الأربعاء، 24 ديسمبر 2008

مسرحية/حية عادل

محسن الرملي
حيّة عادل
مسرحية
*كتبت هذه المسرحية سنة 1992م.
*نشرت ضمن مجموعة مسرحيات (البحث عن قلب حي) في الكتاب الصادر عن دار ألواح، سنة 1997 مدريد.
* نشرت في مجلة (المدى) العدد 20 دمشق 1998م.
*كتب عنها الفنان والمخرج المسرحي العراقي المعروف كريم جثير وفي مقال له في صحيفة (المغترب) العدد 322 الصادرة في كندا 2000 قائلاً: " إن المفردتين الأساسيتين اللتين انطلقت منهما نصوص مسرحيات الرملي في مجموعته بأكملها هما: الحزن والتضحية. وإذا كان الحزن المفردة المهيمنة أكثر بكونها المنطلق لتلك النصوص، فإن التضحية تأتي لتقابل هذا الحزن وغالباً ما تكون مرادفاً له، وهذا ما يبرز بقوة في نصه الأول (البحث عن قلب حي) بينما يأتي الحزن في نصه الثاني (النائحة) ليكون المسيطر والمهيمن وحده في هذا النص، لتأتي التضحية في نصه الثالث (حية عادل) لتكون المنطلق وألكثر هيمنة من الحزن كما هو في النصين السابقين. يمثل عادل/قاتل الأفعى، هو ألأخ في (البحث عن قلب حي) الذي كان بحاجة لقلب حي، والذي تنكر الآخرون له مثلما تنكر الآخرون لفعل عادل البطولي وأخذوا بالسخرية منه..".
*ومما جاء في مقدمة كتاب (البحث عن قلب حي) عما يخص ظروف كتابة هذه المسرحية:" أما مسرحية ( حيّة عادل) فهي المرحلة الثالثة في سلسلة التأثير القاسي لمقتل أخي وكيفيته، فبعد رحيله من أجل الآخرين وجدتهم يواجهون رحيله بالصمت، بل وبالتناسي أحياناً لجسامة تضحيته بنفسه في محاولة لصالحهم. وصارت هذه الحال تؤلمني كثيراً حتى وقع حادث في معسكر كان يجمعني بعدد من الفنانين، أذكر منهم الفنان فلاح إبراهيم، وحسين صالح، ورسول الصغير وعادل عيسى. وكانت هناك حية نراها لأكثر من مرة في قاعة منامنا وتختفي لتتركنا على قلق وتخوّف دائمين، إلى أن جاء عادل يبشرنا ذات يوم بأنه قد قتل الحية، وأنها كانت أصغر مما كنا نتوقع فشعرنا بالارتياح. ولكننا بدل أن نبارك له فعله رحنا نتندر عليه ونوالي التعليقات والضحك على امتداد سهرات وأيام حتى خجل عادل من فعلته، فتذكرت ما سبق أن قرأته عن إحدى القبائل الإفريقية التي تعاقب مجرميها بالضحك، حيث تقيد المذنب وتضعه في وسط مجلس كبير يضم أبناء القبيلة الذين يأخذون بالسخرية من فعلته والضحك عليها وعليه حتى يندم على فعلها، فلا يرجع لها. والغريب أنها عقوبة رادعة ويعدونها أقسى العقوبات.
وهكذا وجدتُ أننا نعاقب أبطالاً مجهولين بنسياننا لهم، أو بالاستخفاف وبالسخرية من فعلهم عبر انسياقنا واستسلامنا في الاستجابة لعادات وتقاليد ومنطقيات اجتماعية سائدة غير دقيقة وغير عادلة إذا ما أمعنا النظر فيها.. فكم من شخص مجهول ضحى بنفسه من أجلنا فعاقبناه بالضحك أو النسيان..؟. كما تتم الإشارة فيها إلى قضية سرقة الثورات أو البطولات. وقد أتاح لي رمز الأفعى مرتكزاً غنياً في تحميل الدلالات لما تمثله الأفعى من رمز كبير في التاريخ البشري، وبشكل خاص في الميثولوجيا والأديان. وحرصتُ أن تكون نهاية المسرحية مفتوحة، دائمة، قابلة للتحول إلى اللغة الشعبية، وممتدة من خشبة المسرح إلى الجمهور وعبره إلى الشارع وإلى المدينة وإلى ما هو أوسع من ذلك للإشارة إلى مشاركتنا جميعاً في قتل أبطالنا الحقيقيين وبطولاتهم بشكل من الأشكال".
-------------------------------------------
النص:
حيّة عادل
مهداه .. إلى أرواح كل الأبطال المجهولين

محسن الرملي
1992 م

الشخصيات:
1ـ عادل: شاب مثالي، قوي.
2ـ سلمى: شابة عادية، حبيبة عادل.
3ـ المختار: شخصية ماكرة، متسلطة، قوية.
4ـ الرجل: شخصية متزلفة تابعة للمختار.
5ـ سعيد وراضي وعبدالله وحمدان وعدد آخر من رجال ونساء وشباب القرية: شخصيات بسيطة من عامة الناس.

-1-

(شجرة ومسطبة ومعها عادل ينتظر، وعلى جذع الشجرة رسم تقليدي لقلب الحب يخترقه سهم)
عادل - (يردد مغنيا) :

متى تأتي الحبيبة؟
ومتى ترحل عنا الغيوم؟
نعم أن الحياة غريبة .. وإن شيئا لا يدوم.

(تدخل سلمى وتقترب إلى عادل من الخلف لتضع كفيها على عينيه مداعبة مبتسمة جذلى)
سلمى - ها .. قد أتيت حبيبي فماذا تنتظر بعد؟.
عادل - ما زلت أنتظرك وأنتظر أشياء وأحلاما أخرى كثيرة.
سلمى - وبيتا وسيارة وطفلا مدللاً.
عادل - (ينهض) أوه.. أبعدي كفيك عن عيني يا سلمى. ألم أنبهك دائما إلى عدم منعي من الرؤية؟!.
سلمى - لكنني أداعبك يا حبيبي!
عادل - ولا حتى مداعبة، فما أكثر المداعبات السامة هذه الأيام.
سلمى - (بتذمر).. يوه.. لقد بدأت جديتك تفسد علينا كل لقاءاتنا.
عادل - (بتهكم).. هه.. لقد أصبح الصدق والجدية يفسدان الحياة وليس العكس.
سلمى - أرأيت؟ أنت الذي ……
عادل – (يقاطعها) طبعا لأنك لا تريدين أن أكون صادقا وجديا إلا في شئ واحد.
سلمى - حبك لي.
عادل - أجل.
سلمى - وما سبب ذلك في ظنك؟
عادل - لتقودينني كما ترغبين.
سلمى - أحقا هذا ما تعتقده يا عادل؟
عادل - وأن كان ذلك هو الحقيقة.. فأنا أحبك فعلا.. بل أفيض حبا لك..
سلمى - (تجلس إلى جواره على المسطبة وتلف ذراعيها على رقبته بعطف) : الله.. ما أعذب ما قلته يا ثقيل الدم! هل سمحت ببعض الزيادة منه؟.
عادل – صدقيني يا سلمى.. أنني بشوق دائم إلى عينيك.. إليك مع أن أشياء كثيرة لا تعجبني فيك، وعلى الرغم من هذا أحبك بقوة وجدية.
سلمى - (ممازحة) وجدية مرة أخرى؟ …. آه.. لو تترك جديتك التي سوف تهلكنا.. أما أنا يا عزيزي فإنني أحبك وأشعر بكل الذي قلته وبـ .. وبجدية أيضا؟.
(يضحكان)
عادل - أنها الصدفة.
سلمى - ماذا؟.
عادل - الحب.. الحب صدفة..
سلمى - ها.. لقد سبق وأن حدثتني عن هذا الموضوع، وأتعبتني همومك الغريبة التي يجلبها لك المذياع والصحف والكتب، وما تعانيه من أجل السود والحمر والصفر والبيض في أرجاء الأرض.. وصاحبك العجوز المحروق غاندي.. ترى ما الذي يشغلك هذه المرة؟
عادل - الحية.
سلمى - الحية؟!
عادل - نعم الحية التي تعيث بقريتنا الرعب والخراب.
سلمى - وما شأنك أنت؟.
عادل - كيف؟.. ألا ترينها تخب الحقول والبساتين وتلتهم الناس وحيواناتهم كما تلتهم العصافير؟.
سلمى - وهل خربت لك مزرعة أو بستانا؟ أو ابتلعت أحد أختك أو أهلك؟.
عادل - وهل أنتظرها حتى تفعل ذلك؟.
سلمى - ربما لن يحدث.
عادل - وربما يحدث.. ثم أليس أبناء القرية كأخوتي وأهلها كأهلي؟ الست واحدا مهم؟.
سلمى – ياهووووه.. إلى متى يا عادل تحشر نفسك في قضايا كبيرة بعيدة عنك؟.. إلى متى يا حبيبي تحمل نفسك الهموم، وأنت لست المتسبب فيها ولن تقع عليها نتائجها؟ فما شأنك أنت وما يسميه المذياع بحقوق الإنسان؟ وما شأنك أنت وما تسمعه أو تقرأه عن ما يسمى بالسياسة؟ وما شأنك والتميز العنصري؟ ما شأنك وفلسطين؟ ما شأنك وسباق التميز التسلح أو نزعه؟ ما شأنك والحية؟ وما شأنك والـ..
عادل – (يقاطعها) كيف؟ كيف؟ ألست واحد من بني الإنسان؟.
سلمى - أجل ولكن كل إنسان مسؤول عن مشاكله.. فمثلا ماذا سينفعنا الأفارقة في حل مشكلة زواجنا؟.
عادل – (مغتاظا) يا الهي.. يا الهي.. دائما أنت هكذا يا سلمى..!.
سلمى - نعم دائما أنا هكذا كأي امرأة تخاف على رجلها.. أحاول ردك على مسائل كهذه لا ناقة لك فيها ولا جمل.
عادل - سلمى.. يا حبيبتي أنا أعذرك لمستوى فهمك هذا للحياة.
سلمى - وأنا.. أستغرب فهمك هذا للحياة.
عادل - كيف؟.
سلمى - كن واقعيا يا عزيزي وأنظر حولك بدقة.
عادل - (يقهقه بقوة) عجيب..!.. أليس هذا ما أفعله الآن؟!
سلمى - لا.
عادل - كيف؟.
سلمى - أنك تفكر في حل مشاكل لا علاقة لها بمشاكلنا الحقيقية التي نعيشها الآن.
عادل - (محتدما).. يا صبر.. الست أنسانا؟.
سلمى – (باستهجان) ماذا ترى أنت؟.
عادل – (بضجر).. يوووووه..
سلمى - (متداركة).. بلى.. بلى أكمل.
عادل - إذا فحقوق الإنسان تهمك.
سلمى - أنا لا يهمني شئ سوى أن نتزوج ونبني لنا بيتا نربي فيه أطفالنا ونعيش براحة بال إلى أن نموت.
عادل - صدقيني أن للمشاكل علاقة ببعضها البعض.. فكيف نبني بيتا أمنا في قرية تعيث بها حية سامة وتزرع فيها الرعب.
سلمى - نعم يا عزيزي ولكن لكل مشكلة مسؤول عن حلها والمختار ووجهاء القرية وعدونا في اجتماعهم الأخير أن يفعلوا ما ينهي مشكلة الحية.
عادل - هه.. كذب.. كذب.. أما زالت أقاويلهم تظللك؟ بودي أن تكونين وأهل القرية أكثر نباهة وأقل انخداعا، فلا تصدقوا الذين يعدونكم لأنهم لو أرادوا، أو لو استطاعوا فعل ما يعدون به لفعلوه، ولكن يبدوا أنكم أنتم الذين تتشبثون بأي متكأ حتى وأن كان وهميا.
سلمى - على أية حال أنها مسؤوليتهم.
عادل - الشأن العام مسؤولية الجميع، وبالذات الأكثر وعيا وصدقا وإخلاصا من بينهم.
سلمى - أني أخاف عليك يا عادل.
عادل - وأني أخاف على الجميع.. صدقيني يا سلمى بأنني على استعداد لأن أدفع حياتي ثمنا لصيانة حياة الآخرين.. قد تقولين لي مرة أخرى بأنني غير واقعي، ولكن تأكدي يا سلمى أن هذا واقع ما أشعر به حقا.
سلمى - عادل إن..
عادل - (يقاطعها).. سلمى أن هناك الكثير من القضايا التي نعطيها أكبر من حجمها، ونصورها على أنها قاسية أو صعبة أو مستحيلة، ولكننا حين نقدم عليها وننظر إليها من كثب، أو نخوض غمارها نجد أنها غير ما كنا نتوقعه تماما، فلرب صعب أسهل مما نتصور، ولرب سهل أصعب مما نتصور.
سلمى – عادل..
عادل - سلمى.. فكري أيضا أن انتصارنا سوف يسهل علينا الكثير من متطلبات زواجنا وترتيباته.
سلمى - (تدنو منه وتتلقف كفيه بلهفة وحب وخوف وتهمس بصوت متحشرج)! عادل ..
عادل - (يقاطعها بثقة) شجعيني.. شجعيني فقط.
سلمى - لا أملك أكثر من أن أقول لك: أحبك.
عادل - (يبتسم بنشوة وسرور)، هذا يكفي لخلق المعجزات.

-2-

((في جهة من المسرح تقف سلمى. وفي الجهة الأخرى يقف المختار، وليس لأحدهما علاقة بالأخر. وبالإمكان تقسيم المسرح إلى نصفين بخيط أو حتى بخط وهمي، ليجري الحديثان في وقت واحد، أو متداخل أو متزامن))
((سلمى بانتظار عادل تردد اللحن ذاته الذي كان يردده هو عند انتظاره لها))
سلمى –
متى يأتي الحبيب؟.
ومتى ترحل عنا الغيوم؟
نعم أن الحب غريب، وإن لا شئ يدوم.
((يدخل عادل راكضا إلى سلمى ويهتف))
عادل - سلمى.. سلمى.. سلمى..
سلمى - حبيبي عادل.
عادل - حبيبتي سلمى لقد قتلت الحية.
(سلمى تزغرد بقوة تعبيرا عن ابتهاجها)
سلمى - أحقا ما تقول؟.
عادل - نعم يا عزيزتي لقد توغلت في ذلك الدغل الذي تمتد إليه خطوط دماء الضحايا..
سلمى - إلى دغل الحية المجهول المخيف؟!؟.. إلى ذلك الدغل الذي يرعب الجميع؟
عادل - أجل يا حبيبتي.
سلمى - ومن رآك؟
عادل - الله وأنت وكل الناس لأنكم جميعا كنتم هنا عندما طردت خوفي وأقدمت.
سلمى - وبعد؟
عادل - قتلتها وحفرت لها عميقا ودفنتها هناك.
سلمى - وهل أخبرت أحدا سواي؟
عادل - لا.. أنت الأول يا حبيبتي.
سلمى - إذا فبشر الناس سريعا.
-----------------------

((المختار يدور قلقا غارقا بالتفكير والحيرة، ويردد مع نفسه بصوت مسموع..))
المختار - الحية؟ من أين جاءتنا هذه المصيبة؟ والمصيبة الأكبر أنهم ينتظرون الخلاص منها على يدي ولا يعلمون أنني في الحقيقة أخاف من الفارة.. هه.. مختار.. وماذا يعني؟ ألمجرد أن يطلقوا علي هذه التسمية يرمون بي إلى التهلكة؟ إلى الحية؟.. مختار.. مختار.. مختار.. طُر..
((يدخل رجلا راكضا إلى المختار ويهتف))
الرجل - مختار.. مختار.. مختار..
المختار - (بتوافق كوميدي مع ما كان يردده).. طز.. ماذا تريد مني؟
الرجل - لقد قتل عادل الحية.
(المختار يخرج مسدسه ويطلق رصاصة في الهواء تعبيرا عن ابتهاجه).
المختار - أحقا ما تقول؟
الرجل - طبعا يا سيدي لقد رأيته وهو يتوغل في دغل الحية.
المختار - إلى ذلك الدغل الذي لا يستطيع أحد الاقتراب منه؟!
الرجل - اجل يا سيدي.
المختار - ومن رآه؟
الرجل – لا أحد سواي رأيته يدخل الدغل ويتصارع مع شئ ثم صاح: قتلتها ابنة الـ.
المختار - وبعد؟
الرجل - قتلها وحفر لها عميقا ودفنها.
المختار - وهل أخبرت أحدا سواي؟
الرجل – لا.. أنت الأول يا سيدي.
المختار - إذا فأتني به سريعا قبل أن يبلغ الناس.
((فيندفع الرجل بسرعة ويجر عادل وسلمى إلى منتصف المسرح حيث يقف المختار))
سلمى - أبشرك يا مختار لقد قتل عادل الحية.
المختار - أحقا ما سمعته يا عادل؟
عادل - نعم لقد فعلت ذلك.
المختار - وهل كانت كبيرة؟
عادل - تصوروا لقد وجدتها حية صغيرة!
المختار والرجل وسلمى - (بدهشة واستغراب شديدين) صغيرة؟!
عادل – أنها حية عادية صغيرة، ولكنها سوداء وقبيحة ومن النوع السام وبالغ الخطورة.
المختار (غير مصدق) مستحيل!
سلمى - إذا كيف كانت تخرب الحقول؟!.
المختار - وكيف كانت تقتل الناس والأبقار وتأكلهم؟!.
عادل - لم تكن تفعل كل ذلك وحدها.
الرجل - ماذا؟!
عادل – ولكنها كانت أساس الخراب، فهي التي تبث السم تلدغ وتقتل حيوانات أخرى، تعيث خرابا في الحقول بحثا عن الملدوغات والمقتولات لتلتهمها وتنسحب إلى الدغل في تلك الغابة المظلمة.
المختار - نعم.. هذا معقول فليست لحية بمفردها أن تفعل كل الذي جرى.
عادل - وقد أدركت ذلك حين راقبت أثار حيوانات غريبة، وتتبعت دروب سحبها لضحاياها، ومخلفات الدماء والعظام داخل الغابة.
الرجل - والحية أساس الشر كله؟
عادل - تماما فهي راس الفتنة كما يقال.
سلمى - إن قتلك لها سيوقف كل هذا العذاب.
عادل - إن شاء الله.
المختار - ولماذا دفنتها يا عادل؟
عادل – لكي لا تتسبب عظامها المسمومة – فيما بعد – بجرح أحد أو إيذائه، ثم أنها قذرة وشكلها قبيح مخيف، فحفرت لها عميقا هناك وغطيتها.
سلمى - (بفرح غامر) بوركت يا عادل.. بوركت.. سيتفجر الفرح في أرجاء القرية، وسوف ترقص حقولها وبيوتها، وسوف تنشرح القلوب وتفتح كما تتفتح الورود في ربيعها. لقد أنهيت رحلة خوف القرية وعذاباتها.. أنت بطل يا عادل.. أنت بطل هذه القرية.
المختار - (يتنحنح).. أحم.. احم.. أسمع يا عادل، ما رأيك بصفقة نكسب منها نحن الحاضرون هنا، أنا وأنت وسلمى؟
عادل - صفقة؟.. أية صفقة؟!
المختار – أنتبه لما سأقوله لك جيدا.. سوف أسعى لك في الزواج من سلمى وسوف أساعدكما في ترتيب إجراءات الزواج وأسهله لكما ماديا واجتماعيا..
سلمى - (بفرح) شكرا.. شكرا يا مختار إنك حقا..
عادل - (يقاطعها) انتظري، مقابل ماذا يا مختار؟.
المختار – شئ بسيط جدا.. هو أن، تقول للناس جملة واحدة: المختار هو الذي قتل الحية.
سلمى - بسيطة.
عادل - (غاضبا) هذا مستحيل.
المختار - إهدأ ولا تتعجل بهذا الرد المنفعل، واجعل السيادة لعقلك كي يحكم بمنطق. (وناظرا إلى الرجل بجواره) أليس كذلك؟.
الرجل – نعم نعم يا سيدي، لأن عادل سيضر نفسه وسلمى كثيرا إذا رفض.
عادل - كيف؟
المختار – أن عملية الهدم أيسر من عملية المختار. وأبسط ما يمكن أن نفعله ضدك هو أن نحرمك من رؤية سلمى، ثم نحول دن زواجك منها، ثم نسعى في تزويجها من غيرك، وربما من عدو لك.
سلمى - وافق يا عزيزي.. لأنه ما يطلبونه منك لن يضرك بشيء، بينما رفضك سيضرنا معا.
عادل - لا.. لا يا سلمى.
سلمى - لماذا؟
عادل – لأن ما يطلبون مني القيام به سوف يضر كل الناس، بينما رفضي له لن يضر أحدا سوانا.
سلمى - كيف ذلك؟
عادل – أن المختار يدعوني للتواطؤ معه من أجل تضليل الناس والتغرير بهم، فحين أقول: أن المختار هو الذي قتل الحية. سيرون فيه بطلهم ومخلصهم، وسوف يولونه كل أمورهم بثقة عمياء، ويصدقون كل أكاذيبه الماضية والمستقبلية فيسود عليهم كذبا.. ثم انه سوف يبلغ المحافظ بأنه قام بإنقاذ القرية من تلك المشكلة التي أقلقت المحافظ، فيحظى بالتقرب منه وبإمدادات القوة والنفوذ والجاه والتسلط.
الرجل - (يصيح) احترم نفسك.
عادل - لماذا لا تحترمون أنتم أنفسكم؟ وتتوقفون عن المتاجرة والتلاعب بمصائر الناس وعذاباتهم..
الرجل – (إلى المختار)ألا.. أؤدبه يا سيدي؟
المختار - دعه قليلا.. إنها ثورة الشباب في دمه. وسوف يهدأ حين نخبره بما نحن قادرون على فعله به إذا بقي على عناده.
سلمى - عادل … وافق على ا يطلبونه.. من أجل حبنا أرجوك..
عادل - إنك تعرفينني جيدا يا سلمى، وتعرفين أن حبي للناس أثمن من حبي لنفسي.
الرجل - أنت طائش ومغرور ومعتوه.
عادل - لست كذلك أبدا.. ولا أبغي من إعلاني عن قتلي للحية جاها أو مالا ولا شهرة، ولكنني أرفض خداع الناس، أو الاشتراك في التآمر عليهم وتمكين المختار وأمثاله من التغرير بهم، وأحكام القبضة على أعناقهم.. لا.. لن أساعد المختار في ممارسة دور البطل والقائد فيؤذي الناس ويجرهم إلى التهلكة.
المختار - أسمع يا ولد، عليك أن تعرف أيضا أنني قادر على خلع البطولة منك.. بل وقادر على تحويلها إلى سهم قاتل يرتد إلى نحرك كلما حاولت إطلاقه.
سلمى - لا حاجة لنا بالبطولة يا عادل.. إننا بحاجة إلى بعضنا فقط.
عادل - سلمى. أفهمي أنا لا أفكر بالسمعة كبطل، ولكنني أرفض أن يمارسها غيري دون وجه حق.. زيفا وسيفا على رقاب الناس.
سلمى - عادل عزيزي لا تدمرنا بمثاليتك وجديتك الحادة هذه.
عاد - هذا أنا يا سلمى كما تعرفينني: لا أستطيع أن أكون غير نفسي، لا أحتمل إلا أن أكون.. إنسانا حقيقيا.
سلمى - عادل يا حبيبي.. ألا يكفيك أن أعرف أنك البطل الحقيقي؟.
عادل – أجل يا سلمى.. صدقيني، فأنت بالنسبة لي أهم من يجب أن يعرف الحقيقة.
المختار - وحتى هذه التي هي أمامك الآن تأكد بأننا قادرون على غسل دماغها وتحريف قناعاتها، فراجع نفسك مرة أخرى ولا تتهور.
عادل – لا.. سأقول الحقيقة التي أعرفها وليحدث ما يحدث.
((يخرج عادل ثائرا وهو يصيح)) يا ناس.. يا أخوتي.. لقد قتلت الحية.. يا ناس.. يا أخوتي.. يا ناس.. يا أخوتي ……
((ثم تتبعه سلمى وصوته يبتعد))
المختار - (إلى الرجل) أتعرف أين دفنها بالضبط؟
الرجل - طبعا يا سيدي.
المختار - أذهب وأدفنها في مكان أخر… هيا.
((يومي الرجل برأسه ويخرج، ويبتسم المختار بخبث فيما صوت عادل مستمر بالابتعاد))

-3-

((حشد من الناس حول عادل وسلمى قريبة منه))
عادل - أيها الناس.. يا أهالي القرية.. يا أخوتي.. لقد قضي على الشر فاطمئنوا الآن على أنفسكم وحقولكم وحيواناتكم لقد قتلت الحية السوداء التي كانت تخرج إلينا من الدغل..
((ترتفع هتافات الناس فرحا وتقديرا لعادل، ثم يدخل المختار والرجل التابع يندفع أمامه))
الرجل - هي.. لقد جاء المختار.
((يضع الرجل التابع دكة أو صفيحة ليصعد عليها المختار ويرتفع على الناس))
المختار - يا أه القرية لا تجعلكم رغبتكم الشديدة بالخلاص من الحية أو مصدر الشر الذي نجهله.. تصدقون كل ما يقال، ومن واجبي كمختار أولا وكواحد منكم ثانيا أن أنبهكم فإني حريص على ألا يخدعكم هذا الفتى الحالم بالبطولة، فلا تصدقوه وتخدعون أنفسكم بطمأنينة مصطنعة تجعلكم أكثر غفلة وعرضة للأذى، واصلوا انتباهكم وحذركم واحتاطوا.
عادل - أيها الناس صدقوني لقد قتلت الحية بيدي هاتين.
المختار - ومن قال لكم أن كل ما يجري بسبب الحية؟ وإن كانت حية فما الذي يجعلكم واثقين من أنه قد قتلها وليست غيرها؟ وأن كانت هي فما الذي يثبت لكم أنه قتلها فعلا؟.. هل رآه أحد منكم؟.
الجواب: كلا. هل قدمها أو قدم رأسها هنا أمامكم؟ الجواب: كلا.
عادل - صدقوني لقد قتلتها ودفنتها وسوف أخرجها لكم إن اضطررتموني إلى ذلك…
والمختار يقول لكم ما يقول، لأنني رفضت مساومته، فقد عرض على أن أقول أنه هو الذي قتل الحية مقابل أن يقدم المال والمساعدة ومن أجل أن يفي هو بوعوده لكم ويصبح بطل عليكم، ويخدعكم ويخدع المسؤولين هناك في المحافظة، ولكنني رفضت فهددني.
وها أنا أقول لكم الآن وأحذركم بأن الخراب إذا أستمر فتأكدوا بأن المختار هو الذي سيكون المسبب، لمجرد أن يثبت لكم أن الحية لم تقتل، وأنني كاذب فينهبكم ويمارس هو دور الحية ويلدغكم.
المختار - ((يقهقه ساخرا بصوت عال)) هئ.. هاي.. أسمعتم بتخريف أغرب من هذا؟..أساومه؟!.. أنا أساوم ولدا قتل دودة، أو حلم بقتلها بعد أن نام بالمقلوب؟: أقدامه على الوسادة ورأسه في الجورب تحت البطانية..!.
عادل - أيها الناس يا أخوتي.. ها أنا قد حذرتكم.. أحذركم فصدقوني لقد قتلت الحية ودفنتها بيدي هاتين.
المختار - مهلا.. مهلا.. ولنفترض أنك قد قتلتها فعلا…. وقد قلت لي أنها حية عادية وصغيرة، وأنت يا سلمى ماذا قال لك؟
سلمى – قال أنه قتلها ودفنها، وأنها حية عادية وصغيرة، ولكنها سوداء وخطيرة.
المختار - (إلى عادل) هل تنكر هذا الكلام؟
عادل - لا… وهذه هي الحقيقة.
المختار - (إلى الرجل التابع له وبمكر) كم تقدر حجمها حسب وصفه لها يا عزيزي؟
الرجل - (بسخرية) بحجم إصبع الطفل الرضيع.
((يضحكون))
المختار - (إلى أحد الناس) إذا فحية عادل هذه.. العادية الصغيرة هي التي ابتلعت ثورك يا حمدان.
((يضحكون))
المختار - وحية عادل هذه.. هي التي خربت حقلك يا عبدالله.
((يضحكون))
المختار - وحية عادل هي التي التهمت زوجتك وولدك وجيرانك يا راضي.
((يضحكون))
الرجل - وحية عادل هي التي ابتلعت شاحنتك يا عباس.
((يضحكون))
المختار - وألان أيها السادة.. هل تعقلون كلاما كالذي يقوله هذا الفتى المعتوه؟
((من بين الناس من يقول))
رجل - لا.. مستحيل.
أخر - هذه أكاذيب.
أخر - كيف لحية أن تفعل كل الذي حدث؟!
أخر - غير معقول.
عادل - ليست وحدها فقد وجدت في الدغل والغابة أثار لحيوانات مفترسة تأتي على الضحايا بعد لدغها، وتفتش عنها في الحقول: ليلا فتخرب الحقول.. إن الحية أسا الخراب وتلك الحيوانات معها أو من ورائها.
المختار - (يضحك بقوة وسخرية).
عادل - (يكمل) والمختار معها ومع الحيوانات المفترسة، وأمثالها معها، وربما هو الحية الحقيقية…
المختار - (يضحك ثم يقول) أيها الناس أعرفتم الآن سر مثلث برمودا الذي تختفي فيه البواخر والطائرات؟ يقال أن حية عادل كانت هناك وابتلعتها.
((يضحكون))
الرجل - (إلى أحد الواقفين) وأنت يا سعيد أعرفت الآن أين اختفى قطيع بعرانك؟
سعيد - ابتلعته حية عادل.
((يضحكون))
((عادل في المنتصف والناس يحيطون به ويسخرون منه , فينتفض في مكانه كمن يجلد بالسوط كلما ضحكوا وسخروا منه ويصيح محاولا الإيضاح , ولكن بلا فائدة وتستمر السخرية))
المختار - هاتوا لنا كرسيا يليق بمقام البطل عادل من أجل أن يجلس بيننا ويحدثنا عن بطولاته مع حيته الديناصورية.
((يذهب الرجل ويأتي بطشت يضعه وسط المسرح، ويجلسون فيه عادل كالطفل الذي يراد له الاستحمام، ثم يدعوهم المختار للجلوس، فيجلسون حول الطشت بشكل دائري أو مستطيل مفتوحة من جهة الجمهور أو الجبهة المعاكسة، ليكون الجمهور طرفا في الجلسة، أو يؤخذ الطشت إلى مكان بين الجمهور ويتوزع الممثلون على مقربة منه فيواصلون السخرية، وعادل يرتجف وينتفض كمن تلسعه السياط ويتكور ويتضاءل ويتصبب عرقا.. وكانت سلمى - في البداية - تتألم عليه، ولكنها بالتدريج تصدق المجموع وتكذب عادل، فتبدأ بالابتسامة أولا، ثم تشاركهم الضحك، وربما حتى السخرية لاحقا)).
رجل - أتعرفون كيف تقسم الاتحاد السوفيتي؟… يقال أن أمريكا قد جندت حية عادل فقسمته.
((يضحكون فيكمل الرجل)) ثم ذهبت إلى غورباتشوف وقبلته، ألم تروا آثار قبلتها على جبهته؟ (يضحكون).
رجل أخر - أعلمتم ماذا فعلت وزارة النقل والمواصلات عندما تعطل أحد قطاراتها؟ بحثت عن حبل قوي لتسحبه به فلم تجد.
رجل أخر - سحبته بحية عادل… (يضحكون)
أحد الناس - أسألكم يا جماعة كيف قتلها عادل؟
رجل - حكى لها نكتة أضحكتها فدخل في بطنها. (يضحكون)
أحد الناس - وماذا وجد هناك؟
رجل - يابوووه.. أسواق وعمارات وسيارات وطائرات.
رجل أخر - (مضيفا) والجسر المعلق. (يضحكون).
أخر - وسوق العورة. (يضحكون)
أحد الناس - وسمعت أن الشرطة قد طاردته.
رجل - أي شرطة؟
أحد الناس - شرطة مديرية أمن حية عادل. (يضحكون)
((تتواصل السخرية بشكل متصاعد وعادل يتصبب عرقا ويتضاءل إلى أن يذوب مثل شمعه محترقة، وينتهي ليتحول إلى مجرد طشت مملوء بالعرق تطفوا فيه ثيابه.. فتقترب منه سلمى فلا تجد سوى الماء والملابس))
سلمى - (بذهول) لقد ذاب عادل!.. لقد مات.. قتلتموه.. أهذا ما كنت تحلم به يا عادل؟
أن تكون مثل ذلك الذي حدثتني عنه.. مثل إنسان كنت تسميه غاندي.. ذلك الذي أحرقت جثته، ونثرت على جبال بلاده وأنهارها.. ها أنت تحقق حلمك وتتحول إلى ماء، ولكنهم سوف يسكبونك في المياه الأسنة، أو على المزابل.. إن تكون ماء مسكوبا فهل تعود؟..فهل تعود يا عادل؟؟ هل يستعاد الماء المسكوب؟.. هل يستعاد الماء المسكوب؟؟…
((وتصرخ مصابة بحالة هستيرية حادة، تبكي وتضحك وتصيح))
المختار - أخرجوها.. أبعدوها عنا لكي لا تعكر صفو جلستنا، واقذفوا بهذا الطشت خلفها.
((فيخرجها رجلان بالقوة، وهي تصيح بشكل جنوني غامض. ورجلان آخران يحملان الطشت ويقذفانه إلى الخارج خلفها))
المختار - أيه.. أتعرفون يا قوم ماذا فعل عادل؟.
رجل - ماذا فعل؟.
المختار - كطع ذيلها.
((يضحكون وتتحول السخرية تدريجيا إلى اللهجة الشعبية العامية، وتصبح شبيهة بسخريات السمر والمقاهي والأصدقاء، ويمكن هنا الاستفادة من ((مسرح البساط)) الذي له عدة تجارب في المغرب العربي، كأن تأتي مجموعة من الممثلين، ويفترشون بساطا يحملونه، ثم يشرعون بالتحدث بشكل عفوي أو يبدوا كذلك.. شئ شبيه بمجالس السمر والمناداة العربية الشرقية))
رجل - حقا ما هو لونها؟
أخر - سوداء وفستانها وردي. (يضحكون).
رجل - أقول.. وما هو أسمها؟.
أخر - أسمها حية بنت عادل الكذاب. (يضحكون).
أخر - لا.. اسمها.. رقيقة بنت حجي عريبي. (يضحكون).
أخر - أي نعم.. عزف لها سمفونية ساري العبدالله وركصها على الوحدة ونص. (يضحكون).
شاب أخر - لا.. لا.. ركصها على اللدغة ونص. (يضحكون).
(وربما يغنون أغنية شعبية خفيفة، ويرقصون، ثم يعاودون مواصلة السخرية بشكل متصاعد)
أحد الناس - يقولون أنه عندما أنهكها المرض ذات مرة واحضروا إليها جميع أطباء العالم رفضت.
أخر - وماذا قالت؟.
امرأة - نظرة من عادل تكفيني. (يضحكون).
رجل - سمعت أنها حية مثقفة.
أخر - أي صحيح تأكل تبسي وتشرب ببسي. (يضحكون).
أخر - تأكل ديرة وتشرب بيرة. (يضحكون).
شاب - ويقال إذا كان عندها مغص تبلع ثورا بعد الأكل. (يضحكون).
شاب أخر - طيب. وإذا عندها إسهال؟.
شاب - أفتح لها فمك. (يضحكون).
(ويتشاجر الشابان فيطردهما المختار، ويتواصل الضحك عن طريق تفجير أساليب الفكاهة والسخرية والفنطازيا الشعبية وحتى الرخيصة منها فيدور الحديث عن لونها وحجمها وأقربائها ووظيفتها وأشياء تخص الأفاعي وأشياء لا تخصها، وعن قضايا راهنة: سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية)
رجل - يا جماعة وهي كيف تنام؟
أخر - رأسها بالقمر ورجليها بالشمس… (يضحكون).
((يضحكون يضحكون وتتواصل السخرية بشكل حر ومرتجل من قبل الممثلين والجمهور بالتطرق إلى مواضيع وشؤون حالية، تمس الوقت الحاضر، وقت العرض، حيث يستمر الضحك والتعليقات حتى وهم يخرجون من المسرح إلى الشارع ويتفرقون في المدينة..)).

السبت، 29 نوفمبر 2008

مسرحية / النائحة


محسن الرملي
النـائِـحـــة
أو
( دفاعاً عن الحزن )

مسرحية في فصل واحد
*كتبت هذه المسرحية بتاريخ 26/4/1990م خلال عيد رمضان.
*نشرت ضمن مجموعة مسرحيات (البحث عن قلب حي) في الكتاب الصادر عن دار ألواح، سنة 1997 مدريد.
* نشرت في مجلة (المدى) العدد 22 دمشق 1998م.
*كتب عنها الفنان والمخرج العراقي المعروف كريم جثير وفي مقال له في صحيفة (المغترب) العدد 322 الصادرة في كندا 2000 قائلاً: " إن ما يحسب لمحسن الرملي وقبل كل شيء هو اختياره لشخصية النائحة، المرأة التي تتخذ من الحزن وظيفة بندبها ألآخرين في المآتم، وحسب علمي أن الرملي هو أول من ينتبه إلى هذه الشخصية ويجعلها في نص مسرحي... وهو من خلال هذا النص يحاول أن يفلسف لنا الحزن من وجهة نظر النائحة والدفاع عن وظيفتها، منطلقة من أحزانها الخاصة وكذلك لكي تجعل أبناءها بعيدين عن الحاجة من خلال ما تحصل عليه جراء الندب... بهذا المنطق وبهذه الحوارات المؤثرة يبني الرملي نصه المسرحي... إلا أنه يفاجئنا في نهاية المسرحية بانتصار الحزن ومنطق الأم".
*ومما جاء في مقدمة كتاب (البحث عن قلب حي) عما يخص ظروف كتابة هذه المسرحية: " أما مسرحية (النائحة) فقد كتبتها بعد إعدام ورحيل أخي حسن مطلك وحزني الكبير عليه وحزن أمي الذي أهلكها فيما بعد بحيث لم يبارحنا الحزن أو نبارحه حتى في الأعياد، لأننا صباح العيد ـ الذي يُفترض فيه أن نفرح ـ كنا نذهب للبكاء والنواح في المقابر، بين قبور الكثير من أحبتنا الراحلين، فعدت إلى البيت ممتلئاً باليأس، مثقلاً بالحزن، والسواد يلف العالم وكل شيء من حولي. وبعد جلوس صامت تناولت ديواناً لريلكه كان جواري فقرأت قصائده ومراثيه حتى وقفت عند كلمة (نائحات) التي جرتني لاستحضار تلك الشخصيات المنسية في مجتمعاتنا؛ المرأة التي تبكي في المآتم وتُبكي الناس بالأشعار والندب والنواح والتي يسميها البعض (المُلاية) أو (العَدادة) أو (النَدابة) أو (الشاعرة) وغيرها من التسميات الشعبية حسب اختلاف المناطق، فوجدتني أتقمصها، وأرى العالم بعينيها، أو أتخيلها أمي، لأن أمي تفعل فعلها أمامي كل يوم.. تبكي وتنوح، فسارعت إلى كتابة مسرحية النائحة التي تدافع عن الحزن وجهاً حقيقياً من وجوه الحياة ووجودنا، نحاول إخفاءه بستائر واهية. وتكمن الصعوبة في هذه المسرحية كونها مسرحية فكرة وليست مسرحية حدث، الأمر الذي يتطلب شداً دائماً، وتصعيداً لأهمية الفكرة وفاعليتها إلى الحد الذي يجعلها جديرة بالنيابة عن الحدث من أجل إبقاء المشاهد على تواصل وتفاعل.
--------------------------------------

النص:
النـائِـحـــة
أو
( دفاعاً عن الحزن )
مسرحية في فصل واحد

محسن الرملي

.. إلى روح أمي التي عاشت وماتت حزينة.
الشخصيات:-
الأم: النائحة...
أحمد: ابن النائحة، شقيق سارة، يدرُس الطِب.
سارة: ابنة النائحة، شقيقة أحمد، موظفَة في وزارة الثقافة.
رجُل: ...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(بيت متواضع وفيه صوُر مؤطّرَة بشرائط سوداء لأشخاص ميتين. يدخل أحمد والنظارات على عينيه، يرمي بالكتب التي في يديه على أحد الكراسي، ثم يشرع بالبحث عن أمه، يفتح أبواب الغرف الأخرى، ويعود ليقف قلقاً، متأففاً، ينظر إلى ساعته... يسمع جلبة عند الباب فيسرع نحوه، فتدخل أخته سارة وتجفل...)
سارة:ـ هاااه.. أحمد؟! لقد أفزعتني.. متى عُدت؟.
أحمد.ـ ليس في هذا ما يهم.. أين أمي؟.
سارة:ـ لا أدري، ها أنت تراني أعود من الدائرة تواً.
أحمد:ـ وسامي؟.
سارة:ـ في المدرسة.
أحمد:ـ ألا تعلمين إلى أين ذهبَت؟.. ألم تقل لكِ شيئاً؟.
سارة:ـ لا.. لم نعتد أن نسألها ذلك.
أحمد:ـ كان علينا أن نفعل.
سارة:ـ أحمد.. ما الأمر؟!.
أحمد:ـ أوفـفـفـف..
سارة:ـ تكلم.. ماذا هناك؟.
أحمد:ـ الحكاية ذاتها.
سارة:ـ أوووه.. لقد يئسنا من هذه الحكاية.
أحمد:ـ لا.. لابد أن ننتهي منها اليوم.
سارة:ـ ماذا حدث لكي تدعوني أنتَ لذلك بينما كنتُ أشكو إليك ساعات لتقف إلى جانبي فيها؟!.
أحمد:ـ التافهة.. البذيئة..
سارة:ـ إذاً.. لابد أنها قد رفضت الزواج منك بعد أن عرفت مهنة أمك..
سارة:ـ مقاييس حقيرة..
سارة:ـ هل أدركتَ الآن ما كان يؤلمني في ذلك؟.
أحمد:ـ كنت أدركه منذ وقت طويل.. منذ أن كنتُ صبياً أتحاشى اللعب مع بقية الأولاد.
سارة:ـ ولكنك كنت تبرر كالعادة..
أحمد:ـ لا تُنكري أنكِ ولدتِ معي في وضع وموقف واحد..
سارة:ـ حاجتنا إلى المال.. الصبر.. أحلامنا..
أحمد:ـ الفقر.. ولكننا الآن نستطيع العيش براتبك ثم بإمكانها أن تجد عملاً آخر إلى أن أكمل أنا دراستي.
سارة:ـ كم تحدثنا معها في هذا الموضوع! وكنا ننتهي بأن تقنعنا هي بما تفعل.
أحمد:ـ لا.. هذه المرة ستكون الأخيرة ولن نتراجع.
سارة:ـ وإذا أصرّت مهما حاولنا؟؟.
أحمد:ـ حينها قد نفعل أي شيء..
سارة:ـ كيف؟.
أحمد:ـ نتصرف بشكل آخر.
سارة:ـ مثلاً؟.
أحمد:ـ أ.. أن نهجر البيت.. أو.. أو..
سارة:ـ أو ماذا؟.
أحمد:ـ أو نطردها.
سارة:ـ (تصرخ بغضب) أحمـد..!.
أحمد:ـ (يصيح) لقد كبرنا يا سارة والألسن خناجر.
سارة:ـ (تدنو منه بهدوء) أحمد.. أنت تعلم بأنني أتألم بسبب هذا الموضوع أكثر منك، ولكن.. أتعتقد بأن أمنا على خطأ؟.
أحمد:ـ لا أدري يا سارة.. بالضبط لا أدري وطوال حياتي كنت أدفع هذا السؤال بعيداً عني حين لا أجد له إجابة قاطعة.. ولكن تلك المشكلة التقليدية العتيقة.. التي لها يد في كل قضية.. مشكلة الناس وكلام الناس.. الناس الذين يتدخلون في كل شيء ولا يتدخلون في شيء.. يقررون الخطأ والصواب ولا يقررون.. يهمسون.. يوشوشون.. يصرخون.. يظلمون.. يُقبلون.. يُدبرون.. يتوحدون.. يتمزقون.. ينافقون ويثرثرون.. و.. و.. و.. وإلى أن ننتهي وينتهون.
سارة:ـ إننا لا نستطيع أن ننكر أن كل ما فعلته أمنا هو من أجلنا أنا وأنت وسامي.
أحمد:ـ من أجلنا وضدنا.. أو كان من أجلنا وأصبح ضدنا.. لا أدري بالضبط.. ولكن الذي أعرفه الآن هو أننا لم نعد نحتمل ما تقوم به.. لقد أخذتُ أشعر بطعم دموعها وآلامها في كل ما أتناوله.
سارة:ـ وأتلمس رطوبة دموعها في كل ثوب أرتديه.
أحمد:ـ وأسمع نواحها يرافق كل الأغاني والضحكات.
سارة:ـ وأبصرها تنتف شعرها كلما مشطتُ شَعري.
أحمد:ـ وأجد عينيها الباكيتين كلما قرأت في كتاب.
سارة:ـ وأراها نائحة في كل أحلامي بالعرس.
أحمد:ـ لقد بكت وتألمت كثيراً، وآن لها أن ترتاح.
سارة:ـ إنني أحبها يا أحمد.
أحمد:ـ جداً.. إنها امرأة عظيمة.. أم رائعة وهذا ما يدفعنا أيضاً إلى ردها.. بل علينا أن نجبرها على الكف عن عملها نهائياً مهما قد يكلفنا ذلك.
سارة:ـ ولكن بلطف يا أحمد.. بلطف.
أحمد:ـ ألا ترين بأننا قد نضطر أحياناً أن نكون قساة مع من نحب؟.
سارة:ـ إن لأُمنا ذكاءً حاداً وخِبرة كبيرة في الحياة.
أحمد:ـ وإرادة عجيبة وهذا ما يحدو بي لأن أؤكد على أن تكوني معي حتى النهاية في الضغط عليها.
سارة:ـ ولكن..
أحمد:ـ (يقاطعها) أرجوكِ يا سارة.. لم نعد نحتمل.. علينا أن ننتهي من هذا الأمر اليوم.
سارة:ـ حسنٌ.. ولكن هناك مسألة أخرى وددتُ أن..
(صوت غلغلة مفتاح في الباب. تهرع سارة إليه لتفتحه وتدخل الأم مرتدية ثوباً أسود كالعادة)
سارة:ـ أمي؟.
الأم:ـ أهلاً يا عزيزتي.. كيف حالك يا أحمد؟ أين أخوكِ سامي؟.
سارة:ـ في المدرسة وسيأتي الآن.
أحمد:ـ أين كنتِ؟.
الأم:ـ كنت حيثما كنت. لقد جلبتُ لكم اليوم غداءً رائعاً.
أحمد:ـ ثمة ما هو أهم من الطعام الآن.
الأم:ـ (متجهة إلى باب إحدى الغرف) حسنٌ سأستبدل ثوبي فقط وأعود.
أحمد:ـ (بتهكم) تستبدلينه..!.. بأي ثوب؟ بالأسود أم بالأسود الآخر؟ فكل ثيابك كالذي ترتدينه.
الأم:ـ أحمد.. ما الأمر يا عزيزي؟!.
أحمد:ـ (بألم وضجر) الأسود يا أمي.. الأسود..
الأم:ـ الأسود؟!!.
أحمد:ـ هذا السواد الذي يلفك منذ عشرين عاماً.. السواد الذي كان أول شيء أبصرناه في هذا العالم.. منذ أن كنتِ تهدهدينا صغاراً في حضنكِ.. ننام فيه ثم نستيقظ لنجد أنفسنا فيه.. هذا السواد الذي لا يعني غير الحزن والألم والدموع.. لا يُذكر إلا بالتجهم والندب والنواح.. لا يعني إلا الحزن، لا بديل.. إما البكاء بمشتقاته أو الصمت بمشتقاته.
الأم:ـ يبدو أنك قد عدت إلى الموضوع نفسه.
سارة:ـ ومتى غادَرَنا أو غادرناه لنعود إليه يا أمي؟.
الأم:ـ وأنتِ أيضاً؟!.
سارة:ـ أماه.. أرجوك يا حبيبتي.. كفاكِ ما تفعلين.. أتوسل إليكِ رأفة بنا ورحمة بنفسكِ.
الأم:ـ إن بإمكاني استبدال ثوبي الأسود بأبيض ولكن هل بإمكاني استبدال قلبي المترع بالحزن؟.
أحمد:ـ عشرون عاماً وأنتِ تنوحين فإلى متى يا أمي؟ إلى متى؟؟.
الأم:ـ إلى أن أموت.
أحمد:ـ عشرون عاماً ولم نر أحداً يدعوكِ إلى عرس أو حفل أو وليمة.. الكل يأتي ليدعوكِ إلى المآتم.. لا يَذكرونكِ إلا عندما يرون الموت ولا يذكرون الموت إلا عندما يرونك.. فلماذا؟.
الأم:ـ لأنها حرفتي.. أنا نائحة.
أحمد:ـ.. البكاء؟!.. حرفتك البكاء؟!.. وهل يحترف عاقل البكاء يا أمي؟!.
الأم:ـ الكثيرون يا بني، الكثيرون وإن لم يعلنوا ذلك مثلي.
سارة:ـ أية حرفة بائسة هذه!.
الأم:ـ بائسة حقاً.. ذلك لأن البؤس جوهرها وجوهر كل شيء..
أحمد:ـ الذي نعرفه أن الإنسان يحزن لنفسه، ويبكي لنفسه لا لكل الناس أو بالأجر.
الأم:ـ هذا يعني أنك لن تعالج الناس وإنما ستعالج نفسك فقط عندما تصبح طبيباً؟.
أحمد:ـ حرفتي تختلف.
الأم:ـ صدقني أن الحزن دواء وهو خدمة للإنسانية جمعاء.. إن البكاء دواء لأمراض كثيرة.. لأمراض أخطر من الزائدة الدودية أو الرعاف أو انسداد مجاري البول.. إنه يعالج أمراضاً لا تُعالج بالمشارط والعقاقير ووخز الإبر.. وإلا.. قل لي كيف تعالج شخصاً مصاباً بمرض الزيف، أو بمرض سُعار المال أو بمرض الكراهية والنفاق أو القسوة والاضطهاد أو..
أحمد:ـ (يقاطعها) وماذا لو كانت الدموع ذاتها مرضاً؟.. أماه لقد ضقنا ذرعاً بامتهانك الحزن.. طوال حياتنا ونحن نشعر بطعم دموعك أينما كنا وفي كل شيء نفعله.. حتى باتت تشكل لنا اختناقاً دائماً.
سارة:ـ كرهنا الدموع.. كرهناها لأننا لا نعرف غيرها.
الأم:ـ وهل نسيتم أن لحمكم هذا من ثمن الدموع وشهاداتكم وهذا البيت..؟ عشرون عاماً وأنا أندب في المآتم، وقد أندب في اليوم في أكثر من مأتم. أنتفُ شَعري وأدق على صدري، وألطم على خدودي وأنوح بأشعار الحزانى والمفجوعين لأجلب لكم لقمة العيش حتى أصبح يعرفني الجميع:.. أين النائحة أم أحمد؟ نادوا النائحة أم أحمد.. أكرموا النائحة أم أحمد..
أحمد:ـ وهذه هي المصيبة.
الأم:ـ أية مصيبة في ذلك؟.
سارة:ـ اقترنا أمامهم بشؤم الموت.. هذا الطبيب ابن النائحة، وهذه الموظفة في وزارة الثقافة ابنة النائحة.. ابتعدوا يسترنا الله. وكأننا نحن من يقبض الأرواح!.
الأم:ـ (بغضب) عجباً للناس! أليس النواح بأفضل من العُهر؟ أليس النواح بأفضل من السرقة والارتشاء؟ أليس النواح بأفضل من التملق؛ مسح الأكتاف وتقبيل الأحذية؟ أليس النواح عملاً شريفاً؟.. ثم إن الحزن ثقافة.. أجل ثقافة أصيلة، صدقيني وما الشعراء الذين ترينهم إلا نائحات مثلي وإن أبدلوا أسماءهم وأساليبهم، وإن علقوا أربطة العنق.. بل إن أكثرهم نائحات رخيصات..
سارة:ـ لقد رأيت فنانين على المسرح يُضحكون الناس في ليلة موت آبائهم.. يُضحكون الناس وأبنائهم في المستشفيات.
الأم:ـ يُضحكون الناس أم يَضحكون عليهم؟.. ثم أن الإضحاك حرفتهم.. فبإمكاني أيضاً أن أبكي الناس في ليلة زفافكِ مثلاً.
أحمد:ـ لقد تغير العالم يا أمي وتبدلت المفاهيم.
الأم:ـ أجل، أنا أكثر من يدرك هذا وهو ما يجعلني أواصل التمسك باحتراف النواح.
سارة:ـ كيف؟!.. كيف؟!.
الأم:ـ لقد تبدل الناس؛ إنهم يتشبهون بالحديد الذي يصنعونه:.. أصابعهم مفكات لوالب، قلوبهم مضخات، رؤوسهم أجهزة، عيونهم مصابيح، بطونهم مخازن، جيوبهم بنوك، بيوتهم فنادق وحبهم مصالح، آباؤهم مصالح، أبناؤهم مصالح، أزواجهم مصالح.. الحب ضمن خطة والعطف ضمن خطة والقتل ضمن خطة والشرف ضمن خطة، الاحترام والرحمة ضمن خطة.. ولكل شيء برنامج وخطة.. وفي كل شيء مصلحة. لقد أصبحوا قساة يا ابنتي لا يشفقون على بعضهم ولا حتى على أنفسهم.. سباق.. ركض.. لهاث وخوف في متاهة.. هَجر دائم لبعضهم ولأنفسهم.. ولهذا تجدينهم بأمس الحاجة إليّ.. إلى النائحة التي تخِز بقايا الحياة في قلوبهم بأشعارها وتُذكرهم بإنسانيتهم.. إنهم بأمس الحاجة إليّ.. لأنني أعلمهم دروس الحزن والبكاء التي نسوها أو تناسوها.. أساعدهم في التألم على حبيب مات.. وأُذكرهم بالموت أينما رأوني، أُذكرهم بالحقيقة الأبدية.. بالنتيجة النهائية التي سيحصلون عليها أينما ذهبوا ومهما يفعلون.. وأطمئنهم أيضاً: أن ثمة من سيبكي عليهم لأنهم يشكّون في بكاء بعضهم على بعض، وأن هناك من سيتألم لموتهم إذا ارتابوا في أن يتألم عليهم أحد ـ صدقوني إنهم مساكين جميعهم.. بحاجة إلى من يشفق عليهم ـ على الرغم من مكابراتهم بحاجة إلى من يحبهم، إلى من يمسح التقطيبة عن جباههم بكف حنون، ويطرد شبح الوحدة من أعماقهم.. بحاجة إلى من يساعدهم في تصريف حزنهم الذي يكافحونه بالهرَب واللهو والسُكر والنكات التافهة.
أحمد:ـ وحزنكِ أنتِ؟.
الأم:ـ (مُنشِدة) :
" أيتها الريح إليكِ المُشتكى
هجر الوصل زمان الفقراء.
ليس في خلجان عينيّ سوى رجع البكا
وعلى الصدر سوى لسع الدهماء "*
سارة:ـ ولكنكِ قضيتِ حياتك كلها بالبكاء يا أمي؟.
الأم:ـ يبكي الصغير عندما يأتي إلى الحياة ويبكي الكبير عندما يُودع الحياة. (وتُنشِد) :
" نولد مع ومضة برق
ويبقى وميض البرق مستمراً عندما
نموت
.. ألا ما أقصر الحياة!
المجد والحب اللذان نسعى إليهما..
هما شبحا حلم نلاحقه
والصحو .. هو الموت "**
أحمد:ـ (بتبرم) أماه.. ولكن مسألة النواح في هذا العصر..!.
الأم:ـ أعرف يا بني.. أعرف أنهم ينظرون إليها على أنها قديمة وشيء من التراث وأعرف ذلك لأن الصدق والإخلاص أصبحا من التراث أيضاً.
سارة:ـ ومن أين لكِ بكل هذه الدموع يا أمي؟!.
الأم:ـ من بحر أحزان العالم (صمت) لا أخفي عليكما أن بكائي في البداية كان على فراق أبيكم إثر موته ميتة بشعة، ولكن ـ بعد ذلك ـ وجدتُ أن كل شيء يستحق البكاء عليه.. كل شيء حتى الأشياء المنظَّمة، المقهورة في تنظيمها، وتلك الضائعة في متاهة الفوضى والتشتت أيضاً، ثم أخذتُ أكتشف أن حقيقة العالم قائمة على المأساة، حقيقة قاتمة مكفهرة حزينة، تستثير العطف والوجل. وأن الحزن ثقافة وطِب وفن وفلسفة وأخلاق.. أجل صدقوني.. بل حتى فيه مَسرّة سرية عميقة وفيه تَطهُر وغِنى وحب مجرد من المصالح والمظاهر.. وأن الحزن يعلمنا صداقة الموتى واستقبال الموت بألفة وبلا جزع.. الحزن أكثر أصالة من الفرح؛ فهو دائم والفرح طارئ وعابر ومزيَّف.. ثم أن الله لا يحب الفرحين.
سارة:ـ أماه علميني النواح.. علميني أن أرى الأشياء كما ترينها: على حزنها الحقيقي.
أحمد:ـ (ينتفض صارخاً) لا .. لا .. لا يا سارة لا تستسلمي مهما تكن حجج أمكِ مقنعة.
الأم:ـ هـه.. إنك بهذا تؤكد قناعتك أيضاً في حقيقة ما أقول وتعلن عن سذاجة تحذيرك لها في الوقت نفسه، فتبدو كمن يقول للمُبتَل بالماء: أحذر المطر، أو كمن يقول للميت: لا تخف من الموت.
أحمد:ـ أجل يا أمي فليس الحزن هو الذي يجعلنا لا نخاف الموت أو يجعلنا نلقاه بألفة كما تقولين.. بل على العكس من ذلك.. إن الحزن ما هو إلا خوفنا المرعب من الموت، وإننا حين نحزن نبدو كمن يتملق الموت أو يحاول مجاملته لكي لا يؤذيه أو يتحاشاه.. هناك أمور كثيرة ـ غير الحزن ـ تجعلنا لا نخاف الموت.
الأم:ـ (بسخرية) الرقص مثلاً؟.
أحمد:ـ ولمَ لا؟ الرقص وكل الفنون والإبداعات والأخلاقيات التي تريح ضمائرنا وتخلدنا وتحصننا من الموت حتى بعد موتنا..
الأم:ـ لا .. مُحال: إنكَ ميتٌ وإنهم ميتون.
أحمد:ـ وحتى الطب يعلمنا أن الموت شيء عادي وما هو إلا عطب بجهاز معين في جسد الإنسان.. بل حتى الموت نفسه يجعلنا لا نخاف من الموت.
سارة:ـ الموت؟!.
أحمد:ـ الموت من أجل قضية، وإلا بماذا تفسرين إقبال الأبطال على الموت بلا خوف؟ وبماذا تفسرين الابتسامة على شفاه الشهداء؟.. ألا يعني هذا أنهم لم يخافوا الموت في حياتهم ولم يُخِفهم بعد الحياة؟.. بل ثمة أشياء أخرى يومية تدعونا لأن نعيش حياتنا بعيداً عن ذكرى شبح الموت أو الخوف من الموت يا سارة.
الأم:ـ (بتهكم) الملابس مثلاً؟.. والشهادات والسيارات و..
أحمد:ـ (يقاطعها مكملاً) والأصدقاء والزواج والأبناء والعمل والسفر والحفلات والغناء والعِلم والناس والضحك والتعاون والحب والبناء والخير والأحلام و.. و.. و..
الأم:ـ لكنها جميعاً سوف تموت وأنتَ أيضاً..
أحمد:ـ وهل يدعونا هذا لأن نجلس فقط يثقلنا الحزن بانتظار أن نموت؟.. إنها قضية قديمة يا أمي.. قضية قديمة جداً؛ مشكلة ولدت مع أول إنسان ولكن يبدو أن البشرية قد اتخذت منها موقفاً بعد فيض من التجارب والمواقف.
الأم:ـ أتعني أن البشرية قد حلّت هذه المشكلة؟.
أحمد:ـ لقد اختارت أن تعيش بكل ما تعنيه هذه الكلمة: العيش.. تعيش بجدية إلى أن يأتيها الموت.. ثم أن عزاء الآباء هو امتداد أبنائهم لهم.
سارة:ـ أجل يا أمي.. ألا ترين في حياتنا امتداداً لحياتكِ؟.. فلماذا تريدين أن تجعلي من هذا الامتداد؛ امتداداً للحزن لا امتداداً للحياة؟!.
الأم:ـ لا.. صدقوني لم أفكر في أن أجعل الحزن يستولي على حياتكم، بل على العكس: إن كل ما أقوم به هو من أجل أن أبعدكم عنه.. صحيح أنني لا أرى من هذا العالم إلا وجهه الكالح، الحالك، ولكن هذا لا يكفي وحده لأن يجعلني أدق على صدري وألطم خدودي وأنتف شَعري وأسكب الدموع طوال العمر، لولا أن في ذلك أجراً أتقاضاه لأجعلكم تعيشون بعيداً عن الحاجة وإذلالها، ثم هل طالبت أحدكم بالنواح يوماً؟.. هل تركت أحدكم يبكي ولم أمسح له عينيه؟.. هل رأيتموني في البيت إلا مُشَجِّعَة، مُحِبة، مُبتَسِمة؟.. هل كلفتكم بما تكرهون؟.
أحمد:ـ نعم.
الأم:ـ متى؟.
أحمد:ـ أمس.. اليوم.. الآن.. إننا نكره أن تستمري بالنواح في المآتم، ولكنكِ تصرين على تكليفنا بتقبل ذلك..
الأم:ـ لا أريد أن أكرر ما قلناه مرة أخرى يا أحمد.. ولكن الذي عليكم أن تدركوه هو أنني مؤمنة بأن هذا العالم مأساوي وحزين.. لقد أطلعتني تجارب حياتي على حقائقه القاتمة.
أحمد:ـ ألِمُجَرد عدة صدمات قاسية تلتزمين المأساة حتى النهاية؟.
الأم:ـ تلك الصدمات كانت هي المفتاح للباب الذي دخلت عبره إلى عُري العالم الكئيب بعد أن تركتُ زينته الزائفة وستائره المزركشة وراء ظهري، فأخذتُ أرى كل شيء فيه يستحق الحزن والبكاء.
أحمد:ـ على العكس؛ فما دمنا لم ندفع شيئاً مقابل أن نحيا.. فما الذي سنخسره حين نُصدَم أو حين نموت؟.. إنني أرى كل شيء في هذا العالم هدية ويدعو للأمل والحياة..
الأم:ـ طبعاً نخسر؛ إننا..
سارة:ـ (تقاطعها) وأنا.. هل عليّ أن أعلن حيرتي أمام اقتناعي بما تقوله يا أحمد، وفي الوقت نفسه، قناعتي بما تقولينه يا أمي؟.. هل أجعل من حيرتي وحياتي حزناً أم أجعل من حزني حياة؟.. أم هل أدعوكما إلى ما أراه أنا بتردد؟.. فبكل بساطة.. أحزن لما يستحق الحزن وأفرح لما يستحق الفرح.
أحمد:ـ كلا.. بل تفرحين دائماً.. دائماً.
(طرقات على الباب)
سارة:ـ لنتَناول غداءنا إذاً.. لا بد أنه سامي قد عاد من المدرسة.
أحمد:ـ (يفتح الباب فيجد رجلاً أمامه).. تفضل.
الرجل:ـ (بعد أن يدخل خطوة واحدة) هل حضرتك هو السيد أحمد.. أخو سامي؟.
أحمد:ـ نعم.
الرجل:ـ يؤسفني إبلاغك بأن سامي قد صَدَمته سيارة إسعاف أمام باب المدرسة ومات في المستشفى.
(فيـشرع أحمد بالنواح)
--------------------------------------------------------
* شعر/ محمد علي شمي الدين/ (قصائد مهربة إلى حبيبتي آسيا).
** شعر/ أدولفو بيكر: شاعر إسباني ولد في أشبيلية (1836 ـ 1870).
------------------------------------------------
أو في
http://www.masraheon.com/481.htm

الاثنين، 3 نوفمبر 2008

للأطفال/93

تسلية
فكر معنا
إعداد: محسن الرملي
من أنا؟

يلقبوني (الملكة)
ولا أملك أي مملكة !

يقولون شَعري أشقر
ولا أملك أي شَعر !

الكل يبصرني أمشي
وأنا في الواقع لا أمشي !

أضبط الساعات بأوقاتي
وأنا لست بساعاتي !


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


ما هي ؟

لا وسوسة .. لا بسبسة
واقطعوا الكلام
فهي أم مقدسة
تعلم النظام
وبعد ترك النوم
نراها كل يوم
فيها النظام والعلم
فيها الصحاب كلهم
لا وسوسة لا بسبسة فقد وصلنا الـ (.....)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشرت في صحيفة (الرأي) الأردنية سنة 1993

الأحد، 2 نوفمبر 2008

عرض مسرحي/93


بالتعاون بين
جامعة اليرموك
و فرقة مسرح الفن
إربد/الأردن
وضمن فعاليات
مهرجان المسرح الرابع في الشمال
للفترة من 18 ـ 23 كانون الأول سنة 1993
تم تقديم المونودراما المسرحية
(البحث عن قلب حي)
تأليف الكاتب العراقي: محسن الرملي
إخراج: أحمد نجيب الجلابنه
تمثيل: يوسف إبراهيم الغول
إشراف: محمد يوسف نصار
الموسيقى: محمد قاسم
الديكور: علي الجراح و يوسف الجراح
الإضاءة: عمر نقرش و محمد بطاينة
مدير المسرح: عمر ملكاوي
تشريفات: محمد ملاوي
تلحين كلمات الأغنية: محمود العريان
غناء: مها السيلاوي
كلمة المخرج:
"في غمرة الأحداث وتزاحم المصائب والنكبات وتشابه ألأشكال والأسماء، يتخبط الإنسان ويتيه في ظلام صامت مميت، يستغيث ببصيص من النور عله يصل إلى الشمس، لينتصر على الظلام وتظهر الحقيقة عارية أمام ناظريه.
قد ييأس الإنسان في بحثه عن حقيقته وذاته، ولكن قد تنبت من بين الأشواك زهرة برية، وفوق صخور الصوان قد يزحف عرق ريحان وتشتعل قضية، ونتوه في سبر أعماقنا نبحث عن محمية، نجلس تحت أغطيتنا السميكة كدببة قطبية، ونأمل أن يأتي وهم ليحطم أقفاص الهمجية.... أقدم في هذه المونودراما المسرحية (البحث عن قلب حي).. صرخة تحاكي مكنون أعماقنا وتحثنا على إيقاض عقولنا وقلوبنا
أحمد نجيب

السبت، 1 نوفمبر 2008

عن محاضرة/1996






هدية القرن القادم
هدية محسن الرملي لإثراء أدب المهجر في إسبانيا




سعيد العلمي/مدريد: ألقى الكاتب العراقي محسن الرملي محاضرة قيمة في النادي الثقافي العربي في مدريد، حضرها عدد كبير من المثقفين العرب والأسبان. قدم للمحاضرة الدكتور خليل شنيكر قائلاً:" بعد أن قرأت بعض كتابات الأديب محسن الرملي أعتقد بأننا أمام كاتب من الطراز الأول حيث وجدته يصول ويجول في عدد من المواضيع الهامة ذات الصبغة العالمية الإنسانية فيعالج أمور الحب والمرأة والدين والحرب والشهادة والحرية. وفي كتابه (هدية القرن القادم) نراه يؤشر بوضوح إلى أماكن الوجع، وعندما نتابع القراءة نكتشف بأنه يحاول تلمس مشروع حل، وبذلك تكون قد اكتملت في محسن شروط المثقف، فهو كاتب معروف ليس في مجال القصة القصيرة فحسب وإنما له نصوص مسرحية مثل مسرحيته (البحث عن قلب حي) التي نالت الاستحسان عند عرضها الأول في الأردن، وله رواية قيد الطبع، إضافة إلى مئات المقالات والترجمات في صحف الأقطار العربية، وهو يحضر الآن لأطروحة الدكتوراه في الدب الإسباني...".
هذا وقد ارتكز الرملي في محاضرته على ثلاثة محاور أساسية هي: "أهمية الثقافة الآن" و"الرواية العربية المعاصرة وهموم المثقف العربي" و"شيء عن تجربته القصصية"، ومما جاء في أقواله:" أن الثقافة الآن تعتبر قلعتنا الأخيرة وسبيلنا الأرحب وأملنا في التفاهم والتقارب والتوعية وتمتين جسور التواصل، وأسلوبنا الذي نثق به أكثر من غيره من أجل استمرارنا في مطاردة الحقيقة". كما اعتبر أن:" الأدب هو الوجه الآخر للتاريخ، بل هو الوجه الأكثر صدقاً وتفصيلاً ودقة في التسجيل وذلك لعدة أسباب منها: أن التسجيل التاريخي التقليدي يتعرض دائماً للتلاعب والتشويه من طرف المراحل والأنظمة وحتى من طرف المؤرخين كأفراد وفق وجهات نظرهم ومصالحهم وأهدافهم، وأن الأدب هو تاريخ الناس على اختلاف مستوياتهم وتاريخ الأحداث والطبيعة والأشياء، ففي الوقت الذي يقتصر فيه التاريخ التقليدي على تسجيل حياة الملوك والقادة وانتصاراتهم وهزائمهم وأعداد جيوشعم والمعارك وبناء المدن واندثارها، يسجل الأدب حياة الناس البسطاء والفقراء والمنسيين". وعن أهمية القصة تحديداً قال:"إن كل الديانات ومناهج التربية والتعليم استخدمت القصة كوسيلة لإيصال القيم والمفاهيم إلى عقول الناس ووجدانهم، وإن كل ما يحيط بنا هو قصص: الأحداث والأخبار والأحاديث اليومية ومكالمات الهاتف وحتى عملية الطبخ.. هي قصة بحد ذاتها عندما نتحدث عنها". و"إننا نبدأ حياتنا منذ الطفولة بسماع القصص من جداتنا وأمهاتنا ثم نعيش حياتنا قصصاً ونعلم أولادنا بالقصص وحين نموت نكون قصة يرويها غيرنا". وقال الرملي:"هكذا اتخيل بأن كل واحد منا هو مجموعة قصصية تمشي على قدمين". ثم تحدث عن الرواية العربية ووصفها بأنها بخير من ناحيتي الكم والنوع وانها "على الرغم من قصر عمرها قياساً إلى أعمار الرواية في بقاع اخرى من العالم إلا أنها قد استطاعت أن تحرق المراحل بشكل كبير واستطاعت أن أن تنتج نماذجاً رائعة وخالدة من الروايات". ثم تحدث عن بعض ما تعاني منه الثقافة العربية من أزمات مثل الحرية والنشر والنقد والترجمة وضعف التنسيق الثقافي بين البلدان العربية. وأشار إلى أنه يركز في قصصه على نقطة أساسية وهي:"البساطة العميقة"، الحدث بسيط ولكن مدلولاته عميقة، واللغة بسيطة وسلسة ولكنها غير مبتذلة أو مكررة و"أحاول أن أمنح الأشياء اليومية تجديداً ودهشة".
وفي مجموعة الرملي القصصية (هدية القرن القادم) يبرز عنصر الانتقاد والإدانة، ففيها قصص تدين الحرب وأخرى تدين الفهم الخاطئ للدين وأخرى تدين التعلق المرضي بالرياضة وأخرى تدين الزيف في الحب والحياة وغيرها... كما تحدث محسن الرملي عن تجربته بالاستفادة من تقنيات الحكي الشعبي عند العجائز، وكيف أن هذه التجربة قد ساعدته على الميل نحو التحرر الزمني والحكائي في الروي، وقال عن قصصه المكتوبة عن الحرب:"لم أكن أصف الحرب كفعالية وآليات وخطط عسكرية، وإنما كنت أنظر إليها عبر انعكاسها على الناس وما تتركه من خراب وقتل وأحزان ومفارقات، وهكذا فإنني أدين الحروب عن طريق وصفي لجوانب مما تُحدِثه في الناس". ثم ختم قوله بأنه، وعلى الرغم من الصدى الجيد لكتابه هذا إلا أنه غير راض عنه كل الرضى ويعتبره مجرد مرحلة أولى في تجربته وأنه قد أخذ بالتجاوز في قصصه الجديدة محاولاً التعميق والتنويع في تجربته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشرت في مجلة (النورس العربي) سنة 1996 مدريد.

الجمعة، 31 أكتوبر 2008

صورة قلمية/1998


غيمة دخان حزينة
.. إلى روح الشهيد الذي ذوى فينان وهو مورق.
مليكة الشيكر


عرفته من بعيد هادئاً ساهماً كأنه يفكر في حل مشاكل الكون، صامتاً يخشى إن تكلم تدفق سيل همومه التي تعتلج في فؤاده، ثم عرفته عن قرب، الصمت نفسه، إن تكلم يختصر.. كأنه خائف من دفع ضرائب نفسية على كلامه. أخرج سيجارة وأشعلها. نظرت إليه بتعجب.
ـ أتدخن؟! لو قالها لي أحد لكذبته، فأنت عقل من أن تقذف في جوفك قطرات النيكوتين والقطران.
لكنه نظر إليّ ثم ارتسمت على محياه ابتسامة حزينة وقال لي:
ـ لو عانيت ما قاسيت لوجدت لي عذراً أكيداً.
لم أفهم ما يعني، لكنه أعطاني كتاباً من ـاليفه وقال لي:
ـ هنا قد تجدين الجواب.
رجعت للبيت وتصفحت أول صفحة من الكتاب فشعرت بنيران تخترق أضلعي، أحسست بالمرارة من أجل شاب ضاع وأطفال لا يجدون مسكناً يحميهم وأم تفقد وحيدها وأب يدفن أحزانه ويخفي خبر موت فلذة كبده حتى ينتهي من واجبه ازاء جاره الذي شيع جثمان ولده، ثم طلب من الجماعة بعدها مرافقته لدفن ولده هو أيضاً.
.. نعم، كل هذه الصور المحزنة توالت أمام عيني على صفحات الكتاب كأني أرى شريطاً تسجيلياً لوطن يدفع ضريبة عقار ليس في ملكيته وشعب وجبت عليه الكفارة لصوم لم يفسده.. شعب تكالبت عليه كل أنواع الهموم، لم تشفع له مياهه العذبة وآباره الغنية ليهنأ وينام أبناءه قريري العين ويعيشوا في كنف هذا الوطن وينعموا بعبقريتهم التي هاجرت ونحتت في الصخر من أجل لقمة خبز ووطنهم الغني يعيش حالة ذعر وفزع مع كل طائرة تحلق في أجوائه.
وجدت له العذر وعرفت أنه ينفث دخان سيجارته مصحوباً بزفرات غيضه، وحمدت الله أنه ليس في بيتي سجائر وإلا لكنت دخنتها.. لما أحسست به من حسرة وألم على هذا الوطن الرائع المنكوب وأسكت الصرخة المكبوتة التي اعتملت في صدري.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشرت في مجلة (المرآة) العدد 2 شباط 1998 مدريد.

لقاء/1997


الكاتب العراقي محسن الرملي:
لنستلهم جيل الـ 98 الإسباني بجيل عربي مماثل!
حاورته في مدريد: غيته الجباري


محسن الرملي واحد من الأقلام الأدبية الشابة التي برزت في السنوات الأخيرة في ميدان القصة العربية. وُلد شمال العراق ويقيم الآن في إسبانيا. صدرت له في الأردن مجموعة قصصية بعنوان (هدية القرن القادم)، وله مجموعة نصوص مسرحية بعنوان (البحث عن قلبٍ حيّ)، وقصص أخرى بعنوان (أوراق بعيدة عن دجلة). عمل في الصحافة ونشر العديد من المقالات والترجمات في الصحف والمجلات العربية. انتهى مؤخراً من كتابة سيناريو للسينما الإسبانية بعنوان (حِيرة المهاجر)، كما يواصل دراسته العليا لنيل شهادة الدكتوراه في الأدب الإسباني.. التقيته في مدريد وكان بيننا هذا الحوار:
*نبدأ من هنا، من إسبانيا.. ماذا تقول عن إقامتك فيها وعن ثقافتها؟.
ـ إن وجودي في إسبانيا يفيدني كثيراً للوقوف عن قرب من الحركة الثقافية العالمية، وذلك لأن الجديد في العالم يُترجم إلى الإسبانية قبل أن يُترجم إلى العربية بسنوات طويلة أحياناً، وتُطرح الأشياء هنا بوضوح أكبر مما هي عليه في العالم العربي وذلك بحكم الفارق في مجال الحُريات.. وقعتُ في حُب إسبانيا ولغتها وثقافتها، وأجدُ "ثربانتس" أعظم ما أنجبته الثقافة الإسبانية على الإطلاق. أما من الكُتاب المعاصرين فإن "خوان غويتيسولو" اعتبره أفضل كاتب إسباني يتفرد بخصوصيته الفكرية والفنية والحياتية، وهو يعيش في مراكش منذ أعوام طويلة، ويغرف من الينابيع الأصيلة للثقافة العربية ومن أعمدة التصوف الإسلامي.
*ماذا عن الأدب العربي في إسبانيا؟.
ـ بصراحة إن ما يُترجم منه إلى الإسبانية يعد قليلاً، إضافة إلى سوء توزيعه ووصوله إلى القارئ. وكان لفوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل أثراً كبيراً في تحريك عملية ترجمة الأدب العربي، ليس إلى الإسبانية فحسب، وإنما لجميع لغات العالم. ثمة جهود كبيرة تستحق منا الشكر يقوم بها مستشرقون إسبان أمثال مونتابيث وكارمن رويث وماريا برييتو، كما أن المثقفين العرب هنا، رغم قلتهم، يحاولون بلورة جهودهم لتشكيل نواة ثقافية عربية في هذه البيئة، فأصدروا المجلات وأنشأوا الأندية وغيرها. هذا وقد كان لوجود رمز ثقافي كبير مثل البياتي في مدريد أهمية كبيرة، فقد أقام هنا عشر أعوام تقريباً وصداقتي معه بدأت من هنا.
*قلت في محاضرة لك بالنادي الثقافي العربي في مدريد؛ أنك تفضل الأدب على التاريخ، وطالبت بفصل الأدب عن الأيديولوجيات.. أوضح ذلك..
ـ أعتقد أن الأدب أكثر تحسساً وصدقاً وتفصيلاً من التاريخ في الشهادة على الحياة، وأنه أكثر إنصافاً.. لأنه لا يكتفي بِذِكر حياة القادة والمعارك وغيرها، وإنما يتناول كل شيء: الناس البسطاء وتفاصيل حياتهم وأحزانهم وأفراحهم وحتى خيالاتهم.. أما عن فصل الأدب عن الإيديولوجيات فهذا ما كان عليه الأدب الخالص عبر تاريخه، فإن أيديولوجية الأدب والفن عموماً هي الإنسان وليس المنظومات المختلفة التي تسعى لتقييد الفن والإنسان معاً.. فالفن لا بد وأن يبقى حُراً. وإذا كان لا بد من أيديولوجية فلكل مبدع أو إنتاج إيديولوجيته الخاصة به، ألا وهي رؤية المبدع.. ثم هل بإمكانك أن تقول ما هي أيديولوجية شكسبير أو ثربانتس أو طاغور أو غيرهم؟.. لقد آن لنا أن نُحرر إبداعنا من هيمنة مختلف السلطات وخاصة في عالمنا العربي.
*هل هناك أزمة ثقافة.. وأزمة المثقف العربي؟.
ـ إنها أزمات كثيرة وأولها أزمة الحرية. والغريب أنني قد اكتشفت بأن إسبانيا لها ثالوثها المُحرّم مثل ثالوثنا العربي المعروف: الدِن، الجنس، السياسة. فقد حذرني صديقي الروائي الإسباني ماريو غرانده من نشر قصتي (لبن أربيل) بالإسبانية لأنها قد تسبب لي الإشكاليات!.. أو ربما قد تجر إلى طردي من إسباني!!.. فقد قارنت في هذه القصة بين كردستان العراق وإقليم الباسك، وذلك بعد أن زرت مدينة سان سباستيان، ووجدت تشابهات مدهشة بين شمال العراق وشمال إسبانيا؛ جغرافياً وثقافياً وسياسياً وحاضراً، وهكذا فإن قصتي تدخل في إحدى المحظورات الإسبانية الثلاث وهي: المَلك، الجيش ووحدة إسبانيا!.
*ما هو أثر تواجدك خارج الوطن على كتابتك، وفي إسبانيا تحديداً؟.
ـ القصص الأولى كتبتها داخل بلدي ولذلك فهي مشحونة بالمناخ العراقي الخالص، ومن بينها قصص عن أجواء الحرب وطبيعة العلاقات بالمكان والناس.. واللغة كانت عراقية صرفة. أما مجموعتي الجديدة (أوراق بعيدة عن دجلة) فكل شيء مختلف، بما في ذلك التقنية واللغة والحدث القصصي ويُلاحظ أن إسبانيا حاضرة في مجمل قصص المجموعة على اعتبارها المكان الآخر لرؤية الذات. كما تضمنت نقداً لإسبانيا وفيها مقارنات بينها وبين بيئتي السابقة، كما يجد القارئ في قصصي الجديدة لغة جديدة وجرأة أكبر وكثافة ومحاولات لمزج تقنيات جديدة أيضاً.
*يُلاحظ على كتابتك طابع الحزن الشديد وأحياناً التهكم المُرّ.. فلماذا؟.
ـ إن الكاتب يكتب عما يعرفه، وهذا ما عرفته في حياتي عبر فقدي لأخي وأبي وأمي وأحبتي ووطني. وأثناء خدمتي في الجيش أيام الحرب، كنتُ أمام الموت، كنت أرى موت أصدقائي أمامي، ثم أنني أرى بأن القتامة والحزن هو الوجه الآخر.. الوجه الحقيقي للحياة، فالحزن أكثر أصالة ودواماً من الفرح.. ومع ذلك فأنا أتذوق الحزن كتذوقي لبقية لحظات الحياة.. بل إنني ألعب على التشاؤم وأضحك منه أحياناً.
*كيف يقيّم إنتاج محسن الرملي؟.
ـ إن عملية تقييم إنتاجي يقوم بها غيري، وأعتقد بأن هذا ليس أوانها، على أية حال، فأنا ما زلتُ في بداية الطريق، أستكشف ذاتي وأدواتي وما حولي، وأتنقل بين حقول البحث والتجارب مثلي كمثل بقية زملائي من الكتاب الشباب عراقيين وعرب. وبالنسبة لي فإنني، حتى الآن، لم أقل ما أريد قوله. وما أسعى لإنجازه سيكون أكبر من كل ما أنجزته وربما سيكون مختلفاً عنه تماماً.
*ما هو جديد محسن الرملي؟.
ـ انتهيت من كتابة سيناريو للفلم السينمائي (حِيرة المهاجر) الذي يتناول قصة مهاجر عربي في إسبانيا، وأقوم الآن بترجمة عدد من قصصي لكي أنشرها بالإسبانية، إلى جانب مواصلة كتابتي للمقالات والمتابعات الصحفية واشتغالي على مسودة رواية منذ عام.
*و.. كلمة أخيرة؟.
ـ أود أن أشكر كل من شجعني بكلمة إعجاب.. وإلى أصدقائي من المثقفين العرب في إسبانيا أقول: أود لو نُوحد صفنا من أجل خلق حركة ثقافية عربية هنا.. بل وإنني أدعوهم لاستلهام تجربة جيل الـ 98 الإسباني وبلورة جيل 98 عربي يعيد قراءة أزمة الإنسان العربي ومحاولة طرح الرؤية لتجاوزها. وفي اعتقادي أن أزمة العرب الحقيقية هي أزمة وعي.. أزمة ثقافية قبل أن تكون أزمة سياسية أو اقتصادية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشر في مجلة (الأندلس) العدد 54 شباط 1997 إسبانيا.

الأربعاء، 29 أكتوبر 2008

مسرح/1997


محسن الرملي
البحث عن قلبٍ حي
مسرحيات

الطبعة الأولى: 1997
الناشر: دار ألــواح/إسبانيا.
لوحة الغلاف: الفنان الإسباني رافائيل بنيالبر.
التصميم والتخطيطات الداخلية: الفنان العراقي خالد كاكي.

المحتويات

مقدمة

البحث عن قلب حي (مونودراما)
النائحة .. أو دفاعاً عن الحزن (مسرحية في فصل واحد)
حيّة عادل (مسرحية في ثلاثة فصول)

الثلاثاء، 28 أكتوبر 2008

لقاء/1989




رؤيا الشباب.. تحاور

محسن مطلك الرملي

التقاه: عذاب عبدالله الجنابي


شاب تعرفت عليه في معسكر تدريب الطلبة في الكوت، ممتلئ نشاطاً وحيوية، طَموح يحب الحياة والعمل، موهبته الكتابة، وأثبت قدراته في مجال الأدب؛ منذ عدة سنين وهو ينشر قصصه في الجرائد والمجلات العراقية، حائز على عدد من الجوائز التقديرية.. إنه القاص الشاب محسن مطلك الرملي، طالب في المرحلة الرابعة قسم اللغة الإسبانية.
وبمناسبة فوزه بجائزة المسابقة المسائية الأدبية للطلبة والشباب في القصة، التقته صفحة (عوالم شابة).. فكان هذا الحوار:
*كيف كانت البداية مع الأدب؟.
ـ لقد أحببتُ الأوراق والأقلام حتى قبل أن أتعلم القراءة، حيث كنت أمارس الرسم وإلى زمن قريب، وبعد تعلم القراءة زاد شغفي بها حيث كنت أقرأ ما أطاله من مكتبة الابتدائية ثم الإعدادية، ولأنني من قرية فقد كان أخي (حسن) الذي يدرس في المدينة آنذاك يغريني بإعطائي مجلة على كل صفحة أكتبها.. وهكذا حتى تحولت القراءة والكتابة عندي إلى طقوس لا أجد لحياتي جدوى بدونها.
*هل تأثرت بكاتب ما؟.. ولمن قرأت من الكُتاب العرب والأجانب؟.
ـ قرأت لكل الأدباء الكبار الذين استطعت الحصول على مؤلفاتهم وتأثرت بالجميع.. ولكن أكثرهم تأثيراً عليّ كان تشيخوف من الأجانب، وغسان كنفاني من العرب، وحسن مطلك من العراقيين.
*أهم أعمالك المنشورة؟.
ـ عدد من القصص القصيرة في جريدة (الجمهورية) و(العراق) و(الطلبة والشباب) التي حصلت منها على الجائزة التقديرية لمسابقة عام 1988 والجائزة الأولى لعام 1989 ونشرت في مجلة (حراس الوطن) لقاء أعتز به مع الشاعر الكبير عبدالوهاب البياتي الذي التقيته في مدريد. وفي جريدة (القادسية) مقالة قمت بترجمتها عن الإسبانية حول الشاعر رافائيل ألبرتي.
*كيف تقضي أوقات فراغك؟.
ـ في القراءة ومتابعة الحركة الثقافية والدراسة في كلية اللغات.. وتفاصيل العيش الأخرى.
*هذه المسابقات، هل تؤدي ـ برأيك ـ خدمة ما لكُتاب القصة؟.
ـ خدمة كبيرة وخاصة إذا تحررت من الشروط التي تحددها للعمل الفني من حيث الشكل والمضمون.
*كيف ترى ـ من خلال قراءاتك ـ حركة الأدب القصصي بين شباب العراق؟.
ـ إنها حيوية قياساً إلى بلدان كثيرة، ولكن ينتابها تسرع يضر بجديتها ونضجها، حيث نحتاج إلى المزيد من الثقافة التي تبلور خصوصيتنا وتتيح لنا التعبير عن مرحلتنا وما يتعلق بها بشكل مخلص وعميق، وعليه يُفترض أن لا تقودنا أهواءنا الشخصية على حساب ما علينا من مسؤولية حاضرة ومستقبلية تنتظر منا القيام بها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشر هذا اللقاء في جريدة (الطلبة والشباب)/العدد 293 /الاثنين27/3 /1989م. بغداد.

هدية القرن القادم/قصص


محسن الرملي
هدية القرن القادم
قصص
صدرت في عَمان/الأردن سنة 1995 وتضم هذه المجموعة 15 قصة قصيرة


*"يغلب على قصص الرملي الاهتمام بالإنساني عبر تجلياته في اليومي والتفصيلي"

صحيفة (الدستور) الأردنية بتاريخ 13/1/1995م


*"قصص مجموعته هذه، غير بعيدة عن حياة العراقيين بدءاً من الحرب العراقية الإيرانية وحتى يومنا هذا"

صحيفة (الصحافة) التونسية بتاريخ 24/2/1995م


*"في هذه المجموعة يطرح محسن الرملي مواضيع إنسانية كبيرة كالحرب والحب والدين والموت والحياة، وجاءت في أسلوب اعتمد فيه رؤية البساطة العميقة شكلاً ومضموناً عبر لغة سلسة عذبة بالغة في الدقة والرقة والوضوح.. ويتجلى في هذه المجموعة التزامه بعناصر القص وبمفهوم القصة القصيرة بكل ما تعنيه من تقنية وحدث ووظيفة"

صحيفة (شيحان) الأردنية بتاريخ 25/2/1995م


*"مكتوبة بلغة واقعية حميمة، تدور بعض مواضيع القصص حول الحرب، فالكاتب هو من الجيل الذي فتح عيونه على حروب النظام وفضائعها ومراراتها، أما القصص الأخرى فتنحو إلى التقاط المفارقات المؤلمة في حياة الناس، والكاتب لا يقترب من التجريب في شكل قصصه هذه، بل هو أميل إلى بناء قصة بالمعنى التقليدي، تبررها حرارة تناوله للمواضيع الإنسانية رغم بساطة لغته في العديد من القصص، وعبر لغته الشفافة الموحية يعمق حس القارئ بمعنى الحياة رغم مرارات التجربة وعثرات العيش الذي آل إليه الواقع العراقي"

مجلة (الدستورية) العدد 23 سنة 1997 لندن


*"..بعد العيش في كنف الحرب والاكتواء بنارها. انحب النصف الأول من عقد التسعينات وفي ظل ظروف بالغة الصعوبة أصواتاً قصصية متميزة كان قاسمها المشترك هو تواجدها خارج الوطن، وتوجها طبع مجاميعهم في بلدان عربية وأوربية مختلفة، متقاسمين الاغتراب كفكرة لإنضاج ولادتهم دون محضورات معينة.. من هذه تبرز لنا مجموعة (هدية القرن القادم) للقاص العراقي محسن الرملي الصادرة في العاصمة الأردنية، وهي قصص تتوسع أيضاً في موضوعة الاندهاش وتوظيفه، وتعمق من تبسيط الحدث بحثاً عن قعر لإحداث انعطافة تامة بالانسيابية المستولدة أو بمعايير الاحساس المتحقق من تعريف الفكرة والانطلاق بتصويرها كاملة..."

صحيفة (القدس العربي) العدد 1767 في شباط 1995م لندن