الأحد، 28 يونيو 2020

رسالة إلى الكاتب محسن الرملي / رزيقة بوسواليم


رأيت من حقك علي أنت ككاتب وأنا كقارئة، أن أرسل إليك هذه الرسالة: 

رزيقة بوسواليم
مساء الخير عزيزي الكاتب محسن الرملي
لست كاتبة ولا أملك لغة أستطيع نسجها على شاكلة ما تبدعه أنت من خيوط القطن والحرير والصوف والألوان وأنت تحيك لقارئك البعيد شالا يدفئ به روحه العارية أيام البرد والصقيع الممتدة من مشرقنا العربي حتى مغربه الكبير.
تقيم جسرك
تعبرك الروح
وتقفز نحوك
يجذبها الطين
ويصنع لها الحب أجنحة من نور.
أنا نقطة ماء قارئة في بحر قرائك الكثيرين، لست مثقفة كفاية ولا أنتسب لأي جهة من جهات الإبداع والفنون المختلفة، فقط نتفة صغيرة وصوت مبحوح لا يكاد يجرؤ على قول كلمة في وجه الأبواب المقفلة من حوله، كل ما هو نصيبي من الوجود هذيان لا تتوقف ظلاله في المقامرة بأوراق الوقت والعبث بي ظهورا واختفاء كخيالات الأشباح، هذا الوجود في رحمي الفارغ ثرثرته تتزاحم في رأسي كرة النار التي تتآكل ومن تحتها جسد يحملها بصداع دائم فتصيبه اللعنات وشظاياها الحارقة.
ننحدر غروبا
ظلام يسد علينا ثقوب المساء
نحشو فراغات
ما بين الأصابع بحلاوة تمر
نغزل ونغزل الهواء
بخيوط الشمس المكابدة
فتسخر منا الغيوم
وضوء تركناه يتيما داخل مصابيح نهاراتنا الآفلة.
عزيزي الروائي محسن الرملي.. فكرت ما الذي يمكنني أن أقوله لك، وهل تحتاج أنت مني أن أقول؟؟ وكيف يمكن للكلمات أن تدخل طوع خدمتي وأن تمشي وفق خطة سأرسمها لها هكذا وأنا المبعثرة فاشلة في لملمة أشلائي المسحوقة بين عجلات الريح وجبهات اليتم الإنساني المتواصل وقد تعودتُ أن الكلمات الحرة لا تساق إلا بمحبة سابحة في فضاءاتها الكونية ومداراتها اللامدركة؟
ما الذي يمكن أن تضيفه رسالة من امرأة قارئة غائبة في ظلام كسيح إلى رصيد كاتب مثلك، كاتب تقاطعت معه ذات عواء ذئبة عالق صوتها بين مخالب الحرب والحب، واقف مصيرها على شفير حياة وموت يتجاذبانها إلى حواف العتمة أو الضوء.
للكتب روائح الجسد،
للغة مفاتيح وبصمات سرية،
للمسامات دم يتصبب،
ولتلك الحقول من ورق
على جلد صفحات زمن متعرق
كانت تكتب الحكاية
وشما أخضرا أبديا
لذئبة من تاريخ عراق أصيل.
ذئبتك تلك كانت أول عتبة نصية ألجها شغفا إلى بساتينك السردية، أول ما لفتني العنوان فبعث في داخلي فضول الاقتناء وأنا أتلمسه بعيني قلت في داخلي تراها ما دلالة ارتباط الذئاب اللاحمة بأنياب متوحشة وهي تسير قطعانا وجماعات يقودها قائد واحد وقد تكون أحد إناثها القائدة في رحلاتها الخطيرة إلى صيد فرائسها مرتكزة على حاستها الشمية الرفيعة المستوى؟ ما هي العلاقة بينها وبين عالم الكتب الورقية الملطخة بالحبر المصممة أثوابها المتناسقة بمقاس وإخراج أنيق لكل عنوان، ما الذي يربطها بالحب كناموس الأزل في عزفه لحون السماء والأرض؟
ينشئنا الحب،
تربة يهدهدها المطر،
ننمو ورودا
تتكاشف الكلمات نعومة في حناجر الصوت،
تتقافز العيون سمكات ذهبية
تقطر بالماء واللمعان،
تنتفض عروق البرق،
تتحاكك الكلمات،
ثم ها نصل رعشاتنا البكر
نخبو
ينطفئ زيتنا القديم،
هناك جمرة يفلتها الرماد
تظل تنمو شجرة من نار
فتوقظ في لحومنا الرغبات البائتة.
تلقفت يدي الرواية من بين أرفف معرض الكتاب الدولي استنادا على العنوان واعتمادا مني على حاسة شمي اتجاه الكتب المميزة وما تسلطه علىَّ من قوانين الشد والجذب والإغراء، كنت أجهل اسم الكاتب ولا أعرف إلى أي بلاد من بلاد الرب الواسعة ينتمي، عدت محملة بكثير من العناوين من ذلك المعرض لسنة 2017 وكان أول معرض كتاب أزوره في حياتي، أول وصلة بدأت بها حفلة القراءة كانت ذئبتك، ذئبة الحب والكتب.
أذكر يومها أن الرواية تلبستني ولم أستطع مفارقتها حتى الشهقة الأخيرة منها، التهمتني في وجبة قرائية دسمة ممتعة، تبا كل هذا رسم بالكلمات، كل هذا هيام وحب وحبر وكتب ودماء نازفة وعواء في براري الحياة لا يكاد يسكت برأسي، كل هذا استطاع الكاتب سكبه دفعة واحدة في وعاء روحي الفضفاض فما امتلأت وقلت هل من مزيد؟؟
المزيد كان بعد عام آخر وكان دخولي مرة اخرى حافية عارية إلى حدائقك، كانت حدائق الرئيس وتمر الأصابع والفتيت المبعثر غنيمتي من معرض 2018 في جولة قصيرة وخاطفة كنت أنوي أن آتي بجميع غلالك، خانني الحظ ولكن لم يخونني الحظ مع كاتب مثلك، أحدثت حدائق الرئيس وهي تفتح أبوابها الملغمة بسحر بغداد وعطورها وروائح الموت فيها صدمة ظلت ارتجاجاتها لمدة في قلبي زوبعة لم اخرج منها سالمة، انحزت لهذه الرواية مثلما انحزت لذئبة الحب والكتب والتي أهديت نسختها الأولى تحت تأثيرها القوي إلى صديق، أردت وتمنيت أن يشاركني فيها جميع الذين اتقاطع معهم ، نصحت الكثير إذا أرادوا أن يقرأوا أدبا حقيقيا و أن يعيشوا تجربة عالية عليهم بمحسن الرملي.
عزيزي محسن الرملي.. الكاتب الأنيق البشوش، معجبة وأنا أتواجد داخل دائرة مغلقة ليس بها سوى ثقب واحد يسرب لي بعض الحب، معجبة بكل ما تكتب، أتابع منشوراتك بين الحين والحين عبر الفيس بوك ويروقني ما تنشره من أدب ومعرفة وعلم وثقافة ونكات وصور شخصية ويوميات من حياتك لك ولمراد وسلمى مشاركة منك ومحبة لقرائك، تعجبني روحك المرحة الجميلة الواعية الإنسانية البسيطة الخدومة وكل ما تقدمه لنا نحن قراؤك من أبسطهم درجة معرفية إلى أعلاهم مستوى في الثقافة العامة، تعامل الجميع بكل الحب الذي تخطه أناملك إبداعا وحياة.
أنتظر فرصة الحصول على كتبك التي تنقصني وسأسعى لها.
قارئة تحبك فقط.
----------------------------------------------------------- 

شهادة في حق كاتب جميل،،
قبل أيام نشر صديقي أمين دهماص أو يوسف فقط كما أناديه منشورا عن عاداته في القراءة وكيف يتعامل مع الكتاب، وطبعا لكل قارئ أسلوبه وطقسه القرائي الخاص به، وصديقي يوسف عرفته ذئب كتب أو الأصح ذئب روايات، يملك حاسة شم قوية لروائح الكتب، يتصيدها أينما كانت، وأنا أقرأ منشوره كنت أبتسم لبعض ما كشفه عن عاداته القرائية الغريبة حتى أتيت على آخر المنشور فإذا به يقول أنه في إحدى المرات مزق ورقة من رواية ذئبة الحب والكتب للروائي العراقي محسن الرملي لأن فيها مقطعا حزينا يمسه بالدرجة الأولى كإنسان، ثم قام بإلصاقها على مرآة الحمام لمدة شهر وكان كلما قابل المرآة لغسل أسنانه يقوم بقراءته حتى حفظه.
ولأن الرواية المذكورة كانت أولى اكتشافاتي وسببا في دخولي عوالم الرملي الروائية، كتبت تعليقا له عن الحادثة، قلت فيه أني لو فعلت مثله كنت مزقت جميع أوراق الرواية وعلقتها على الأبواب والمرايا وسقف الغرفة لأن الرواية كلها تمسني.
طبعا رد يوسف علي وقال بأنه ندم أنه لم يهديني الرواية وكان قد وضعها ذات مرة ضمن قرعة الإهداءات، كم تمنيت حينها الفوز بها ، قمت بالرد عليه مرة أخرى وكتبت له أني اقتنيت منها نسخة و في لحظة جنون قمت بإهدائها ثم بعد عام اقتنيت منها نسخة أخرى، بعد تعليقي عمل يوسف إشارة للروائي محسن الرملي لأنه صديق معه، وكنت متأكدة من أنه سيرد علينا، قياسا على ما فعله معي، من مدة طويلة كنت بعثت له طلب صداقة وذلك بعد قراءتي للرواية وأعجابي الشديد بها أحببت متابعة كاتبها والتعرف على إصداراته الأخرى، بعد يوم قام بإرسال رسالة لي في الخاص يعتذر فيها عن عدم استطاعته قبول الطلب لأن نظام الفيس بوك عنده لا يسمح لاكتمال العدد المخصص للصداقات ثم أشار علي أن أتابعه على صفحته الأخرى فنفس ما ينشره على صفحته الخاصة ينشره على صفحته العامة، طبعا أكبرت فيه هذا الفعل النبيل وعرفت أنه كاتب صاحب أخلاق أدبية رفيعة ومن طينة الكبار في الأدب والفكر وحياكة فنون الجمال، وكما توقعت لم يتأخر وجاء رده على تعليقاتنا أنا وصديقي يوسف بأنه يشاركنا نفس شغفنا بالحب وبالكتب ثم فوجئت به يقوم بتصوير المنشور وتعليقاتنا ونشرها على صفحته.
هنا تساءلت أليس هو بكاتب وله هموم الكتابة وهموم إبداع وهموم أسرة خاصة وأسرة أخرى تعليمية وهموم دراسات وترجمات وأسرة كبيرة من المتابعين وهموم حياة عامة وهموم عالم كبير يعيش وسط ضغوطاته المتنوعة، فكيف له أن يضيف لنفسه هموم قراء منتشرين عبر البلاد العريضة ويتابع انشغالاتهم وتعليقاتهم ويرد عليهم عبر هذا الفضاء الإلكتروني المزدحم جدا؟
أية أخلاق يملكها هذا الكاتب النبيل وأية روح إبداعية فضفاضة تسكنه وتسع الجميع وتخلق لنا هذا الكم الهائل من الكلمات؟ أية أخلاق أدبية عالية تقربه مسافة أنفاس من قرائه ومحبيه رغم بعد المسافات بينه وبينهم؟ أي إبداع لصناعة الحب في الواقع قبل إبداع الروايات داخل الكتب.
فعلا هو نموذج للكاتب المبدع الأصيل وصورة حقيقية لكاتب كريم يحمل هم الإنسان وينتصر لإنسانيته المهدورة وسط فوضى وجور وظلم هذا العالم قبل كل شيء.
-----------------------------
*رزيقة بوسواليم: شاعرة من الجزائر. 

الجمعة، 26 يونيو 2020

قراءة في رواية تمر الأصابع، قسوة الموروث/محمد سمير ندا


تمر الأصابع لمحسن الرملي،
ما بين قسوة الموروث.. وحتمية الانتقام!
محمد سمير ندا
عبر قرابة 170 صفحة فقط، يلتقط لنا محسن الرملي صورة أخرى للمأساة العراقية (والعربية إن شئنا إسقاط الاضطهاد العراقي على ما يماثله في شتى ديار العرب)، والصورة هنا واضحة جليّة، واسعة بعرض سنين الاغتراب القسري المفروض على ملايين العراقيين، ومنهم كاتب الرواية، الذي يسهل استخلاص نقاط التشابه بينه وبين سليم مطلق، السارد الرئيسي للأحداث.
المأساة هنا تبدأ وتنتهي في ظل حكم صدام حسين، عبر مروية تزاوج بين الألم والسخرية في إطار حكائي متقن، والحقيقة أنني – من باب الإنصاف- طالما كنت معجبًا بطاقة الخيال لدى محسن الرملي، فهذا الرجل حكّاء فريد من نوعه، يمتلك مغزلاً يجيد تطويعه وترويضه لينسج في كل مرة حكاية محكمة البناء، وحكايات الرملي أشبه بمرويات الجدات اللاتي اعتدنا الجلوس أسفل أقدامهن صغارًا، ليغزلن لنا من خيالهن ومخزونهن من الموروث الشفاهي المروية تلو الأخرى، فالقصص التي يرويها الرملي -دائمًا- آسرة حافلة بالمشاعر، والخط التصاعدي للأحداث يجبر القارئ على الركض عبر الصفحات لاستشراف المزيد وطرق أبواب الخواتيم، علاوة على أن الترميز والإسقاط لدى الرملي، طالما جاء سلسًا مطرزًا بثوب الحكاية، دون تكلف أو إلغاز.
ثلاثة أجيال، وثلاثة عقول، وثلاثة أيدولوجيات مختلفة، يجمعها على اتساع رقعة التباين بينها شيئًا واحدًا؛ التمر! والتمر هنا هو الأرض، الوطن، الحلم الذي تتجسد في حباته الحياة بمختلف جوانبها، ومتنوع لذاتها، هو الإرث الشاهد على مدينة الجدود المندثرة، والحلم الضائع، والحبل السري الرابط لنسيج الحكاية.
والجد هنا -أصل الحكاية- رجل بدوي صالح، تقي، يضع نفسه -يقينًا- في مراتب الأنبياء، وقد نصّبه من حوله سيدًا وقائدًا ومُخلّصًا، ينشد تشييد عالمه الخاص، بمنأى عن الأنظمة والحكومات، وبمعزل عن الظلم، وقد تجرع الذل والقهر على أيدي الجهات الرسمية رفقة عدد لا يستهان به من عشيرته، إثر مواجهة غير متكافئة تركت الجبين موصومًا بالعار، والجد أسيرًا مكبلاً يمرر أيامه في انتظار تحررٍ مخبوء في طيات الغد. يسعى الجد إلى بناء مدينته الفاضلة، عبر فلسفة آناركية تخصه وحده، يرتدي هو فيها ثوب نوح النبي، صاحب الفلك، والقابض بيمينه على طوق النجاة، وظل الله المنعكس على الأرض، حتى يتمخض الحلم حربًا تختطف الأرواح، وتنزع عن مدينته الفاضلة ثوب الفضيلة، فتحولها إلى رقم، ومحض اسم في كشوف الدولة الرسمية.
أما الأب، فقد برع الرملي في رسم شخصيته -كذلك- إلى حد بعيد، فجاءت مقنعة جاذبة لا تملك إلا أن تتعاطف معها، فبرغم عقله المشطور بين ميراث الجد – والقيم الإنسانية والدينية والعشائرية التي شتلها في وجدانه وغرسها في عقول الكافة، وحرص على ريها طيبة عقود- وصورة الحرية التي اقتبسها من عيون رؤسائه الألمان، ومارسها بجموح في إسبانيا، يظل قابضًا بكف على حبة التمر، وعلى عهده لأبيه بالانتقام ممن لطخ جدران ديارهم بالذل.
ثم يجيء الحفيد ليكون هو سارد للحكاية، هارب آخر من جحيم صدام، لفظته الحرب عقب ذبول حلم الجد وجسده في ذات الليلة، وعقب استلام أهل القرية لتوابيت سبع عشر شهيدًا لقوا حتفهم في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل. وفي وجهة نظري، فإن شخصية الحفيد كانت هي الأقل من حيث الإحكام، إذ اجتث الكاتب منها عشرة أعوام فصلت ما بين رحيله من قرية القشامر، والصدفة التي دبرت اللقاء بأبيه في إسبانيا، ذلك النقصان في تاريخ الشخصية؛ ترك العديد من علامات الاستفهام لدى القارئ حول الدروب التي سلكها والطريق التي سلكها حتى استقر به المقام أمام أبيه في حانته المدريدية.
ولكن، رغم ذلك، فإن إيقاع الحكاية كان يسحبني إلى دوامتها، ملقيًا بملاحظتي تلك على ضفتي الحكي، كنتُ أقف أمام المشاهد التي جمعت الأب بالابن بإعجاب مضطرد، عقب كل مشهد، بيد أنني قرأت بعض المشاهد الجامعة للأب والابن أكثر من مره. أحببت كثيرًا علاقتهما، قبل وبعد المكاشفة التي عصفت بوجدان كل منهما، فالأب جانح صوب الانتقام، والابن ميّال لسلام أخير يطوي صفحات الحروب والنزاعات، الأب يقبض على رصاصة هي في واقع الأمر بوصلته الدالة على الهدف، هي الميراث الرابط بالجد، والحجر السحري الذي يرسخ لديه الشعور بكونه ماضٍ على الدرب الصحيح، والابن حالم كسير، وشَمَ صورة الحبيبة الغارقة على باطن جفنيه، ثم اكتفى باستدعاء كل تفاصيلها، روحًا وجسدًا، ناعسًا ويقظًا، وعطّل طاقة العشق لديه، حتى راح إكسير غرام بديل يتسرب إلى عينيه، دون أن يمحو وشم الحبيبة الأولى. الأب يحاول جاهدًا صهر ميراث الجد في بوتقة انتقامه جنبًا إلى جنب مع مواثيق حريته المتحققة أخيرًا، ولا يرمي إلى التخلي عنها، فيما ذات القيود الموروثة تكبل الابن، وتعيق تحرره. وفي ظني أن الفارق بين الأب والابن، يتلخص في رغبة كل منهما في المقاومة، فأحدهما لم يمتلك قدرة الشب عن الطوق، فبقي مُطارَدًا بصور عذابات الجحيم، فيما كان الآخر يكسر سياج الموروث، ويسلم جسده للموج، دون أن يتخلص من الإرث كاملاً؛ وقد ظلت رصاصة العهد مستقرة في يمينه. أما الجامع بينهما: فهو الوطن الطارد لمواطنيه، والحرب، وآمال النجاة.
معزوفة أخرى عن الوجع العراقي، وشجرة الرافدين التي تلفظ ثمارها خارج البستان، حكاية تتماس مع الكثير من حكايات الاضطهاد العربية، منحها الكاتب نكهته الخاصة، فعلى قسوة الظلم الذي تعرضت له هذه القرية، وفانتازية الانتقام، ودرامية بعض المشاهد؛ لا سيما رحيل الجد – أو مصرعه بوابل من كلمات ابنه – ثم مشهد تحلل جثامين الشهداء في انتظار الأمر بدفنها،  لا يسع القارئ -كذلك- أن يواري بسماته في أكثر من موضع، حتى أنه، ومع السطر الأخير في الرواية، لن يتمكن من كتم ضحكاته، وربما سعادته بحالة الاستمرارية التي تختتم بها الصفحات!
عمل أنصح به بشده، ومرة أخرى، أتوجه بالشكر لمحسن الرملي على هذه المتعة الأدبية الصافية
------------------------
*محمد سمير ندا: كاتب مصري، آخر أعماله: مملكة مليكة.

الأحد، 14 يونيو 2020

قراءة: رواية: الفتيت المبعثر /صباح هرمز


الفَتيت المُبعثَر. . بين التواتر والشخصية 

صباح هرمز
إذا كانت روايتا محسن الرملي (تمر الأصابع) و(أبناء وأحذية) تركزان على الشخصية بالدرجة الأساس، مقارنة بالعناصر الفنية الروائية الأخرى، فإن روايته (الفتيت المبعثر) قياسا بهاتين الروايتين من حيث تركيزها على الشخصية، تعد رواية الشخصيات بحق. ابتداء من شخصيتي سعدي وعبود، مرورا بشخصيتي قاسم وحسيبة، وانتهاء بعجيل ووردة.
تدور أحداثها في إحدى القرى التابعة لقضاء شرقاط، وهي على الأغلب القرية التي كان يعيش فيها المؤلف. وتصور حياة عائلة عمة السارد وزوجها (عجيل) التي عاشت في ظروف مأساوية، مع أهالي القرية، تحت نير الحرب، ودكتاتورية النظام من جهة، ومديات تأثير القائد على الفرقة والتشرذم بين صفوف العائلة الواحدة من جهة أخرى، وتلقي الضوء على شخصياتها المتباينة المنحى والغريبة الأطوار.
تكاد تخلو هذه الرواية من الأحداث الكبيرة ومن الصراع الى حد ما، والصراع الوحيد فيها هو الصراع القائم بين أهالي القرية مع النظام على الشباب الذين يساقون الى الحرب، وهروب البعض منهم من أرض المعركة، وملاحقتهم من قبل أزلام النظام. وهذا الصراع لا يظهر على سطح الأحداث من خلال المواجهة بين أهالي القرية والنظام، بقدر ما يظهر بين عجيل الأب وأبنه قاسم. والخلاف القائم بين عجيل وأبنه الأكبر قاسم، لرسم صورة القائد وتعليقها في المنزل، ورفض قاسم لطلب أبيه، لا يرتقي هذا الحدث الى مستوى الصراع، بقدر ما هو سوء فهم من الأب في فهم فكر وتوجهات القائد، نتيجة وقوعه تحت تأثير ما يردده الإعلام من شعارات طنانة، وانسياقا لغابر جده الذي قتل في العشرينيات من القرن الماضي ضابطا انكليزيا، بدليل أنه وبعد إعدام أبنه قاسم وتركه لثلاثة أيام في العراء، يعود الى رشده، ويفهم طبيعة هذا النظام وقائده الضرورة.
إن عدم بروز الأحداث الكبيرة فيها، يعود لسببين، أولهما هو التركيز على رسم معالم وأبعاد الشخصيات، وثانيهما هو الاختزال في أحداث الرواية، من خلال نأيها عن الحشو والاستطرادات الزائدة، ولعل بلوغ عدد صفحاتها الى ست وثمانين صفحة، أثبت دليل على ذلك، ويؤكد أنها أقرب الى القصة الطويلة، منها الى الرواية.
أتبع السارد مع روايته نظاما ترقيميا، موزعا إياها على عشرة أرقام، لا يتجاوز كل منها على ثماني صفحات كحد أعلى، شارعا ومنهيا روايته بعنوانين، الأول تحت عنوان (صفر الروي) والثاني تحت عنوان (صفر اليدين) ويبلغ عدد صفحات كل واحد منهما أربع صفحات ونصف الصفحة.
تتمركز حبكة الرواية في الجملة التي يطلقها السارد في بداية السطر الأول من الجزء المكرس لعنوان (صفر الروي)، حيث تستهل الرواية، بجملة:( حالما بأن نفعل شيئا ما، ونصبح رجالا يستحقون الاحترام. . .). ضاربا هذا المثل، احتذاء بنماذج ثلاثة من أهالي قريته، وهم :(محمود، إسماعيل الكذاب، ووردة). والنماذج الثلاثة غريبو الأطوار. محمود من خلال عدم الاهتمام به من قبل أحد، ونسيانه من الجميع، لا وبل لعدم ظهوره على سطح الأحداث، إلآ ما يأتي السارد على ذكره عنه بشكل عابر، وإسماعيل الكذاب عبر هروبه من الحرب، وسمعته المعروفة بالكذب، ووردة بانتقالها من زوج الى آخر الى أن انتهت تحت إسماعيل الذي كان زوجها الرابع.
هذه هي الشخصية الأنموذج عند الرملي، الشخصية الهامشية التي خرجت بعفوية من بين أبناء الصفوف الكادحة، وقاع المجتمع الريفي العراقي، وشقت طريقها بالتعويل على ما تعلمته من تجارب الحياة المريرة. لذلك فهي تستحق الاحترام، لأنها صاحب موقف، وموقفها هو رفض الحرب، الأول من خلال الهجرة، والثاني بالتعهد لوردة برفض الحرب أيضا، والثالث زواج وردة بإسماعيل تنفيذا لعهده.
تعتمد هذه الرواية في بناء تقنيتها الفنية على تكرار الجمل فيها. وتأتي الجملة التي تعول فيها على الحبكة في مقدمة هذه التكرارات وهي جملة: (الرجل الذي يستحق الاحترام)، إذ تتكرر أربع مرات، في المرة الاولى لمغادرة السارد قريته بحثا عن محمود، مانحة هذه الجملة معنيين في آن. المعنى الأول هو أن السارد ومحمود يقيمان حاليا في اسبانيا، والمعنى الثاني هو أنهما قد أتخذا موقفهما الرافض للحرب، وبالمآل أنهما يستحقان الاحترام. ومع ما يستحقه السارد من إحترام، غير أنه يجد نفسه وحيدا وسط الأجانب وهو يتنقل من بلد الى آخر، ويتوق الى سماع أخبار أهله، لذلك تعويضا عن هذا النقص، يسعى اللقاء بمحمود في اسبانيا. ولكن لأن محمود أكثر المخلوقات عرضة للنسيان، لذا فما عليه إلا أن يستعين بوجه عمته كي يستطيع التعرف عليه إذا ما صادفه، فمن باب وجه عمته هذا، يدخل السارد المتن الحكائي لروايته.
 وفي المرة الثانية عندما تطلب وردة من شقيقها قاسم الرافض للحرب أن يبدي رأيه بعريسها (فوزي) في ليلة زفافها، إن كان رجلا يستحق الاحترام، أي أنها سترفض الزواج به، إن لم يكن أهلا لذلك، أهلا لرفض الحرب، وأهلا لإنقاذهم من الكائن الدموي (القائد). وفي المرة الثالثة عندما تتأكد وردة من كره إسماعيل الكذاب للغريب البعيد، ويحلم بالخلاص منه، ومشغول بالخطة، لتفاجئه بسؤالها: (هل تتزوجني؟).  فبهره اكتمال تفتح وجهها. شهق، أجاب موافقا. بمسرة وعزم: (سأنفذ الخطة.). وفي المرة الرابعة، أثناء سعي شقيقها (سعدي) اللوطي، ثنيها عن الزواج بإسماعيل الكذاب، بمسوغ لا صنعة له غير عزف الربابة، لتقول له أنه يستحق الاحترام لأنه يحلم ما أحلم به.
وإذا كانت جملة يستحق الاحترام قد تكررت أربع مرات، فإن مفردتي (القنفذ) و(الإبرة) قد تكررتا خمس عشرة مرة في الرواية، بنصيب أثنتا عشرة مرة للأول، وثلاث للثاني، ومفردة (الجرذ) ست مرات، و(بياض الذراع) عشر مرات، و(القائد) اثنتي عشرة مرة، و(العواء) خمس مرات، و(الألوان) ستا.
تأتي مفردة القنفذ، بوصفها رمزا للقائد الضرورة، وذلك من خلال وجوده في كل مكان على الرغم من أنوف ليس أهالي قرية السارد فقط، وإنما أنوف الشعب العراقي بأسره، إن لم يكن العالم كله، لأن أشواك القنفذ من كل الجهات، والأرض كروية، عليه فإن إبر أشواكه مصوبة نحو كل الجهات في العالم. بدليل أنه أشغل ثلاث وثلاثين دولة في حرب الخليج. ولأن (عجيل) زوج عمة السارد، كان أول من تجاسر العبث معه، فقد بح صوته، لأن إبر القنفذ انتثرت في كل مكان، ومنها باتجاه بلعومه، وصار أسير القائد، عبر تأييده للحرب التي أشعل فتيلها مع إيران. إن القنفذ والقائد صنوان، لسبب واضح وبسيط جدا، وهو أن الأول قضم أذن قاسم بحثا عن الطعام، والثاني يسعى الى بترها لكي يلتحق بأرض المعركة: (أنفجر بالضحك حتى أنقلب على ظهره وهو يسمع القائد في التلفاز يصدر قرارا بقطع أذن كل هارب من الجيش. . . فوضع يده على أذنه الناقصة وقال: الجرذ قضم نصفها وسيقضم هو نصفها الآخر.)
للسارد قدرة متميزة على الربط بين الفعل وما يتمخض عنه من نتائج، مانحا إياه فرصة التعبير عن نفسه عن طريق الشفرة اللغز، أو المعنى المخفي والمستور وراء ما تكسبه هذه الجمل من مدلولات عميقة وكبيرة، من الصعب اكتشافها، كما في المثال السابق، حيث أقترن بح صوت عجيل بنثر القنفذ (القائد) بإبر صوب بلعوم عجيل، ليعديه بأفكاره المسمومة، ويرددها مثله. والربط بين قضم الجرذ لأذن قاسم... وبين رش المبيدات، ليؤدي الأخير الى موت البقرة، لأن عمة السارد: (استخلصت الدهن الحر من حليب بقرتها، لانشغال عامل الرش بسحر وجمال وردة، ما أدى به أن يرسم على جدار كوخها قلبا يخترقه سهم، ناسيا أن يوقف تدفق السائل الأبيض من رأس العصا الحديدية، ليصطبغ الماء في الطست الذي تشرب منه البقرة.).
إن الجرذ الذي قضم أنف قاسم، بسبب الثريد المنقوع بالدهن الحر، هو القنفذ ذاته الموجود على الرغم من أنف الكل، إذن فالجرذ لم يقضم أذن قاسم فحسب، وإنما قضم آذان كل أهالي القرية، لأنهم يطعمونه بالدهن الحر، وتأتيهم يوميا قافلة من الشهداء: (يطيب للجرذ أن يخرج حين ينام الجميع. يتجول في أرجاء البيت، يتشمم الارضية الترابية الرطبة، باحثا عن حبة رز أو كسرة خبز... لا أحد يفكر بتفكيك الدكة لمجرد البحث عن جرذ تافه...) إن فعل الخطأ غير المقصود الذي قامت به عمة السارد، أدى الى بتر الجزء العلوي من أذن قاسم من جهة، والى موت البقرة من جهة أخرى، إلا أن هذا الخطأ أنعكس إيجابا على قاسم وعلى أهالي القرية، الأول من خلال انصرافه الى تصليح الأجهزة الدقيقة والكهربائية وإتقانه صنوف الخط العربي وفي اختراعاته وأحاديثه وهروبه من الجيش وذكائه، والثاني عبر ابتسامة وردة لراسم القلب المجروح: (... حتى استيقظوا ذات صباح وهم يتسابقون لتحطيم الدكة.. بل مستعدون لتحطيم الجدار الذي تتكئ عليه الدكة، وتحطيم الدار كلها لو أستوجب الحال من أجل الظفر بذلك الجرذ الذي قضم أذن قاسم في الليل قضمة واحدة بعد أن تشمم الدسم في أعلاها.)، أي أن تشويه جزء من أعضاء شباب القرية في الحرب العراقية- الإيرانية، واستشهاد قسما آخر منه فيها، باعتبار قاسم نموذجا للأول، والبقرة نموذجا للثاني، أدى الى تكوين نوع من الوعي لدى شباب القرية باتجاه التمرد على توجيهات القائد من خلال رفضهم للحرب، سواء كان ذلك عن طريق فرارهم من أرض المعركة، أو عدم التحاقهم بجبهات القتال، وذلك عبر انقلاب تفكيرهم من عدم تحطيم دكة المنزل الى هدم المنزل، وقلعه كليا ومن الأساس.
أما الجملة الثالثة التي أعتمدها السارد الى جانب توظيفه لجملتي: (الرجال الذين يستحقون الاحترام، والقنفذ)، فهي جملة (الذراع البيضاء لحسيبة)، وذلك من خلال انجذاب قاسم الى ذراع أبنة عمه. إذ بالرغم من اختلاف طبيعته الهادئة مع طبيعتها الشرسة، الا أنه تزوجها وقوعا تحت تخدير ذراعيها التي فقدته السيطرة على حواسه، دون أن يتخلى عن زيارة شاطئ القرية حالما بهما. ومثلما جاء توظيف التقنيتين السابقتين لرفض الحرب، كذلك فقد وظف هذه التقنية للغرض نفسه، وذلك من خلال القرار الذي أتخذه بعدم الالتحاق بجبهات القتال على الشاطئ، وقد جاء هذا القرار لسببين، ولكليهما صلة مباشرة بالقائد، أولهما أن عكس ما أتخذه يحرمه التأمل بذراع حسيبة، وثانيهما أن تنفيذ قراره، يكمل النقص في أذنه. ما معناه أن الحرب في الوقت الذي ستأخذ فيه منه زوجته، ستردعه في الوقت ذاته من صناعة الأجهزة الدقيقة والكهربائية وصنوف الخط العربي واختراعاته وأحاديثه وذكائه...
إن أجمل مشهد في الرواية هو المشهد الذي يسبق إعدام قاسم بلحظات، حين يود أن يقول:(أريد أن أرى شاطئ دجلة أو أقتلوني هناك حيث كنت أذهب منذ طفولتي حيث ذراع حسيبة الأبيض في فجر أبيض، الوطن الأحمر في قلب أخضر...). وللتأكيد على دور (ذراع حسيبة) باتخاذ قاسم قراره برفض الحرب، فقد تكررت هذه الجملة، عشر مرات في حدود صفحتين فقط، وعلى النحو التالي:
- رغم تميز قاسم بهدوء طبعه الا أنه تزوج أبنة عمه سليطة اللسان القادرة بشتائمها على تهجير مدينة، ذلك أنه لم يستطع مقاومة بياض ذراعها التي رآه فجأة ذات فجر مفاجئ.
- كانت تلك أول مرة يرى فيها ذراعا عارية لامرأة، فصعقه بياض اللحم.
- فكر في بولها وتخيل اللحم الأبيض والذراع الأبيض.
- ترجرج صدرها، التمعت ذراعها البيضاء.
- أيعقل أن يكون اللحم أبيض الى هذا الحد؟؟! بضا الى هذا الحد؟؟!
- ولكنه كان نهارا أبيض كبياض ذراع حسيبة.
- فكيف عرف أبوه بأنه يريد ذراع حسيبة تحديدا وليس حسيبة؟! أو الأهم هو الذراع، ثم بعد ذلك، يأتي الكتف الشعر، تأتي حسيبة.
- هل لوالده كل هذه الفراسة؟! أم أنه هو الآخر قد رآى ذراعها ذات فجر؟
- أم أنه قد سمعه هاذيا ببياض ذراعيها للنهر أو هو نائم؟
والتقنية الرابعة اتسمت بتغيير الألوان في العلم الوطني، للدلالة على ما سيحل بالبلاد من كوارث، جراء الحرب، أثر إعلان القائد، أن الأرض بحاجة الى الدم، وذلك من خلال رسم خارطة الوطن على لوحة بالأحمر، محاطة بدائرة قلب أخضر، ورسم النهرين بالأبيض. وهذا التغيير في الألوان لا يومئ الى استشهاد عبدالواحد شقيق قاسم، واستشهاد فوزي زوج وردة، بل الى استشهاد راسم اللوحة أيضا وهو قاسم، وذلك عندما تأتي اليه حسيبة: (وتدعوه الى تناول شيء، تراه ساقطا على الأرض، ملطخا بالأحمر والأخضر والأبيض، كأنه ملفوف بعلم، مثل كل الذين عادوا من الحرب في توابيت النصر.).
وفي هذا المشهد لأهمية الحدث فيه، يتحول السرد من ضمير الغائب الى ضمير المخاطب، ليغدو السارد كما في مشهد آخر والذي سنعرج اليه، جزءا من الحدث، اقترانا بمقولة القائد، بحاجة الأرض الى الدم، ابتداء من جملة: (وعضت سمكة إبهام قدمك يا قاسم، فقفزت وصحت بالأحمر ((وجدتها)) حين وجت الوطن مغطى بالأحمر...) الى نهاية الجملة، حيث تنتهي بجملة:(لماذا النهران تحديدا).
والخامسة في التحول (المسخ) الذي طرأ على عبود، من كونه أجمل أطفال القرية حتى من شقيقته وردة التي يعدها السارد أجمل فتاة في العالم، الى كائن أشبه بحيوان، يحبو على أربع، ويعوي كالذئب. وجاءه هذا التحول، ربما لأنه مولود في زمن الحرب، أو لأنه ألتقط من الحرب بعض من مقاطع أناشيدها في لحظات الصحو. مثله مثل والده الذي تعرض الى عدوى القنفذ، فبح صوته، ذلك أن الحرب كالقنفذ صنو القائد، وأن القائد هو الذي جاء بالحرب.
أثرت التحولات التي طرأت على عبود، على وردة أكثر من أي شخص آخر في العائلة، لأنه يشبهها كما توأم، وذلك خوفا من احتمال تحولها مثل عبود. وما زاد من خوفها هو عدم إقدام الراغبين الزواج منها على هذه الخطوة، لاحتمالات توقعهم انسحاب التحول الذي طرأ على عبود اليها، أي انتقال ما كان في نفسها الى نفوسهم، لذلك: (كلما استيقظت هبت الى المرآة، فقادها ذلك الى تحسس تكورات صدرها، امتلاء الردفين، رمانتي الكتفين وتفاحتي الخدين. كانت تطمئن نفسها بما طمأنتها به أمها...).
تكرر عواء عبود خمس مرات في الرواية، فإذا كان في المرة الأولى، أيقظ القرية، وهب الرجال بسلاحهم الى دار عجيل، ظنا منهم بأنه ذئب، ففي المرة الثانية عندما أرتفع عواءه مرة أخرى، تحددت جهته، وهالهم ما شاهدوه: (عبود يحبو على ذراعيه وإحدى ركبتيه رافعا ساقه الأخرى بمثابة ذنب، مشرئب الرأس، مشرب الرأس الى السماء يعوي كعواء الذئب تماما.). وفي المرة الثالثة عندما: (ضمت والدته رأسه الى صدرها بقوة ووجع أمومة، خفض عبود من عوائه بالتدريج حتى صار يموء كقطة)، وفي المرة الرابعة، عندما: (لطخت والدته وجهها بالسخام وهالت رماد التنور على رأسها، في الهجوم الذي سقط فيه فوزي هو الهجوم نفسه الذي سقط فيه عبد الواحد. لم يفهم عبود شيئا فعوى.). وفي المرة الخامسة، وهو أكثرهم تأثيرا: (لأن وردة تود أن تعوي مثل عبود: لكن صراخها على فقيدين أفقدها صوتها طويلا.). وتتكرر هذه الجملة مرتين. في المرة الثانية: (عندما يختفي عبود ليلا من حفرته/القبر الى حيث لا يدري أحد، ولا حتى كيف. أنقطع عواؤه الليلي الى الأبد: (وتطلعت عمتي الى حفرته صباحا عشرات المرات.. مئات.. ولم يكن فيها عواء.. بكت عمتي حتى أهتز الماء الأزرق في عينيها وتمنت وردة لو تعوي بدلا عنه..).
ما من شخصية من الأشقاء السبعة مع شقيقتهم وردة، تتشابه شخصياتهم مع بعضها البعض، بل بالعكس لكل شخصية معالمها الخاصة بها وتختلف عن الشخصيات الأخرى، مانحا هذا الاختلاف، انطباعا مؤداه، أن كل فرد من أفراد عائلة عمة السارد بمن فيهم عجيل، ينتمي الى عائلة عراقية معينة، وبعدد نفوس الشعب العراقي أبان اندلاع الحرب العراقية- الإيرانية، وبتمثيل كل شخصية بنسبة معينة من أفراد الشعب.
يعمد السارد الى هذا المنحى، بلوغا لعدم إنقاذ ولو فردا من العوائل العراقية من بطش القائد ونظامه، أو كما يحلو للسارد أن يطلق عليه (التفتيت المبعثر). فلم يسلم أبنا من أبناء عمة السارد من هذا البطش، أو التبعثر، ما عدا أحمد، ابتداء بقاسم النبيه الذي راح ضحية موقفه الرافض للحرب، وولهه بذراع حسيبة، وحبه لنهر دجلة، مرورا بعبد الواحد الذي بعكس شقيقه قاسم، أنصاع لطلب أبيه وشارك في الحرب حتى أستشهد، أما أحمد فإن تفوقه في الدراسة، جعل منه قاضيا وبالتالي معفيا من السوق الى الحرب، أي أن فردا واحدا من بين سبعة أو ثمانية أفراد، تسنح له فرصة البقاء في ظل الحرب وتحت سطوة القائد الضرورة. بينما تحول عبود الى كائن آخر، ومحمود الذي لا لون له ولا طعم ولا رائحة، صار تائها في دولة اسبانيا لا يراه أحد ولا يرى أحدا. وسعدي حبذا لو كان ميتا ميتة الكلاب، لكان أفضل بكثير من سقطته في أحضان النظام، وانسياقه وراء شهواته القميء. ولم يبق سوى شخصية سعدي الغريبة والمختلفة كليا عن الشخصيات الأخرى، فبالرغم من أنه شخصية سلبية في الرواية، لا من خلال ممارسته لعملية اللواطة، وإنما عبر ولائه للقائد ومن ثم تقديم الخدمات له، بالرغم من سلبيته من هذه الناحية، فقد أستطاع السارد عبر التزاوج بين لوطيته وولائه للقائد، أن يرسم أجمل صورة له، بوصفها نموذجا للشخصيات التي كانت تعتلي سدة الحكم وتقود العراق، وذلك عبر فقدانها لأخلاقيتها، وانتهازيتها لاستغلال فرص العيش الرغيد على حساب الآخرين، وبما يجعل المتلقي أن يشمئز منها، وهو يرى بأم عينيه أن من لا يعرف النطق إلآ ب :(هذا شي حلو)، أو: (غير حلو) ويدير مؤخرته لأقرب الناس له ليولج فيها أصبعه، يصبح بين ليلة وضحاها غنيا لأنه يعمل مع أقرباء القائد. وبالمناسبة، مناسبة الاشمئزاز الذي يخلفه السارد لدى المروي له تجاه شخصية سعدي وأمثاله، وهو ينعت سلوكه الشاذ، لكي يتخذ منه موقفا مناوئا وسلبيا، أن السارد لا يتدخل في الأحداث، وإنما يترقبها من بعيد، وأحيانا يكتفي بالتعليق عليها، بيد أنه في هذا المشهد الذي يتحرش به سعدي، يغدو السارد جزءا من الحدث الى جانب مشهد (تغيير ألوان العلم الوطني):
(كانت يدي ترتجف وجسدي يتفصد عرقا وسعدي يهتز ثم صاح: (هيا). فغرست يدي في ظلمته السوداء على عجل، ثم وليت نافذا الى خارج المخزن... نظرت الى أصبع
 التي كانت لا تزال منفردة، فتقلبت احشائي واجتاحني غثيان كريه حين وجدت أصبعي مغمسة بالغائط حتى منتصفها فتقيأت... لا أحد يعرف كيف أصبح سعدي فيما بعد من أضلاع القيادة! تقيأت ورحت أمسح أصبعي بالتراب وبالحائط، ثم زحفت الى حوض ماء الدجاجات وغسلتها فيه كثيرا، وخرج سعدي بدشداشة كاملة وابتسامة بلهاء وملامح ميتة، لوح لي برضى وأبتعد يحمل زاوية رأسه العجيبة.).
إن السارد ليس لأهمية المشهدين فحسب، يصبح جزء من هذين الحدثين في الرواية، وإنما لتناقضهما مع بعضهما أيضا، من حيث سقوط سعدي في أحضان الرذيلة، وسمو قاسم الى مصاف الشهداء.   
إن أجمل ما في هذه الرواية، هو اقتران بدايتها بنهايتها، وبالعكس نهايتها ببدايتها، لا فرق بينهما، وتطابق شكلها الفني مع مضمونها، من حيث اتخاذ موقف واضح تجاه القائد، وعودة عجيل الى وعيه في فهم فكر وتوجيه القائد، وذلك من خلال الربط بين السهم الأبيض المسموم الذي قتل الشاب الكردي وهو يغازل وردة، بقرة أمها في بداية الرواية، وبين سهم وردة الأسود، وهو يخترق في نهاية الرواية، منتصف القلب الأخضر وقلب الوطن الأحمر، وذلك بعد أن لاحظت وردة، بأنها تفقد أشقائها الواحد تلو الآخر، وأن والدها صار ضئيلا، هزيلا ويزداد صغرا يوما بعد يوم: (دخلت غرفة الضيوف عائدة من التنور وطبق أرغفة الخبز الساخن على رأسها، وجدته لا زال محدقا في اللوحة.. عينان وخيط دم. كانت اللوحة عالية، فوضعت تحت قدميها مخدتين وارتفعت على أصابعها، وبحافة الخبزة المحترقة أنزلت سهما أسود أخترق منتصف القلب الخضر وقلب الوطن الأحمر...).
كما عمد السارد الى لعبة اللغز بالكلمات والجمل، وبث نمط من الكوميديا الخفيفة، وذلك من خلال تصريف الأفعال، الأول لتعميم معنى الكلمة والجملة على الكل، أي سحبها من الشخص المعني الى المروي له، والمحيطين وغير المحيطين به، ممن هم خارج اللعبة، كما مثلا في الكلمات والجمل التالية: أما محمود، فهذا الولد يحيره/ يحيرنا/ يحيركم.. لأنه غالبا ما ينساه/ ننساه/ تنسونه/ وينسى نفسه. أو كما في: تنساه العائلة كثيرا/ ننساه/ تنسونه/ وينسى نفسه.. لا أحد يحتاج اليه، لا يحتاج هو الى أحد، لا يكره أحدا ولا أحد يكرهه، لا يحب أحدا ولا أحد يحبه.. لا يذكرونه/ لن تتذكره إلا عندما تراه، ثم تنساه فور ابتعاده... وكما في الكلمات الثلاث التالية: ذاكرتك/ ذاكرتي/ ذاكرتكم.
والثاني عبر الجمل التالية:
- حينذاك لم يكن عجيل قد تزوج عمتي ولا أبي زوجا لأمي (فأين كنت أنا؟!).
- عمتي هي التي بكت على البقرة وليس العكس، لأن البقرة ماتت قبلها.
- ودخلت البقرة، شربت من طست شربها دون أن تفكر ببياض الماء، وهي لا تفكر، لأنها بقرة.
- ونسيت إبرة القنفذ تقريبا، فيما ظل عجيل يضع النظارات الطبية على عينيه حتى في ليلة عرسه، والعروس عمتي.
عم التبئير الصفر، أو اللاتبئير في هذه الرواية، حيث ينفذ السارد الى داخل الشخصيات، ويعرف كل شيء عنها، كما جاء في هذه الجملة مثلا: خمشت وردة خديها، شقت ثوبها وارتدت الأسود، (وودت لو تعوي مثل عبود). أو كما في الجملة التالية: رفع قاسم رأسه وتطلعت القرية، والعالم تطلع اليهم (وود لو يقول: أريد أن أرى شاطئ دجلة أو أقتلوني هناك حيث كنت أذهب منذ طفولتي.). كما وفي الجمل التالية أيضا: (أراد قاسم أن يوضح لأبيه أمورا كثيرة)، (أراد أن يحتضن أباه ويعتذر عن طوفان أحزانه)، (فكر أن الملا صالح سيضرب بأحمد مثلا لأبنه الفاشل.).
إن السارد في التبئير الصفر على اطلاع تام لكل ما يدور في ذهن شخصياته، كما في معرفته لرغبة وردة العواء مثل شقيقها، والشيء نفسه بالنسبة لقاسم قبل إعدامه، يفطن السارد بأنه يريد أن يعدم حيث شاطئ دجلة، وهكذا في الجمل الأخرى أيضا... إن سطوة التبئير الصفر لا يعني أن السارد يحد من أن تعبر الشخصية عن رأيها، كما مثلا في زمجرة عجيل وهو يصرخ محتجا:(إني أعبد وطني).
مثلما ساد التبئير الصفر في الرواية، كذلك فقد سادها التبئير الداخلي، ذلك كما تقول أشواق عدنان شاكر النعيمي:(أن التبئير داخلي ثابت من وجهة نظر مؤبر واحد هو بطل الرواية الذي يعبر عن ضجره وخوفه وما يراه أمامه بضمير المتكلم.)1، كما في المثال التالي وهو ينتقل من التبئير الخارجي الى الداخلي: (بعدها توالت الأعوام عليّ من بلد الى بلد، قي المحطات، ولا غرابة في ذلك لأن المحطات وجدت للنوم والانتظار والنهايات. ها انا وحيد أجنبي. وسط الأجانب، الهواتف مقطوعة، والرسائل لا تصل دائما، وليس ثمة أخبار عن أهلي في الصحف الاسبانية: هل شفيت أختي الحزينة؟ ماذا حدث لأبن عمي المحاصر في الجنوب؟ كيف يعيش جارنا الذي قطعت ساقه في الحرب؟ أين أصبح أصدقائي؟
تبدأ الرواية بضمير المتكلم (أنا) وتنتهي به أيضا، في كلا الصفرين من بدايتهما إلى النهاية، وفي الرقم (1) تبدأ كذلك بضمير المتكلم الى جملة:( ثمة شاب كردي) حيث من هنا تنتقل الى ضمير الغائب الى (هذا ما صرح لي به قاسم) حيث تنتقل ثانية الى الضمير المتكلم، وفي جملة:( تقول هو الوحيد الذي أخاف منه في هذه الدنيا...)، يمنح السارد حرية التعبير عن وجهات نظر شخصياته (تعدد الأصوات)، ومن هذه الجملة الى نهاية هذا الرقم، ينتقل السرد الى الضمير الغائب.
*المصدر:
تقنيات السرد من منظور النقد الروائي، أشوق عدنان النعيمي، الناشر دار الجواهري. الطبعة الأولى2014.
--------------------------------
*صباح هرمز: ناقد عراقي، من أعماله: (روايات عشتُ معها) و(بنيات السرد في روايات محسن الرملي).
**نشرت في (الحوار المتمدن) بتاريخ 10/6/2020م

قراءة: رواية: ذئبة الحب والكتب /صباح هرمز


ذئبة الحب والكتب..
بين الرمز.. وتعدد الأصوات في الشخصية المحورية 

صباح هرمز
لا تتشابه هذه الرواية مع الروايات السابقة لمحسن الرملي. وإذا كانت أصابع التمر والفتيت المبعثر وأبناء وأحذية وحدائق الرئيس، تفيض بتقنيتي التناص والإيحاء، فإن هذه الرواية تكاد تخلو من الثانية، وتنعدم من الأولى، مستعينة بدلا منهما بالرمز  وتعدد الأصوات في شخصية هيام، وتناول التفاصيل غير المهمة أكثر من الأحداث المهمة، فضلا عن المونتاج القاطع، وسرد الأحداث من جانبين، أحدهما من جانب  مؤلف الرواية الحقيقي محسن الرملي، والثاني من جانب بطلتها (هيام)، تجاوزا لرواياته الأربع الأخرى، من خلال قلب عملية السرد، بعكس ما هو متعارف عليه، بجعل هيام هي الراوية والمؤلف هو السارد الضمني، بقصدية إظهار هذه الرواية على أنها أقرب الى السيرة الذاتية منها الى الرواية الفنية، أتساقاً مع الوثيقة الموظفة في استهلال الرواية، وتوكيدا لمصداقية وحقيقة وقوع أحداثها.
إن هذا النمط من السرد الموظف من قبل السارد الضمني المتمثل في إقرار تأليف هذه الرواية من قبل الشخصية المحورية للرواية، وليس من تأليفه، إنما هو بهدف تدوين نص سردي آخر داخل نصه الروائي، أو كما يقول الناقد فاضل ثامر:(وهذا اللون الجديد من التجريب الروائي يعتمد بشكل أساسي على انشغال ذاتي من قبل المؤلف بهموم وآليات الكتابة السردية. إذ نجد الروائي أو القاص منهمكا بشكل واع وقصدي بكتابة مخطوطة أو سيرة أو نص سردي آخر داخل نصه الروائي أو القصصي. .)1. مذكرا إيانا هذا اللون من التجريب بمسرحية (ست شخصيات تبحث عن مؤلف لكاتبها بيرانديلو المعروفة باشتغالها على تقنية:(تمثيل داخل تمثيل). وعلى غرار روايتنا هذه رواية داخل رواية.   
وإذا كان السارد الضمني قد وظف هذا النمط من السرد في بداية الرواية، فإنه في نهايتها يعتمد على متلقي الرواية للعثور على منفذ يخرجها من مأزقها، بهدف إيجاد الحل الناجع لمتنها الحكائي. ويضرب فاضل ثامر إحدى روايات مؤنس الرزاز كنموذج لهذا النمط في تدخل أبطالها في سياق السرد، معلقا عليه على الوجه التالي:( هذا اللون من التجريب الذي وجد طريقه الى فضاء البنية السردية في أدبنا القصصي والروائي، والذي أثار الكثير من الاعتراضات والتحفظات. . . يمكن أن نطلق عليه مصطلح ما وراء الرواية أو (ما وراء السرد)، وهو أيضا وافد حديث في الرواية العالمية خلال ستينات القرن الماضي وبشكل خاص في الرواية الأمريكية...)2.    
مثلما أستخدم يوسف زيدان وعلي بدر في استهلال روايتيهما (عزازيل، وتل المطران) تقنية الوثيقة، في سعي منهما لإقناع المتلقي بحقيقة وقوع أحداثهما، وذلك من خلال لجوء الأول الى المقدمة التي كتبها باسم المترجم على أن رواية عزازيل، رواية سريانية، يعود زمن كتابتها الى عام 431م، والثاني عبر المقدمة التي كتبها بوصف مدينة تل المطران، مدينة تابعة لسهل نينوى، هذه المدينة التي لا وجود لها على أرض الواقع سوى في مخيلة المؤلف، كذلك فقد عمد الرملي الى الطريقة نفسها، ولكن باستخدام شاشة الكومبيوتر، وعثوره على الرسائل التي كتبتها هيام  من خلال  فتحه الإيميل الخاص بمدونة شقيقه حسن المطلك الذي أعدمه الطاغية، ليجد غير الذي يعرفه، (دابادا) 18 (وهي رواية حسن)، بدلا من دابادا 81، حيث تتزاحم في البريد عشرات الرسائل غير المقروءة، مرسلة من هذا الإيميل ذاته، وليس فيه رسالة أخرى من أي بريد سواه: (ترددت فكرت بإغلاقه وإعادة لكنني فتحت الأخيرة فوجدتها من امرأة تقول: وداعا يا حبيبي.... رحت أقرأ في الشاشة الرسالة التي بعدها والتي تليها... ثم انتقلت الى قراءة الأقدم، ابتداء من الرسالة الأولى).
يفهم المتلقي من خلال هذا الاستطراد، أن الرسائل التي يقرأها المؤلف من بداية الرواية الى نهايتها، إنما هي رسائل مكتوبة سلفا الى شخص مجهول. أي قبل أن يفتح الرملي الإيميل، إلآ أنه عندما يقرأها، تبدو له وكأنها قد كتبت للتو، بما فيها الرسائل التي يكتبها المؤلف الحقيقي (السارد الضمني) ردا على رسائلها، وهذه الرسائل في الحقيقة ليست ردا، بقدر ما هي تنفيث هموم رجل عانى من الفوضى السائدة في بلاده، نتيجة الحروب التي لا نهاية لها على يد الطاغية، وصعوبة تأقلمه مع غربة وقساوة الهجرة. في هذا الجانب غير المرئي تحديدا، تكمن الحيلة الفنية التي يلعبها المؤلف على المتلقي لتمويهه، أن هذا الكتاب هو ليس تأليفه، بل هو من تأليف (هيام).
(أنا محسن مطلك الرملي، مؤلف كل الكتب التي تحمل أسمي باستثناء هذا. ولو لم أكن شقيقا لحسن المطلك لكتبت ضعف ما نشرته حتى الآن أو لما كتبت أيا منها اصلا ولا حتى اهتممتُ بهذا الكتاب الذي وجدته صدفة حين كنت في الأردن، فغير حياتي كلها وجئت الى اسبانيا بحثا عن المرأة التي كتبته إنها امرأةً تبحث عن الحب وانا أبحث عنه). ما معناه، بتأويل مفردة الحب الى حب الوطن. أنها تبحث عن الوطن، وهو يبحث عنها، وبالنتيجة، كلاهما يبحثان عن الوطن.
ليس بوسع كل إنسان أن يتعامل مع الحشرات بالصيغة التي تتعامل معها هيام، وهي تقول: أنا صديقة النمل وحشرات الحديقة، كنت أطعمها وأؤنسها أيام القصف كي لا يصيبها الذعر وتشعر بالهجران).، إن لم يكن شفافا ويمتلك حسا مفرطا من الحب تجاه الكائنات قاطبة، البشرية منها وغير البشرية. وهيام واحدة من الخلق التي تتحلى بهذه الصفات. أنها لا تصادق الإنسان فحسب، بل حتى الحشرات. هذا هو التفسير التقليدي لشخصية هيام من حيث تعاملها مع الحشرات. أما من حيث تأويله، فإن هذا القول وإن كان موجها للحشرات، إلآ أنه تمرير يهدف الإنسان. ذلك أن الحشرات لا تهاجر خوفا من القصف، وإنما التي يخيفها القصف هي الطيور والحيوانات فضلا عن البشر. ولكي تتحلى الرواية بوحدة الموضوع، فليس من الحكمة، في الوقت الذي يقرن فيه السارد صداقته بالحشرات والطيور والحيوانات أن ينسى مصادقة الإنسان، وجل ثيمة الرواية عنه، عن الإنسان، وإن كلا الساردين، الرملي وهيام قد هاجرا بلديهما، هي الى اسبانيا، وهو الى الأردن. لذلك فإن المقصود من هذه الجملة هو الصداقة مع الإنسان، دون أي كائن آخر. ولعل هذا القصد يتضح أكثر في الجملة التي تليها:(أنا التي بكيت على نعل أنقطع. الناس والكائنات من يبكيها... فمن للنعل؟ هذا الذي ارتبطت معه بعلاقة طويلة وذكريات، حملني وحمى قدمي من حرارة الأرض وبرودتها وأشواكها وفضلات البشر، دفنته بعد ذلك في الحديقة بتكريم خاص، وتلوت قصيدة لوداعه بشكر فائق، ثم زرعت على قبره زهرة عباد شمس.).
وهنا يطرح هذا السؤال: ترى هل من عاقل يبكي على نعل أنقطع؟!
نعم هناك من يبكي، شريطة أن يكون هذا النعل قد لعب دورا مهما في لحظة من لحظات حياته، كما في حياة هيام التي ارتبطت معه بعلاقة طويلة، نتيجة حمايته لقدميها من حرارة الأرض وبرودتها وأشواكها وفضلات البشر.
ولعل هذه الإجابة تقودنا هي الأخرى بدورها الى سؤال آخر: ترى كم من مسافة سارت هيام على قدميها وأين كانت وجهتها لحين انقطاع نعلها؟ يبدو أنها كانت تسير في البراري، وفي ظل ظروف قاسية، وفترة طويلة امتدت الى فصلين متتاليين من فصول السنة الأربعة، صيفا وشتاء، الى أن بلغت مبتغاها.
ليس المهم كيف وصلت الى اسبانيا. المهم أنها عانت الأمرين في هذه الرحلة، أو هذا ما تريد أن تقوله، وبالطريقة التي عبرت عنها هي بنفسها عن معاناتها هذه، وبأسلوبها الخاص. والأهم من كيفية وصولها، هو فهم وإدراك معالم وأبعاد شخصيتها بوصفها أنثى غير طبيعية، ومتشبعة لعدة أصوات. أي أنها ليست الصوت الوحيد التي تبدي رأيها بما عانته في هجرتها، وإنما هناك أصوات أخرى تعبر عن نفس وجهة نظرها، وهي أصوات غير مرئية، ولكن هيام هي الناطقة باسمها، سواء كانوا ذكورا أم إناثا وتمثلها باعتبارها رمزا للوطن. وهذا يعني أنها ليست وحدها غادرت العراق بفعل الحرب، وعانت ما عانته من صعوبة الهجرة، وإنما كل من سنحت له الفرصة من الشعب العراقي، أختار هذا الطريق الصعب.
كما أن جملة:(أمنحك ثمرة من بطني)، تدل على المعنى ذاته، لأنها ترغب أن تحبل من الشخص الذي تحبه كي يسود السلم بدلا من الحرب، وينجبا أطفالا صالحين، كونها الأم الرامز الى الوطن. ومثلها جملة:( ورثت حب الوطن عن أجدادها) من خلال عبارة:(مارس الحب ولا تمارس الحرب).
تفيض الرواية بالجمل التي تدل على أن شخصية هيام ترمز للوطن، ولهذا سأحاول فقط بالإشارة اليها:
إن العلاج الوحيد للعراق والعالم من كل خرابه هو الحب
نتشابه أنا وجدي بأنه كان مثلي يبحث عن شيء غير مرئي، أو ربما كان يبحث عن الحب، ولهذا تنقل طوال عمره بين النساء.
أنا لم أخن الوطن.
خلف موريس اغتصبني أثناء اجتياح القوات الامريكية بغداد: (أي أن الوطن قد أغتصب من قبل الأمريكان).
لا أريد هذا الرجل: (لأنه من أزلام الطاغية المؤيد للحرب)، وأريد رجلا مثلك:
(لأنه بعكس زوجها يحب السلم ويكره الحرب).
عندي نهدان رائعان: بتأويلهما الى (نهران رائعان هما دجلة والفرات= الوطن). وتتكرر هذه الجملة أكثر من مرة.
أنا أرضي خصبة تعال أحرثني= (العملية الجنسية. فالولادة والإنجاب).
كنت أتمنى أن أكون النسخة المؤنثة من جدي بل أنا كذلك فعلا. انا ذئبة قوية الرقة وشراستي تكمن في حب الحب والكتب.
أشعر بأن دمه يجري في دمي وبأنني أكثر من يفهمه ويفكر به في العائلة. البعض يقول لي بأنني أشبهه، لي نظراته، عناده، وهزاله يسمونني أحيانا بـ(أبنة الذئب).
ثمة تقارب بين شخصيتي هيام و(المعلم الرفاعي) من حيث رغبة الاثنين بكتابة رسائل على شكل رواية لقراءتها من قبل الشخص الذي تحبه، والفتاة التي يحبها، ليقعا في حبهما، ولكنهما يفترقان في مسألة تحقيق هذا الهدف، وذلك بنجاح هيام، وفشل الرفاعي. نجحت هيام لأنها نشرت رسائلها، وكان هناك من يتفاعل معها ويسرد قصة حياته معها، وفشل الرفاعي لأن الفتاة التي كان يتوهم بأنها تحبه، لم تكن تحبه، بقدر ما كانت تعطف عليه. وأعترف لاحقا الرفاعي للرملي بأن المرأة الوحيدة التي تحبه وأحبها هي أخته، وأنه لم يثق بأية امرأة لأنه يرى فيهن جميعا صورة زوجة والدته. وتتجاذب هاتان الشخصيتان لبعضهما البعض في جانب آخر، وهو الجانب الأهم في الرواية، ومحورها الأساس، وهو حبهما للآخرين، ذلك أن الرفاعي فضلا عن عثوره على عمل للرملي حارسا لإحدى البنايات في الأردن، فقد كان بين فترة وأخرى يساعده بمبلغ من النقود التي توفر له لقمة من الأكل. وبالمقابل فإن هيام معروفة بحبها للحب والكتب. 
وهذا التقارب لا يقتصر بين هاتين الشخصيتين فقط، وإنما يمتد الى شخصيتي الرملي والمرأة السريلانكية، وذلك من خلال هجرة الاثنين من بلديهما والسكن في مكان أقرب الى السجن الانفرادي منه الى أي مكان آخر تتوافر فيه أبسط شروط الراحة، ولا سيما الرملي الذي يعيش في عمارة غير مكتملة البناء، والسريلانكية تعمل كخادمة ليل نهار في منزل نائي وشبه معزول عن السكان:(الى أن فوجئت ذات صباح لوجود امرأة تنظر إلي من خلف سور بيت جار يبعد حوالي مائتي متر عن هيكل البيت الذي أحرسه.). الجميل في علاقة الحب التي ارتبطت بينهما، أنها مثل حياتهما الأسيرة في مكان أقرب الى السجن، اقترنت بخلف القضبان. بدأت باحتضان الكفين، وتطورت الى القبل، وانتهت بممارسة العملية الجنسية من خلال القضبان:(لا أنسى ما حييت ذلك المشهد في ليلة مقمرة حين تعرت تماما استجابة لطلبي. صعدت على كرسي كي أراها وألمسها كاملة...).
إذا كانت شخصية هيام تتقارب مع شخصية المعلم الرفاعي في بعض الجوانب، فإن شخصية (بشعة)، تكاد أن تكون نسخة مطابقة لشخصية هيام، ليس لأن جمالهما يفوق الوصف، بل لأن كلتيهما يشتركان معا في أكثر من صفة. والصفة التي تشدهما أكثر من الصفات الأخرى الى بعضهما البعض هي التمرد. هيام عبر انجذابها للانمطية، أو كما هي تقول:( ميالة في داخلي للعبثية ولا شيء أسمه ممنوع ما دمت لا أضر بأحد.). وبشعة من خلال استطاعتها فعل كل ما تفعله امرأة وكل ما يفعله رجل. والصفة الثانية المشتركة بينهما هي ذئبيّتهما. هيام في كونها ذئبة قوية الرقة، وشراستها تكمن في حب الحب والكتب، وبشعة بنظرتها الذئبيّة الشبيهة بنظرة جد هيام. وإذا كانت هيام الرقم الأصعب، وكل من هم سواها صفرا أوهم أرقام سالبة لا تؤثر أصلا بمعادلة حياتها، فإن بشعة ملكة أسطورية، لها سحر وهيبة آلهة قديمة، أو كما تقول هيام:(إنها ذئبة فعلا، وتستحق هذه التسمية أكثر مني، إنها برية متوحشة، رقيقة جارفة مداوية. إنها ملكة سومرية.).
تتنافر شخصية بشعة مع شخصية هيام في جانب واحد فقط، وهو بمن تتزوج لأن لا ذكر يستحق الزواج بها، الا مثل آشور بانيبال، حمورابي، جلجامش، نبو خذ نصر، بينما هناك العديد من الرجال الذين يستحقون الزواج بهيام، غير أنها اختارت الرملي من بينهم، لأنه يجمعه معها حب الحب وحب الكتاب. الا أن أكثر الشخصيات التي تتنافر مع هيام، هو زوجها(عبد)، لأنه يحب الحرب ورجل متدين ومن أزلام الطاغية ولا يسمح لها بالرقص ويطأها عنوة. لذلك فهي لا تريد هذا الرجل، وترغب أن تكون كيانا مستقلا، وتحب رجلا مثل الرملي لأن له قريحة تستوعب طيشها.
إن أجمل ما في الرواية، هو المشهد المكرس للرقم (8) الذي جاء تحت :(عنوان بشعة الجميلة)، مصورا كشريط سينمائي عملية السحاق الجارية بين بشعة وهيام. مذكرا إياي بروايات البرتو مورافيا التي تفضح النظام الرأسمالي من خلال عملية الجنس. وهذه الرواية عبر العملية نفسها، تفضح الطاغية وخراب الحروب ودمار الهجرة.
لإكساب أحداث روايته طابعا واقعيا، ووقوعها بصورة حقيقية، فقد أستخدم المؤلف المونتاج القاطع بشكل ملفت للانتباه. والمونتاج كما هو معروف يأتي بعدة صيغ، كالمونتاج القافز، والفجائي، والمتقاطع، والمتوازي، والصدمة، والنفسي، والمتقابل . . .   الخ.. الا أنها لغزارتها، سنتصدى لأربعة انواع منها فقط.
أستخدم أول ما أستخدم المؤلف المونتاج المتوازي، متمثلا في الانتقال من الحديث عن البيت الطيني لجد هيام الى الهدية التي يتمنى أبنها شراؤه لها بعيد الأم ليأتي رده: كأس جراند، ويعني بيت كبير بالإسبانية. أي أن المونتاج جاء هنا بقصد التماثل، أو كما يقال الشيء بالشيء يذكر. ويمكن أن يدرج هذا المونتاج أيضا تحت باب المونتاج المتقابل، فضلا عن المونتاج المتقاطع. بيت طيني متقابل لبيت كبير، بيت في قرية بائسة متقابل لبيت في مدينة أوروبية متطورة، وهكذا جملة من المتقابلات والمتوازيات. أما المونتاج الفجائي أو المباغت، فقد وظف أثناء سرد هيام لخطوبة عدنان لإحدى صديقاتها، بهدف إثارة غيرتها، فتتوقف فجأة عن السرد، بذريعة أنها لا تستطيع المواصلة، لأن أبنها يريد أن يلعب بالكومبيوتر. والمونتاج الثالث هو المونتاج المتقاطع الذي جاء أثناء حديث مها عن موضوع ما، وتداخل المروي له معها دون أن يعرف حديثه، وهو الشخصية المشارك لها في الرواية، عبر مخاطبته بجملة:(لأكمل الفيلم.). أما مونتاج الصدمة، فقد تمثل في ليلة زفافها وزوجها يباغتها حال انفرادهما بجملة:(افتحي ساقيك)، كما يمكن أن يدرج هذا المونتاج تحت باب المونتاج المباغت أو المفاجئ، ولكنني أراه أقرب الى المونتاج الصدمة.
مثله مثل استخدام الوثيقة والمونتاج، لإقناع المروي له بحقيقة وقوع أحداث الرواية، فقد أستخدم السارد الضمني الى جانب هذين التقنيتين، تقنية عدم ترتيب الأحداث في سردها. ويقر على لسان هيام بتأخر الأحداث وتقدمها دون الاستناد الى نظام معين، ولمرتين، وفي كل مرة بأسلوب مختلف، ولكنه يكسب المعنى ذاته. في المرة الأولى وهيام تقول:(قد لا أعرف الترتيب، فالذاكرة أنثى مزاجية)، وفي الثانية وهي تقول:(هل لاحظت بأنني لا أكمل أي شيء الى نهايته). في إشارة الى المونتاج القاطع أيضا. كما أنه يكشف عن تقنية أخرى لنفس الغرض، وهي أن بعض التفاصيل غير المهمة، تحفر لنفسها خنادق في ذاكرة هيام أكثر من أحداث كبيرة، بالإضافة الى التعويل على التجريب واكتشاف طرق أخرى في السرد منها التركيز على الثيمة الجانبية الأهم وترك الموضوع الأساس المعروف من قول الشيء ذاته عبر تناوله من جانب مختلف. أي:(أن البطل منشغل بمشكلات الفن الروائي وتقنياته ورؤيته).3 وإذا كان:(غائب طعمة فرمان على حد قول الناقد فاضل ثامر في رواية ظلال على النافذة، يضمن الروائي نصا مسرحيا)4، فإن مؤلف روايتنا هذه، ضمنها نقدا مسرحيا طويلا، ولكن هذا التضمين لم يأت عن فراغ، أو جاء إقحاما لسرد التفاصيل، وإنما مقرونا بجانبين مهمين من جوانب الرواية، وهما التقنيات التي وظفها فيها من جهة، ومن جهة أخرى، للتأكيد على أن هيام ترمز الى الوطن، وذلك من خلال الصراع القائم بين أنتيكونا وخالها كريون على دفن جثة شقيقها، في إشارة واضحة الى خيانة الطاغية المتمثلة بكريون للوطن المتمثل بهيام المدافعة عنه.    
على الأغلب تقصد من هذه التفاصيل، في علاقاتها المتعددة مع بعض الأشخاص الذين صادقتهم، وتكريس أكثر من عشر صفحات لبشعة الجميلة. فإذا كان هذا الأمر كذلك، فلأنها استمدت تجربة الحب والكراهية منهم. من هؤلاء الذين عاشرتهم، وأصبحوا جزءا من حياتها. الحب من بشعة وحسن المطلك ومحسن الرملي، وجدها. والكراهية من زوجها وحارس والدها الشرطي وزكريا وخلف موريس وهاني الإسكندراني و.. و.. بشعة التي تصفها هيام، بأنها سيدة الأرض والشمس وسيدتي، وتسمي محسن الرملي باسم شقيقه حسن المطلك، لأنها أحبته دون أن تراه، وكان مثلها يحلم بالخلاص من الدكتاتور. ومحسن الرملي التي هي على استعداد للذهاب اليه أينما كان، وجدها التي كانت تتمنى أن تكون النسخة المؤنثة منه. وبالمقابل كراهيتها لزوجها الذي حال انفرادهما ليلة الزواج قال لها:(افتحي ساقيك)، وحارس والدها الشرطي الذي كان يلمسها، كلما قادها من يدها أو رفعها الى السيارة، ويتلصص عليها من النافذة عندما تغير ثيابها. وزكريا الذي كان يدرك بأنها لن تخون زوجها، ثم ذهب كل منهما باتجاه. وخلف موريس الذي لم يبق لهذا الكائن المسخ من أثر في نفسها الا بقية لطخات سيئة. وهاني الإسكندراني الذي كان يروم تجربة امرأتين في سرير واحد. ولعل تقييمها للمثقفين بهذه الجملة، دليل على مدى إدراكها وتفهمها لهم، وهي تقول:(المثقفون لا يريدون المرأة الواثق من نفسها، وإنما يريدون المرتبكة المشتتة الناقصة الضعيفة كي يعيدوا تركيبها وفق مزاجهم.).
أعود الى التقنية التي يكشف عنها السارد الضمني، في كون هيام هي الشخصية نفسها من بداية الرواية الى نهايتها، أم أنها شخصية لعدة شخصيات تحت أسم هيام؟ أم شخصية متعددة الجوانب (مركبة)؟
أوجز إجابة السؤالين الأولين، بالإجابة على السؤال الأخير، لعلاقته بهما، بالأحرى إن الإجابة على السؤال الأخير مرهون بالإجابة على السؤالين الأولين، في كون شخصية هيام، شخصية مركبة.
أبدأ بعلاقتها مع زوجها، وهي تقول:( بدأت علاقتي تتحسن مع زوجي بعد أن رفعت شعار طز بالدنيا. بغض النظر عن هذا الشعار، باعتباره ليس جديدا عليها، بوصفها امرأة عبثية. وبجانب عبثيتها هذه، تتصف بالتمرد. والعبثية والتمرد مصطلحان يتناقضان مع بعضهما البعض، وإذا ما اجتمعا معا، يبلغ المرء حد الجنون. وهيام هي كذلك، مجنونة حد العظم، وها هو يوسف يصرخ وهو في أوج غضبه متلعثما:(أنت قبيلة مجانين)، ذلك لأنها رفضت الزواج به، وتجننه بتقلباتها. ثم صمت قليلا ودلى رأسه الكبير على صدره وأضاف بلغة حزينة:(مثل العراق). وهي إشارة واضحة الى أن هيام ترمز الى الوطن من خلال صرخة يوسف. وهو تأكيد آخر الى أنها كذلك. سيما إذا عرفنا الى جانب هاتين السمتين اللتين تتحلى بهما، أنها دخلت التصوف وخرجت منه. إذن أن شخصية هيام تتأرجح بين ثلاثا من أخطر النزعات التي تؤهلها أن تمنح بلقب الشخصية المركبة وبامتياز، إن لم تكن مفردة (بتقلباتي) التي تأتي على لسان هيام لوحدها، تكفي أن تمنح هذا اللقب. مصادقتها لعدد كبير من الرجال، قد تبدو طبيعية، ولكن حبها لخلف موريس السكير والمفلس، بالإضافة الى اصطحابه معها الى بيتها في غياب زوجها، ناهيك عن إعجابها بملابسه الرثة ونحافته المخيفة وأسنانه الصدئة، ومن ثم اغتصابها بمسوغ الثمل، مسألة غير طبيعية، وتدل على عبثيتها هي أكثر منه، من موريس الذي تنعته فيما بعد للطخاته السيئة التي تركها في نفسها ب (المسخ)، عائدة الى رشدها وطبيعتها الاعتيادية، أثر تشخيصها للفخ الذي أصطادها فيه. لتضاف الى شخصيتها صفة رابعة.
أما تمردها، فهو مثل عبثيتها، فاضت به الرواية، ابتداء من تشبه نفسها بجدها الذئب، وكونها حفيدة شهرزاد التي تؤجل موتها، كما أجلت حفيدة عبدالله كافكا في رواية (حدائق الرئيس) موتها، الى دعوتها الى استنفار الحواس، بعكس رامبو الداعي الى تدميرها، وقوعا تحت تأثير آراء حسن المطلك، وهي تخاطب محسن الرملي بهذه العبارة:((بالمناسبة يخامرني إحساس بأنك تخشى التورط معي. . فالذي يعرف ويعجب بحسن المطلك حقا.. من المؤكد لا يخاف. فهو القائل:(إن الرجل الحقيقي هو الذي يحذف ساعات الخطر الحقيقية ويقترب من القرار بإلغاء صيغ التعجب في تحجيم الذات. هناك فقط شيئان. عمود الحياة وحفرة الموت..).
إن الإجابة على أن هيام هي الشخصية نفسها من البداية الى النهاية، أم أنها شخصية لعدة شخصيات تحت أسم هيام، اقترانا بشخصيتها المركبة، وإن كان المؤلف في مكان ما من الرواية يشير الى ما يعني الى أنه، حتى هو يجهل الإجابة على هذا السؤال. بيد أنها تتسم ببعض صفات شخصيتي بشعة والسريلانكية، الأولى من خلال شخصيتها القوية وثقتها بنفسها، مثلها مثل هيام التي تريد أن يكون لها كيانا مستقلا، والثانية عبر التحرر من سجنها الخانق الى المتعة الجسدية التي حرمت منها لإعالة أطفالها، شأنها شان هيام التواقة للتحرر من قيود زوجها، وملء الفراغ الذي تعيشه بحب، الكتب وحب الحب.
إن وصف كلا الشخصيتين، بطل الرواية والسارد الضمني لما يعتمل في داخلهما من معاناة، واجهتهما جراء الحروب التي خاضها العراق، وفي هجرتهما القسرية، هو تعبير ضمني عن هويتهما الشخصية. وبهذا الخصوص تقول السيدة أشواق عدنان التميمي:(وفي بناء الملامح الداخلية ينحي الكاتب نفسه جانبا ليتيح للشخصية أن تعبر عن نفسها وتكشف عن وجودها بأحاديثها وتصرفاتها الخاصة.)5.
وبدلا من نأي كتابنا عن سلوك وتصرفات الشخصية، نجدهم يقحمون أفكارهم وقناعاتهم فيها. وتضرب السيدة أشواق رواية (الأشجار واغتيال مرزوق) لعبدالرحمن منيف نموذجا لذلك، شأنها شأن روايتنا هذه التي تنبع أفكار شخصياتها المحورية، من موقف المؤلف تجاه الطاغية والحروب التي أشعل فتيلها وأرغم الناس على الهجرة. والشخصيات الثلاث المحورية:(هيام، السارد الضمني، وبشعة) تنضوي تحت لواء الشخصية المستديرة، ذلك أن مثل هذه الشخصية، كما تقول السيدة أشواق:( لا تستقر على حال ولا تصطلي على نار، ولا يستطيع المتلقي أن يعرف مسبقا ماذا سيؤول أمرها، فهي متغيرة الأحوال، ومتبدلة الأطوار، وتتميز بتغير المواقف، وغناء الحركة داخل الأحداث، وقدرتها العالية على تقبل العلاقات مع الشخصيات الأخرى والتأثير فيها).6
ولو راجعنا شخصية هيام، لنجد أن كل الذي تشير اليه سيدتنا الفاضلة، قائم في شخصيتها، ابتداء من تغيير مواقفها من التمرد والعبثية الى التصوف، وانتهاء بزحمة علاقاتها مع الآخرين رجالا ونساء، بالإضافة الى عدم معرفة الى ما ستؤول الأمور في نهاية الرواية، بدليل أن السارد الضمني الذي هو المؤلف الحقيقي للرواية، يلجأ الى المتلقي ليجد الحل المناسب لها.
------------------
المصادر:
1-المبنى الميتا- سردي في الرواية. تأليف فاضل ثامر. الناشر: دار المدى. الطبعة الأولى، عام 2013.
2-المبنى الميتا- سردي في الرواية. تأليف فاضل ثامر. الناشر: دار المدى. الطبعة الأولى، عام 2013.
3-المبنى الميتا- سردي في الرواية. تأليف فاضل ثامر. الناشر: دار المدى. الطبعة الأولى، عام 2013.
4-المبنى الميتا- سردي في الرواية. تأليف فاضل ثامر. الناشر: دار المدى. الطبعة الأولى، عام 2013.
5-تقنيات السرد من منظور النقد الروائي. تأليف: أشواق عدنان شاكر النعيمي. الناشر: دار الجواهري. الطبعة الأولى، عام 2014
6-تقنيات السرد من منظور النقد الروائي. تأليف: أشواق عدنان شاكر النعيمي. الناشر: دار الجواهري. الطبعة الأولى، عام 2014.
--------------------------------
*صباح هرمز: ناقد عراقي، من أعماله: (روايات عشتُ معها) و(بنيات السر في روايات محسن الرملي).
**نشرت في (الحوار المتمدن) بتاريخ 12/6/2020م
                                                     صباح هرمز