الجمعة، 29 مارس 2019

ندوة جمعية المترجمين العراقيين عن محسن الرملي واليخاندرو كاسونا


 ندوة ثقافية في جمعية المترجمين العراقيين بعنوان: `
محسن الرملي واليخاندرو كاسونا: دراسة مقارنة
 
Alejandro Casona y Muhsin Al-Ramli
من: جمعية المترجمين العراقيين
ـــ بغداد ـــ
نظمّت جمعية المترجمين العراقيين يوم السبت 16-2-2019 ندوة عن الكاتب العراقي المعروف محسن الرملي والكاتب الاسباني اليخاندرو كاسونا، حاضر فيها أعضاء جمعيتنا وهم كل من الأستاذ المساعد عصام أحمد ناصر والمدرس محمد هاشم اللامي وأدار الندوة الدكتور قاسم الأسدي.
أستهلّ الدكتور الاسدي حديثه بالترحيب بالحضور الكرام وبالضيفين المحاضرين ومن ثم قدم نبذة مختصرة عن السيرة الذاتية لكل من المحاضرين، وبعدها تحدث الأسدي بشكل مقتضب عن العراقي محسن الرملي الذي قال عنه بأنه: من الكتاب الذين نالوا شهرة عالمية على خلفية أعماله ورواياته التي تحاكي الواقع العراقي في مختلف الحقب الزمنية والتي ترجمت الى أغلب اللغات الحيّة. وأضاف الأسدي بأن الرملي حصد جوائز أدبية كثيرة آخرها كانت في أثناء الدعوة التي وجهت إليه من لندن في حفل تكريم المترجم الذي قام بترجمة روايته "حدائق الرئيس" إلى اللغة الإنكليزية والذي أقيم في المكتبة البريطانية يوم الخميس 14-2-2019 
بعدها تحدث الأستاذ المساعد الدكتور عصام أحمد ناصر عن الكاتب العراقي محسن الرملي، وهو عضو جمعية المترجمين العراقيين، قائلا بأن الرملي – الذي ولد في الشرقاط – يتميز بالكتابة باللغة العربية والإسبانية كما تُرجمت بعض من كتبه ونصوصه إلى العديد من اللغات كالإسبانية، الإنكليزية، الفرنسية، الإيطالية، الألمانية، البرتغالية، التركية، الروسية، القطالانية، الألبانية، الفنلندية والكردية. وأضاف بأن الرملي ألقى العديد من المحاضرات، وشارك في العديد من الندوات والامسيات والمؤتمرات ومعارض الكتاب في العراق والأردن والمغرب وإسبانيا والبرتغال والكويت ولوكسمبورغ وقطر وكولمبيا والجزائر وليبيا والمكسيك وكوستاريكا والإمارات. واستطرد الدكتور عصام في القول بأن محسن الرملي وفي عام 1997 اسس بالتعاون مع الكاتب عبد الهادي سعدون دار ومجلة (ألواح) في إسبانيا، مضيفا بأنه يعمل حالياً أستاذ في جامعة سانت لويس الأمريكية في مدريد.. كما أقام في الأردن خلال عاميْ 1993-1994 ويقيم في إسبانيا منذ عام 1995 ولا يزال هناك حتي الآن. وتطرّق د.عصام إلى أهم أعمال الرملي وومنها :
حدائق الرئيس: رواية أكثر من رائعة جمعت بين المعذبين والجلاد بين الرئيس والشعب المغلوب على أمره، وفيها استعرض الكاتب مسيرة ستة عقود مرت على العراق مع الحكام وما أصاب الشعب العراقي خلال حكم هؤلاء الحكام وما حدث في العراق من أحداث تمثلت في حرب الخليج وحرب عام 2003 وما تلتها من أحداث.
تمر الأصابع: رواية تحدثت عن ذكريات العراق والطفولة التي عاشها الكاتب وما يدور في اسبانيا في التاريخ المعاصر،  وقد استطاع ان يبرز ما في العراق من أحزان ومن معاناة الشعب العراقي في حياة أشبه بالدمار وعدم الأمان وقلة الاستقرار. تعتبر من الروايات القصيرة والتي اهتمت كثيرا بتوضيح الدكتاتورية التي تسبب فيها الحكام وأوصلوا البلد إلى الخراب.
ذئبة الحب والكتب: رحلة مع الرواية الرومانسية بقلم الكاتب العراقي محسن الرملي، الذي اهتم بشكل أو بأخر بتوضيح إمكانية وجود الحب رغم الظروف القهرية التي يعاني منها العراق، قد يعود بنا الكاتب إلى زمن الرومانسية الجميل في زمن تلاشت فيها الرومانسية، تمنح هذه الرواية الكثير من الثقافة والمشاعر وتفيد كثيرا جميع الأجيال، بما فيهم طبعا المراهقين أو الشباب.
أوراق بعيدة عن دجلة: كتاب يمزج ما بين القصص والشعر، عمل فيها الكاتب بشكل احترافي بالفعل ، فقد لا تفصل ما بين المجموعة القصصية وما بين الشعر الذي بداخلها كما لو أنه عمل فريد من نوعه. لمس الكاتب الأحاسيس بشكل مميز وسرد القصص بشيء من الحكمة والتواصل المستمر مع القارئ ، فلغة الكتابة جعلت القارئ في حالة مستمرة من المتعة وتأرجح في الفرحة والمتعة ما بين الأسلوب القصصي والشعر الرائع للكاتب .
مائة قصيدة كولومبية: كتاب مميز ينقل الأدب الكولومبي وما قدمه الشعراء في كولومبيا وخاصة الشعر الكولومبي المعاصر، قدم الشعراء وأعمالهم وقصائدهم من خلال ترجمته المتميزة للكثير من هذه القصائد الرائعة، رحلة أدبية متميزة لشعر مختلف عن الشعر.
بعدها انتقل الحديث إلى المدرس محمد هاشم اللامي الذي قدّم ايجازا مقارنا عن الكاتبين العراقي محسن الرملي والاسباني اليخاندور كاسونا، إذ وصف أعمالهما بأنها تدور بين واقع وخيال مستمد من المجتمع العراقيّ والإسبانيّ. مضيفا "لذا نجد أنَّ الرمليّ وكاسونا قد صاغا شخصيّات أعمالهما الأدبية من طبقات المجتمع المختلفة، وحاولا في الوقت ذاته من خلال المسرح والرواية أن يقفا عند الأمور السلبيّة والإيجابيّة في كل من العراق وإسبانيا. كما ان ثمّة طابع ذو حقيقة واحيانا ذو خيال يهيمن على إجمالي أعمالهما الأدبية، وهذا الطابع يفضي بالضرورة إلى طرح عدد كبير من الشّخصيّات، ومنها الشخصيّة المحوريّة، أي شخصيّة الذات الرّاوية، وشخصيّات سير غيرية، وهي شخصيّات واقعية في عموم الروايات. تظهر في أعمال هذين الكاتبين مجموعة أنماط من الشخصيّات، فعلى النحو الذي تظهر به شخصيّات إجرامية ومؤذية تظهر شخصيّات إنسانيّة واضحة ومحبة للآخرين.
بعدها عرّج محمد هاشم إلى الكاتب اليخاندرو كاسونا وإلى أهم أعماله الأدبية وهي «البيت ذو الشرفات السبع» و« الشيطان مرة أخرى» و« زهرة الأساطير» و«سيدة الفجر». وأهم مسرحياته وهي( قارب بلا صياد) و(الاشجار تموت واقفة) و(ممنوع الانتحار في الربيع). وقال المدرس محمد هاشم بأن أعماله المسرحية تتسم بالواقع والخيال وهما مزيتان جوهريتان في معظم الأعمال المسرحية للأديب الاسباني اليخاندرو كاسونا، والذي تُرجمت بعض مسرحياته إلى اللغة العربية وعُرضت على خشبات المسرح العالمي والعربي على حد سواء.
ثم انتقل المحاضر محمد هاشم إلى محسن الرملي الذي قال عنه بأن معظم رواياته تدور أحداثها بين المجتمع العراقيّ والإسبانيّ، لذا نجد أنَّ الرمليّ قد تأثّر بالمناخ الإسبانيّ إبان إقامتهُ في إسبانيا، وصاغ شخصيّاته من طبقات مختلفة. في الرّوايات ثمّة طابع سير ذاتي يهيمن على إجمالي الرّوايات، وهذا الطابع يفضي بالضرورة إلى طرح عدد كبير من الشّخصيّات، ومنها الشخصيّة المحوريّة، أي شخصيّة الذات الرّاوية/ الكاتبة، وشخصيّات سير غيرية وهي شخصيّات واقعية في عموم الروايات. وأضاف المحاضر بأن ثمّة شخصيات ثانويّة ظهرت في عموم الروايات، هي محركة للعمل السرديّ، وقد اشتركت مع الشخصيّات الأخرى وقامت بتسيير الأحداث. مثل شخصية (صراط، الجد، البدوي أبو فهدة الدكتور بهنام..... وغيرها). ثم عرّج محمد هاشم على رواية "ذئبة الحب والكتب”، وهي الرواية الرابعة لمحسن الرملي بعد رواياته الشهيرة الثلاث: تمر الأصابع والفتيت المبعثر وحدائق الرئيس.
وأختتم المدرس محمد هاشم المحاضرة بأهم الاستنتاجات التي توصل اليها وزميله الأستاذ المساعد الدكتور عصام أحمد عن الكاتبين محسن الرملي واليخاندرو كاسونا وهي :
محسن الرملي مبدع من مبدعي العراق الذين دفعوا ثمنا غاليا ومؤلما بسبب الديكتاتورية التي حكمتنا لحقبة طويلة، غادر دياره لمنفى إجباري بعدما أصبحت الحياة فى الوطن غير مضمونة، يكتب الشعر والقصة والرواية والمسرح إلى جانب عمله الأكاديمي. الحال نفسه ينطبق على اليخاندرو كاسونا الذي عاش في المنفى حاله حال الكثير من الادباء والمثقفين الاسبان الذين عارضوا السياسة القمعية والديكتاتورية التي انتهجها نظام الجنرال فرانكو تجاه الشعب الاسباني على وجه العموم وتجاه المثقفين المناضلين على وجه الخصوص.
تأثير الحرب على رواياتهم ومسرحياتهم وقصائدهم، يظهر لنا جليا، ولمحسن ديوان بعنوان: (نائمة بين الجنود)، يحكي عن أثر الحروب وله رواية (حدائق الرئيس) التي تتحدث عن المقابر الجماعية التي ارتكبها النظام الديكتاتوري السابق. وبالمقابل لكاسونا عدة اعمال ذكر فيها الافعال الاجرامية التي ارتكبها الجنرال فرانكو بحق الشعب الاسباني .
لغة محسن الرملي مبهجة ومبكية في آن واحد، فيها التشويق والجرأة، كذلك الحال بالنسبة لكاسونا في أغلب اعماله لاسيما المسرحية منها.
انَّ معظم أعمال الكاتب العراقي محسن الرمليّ والكاتب الاسباني اليخاندرو كاسونا تدور أحداثها بين واقع وخيال مستمد من المجتمع العراقيّ والإسبانيّ، لذا نجد أنَّ الرمليّ و كاسونا قد صاغا شخصيّات أعمالهما الادبية من طبقات المجتمع المختلفة وحاولا في الوقت ذاته من خلال المسرح والرواية أن يقفا عند الأمور السلبيّة والإيجابيّة في كل من العراق وإسبانيا.
بعدها فتح باب النقاش للحاضرين الذين أثنوا على المحاضرين لتسليطهما الضوء على مكانة محسن الرملي في المحفل الدولي. ثم قدم الأستاذ المساعد الدكتور سعد فاضل الأمين المالي للجمعية شهادة تقديرية لكل محاضر تثمينا من الجمعية لدورهما في المشاركة في الموسم الثقافي لجمعيتنا الغراء.
*مقال بالانكليزية في صحيفة (المترجم العراقي) عن رواية (أبناء وأحذية) لمحسن الرملي، العدد الثاني شباط/فبراير 2019 بغداد

الاثنين، 4 مارس 2019

قراءة في رواية حدائق الرئيس /أحمد العربي


الاستبداد لعنة تصيب كل جوانب الحياة بالخراب

أحمد العربي
الرواية عراقية، حديثة ومعاصرة للعراق في الخمسين سنة الأخيرة، تبدأ الرواية من حدث قاس ومؤلم، حيث تستيقظ القرية القابعة بناسها القليلين، المنشغلين في حياتهم الريفية على تسع كرتونات موز ملقاة في ساحة البلدة، تحوي على رؤوس تسعة من أبنائها الذين غادروا سابقا إلى بغداد.
هنا تبدأ الرواية من الرؤوس رأس إبراهيم قسمة؛ وهو واحد من ثلاثة ولدوا في الخمسينيات وترعرعوا في القرية، من خلال متابعة حياتهم ندخل في عمق العراق وما مر به.
هم عبد الله كافكا، وإبراهيم قسمة، وطارق المندهش، أولاد “شق الأرض” وهي تسمية أطلقها عبد الله على نفسه في المدرسة، جواباً على سؤال معلمة له عن نفسه، أنه لقيط، ووجد بجانب شق الأرض، ولا أهل له، تضامن معه رفيقيّه وقالوا: إنّهم أبناء شق الأرض أيضاً.
عبد الله وإبراهيم وطارق كبروا سوية حتى سن الالتحاق بالجيش، طارق حوّله والده الوجيه الثري المتنفذ لدراسة الدين ليعود للقرية إماما ولينتهي من الجيش، إبراهيم وعبد الله ذهبا للجيش كانت خدمتهم بالبصرة، بعد وقت قليل ستبدأ الحرب العراقية الإيرانية، وسيصبحان جزءاً من وقودها، يواجهان ويلاتها، كان إبراهيم قد تزوج قبل التحاقه بالجيش، عاد في إحدى إجازاته ليجد عنده طفلة يسميها قسمة، وهذا لقبه لأنه يقول عن كل شيء قسمة ونصيب، أما عبد الله كافكا، فقد نُسب لكافكا العدمي الوجودي، لأنه كان لا يرى معنى لأي شيء في الحياة، وكل شيء تافه في نظره، خاصة أنّهم حرموه ممن يحب، فقط لأنه لقيط رغم أن أسرةً لم تنجب أولاداً تبنته، لقد جرحوه وأعادوه لتفاهة الحياة. في الجيش طالت الحرب لسنوات بكل مآسيها، نقل عبدالله لموقع آخر، وتنقطع أخباره ويصبح من المفقودين.
انتهت الحرب وعاد إبراهيم لقريته ولزوجته وطفلته، لحياته الريفية، ويتواصل مع صديقه طارق المندهش، وذلك بسبب اندهاشه من أي شيء، ليجده صار إمام القرية ومعلم أولادها، وضع في طفلته كل آماله بدلالها وتعليمها، لم ينجب غيرها، طرحوا عليه الزواج كثيرا، لم يقبل، يعلم أنّه أصبح عقيما من المواد الكيماوية التي تعرّض لها وقت الحرب.
إننا أمام رواية مليئة، هي دراسة نفسية، اجتماعية، سياسية، وتاريخية، 
تغطي مرحلة خصبة من تاريخ العراق والمنطقة. ويجب إعطاءها حقها من الاهتمام.
بعد سنتين عاد للجيش مجددا ليجد نفسه في حرب احتلال الكويت، ويجد نفسه أمام الموت والنهب، وأنه واحدٌ من آلاف يساقون لموت فظيع، خاصة بعد تدخل القوات الأجنبية حيث عايش القيامة، القتل والدمار، الجثث والجنود المذعورون، والهروب الفوضوي والطائرات والقصف وملاحقة فلولهم حتى داخل العراق، سار في طريق الموت، مع الهاربين من الكويت، تلقّى قنبلة فوجد نفسه بين الجثث، جاء من أنقذه لكن دون قدمه، عولج في البصرة، ساعدته عائلة كان شارك ابنها بمحاولة الثورة التي تم القضاء عليها بالتناغم بين الأمريكان والنظام العراقي. عاد لقريته ليحصل على قدم صناعية، ويجد نفسه قد أصبح عالة على عائلته، وليعيش من إنتاج الأرض.
أما عبدالله فقد وصلت رسالة منه تقول؛ إنّه أسيراً في إيران، كان الخبر عيدا عند أصدقائه وقريته، فعبد الله مازال حيا، وسرعان ما مضى الوقت ليعود عبد الله إنسانا آخر، أكثر تشاؤما وسلبية، بمضي الوقت تحدث عن أسره، وعن التعامل الوحشي من الجنود الإيرانيين، القتل لأبسط سبب، السحل بالسيارات، وأخيرا المعتقلات التي تحولت لمركز تعذيب، وإعادة تأهيل وغسل دماغ؛ فالذي يتجاوب مع اعتقادهم عن إيران، ونائب الإمام، ودولة الكفر العراق، يتحول تدريجيا ليكون السجان، ويعاد مجددا إلى الجبهة ليقاتل ضد دولته، أما الذي لا يستجيب فإنه يذوق صنوف عذاب، الموت أهون منها. وهكذا حتى حضر الصليب الأحمر إلى المعتقل وبعث رسالته تلك، بعد تنقلات من معتقل لأسوأ، ليكتشف ما لا يتصوره عقل عن وحشية التعامل معهم، وبعد تسعة عشر عاما يعود من الأسر لقريته، ليجد أهل القرية على ما هم عليه، أصدقاؤه يفتقدوه، وهو يزداد سوداوية وعدمية، ليجد أنه في مواجهة حقيقته الخاصة ومأساته الذاتية.
كانت الخالة زينب زوجة المختار، والتي تعامله كابنها قد أصيبت بالعمى وشاخت، أخبرته أنه حفيدها من ابنها الكبير الذي زنا بابنة أحد الفارين إليه وهي شابة قاصرة عقليا، وكيف انتظروا حتى يولد الطفل لينفي أبوه، وتقتل أمه وتدفن، الأم التي يسمع حكايته عند قبرها. زادت سوداويته وكثر المجرمين في حياته، أباه بما فعل وجده قاتل أمه والحرب والأسر، كل ذلك أعاده لنفسه، يشرب الدخان ويتأمل وينتظر موتا تافها كالحياة.
أما إبراهيم صديقه فقد ساعده طارق عبر علاقاته بالعاصمة فعمل في حدائق الرئيس مستفيدا من قدمه التي خسرها بالحرب، كان العمل بسيطا في قصور وحدائق كالجنان ضمن شروط أمن مضبوطة مع ثلاثية القرود: ﻻ أسمع ﻻ أرى لا أتكلم، تحسّن دخله، واشترى سيارة لابنته التي لم تكن تقبل بحياة أبيها الفقيرة التافهة، شاهد من الجمال والترف ما لا عين رأت، وتفاجأ برؤية الرئيس صدام حسين مرة يصطاد السمك من البحيرة، ثم وجود موسيقي شهير يعزف له، وكيف ينكّل به لأنه تحدّث عن الديمقراطية، ويقتله بسلاحه ويلقيه في البحيرة، ثم تذاع أغانيه في اليوم الثاني في التلفاز.
الاستمرار بالاستبداد والمستبدين بالوجود، وتحقيق مصالحهم ونزواتهم، 
تجعلنا كلنا بشرا خارج إنسانيتنا، وضحايا كل الوقت.
صار الرعب يسكنه مما رأى من ترف وبذخ وبطش ورضي بحاله، وبعد فترة غيروا عمله إلى الليل حيث تأتيه في حديقة القصر جثث عليه أن يدفنها دون إظهار أي أثر، كان العمل في البداية جحيما ولا مهرب منه قتلى بالسلاح، بالتعذيب، بالسلاح الأبيض، تأقلم مع الحالة مع الزمن، صار يتصرف مع الجثث كأهلها، يدفنها باحترام، صنفها وأرشفها وحدد موقعها، زادت الضحايا بالآﻻف صار خبيرا، جاءه معاونين، نقل بين القصور ليعلّم الآخرين، ونقل إلى مدن أخرى ليقوم بذات الدور. زوّج ابنته لضابط، وجدت ابنته بزوجها فرصة للخروج من عالم الفقر والقرية والذل… وهكذا حتى بدأ العدوان الأمريكي على العراق، وقبله صارت تأتي الجثث بالمئات، وبعضها يقتل ميدانيا ويدفن بالجرافات.
دخلت القوات الأمريكية وبدأ القتل والنهب. عاد لقريته، وابنته لحقت به بعد شهر، أخبرته أنها فقدت زوجها قبل أشهر من العدوان، حدثته أنه من الممكن أن يكون ضحية وقتل من النظام، حدّثها عن أرشفة القتلى ومدافنهم، عادت مع والدها إلى بغداد لتخرج جثة زوجها، وليصبح هو قبلة لكل من له مفقود، وليقوم بدوره بإخلاص وتفاني، ينذره صديقه طارق بأنه مطلوب لبقايا العهد السابق، كخائن للأمانة ومشوّه للقائد صدام، ومطلوب للأمريكان وأزلامهم كواحد من زمرة النظام السابق، لم يرتدع، أعيد رأسا دون جسد، تحرك طارق الذي تزوّج “قسمة” في رحلة البحث عن الجثة، سار عبد الله معهم جزءاً من الطريق، لكنه عاد عندما علم أن جلال أبوه المطرود من جدّه قديما قد عاد مع الأمريكان، كزعيم للمرحلة الجديدة، الأب الذي اغتصب أمّه، وسبّب قتلها، وهرب، وها هو يعود ليغتصب البلد كلها.
هنا تنتهي الرواية، وفي تحليلها نقول: إننا أمام رواية مليئة، هي دراسة نفسية، اجتماعية، سياسية، وتاريخية، تغطي مرحلة خصبة من تاريخ العراق والمنطقة. ويجب إعطاءها حقها من الاهتمام.
وبالنسبة لنا تؤكد أنّ الاستبداد لعنة تصيب كل جوانب الحياة بالخراب، وأنّ الاستمرار بالاستبداد والمستبدين بالوجود، وتحقيق مصالحهم ونزواتهم، حتى أنّهم يفعلون كل شيء وما لا يخطر على أذهاننا من أفعال سيئة، وتجعلنا كلنا بشرا خارج إنسانيتنا، وضحايا كل الوقت.
محسن الرملي: كاتب وأكاديمي ومترجم وشاعر عراقي يقيم في إسبانيا. ولد سنة 1967 في قضاء الشرقاط شمال العراق. حصل على الدكتوراه بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف من جامعة مدريد بكلية الفلسفة والآداب  عام 2003 يكتب باللغتين العربية والإسبانية. له عشرات المؤلفات موزعة ما بين الرواية والشعر والمسرح.
------------------------------------------------------------
*نشرت في (الأيام السورية) بتاريخ 24/2/2019

عن رواية: أبناء وأحذية /فايز علام



فايز علام
"انتقاماً من موت طفلتي في العراق، أنجبت سبعة وعشرين طفلاً في إسبانيا وكولومبيا"، بهذه العبارة المفاجئة يفتتح الكاتب العراقي "محسن الرملي" روايته الأخيرة "أبناء وأحذية".
بطل الرواية "أمير" شابٌ عراقي مولعٌ بالمسرح، لكن والده الذي يعمل شرطياً، لا يوافق على رغبة ابنه في دراسة المسرح، ما يدفع بالابن إلى الدخول في كلية الرياضة، يلتقي بعد ذلك بـ"زهراء"، والتي تشبه قصتها قصته في هذه الجزئية، إذ إنها تحب المسرح أيضاً لكن والدها يجبرها على دراسة الشريعة.
يحب الاثنان بعضهما ويزوران معهد التمثيل عدة مرات، قبل أن يتفقا على ترك كليّتيهما والانضمام إلى الطلبة الذين يدرسون التمثيل.
تنتهي قصة الحب بين الاثنين إلى الزواج، لكن الحرب ستطيح بقصة الحب هذه، إذ يستدعى "أمير" إلى الخدمة العسكرية في أثناء حمل زوجته، ولن يراها مرة أخرى إلا وهي تلد طفلة جميلة سيقرر تسميتها "أميرة الزهراء" جامعاً اسميهما معاً، غير أن الطفلة تموت بعد ساعات من ولادتها، قاسمةً بموتها عرى هذه العلاقة.
ولعل المشهد الذي يلي موتها، وحيرة الأب الحامل لطفلته يبحث عن مكان لدفنها، من أقوى المشاهد في الرواية وأشدها تأثيراً، إذ يحتار كيف يدفنها وحين يعثر على صندوق صغير مرميّ يقرر وضعها فيه، ثم يبحث عن مكان ليواريها التراب سريعاً قبل أن تنتهي إجازته القصيرة ويعود إلى ثكنته العسكرية.
"كنت أحمل جثتها الصغيرة في صندوق أحذية كارتوني، وأسير وحيداً في الأزقة الآسنة والساحات المكتظة بالساهرين والمشرّدين والكلاب السائبة، عابراً الجسر، مفكراً في القف إلى النهر معها، متوقفاً في شارع الكتب الخالي إلا من الفئران، ومحدّثاً إياها عن ذكرى خطواتي فيه مع أمها، مروراً بمقهى أبي المفضّل، وتهنئة صاحبه لي بالحذاء الجديد، وهو لا يعلم أن الذي أحمله في تلك العلبة هو جثمان طفلتي وليس حذاء... لحظتها، تمنيت لو أنه أطلق على قلبي رصاصة بدل كلمة مبروك".
الرواية التي تجري أحداثها في ثلاثة أمكنة هي العراق وإسبانيا وكولومبيا، ستتخذ منحى آخر بعد هذه الحادثة، إذ يتطلق الزوجان ويقرر "أمير" تغيير حياته فيسافر إلى إسبانيا حيث يقيم ابن خاله. وفي البلاد البعيدة "يهدي طفلاً لكل امرأة تحلم بالأمومة".
تتحوّل فصول الرواية إلى متابعة حثيثة لغراميات راويها، وفصلاً تلو الآخر نكتشف حكاية سبعة وعشرين طفلاً هم نتيجة هذه الغراميات وثمرتها، لكن ذلك لا يعني أننا سنكون في كل مرة أمام حكاية كيف تعرّف "أمير" بالمرأة التي ستصبح أماً لطفله فحسب، بل سنكون أمام حكاية المرأة نفسها أيضاً. هكذا نقرأ عن امرأتين مثليتي الجنس تريدان طفلاً، وعن زوجة تعاني من خيانة زوجها فتخونه بدورها، وعن فتاة خلاسية خرساء، وعن نساء يعشن بمفردهن وسط الطبيعة الكولومبية الساحرة، وعن فتاة مقاتلة تمشي على خطى "جيفارا" وتسعى مع رفاقها لتصحيح الحركة النضالية...
تحفل الرواية إذاً بتنوّع ثري في الشخصيات والأحداث، وتطرح في تنوّعها هذا الكثير من المواضيع الإنسانية وتثير مجدداً الأسئلة الوجودية: ما هو الخير وما هو الشر، هل نحن أحرار في خياراتنا أم مسيرون، ما أثر مواضينا في رسم مصائرنا، وما هو المشترك بيننا كبشر في العمق، على الرغم من اختلاف ثقافاتنا ومرجعياتنا. تتداخل مع تلك الحكايات حكايات أخرى أيضاً، كقصة ابن الخال الذي يؤسس امبراطورية مالية في إسبانيا، وتتكشف الأحداث عن أنه يهرّب الذهب من كولومبيا، ويورّط مجموعة من الأشخاص من حوله في هذا الأمر، كما نقرأ قصة الرجل المصري "هاني" الذي يتعرف إليه "أمير" في كولومبيا، وتنشأ بينهما صداقة مهمة، وتكون
نقاشاتهما حول السعادة والأديان ومعنى الحياة والحب رافداً يغذي نهر الرواية وهي تسير إلى مصبها.
شخصيات كثيرة وحكايات عديدة ومتشعبة تحفل بها الرواية، لكنها كلها تدور في فلك البطل الذي يجد متعته في إهداء الأطفال للحالمات بالأمومة من جهة، وفي إنشاء مشغلٍ لصنع أحذية الأطفال من جهة ثانية، هكذا تمضي حياته بين "أبناء وأحذية"...
"تمضي الحياة بنا دون توقف، ومع كل يوم يمر نشعر بأن وجودنا فيها يقترب من نهايته، ونحن ما زلنا لا نفهم معنى وجودنا فيها. لم تكن حياتي سوى أبناء وأحذية. أبناء وأحذية وكلاهما للآخرين وليس لي. هل سيكرهني كل أبنائي؟ (...) ربما أن إنجاب طفل هو تجديد لعقدنا مع الحياة، وإتاحة المزيد من الوقت بانتظار التوصل إلى إجابات معينة، وأنت جددت عقدك مع الحياة سبعاً وعشرين مرة، ولكنك كنت دائماً الطرف الذي لم يلتزم بهذه العقود".
*المؤلف: محسن الرملي/ العراق، الناشر: دار المدى/ بغداد - بيروت، عدد الصفحات: 196، الطبعة الأولى: 2018، يمكن الحصول عليها من موقع النيل والفرات.
محسن الرملي كاتب وأكاديمي ومترجم عراقي يقيم في إسبانيا. له مجموعة من الروايات أبرزها: "الفتيت المبعثر" التي فازت ترجمتها الإنكليزية بجائزة أركنساس 2002، و"تمر الأصابع" التي وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر 2010، و"حدائق الرئيس" التي نالت ترجمتها الإنكليزية بجائزة القلم الدولي 2016، و"ذئبة الحب والكتب" التي وصلت القائمة القصيرة لجائزة الشيخ زايد للكتاب عام 2015تُرجمت رواياته إلى عدة لغات، من بينها الإنكليزية والفرنسية والإيطالية والألمانية والبرتغالية والكردية
-----------------------------------------
*نشرت في (رصيف22) بتاريخ 28/2/2019

*فايز علام كاتب سوري يعمل محرراً وعضواً في لجان القراءة في عدد من دور النشر. مهتم بالشأن الثقافي وبصناعة النشر في العالم العربي. يعدّ حالياً بحثاً عن الرواية العربية ويكتب بشكل مستمر لرصيف22.

عرض رواية أبناء وأحذية لمحسن الرملي /رياض العلي


رواية مميزة وممتعة وتعد إضافة جديدة إلى السرد العراقي 

عرض: رياض العلي
 تتحدث الرواية عن (أمير) الشاب القادم من الريف والمحب للمسرح والذي يرتبط بعلاقة حب مع زهراء القادمة من عائلة نجفية لها توجهات دينية والمحبة للمسرح كذلك وتتوج هذه العلاقة بالزواج وسط ظروف صعبة جداً بمساعدة استاذ جامعي يعمل كتدريسي في كلية الفنون الجميلة ثم تحدث الانعطافة الكبيرة في حياة أمير لتبدأ الأحداث بالتسارع بشكل درامي مثير وفي بلدان عديدة..
الرواية واقعية وكتبت بلغة سلسلة خالية من التعقيد والغموض يعيش القارئ احداثها كأنها فلم سينمائي وهي الطريقة التي اعتمدها الكاتب في كل أعماله السردية وهو الأمر الذي يحسب له.
تبدأ الرواية بمشهد مفزع يذكرنا بأستهلال روايته المهمة (حدائق الرئيس) حيث كان الصندوق حاضراً هنا أيضاً لكن فيه جثة كاملة ليعود بعدها الكاتب بفلاش باك لنعرف قصة أمير مع زهراء والتي استغرفت ربع الرواية .تنقسم الرواية الى عدة اقسام:
القسم الأول: في العراق
القسم الثاني: في اسبانيا.
القسم الثالث: في كولمبيا.
القسم الرابع: العودة الى اسبانيا.
شخصيات الرواية كثيرة ومتشعبة لكنها كلها تدور حول الشخصية الرئيسية (أمير).. فلا وجود لشخصية تهيمن على شخصية أمير.. حتى زهراء وأنضباط ومنهل وكوثر وأيراسيما وهاني وغيرها على الرغم من تاثيرها القوي في الرواية والسبب في ذلك هو أن الكاتب جعل أمير هو من يروي الحكاية وأن يرى الآخرين من خلاله.
الأحداث كانت متشعبة بشكل مدهش ولكن الكاتب كان ممسكاً بها ولم يفقد السيطرة عليها.. بل كان يقود الرواية باحترافية كبيرة.
من المشاهد التي لا يمكن نسيانها.. تلك اللحظات التي خرج فيها أمير من المستشفى حاملاً أميرة الزهراء حتى وصوله الى المقبرة والتي اعتقد ان الكاتب قد فعل أكثر مما يجب فيها.. هذا المشهد كتب بديناميكية وانفعال وعواطف لا يستطيع أن يكتبها إلا الرواة المحترفين.
وكعادة الرملي في بعض أعماله، فأنه ترك النهاية مفتوحة حيث ربما يعود إليها بعد فترة أو لكي يعطي للقارئ فرصة لتخيل ما يحدث..
وطبعاً لابد من قراءة الرواية كي نعرف ماهي العلاقة بين الأبناء والأحذية
"تمضي الحياة بنا دون توقف، ومع كل يوم يمر نشعر بأن وجودنا فيها يقترب من نهايته، ونحن مازلنا لا نفهم معنى وجودنا فيها. لم تكن حياتي سوى أبناء وأحذية. أبناء وأحذية… وكلاهما للآخرين وليس لي".
رواية مميزة وممتعة وتعتبر إضافة جديدة إلى السرد العراقي.

*محسن الرملي كاتب عراقي مقيم في اسبانيا وهو شقيق الكاتب الراحل حسن مطلك.
**رواية (أبناء وأحذية) لمحسن الرملي، صدرت عن دار المدى في بغداد عام 2018.
---------------------------
*نشرت في (المرسى نيوز) بتاريخ 21/12/2018