي في زمنه، للأسبابِ نفسها، وهنا مركزيةُ فنّ التخاطر في القصة، وبيانُ أثرهِ الجمالي في تركيب دلالةِ النص فيها.
ينتهي اللقاءُ بين ابنِ بقي والساردِ العراقي، في محاولة الأخيرِ الذهابَ إلى العراق، ليعودَ مع العمّ سرحان، صاحبِ القارب، ويواصلُ العراقيُّ والآخرون مسيرهم تجاه إسبانيا، لتُلقيَ الشرطةُ القبضَ عليهم، ويُودَعُون في أحد سجونها في منطقة الأندلس.
لتتسربَ أخبارٌ أن ابنَ بقي أُلقي القبضُ عليه وأعادته الشرطةُ إلى إشبيلية ليموتَ فيها ويدفن هناك، وهو المصيرُ نفسُه الذي سيلحقُ بالعراقي، الذي أمرتِ الشرطة الإسبانيةُ بإعادته إلى بلدِه العراق، ليكون الحلمُ بين الشخصيتين التاريخيةِ والمعاصرة، مبدّداً، يجمعهما المصيرُ نفسُه، والمآسي وتجرُّعُ عذاباتِ كان التخاطرُ موثّقاً وجامعاً لها بينهما.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشرت في (رصيف22) بتاريخ 20/10/2018
**حسني مليطات: أكاديمي وناقد فلسطيني يقيم في إسبانيا.
حسني مليطات ومحسن الرملي في معرض الكتاب في مدريد