الروائي العراقي محسن الرملي
كتبت "الفتيت المُبعثَر"
ونشرتها في زمن الطاغية
غامرت بتعريض حياتي وأهلي للخطر
بسببها
حوار: محمد حسني عليوة
الحوار مع الروائي
والشاعر والأكاديمي العراقي محسن الرملي، يعني الالتقاء بطفولته وترحاله وتجربته
المتشعبة بين الذكريات الأولى، مروراً بزمن الدكتاتور الذي دوّنه ونشره بروايته في
زمنه نفسه، متحدياً عواقب الملاحقات، وعبر تجربة الهجرة التي عرّفته بآداب أخرى اشتغل
فيها ترجمة وعملاً أكاديمياً أثرى به المشهد الثقافي العربي والعالمي، ولكن يظل
سحر عوالمه الروائية مبعثاً للأسئلة التي تحاول استكشاف بذرتها الأولى ومراحل بناء
شخوصها وأحداثها، وهذا ما ركزنا عليه في حوارنا التالي:
*في كثير من كتاباتك
القصصية والروائية نجد أجزاءً من سيرتك الذاتية. كما لو أنك تسعى دائمًا لتوثيق
تجربتك الشخصية، ولترسيخ بناء معرفي شامل لكل الأحداث التي عشتها. ألا يزعجك أن
يكون ذلك انعكاسًا، ضمنيًا، على شخصيات أعمالك ذاتها؟
ـــ نعم، أنا من الكُتاب
الذين لا يخلو أي عمل لهم من جانب من سيرته الشخصية، والأمر لا يتعلق بقضية
التوثيق بقدر تعلقه بالصِدق، الصدق مع النفس ومع الآخر وفي الاشتغال الفني، فأنا
ممن يؤمنون بأن على الكاتب أن يكتب عما يعرفه، ويتجنب الافتعال والاختلاق والتكلف،
وبالطبع، فإن أكثر ما عرفته ورافقته وحاورته في حياتي، هو ذاتي نفسها، وقد تعرضَت
وعاشَت هذه الذات تجارب كثيرة، أعتقد بأنها تستحق أن أتأملها وأتمثلها في الكتابة،
وأطرح من خلالها رؤيتي الخاصة للعالم. وبالطبع لا يزعجني انعكاس ذاتي على الشخصيات
أو فيها، بل، على العكس، يزيدني معرفة ومحبة لها كلما وجدتها أقرب إلى نفسي، ففي
نهاية الأمر، كل الشخصيات تتغذى من ذات الكاتب، وفلوبير، رائد الرواية الواقعية
الحديثة، كان يقول: "مدام بوفاري هي أنا". وحتى على صعيد القراءة، فمنذ
البدايات، كنتُ أميل وأتأثر بالروايات التي تنطوي على جانب كبير من السيرة
الذاتية.
-*-*-
*لا يمكن العيش دون ثنائية الخير والشر، الحب
والكره، الحرية والقيد. هذه التناظرية الوجودية في حياة البشر كيف صغتها في رسم
مصائر شخوص روايتك "أبناء وأحذية"؟
ـ الثنائيات موجودة في كل شيء، وخاصة فيما يتعلق
بكل ما هو إنساني، وبمجرد تأمل وتفحص لشؤون الإنسان سيتم الانتباه إلى ذلك، بل إن
جوهر الحِراك قائم على هذه الثنائيات، وهذا أيضاً ما عكسته السرديات الكبرى
والروايات الخالدة، منذ (كلكامش) مروراً بـ(الإلياذة) و(ألف ليلة وليلة)، وصولاً
إلى (دون كيخوته) وما تلاها من الروايات الحديثة… في رواية (أبناء وأحذية) انطلقتُ
من فكرة إعادة طرح الأسئلة الأساسية، وخاصة ما يتعلق بمفاهيم الخير والشر، الجمال
والقبح، العدل والظلم، المعنى واللا معنى، وبشكل أكثر تحديداً، الدعوة إلى إعادة
تأمل وتعريف ما هو أخلاقي وما هو غير أخلاقي، لأن عصرنا اليوم يعاني من ضبابية
وتشويش بل ومتاهة للتمييز بينهما والاتفاق بشأنهما. إننا في عصر تشوّهت وتشوشت فيه
مفاهيم الأخلاق وتاهت علينا.
-*-*-
*في هذه الرواية مساحات
جغرافية، وثيمة فنية مختلفة، ابتعدت فيها عن أجواء الحرب ومحطات الصراعات وسلطوية
القبضة الحديدية التي تناولتها في أعمالك السابقة. كيف ذلك؟
ـ نعم، لأنني أردت
الحديث فيها عن معاني أخرى تتعلق بالوجود الإنساني والعلاقات بين الثقافات والناس
والطبيعة، بعيداً عن القضايا التي سبق وأن تناولتها في أغلب أعمالي، ذات الأبعاد
السياسية والجغرافية والتاريخية وما يتعلق بالشهادة عليها عبر التدوين والتوثيق للذاكرة،
ففي هذا العمل، شهادة لجانب آخر، وربما أعمق، لشؤون إنسانية بحتة، ولرؤى متباينة
في عصرنا، ومنها، كما أسلفت، موضوعة الأخلاق، على الرغم من أن البعض، ممن نظر إلى
هذا العمل سطحياً، ينتقد فيه مشاهداً (غير أخلاقية)، دون أن ينتبه إلى أن ذلك في
جوهر عملية إعادة طرح السؤال عما هو أخلاقي وغير أخلاقي.
-*-*-
*حظيت أعمالك باهتمام
القراء والنقاد، شرقًا وغربًا، وتُرجمت إلى عدة لغات، وقد فازت الترجمة الإنجليزية
لروايتك "الفتيت المُبعثر" بجائزة أركنساس 2002. حدثنا عن هذه الرواية.
ـــ إنها أولى رواياتي
المنشورة، وأعتز بها كثيراً، كونها مكثفة وقصيرة وفيها الكثير من بذور قضايا
توسعتُ بها لاحقاً في أعمالي التالية، وخاصة ما يتعلق بالشأن العراقي اجتماعياً
وثقافياً وقضية أو مفهوم الوطن، كما انها من الروايات المبكرة التي تناولَت موضوع
الدكتاتورية، كتبتها ونشرتها واشتهَرت في زمن الدكتاتور نفسه، وهذه مغامرة لا أدري
كيف قمتُ بها وتجرأت عليها، غامرتُ بتعريض حياتي وأهلي للخطر. كما أن فيها تجريباً
فنياً ولغوياً، وقد بذلَت المترجمة ياسمين حنوش جهداً كبيراً في نقلها، مما أهلها
للحصول على جائزة الترجمة باستحقاق.
-*-*-
*في إهداء روايتك
"تمر الأصابع" كان جليًّا تشظي قطارك برحلات شتات لانهائية، إلا أن محطة
العراق، وهي مهد طفولتك الأول، أمسكت بزمام الحنين. أين أنت الآن من العراق، وأين
العراق منك؟
ــ أنا والعراق الآن
بعيدين عن بعضنا مكانياً وزمانياً، لكننا مرتبطين ببعضنا ارتباطاً لا فكاك منه إلى
الأبد، الأمر يشبه تماماً علاقة الابن بأمه، فمهما ابتعد وتشكلت حياته بعيداً عن
أحضانها وكوّن عائلة جديدة، تبقى الأم هي مرجعيته العاطفية وحاضنة ذاكرته ويبقى قلقه
عليها والتزامه الذاتي تجاهها يومياً وبلا انتهاء، لذا أرى تعبير (الوطن الأم)
تعبيراً دقيقاً، وما من إنسان أو كائن إلا وكان لأمه دوراً أساسياً في تكوينه،
والعراق أمي، بلدي التي كنت ومازلت وسأبقى، مهما حدث، محباً ووفياً لها وحالماً
وعاملاً لسلامها وخيرها ورِفعة مكانتها واسمها.
-*-*-
*بالعودة إلى "تمر
الأصابع" والتي صدرت بالإسبانية أولًا، ثم ترشحت طبعتها العربية ضمن القائمة
الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) سنة 2010. لماذا كان صدورها
أولًا في مدريد؟ وكيف جاءت فكرة خلاص الشخصيات من وطأة المعاناة والتوتر في سجنهم
الكبير؟
ــ صدرت في مدريد أولاً
لأسباب عديدة، منها أنني كتبتها في مدريد وتدور أحداثها الحاضرة فيها، وفي مسودتها
الأولى كانت مكتوبة بخليط من اللغتين العربية والإسبانية. كانت انعكاساً لحالي
بشكل كبير، وهي أول عمل لي تدخل فيه السيرة الذاتية بشكل كبير. نشرتها أيضاً لأنني
كنت أريد أن أكون فاعلاً ومتفاعلاً في الساحة الثقافية التي أنا فيها، وليس مجرد
مهاجر معزول عن محيطه.
أما عن خلاص الشخصيات،
ففي الحقيقة، هي كانت خلاص لي أولاً، ففي هذه الرواية أعدتُ التعرّف على نفسي بين
عالمين، شرقي وغربي، حرية ودكتاتورية، حداثة وتقاليد، وقد بينت فيها هذه الثنائيات
التي كنت أعيشها فعلاً، لذا بعد الانتهاء من كتابتها شعرت بمصالحة مريحة مع نفسي،
حيث أدركت ما هو راسخ في داخلي وأود الاحتفاظ به، وبين ما هو جديد أتقبله أو
أرفضه. إنها تتناول شخصيات من ثلاثة أجيال من عائلتي ومجتمعي، عرفتها على مدى
حياتي، ولكل جيل حصته من التأثير في ذاتي، وهذا ما بينته الرواية بوضوح. فهم كل
ذلك كان فيه الخلاص من الدوران بين سجن الاغتراب، سواء الاغتراب في الموطن الأول
أو في الموطن الجديد.
-*-*-
*عبر سيرة ذاتية ممتدة
من "سديرة" إلى "عمّان" مرورًا بإسبانيا وانتهاءً بطريق عمّان
- بغداد، جاءت "ذئبة الحُب والكُتب" بتقنية سردية مختلفة عن
"حَدائق الرئيس"، "تَمْر الأصابع" و"الفتيت
المُبعثر"، في بحث شاق عن الحب النقي؛ لتتقصى أمل الإنسانية المهدر وسط
عذابات الأوجاع وعبثية الخراب؛ كي تمنح صوتهم لآذان العالم عسى أن تنصت إليهم. كيف
صنعت ثيمة الحب تلك خلاص الشخصيات؟
ـــ شكراً لك على هذا
الوصف الجميل لهذا العمل، فأنا يسعدني أي قول أو رأي لصالحه، لأنني أحبه بشكل خاص،
فقد حلمت بكتابته طويلاً، وبسبب الأحداث والتقلبات العاصفة ببلدي وبحياتي
وبمعارفي، كنت أؤجل الكتابة عن الحب، الذي هو أسمى مشاعر الإنسان وأكثر ما يجعله
يشعر بأن لحياته معنى، فكرست له هذا العمل، لأقول فيه أغلب ما أردت قوله عن الحب،
واستخدمت فيه مختلف طرائق السرد ووظفتُ فيه العديد من الأجناس الكتابية، وضمنته
الكثير من الآراء والتجارب والسيرة، بحيث أميل في أغلب الأحيان إلى تسميته (كتاب)
أكثر من تسميته (رواية). هذا العمل، هو فعلاً؛ دعوة للحب.. بحب. أحث فيه على عدم
السكون بانتظار الحب وإنما أن نسعى إليه. هذا العالم المُتعَب والمُتعِب بحاجة إلى
مزيد من الحب.
-*-*-
*من خلال دراساتك وأبحاثك على مدى أعوام، كنت
حريصًا على كشف أثر الثقافة العربية والإسلامية في رواية "الفارس المجنون
الذي يحارب طواحين الهواء الـ "دون كيشوت" للأديب الإسباني "ميغيل
دي ثربانتس"، حدثنا عن ذلك.
ـــ بدأ ذلك مع عملي على أطروحة الدكتوراه أيضاً،
أردتُ البحث ودراسة أهم عمل أدبي كُتِب بالإسبانية عبر العصور وما مدى مساهمة
ثقافتنا فيه، فكان حتماً هو الكتاب الذي يُعد أُم الروايات الحديثة في العالم، رواية
(دون كيخوته)، لصاحبها ميغيل دي ثربانتس، والذي، بفضل هذا العمل، صارت اللغة الإسبانية
تُسمى باسمه (لغة ثربانتس)، كما تُسمى اللغة الإنكليزية (لغة شكسبير) والألمانية
(لغة غوته) والفرنسية (لغة موليير). وبالفعل توصلتُ إلى نتائج واستنتاجات عديدة
وبعضها جديدة، بشهادة مختصين كبار في الدراسات الثربانتيسية، ونُشرتُ بعض تلك
الاستنتاجات بالإسبانية والفرنسية والعربية. أعتقد بأن ثربانتس لو لم يتأثر
بثقافتنا لما استطاع كتابة هذا العمل الخالد. من ناحية أخرى، إن اهتمامي بهذا
العمل يأتي من كوني أكتب الرواية أيضاً، وكل مُعلمينا من كبار كُتاب لرواية في
العالم، أشاروا إلى أنهم قرأوا وتأثروا بكتابين أساسيين في هذا الميدان، وهما: (دون
كيخوته) و(ألف ليلة وليلة)، وقد تعلمت الكثير من هذا العمل، لذا أحث دائماً زملائي
الكُتاب وعموم القراء المهتمين بالروايات على الاطلاع عليه.
-*-*-
عملي الحالي هو الأصعب
*ما الذي تعمل عليه الآن
من مشاريعك الإبداعية؟
ـــ لدي رواية، أعمل عليها
منذ وقت طويل، ولكنها لا تنتهي، ربما انها أصعب رواية أكتبها حتى الآن، وتختلف عن
رواياتي السابقة، لأنها تتضمن فنتازيا، بينما رواياتي الأخرى واقعية. وهذه الفنتازيا
التي أشتغل عليها، ليست مختَرَعة، وإنما مستمدة من الحكايات الشعبية التي سمعتها
من أهلي في طفولتي، وتأثرتُ بها، فأصبحَت جزءاً من ذاكرتي وتكوني، وحتى من تجربتي
ورؤيتي الشخصية، وأريد الحفاظ عليها وفي الوقت نفسه إعادة إحيائها بطريقتي،
توظيفها وصياغتها وتأملها، وهذا مما يزيد من صعوبة كتابة
هذا العمل.
-*-*-
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشر في مجلة (البيان)
التي تصدر عن رابطة الأدباء الكويتيين، العدد 645 أبريل 2024م
http://alrabeta.com/Uploades/Magazines/45397.5323476389.pdf
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق