الخميس، 25 يوليو 2019

قراءة في رواية: أبناء وأحذية /صباح هرمز



أبناء وأحذية.. بين أكون أو لا أكون
.. وبين إقناع الشيء مقابل نقيضه
صباح هرمز                                                                      
يبدو أن محسن الرملي في هذه الرواية، يسعى من خلال تجسيد نزعة تناقض الشخصيات مع نفسها، وتناقضها مع الشخصيات الأخرى، مثلها مثل روايته (تمر الأصابع)، وبموازاة هذه النزعة مع تمرد الشخصيات، يسعى الى إيجاد أسلوبا خاصا به، يميزه عن الأساليب الروائية الأخرى. وهذا حق طبيعي، ذلك أن ما من أديب لا يحلم أن يفطن المتلقي على كتاباته لمجرد قراءة السطور الأولى منها، أو بمعزل عن توقيعه، كروايات غابريل غارسيا ماركيز مثلا، ولكن بالرغم من ذلك، فأن لهذا المنحى وجهان، أحدهما سلبي المتمثل في نمطية هذا الأسلوب، إذا ما تكرر كثيرا، والآخر إيجابي الكامن في صعوبته، وعدم قدرة كل أديب على التصدي له. إن نفاذ لعبة الرملي الروائية، عبر التزاوج بين منحى الوجه الأول في أسلوبه السهل، مع الوجه الثاني في صعوبته، جعل من هذه الرواية أن تقرأ بشغف وتوق شديدين، شأنها شأن كل الأعمال الأدبية والفنية السهلة الممتنع.
تدور أحداث هذه الرواية بين ثلاث دول، وهي العراق وأسبانيا وكولومبيا، حيث يقرر ساردها (أمير)، بمغادرة العراق، قاصدا أسبانيا، نتيجة الخلاف القائم مع زوجته (زهراء) حول كيفية دفن أبنتهما المولودة حديثا، وعدم رؤيتها لها، لأنها كانت في غرفة العمليات تحت تأثير التخدير، وذلك بعد ان تطلب الطلاق منه. ولشعوره أثر ذلك بالإغتراب عن كل ما يحيط به، ووقوعا تحت تأثير شقيقته (إنضباط ) التي تحضه على الهجرة يلتقي هناك بأبن خاله (منهل) الذي كان يحب شقيقته (إنضباط) قبل أن يهاجر الى أسبانيا، وتحبه هي أيضا، ولكن لسيرته السيئة، يأبى والدها الإقتران به. ليستقبله في مطار برشلونة، ويقله بسيارته الفارهة الى المطعم الذي يمتلكه، وقد علق على واجهته قطعة كبيرة تحت عنوان: (مطعم إنضباط للمأكولات العربية)، في إشارة واضحة الى أن منهل ما زال يحب شقيقته، وطمأنه الى أنه سيعمل معه في المطعم إلى أن يتعلم اللغة، ليصبح وقتذاك هو المسؤول عن المطعم، وأعطاه غرفة واحدة من الغرفتين الموجودتين في شقته المشيدة فوق المطعم، والغرفة الأخرى له، أي (لمنهل).
يعول السارد المتن الحكائي لبناء هيكل الرواية على الجملة المعروفة في مسرحية (هاملت لشكسبير، وهي:( أكون أو لا أكون، تلك هي المسألة. أيهما أنبل للعقل: أن يحتمل ضربات القدر الغاشم، أم أن يشهر سلاحه بوجه بحر من المصائب، ويكافح حتى يقضى عليه).
كما يبدو من مجريات أحداث الرواية، أن السارد لضعفه وتردده، من أول تجربة له في الحياة مع زوجته، اختار الجانب الأول من هذه الجملة، خاضعا لضربات القدر من خلال عدم الدفاع عن نفسه، والهروب من مواجهة المشكلة التي تعرض لها. وهذا الضعف هو أحد الجوانب المتعددة من شخصية هاملت، ولهذا تزعم زهراء بأنها كانت تتمنى أن تمثل دور هاملت وليس دور أوفيليا الرقيقة، ذلك أن شخصية زهراء أقرب الى شخصية هاملت في جانبه الآخر القوي وليس الضعيف، ولعل انفجارها، وبشكل غير متوقع، كالقنبلة في وجه أمير، عندما عرفت بأنه قد دفن طفلتهما بدون أن تراها، ولم تدعه أن يلفظ حرفا واحدا دفاعا عن نفسه، وحتى أن يسدي المسوغات التي حدت به أن يتصرف عن غير إرادته بحكم الظروف المفروضة عليه، خير دليل على ذلك:( تقلبات معادلات القوة والضعف ، قوته في لحظات الضعف، ضعفه في لحظات القوة، زعزعة عرش أمه خوضها لمعركة خاسرة. فيه تجسيد لواحد من أبرز نماذج الفجيعة الإنسانية). في إشارة الى قوة زهراء في ضعفها، أثناء تخديرها في المشفى، والى ضعف أمير في لحظات قوته، وهو عاجز عن الدفاع عن نفسه، إثر دفن أبنته الطفلة، في إتصال هاتفي مع زوجته.
وبهذا الخصوص، خصوص التحول السريع والمفاجيء في شخصية زهراء تجاه زوجها، يخضع هذا التحول لمسوغ واحد من بين مسوغين، ولا مجال لمسوغ ثالث بينهما، فإما أن هذا التحول مقنع، أو غير مقنع. فهو غير مقنع، إذا سلمنا أن العلاقة التي أرتبطت بينهما أستندت الى العوامل الثلاثة التالية، أولهم هو الحب الذي عاشه أمير وزهراء بإخفاء العلاقة التي تربط بينهما عن أهلهما، وثانيهما هو سعيهما بدون علم أهلهما أيضا بالدراسة في الكلية نفسها، وثالثهم قبول كلا الطرفين العيش في غرفة واحدة بائسة. إعتكازا على هذه الأسباب، فإن هذا التحول، غير مقنع، لتطرح مجموعة من الأسئلة نفسها بإلحاح: ترى هل من المعقول ان ينقلب الحب الذي يقبل بأبسط متطلبات الحياة الى الطلاق؟ وهل من المعقول أن من يتخلى عن والديه وأقاربه ويرفضهم من أجل من يحب، أن يتصرف بالصورة التي تصرفت بها زهراء؟ ولعل هاني كان على حق عندما سمى ما فعلته زهراء بالسارد ظلما. لا بل إن تبعيته لمنهل هو ما يؤكد أكثر ضعفه، ليس في صغره فحسب، وإنما عقب الالتحاق به الى أسبانيا، بعد الطلاق من زوجته ووفاة أبنته. إن ميل زهراء لشخصية هاملت دون أوفيليا، جاء بفعل إكتشافها، ضعف شخصية أمير وبالمقابل قوة شخصيتها.
أما إذا سلمنا أن التحول السريع والمفاجيء في شخصية زهراء، قد جاء مقرونا بالارتكاز على شخصية هاملت القوية في حالات ضعفه، أي بشهر سلاحها بوجه المصائب، عبر رغبتها أداء دور هاملت أثناء الاختبار بدلا من أوفيليا، لأن عبارة هاملت المعروفة:( أكون أو لا أكون) هي حبكة الرواية. فعندئذ لا ريب يكون هذا التحول مقرونا بعنصر الإقناع، وتزول الشكوك حول عدم صواب مسوغ تحول زهراء تجاه زوجها السارد/ أمير.
كما يمكن قراءة شخصية زهراء، بالأحرى تحولها، فضلا من الزاويتين السالفتي الذكر، من زاوية أخرى، قد تبدو غريبة بعض الشيء، وهي كونها رمزا للوطن، واعتبار أمير أنموذجا للمواطن الذي أئتمنت عليه، وأودعت عنده أغلى ما تملكه وهو أبنتها، ولكنه لم يستطع أن يحافظ على هذه الأمانة بصورة صحيحة، أثناء ولادة زوجته العسيرة. ولا تتضح هذه القراءة لشخصية زهراء إلا في نهاية الرواية، عندما يقرر أمير العودة الى الوطن من أجل اللقاء بزهراء: (لن أتردد هذه المرة، لن أخاف، سأبحث عنها، سأجدها، سأواجهها، سأسمعها وأجبرها على سماعي، وليكن ما يكون).
يبدو لي أن التفسيرين الأخيرين أقرب إلى بنية الرواية، لسعي مؤلفها محايثة أسلوب أمبرتو إيكو المعروف بالحفر وتقصي الغامض والمجهول والمسكوت عنه في الأحداث، من خلال التركيز على الشيئيات، وجعلها أشبه بألغاز لا يركن إليها المتلقي إلا في نهايات الرواية، كما باغت المؤلف متلقيه بالتحول غير المتوقع في شخصيتي السارد ومانويل. إن الرواية العراقية خاصة والعربية عموما، سيما في السنوات القليلة الفائتة، بدأت تظهر عليها تأثيرات رواية (أسم الوردة) لأمبرتو إيكو. على سبيل المثال لا الحصر، إن نجم والي في روايته (بغداد مالبورو) يشتغل على النهج ذاته، ولكن على اللغة، من حيث الخطل والإسهاب فيها بالتركيز على أدق تفاصيل الشيئيات.
لا يتحول أمير من شخصية هاملت الضعيفة والمترددة في اتخاذ قرارها إلى الجانب الثاني من هذه الشخصية وهو القوي، إلا بلقاء ابنته الطفلة التي أنجبها من (كارمن) الأسبانية التي أنقلبت إلى العصيان والتمرد عليه، بعد أن عرفت أن الرجل الماثل أمامها هو والدها، وهي تحذره من لمسها، رافضة أن تخدم الحقراء، وتبصق في وجهه، ليخرج من بار كارمن وهو يشعر بأكبر إهانة في حياته: (إهانة لم أتلق بقوتها لا من أبي ولا من معلمي الأبتدائية، ولا في الجيش، ولا من أحد على الإطلاق. شعرت بأن لسانها الذي أخرجته نحوي كان خنجرا طعنني في صميم قلبي، وأن بصقتها رصاصة قاتلة في ظهري، أو أن شاحنة قاذورات أفرغت فوقي بإستحقاق). أي أنه من لحظة إتخاذ قراره بالعودة إلى الوطن ومواجهة زهراء، تحول أمير من شخصية تحمله لضربات القدر إلى شخصية إشهار سلاحه بوجه المصائب.
تتكرر مفردة (الحذاء) في الرواية أربع عشرة مرة بالتمام والكمال، في المرة الأولى كمدا على تهنئة صاحب مقهى أبي الفضل للسارد بحذائه الجديد، وهو لا يعلم بأن الذي يحمله هو جثة طفلته وليس حذاء. وتأتي مفردة الحذاء للمرة الثانية على لسان السارد، وهو في معرض وصفه لشعر زهراء القصير وتنورتها القصيرة، لينتقل بعد ذلك إلى حبها للأحذية الرياضية، في إشارة واضحة إلى إنجذابها، بحكم دراسة السارد في كلية التربية الرياضية إلى الهوايات التي يمارسها هو، وبالنتيجة إلى حبه. أما في المرة الثالثة فقد جاءت، عندما كان يحتضن أمير أبنته على صدره لدفنها، فيصادف صناديق أحذية، فيختار من بينها أطولها، ويمدد الجثة فيها.
وقدرة الرملي الوصفية للمشاعر المكلومة عنده لا تظهر في ذروتها، إلا عندما تبلغ المأساة حدا يعجز وصفها، ليس في هذا المشهد فقط، وإنما في كل المشاهد الأخرى التي من هذا النمط: (اخترت من بينها أطولها، ربما هو لجزمة أنثى. كان شكله يشبه التابوت الصغير. قرفصت مستندا على الجدار في عتمة الزقاق. واضعا طفلتي على ركبتي وسحبته. تلفت حولي، فلم أر إلا ظلا وحيدا يقترب. سارعت في فتحه، فلم أجد فيه سوى بعض الورق. وضعته على الأرض ومددت فيه جثة طفلتي، فشعرت بأنها ترتاح، أو ربما أنا الذي أرتحت، وقبل ان أضع الغطاء فوقها، خشيت أن يخنقها ذلك. وضعت أصابعي برفق على ما تخيلته صدرها كأنني أتأكد من أنها تتنفس. . .). وفي المرة الرابعة وهو في طريقه الى المقبرة، يمر من أمام محل خاص بثياب الأطفال، حين يرى خلف الزجاج رفا من الأحذية الصغيرة. يفكر أن يكسر الزجاج ويقطف ذلك الذي باللون الوردي لكي لا تذهب طفلته الى العالم الآخر حافية. وفي الخامسة في إجازته التالية في بغداد، عندما تسوقه قدماه الى المحل نفسه، ليشتري الحذاء الوردي الذي أعجبه، في سعي منه أن يذهب ويضعه على قبرها. ولكن خوفا من أن يكون قبرها قد أندثر ، أو أن أحد الكلاب قد نبشته، أو أن يسمع صوتها وهي تعاتبه، عدل عن سعيه هذا. وفي المرة السادسة وهو يعلم شقيقته إنضباط صناعة الأحذية، وفي المرة السابعة مباغتة منهل له بإهدائه باقة ورد، في نهاية أغصانها مجموعة في إحدى فردتي حذاء طفل رياضي. والثامنة عندما أفتتح له منهل محلا صغيرا بالأحذية، وفي التاسعة في زيارته لكارمن في مشفى الولادة، حاملاً معه باقة ورد وحذاء أطفال صغير، وفي العاشرة والحادي عشرة والثانية عشرة والثالثة عشرة، جلب ماكنة خياطة الى المحل لصنع الأحذية، وفي الرابعة عشرة، تصبح حياته أبناء وأحذية.
لقد غدت حياة السارد كذلك، أبناء وأحذية، لا لأنه يشعر بتأنيب الضمير تجاه طفلته، لعوزه المادي في طريقة دفنها فحسب، بل لأنه أنجب سبعة وعشرين طفلا في أسبانيا وكولومبيا، دون أن يعرف هؤلاء الأطفال والدهم. وتلافيا لهذا الشعور، فقد قرر صناعة أحذية الأطفال بتعاون شقيقته وكوثر وحتى السائق معه، وبالمقابل فقد جمع منهل كل أطفال أمير في منزله، لمناسبة ميلاد أمير مع أمهاتهم، والبعض منهن جئن بصحبة أزواجهن، أو كما يقول السارد:(ومنهن من كنت قد نسيتهن تماما، ولكنني تذكرت وجوههن أثناء تبادل التحيات دون ذكر اسمائهن...).
وإذا كانت عبارة (أبناء وأحذية) قد تكررت أربع عشرة مرة، موظفا إياها السارد كتقنية من تقنيات هذه الرواية، فإنه وظف تقنية (الإيحاء) سبع عشرة مرة. إبتداء من قول زهراء:(إنني أريد دور هاملت). فشروعا من هذه العبارة تتضح معالم وأبعاد شخصية زهراء القوية والتي توحي إلى أنها ستصطدم بأمير، لما تتصف به شخصية هاملت من تمرد.
أما الإيحاء الثاني الذي يأتي في الرواية، فهو العبارة التي يطلقها السارد في جملة: (فكنت أتبعه، بإعتباره أكبر مني). وبقدر ما هذه العبارة موجهة إلى منهل، ذلك لأنه كان معروفا بمنهل الحرامي، وهو ليس بحاجة إلى تعريف، فهي بالقدر ذاته موجهة إلى أمير السارد، لتوحي بأنه سيتبعه لاحقا أيضا وليس عندما كان صغيرا فقط، كما أنها توحي أن منهلا أو (مانويل) لا فرق، مثلما كان يورطه في الصعود الى الأشجار وتخريب الأعشاش وكسر بيوض الحمام، كذلك فإنه سوف يورطه سواء في أسبانيا بالعمل في محله، أو السفر إلى كولومبيا، حيث سيعيش هناك شبه معتقل لعشر سنوات، بسبب وجود قضايا قانونية ضده:(لأن مانويل كان يستخدم وثائقي وحسابي البنكي في الكثير من عمليات إرسال واستقبال الحوالات النقدية والنصب والإحتيال).
وتوحي: عبارة طويلة اللسان إلى الموقف غير المتوقع من زهراء حيال زوجها، أثناء إخبارها بوفاة طفلتهما، وهي تصرخ وتشتمه على الهاتف: (كانت تطلق الكلمات بصخب وسرعة كبندقية كلاشنكوف ترص رصاصها في صليات متواصلة. . .). والرابعة في: (سلمت ذراعي لتكسيرها). إن هذه العبارة في الوقت الذي تأتي فيه من أجل فصله من كلية التربية الرياضية، وقبوله في كلية الفنون الجميلة، توحي في الوقت نفسه إلى أنه سيكسرها من أجل زوجته أيضا، بالأحرى أنها هي التي ستكسر يده، عندما تطلب الطلاق منه، أو هي تطلقه. وفي الخامسة: لم نعترف بحبنا إلا في المقبرة، وبكينا. ما يوحي إلى أن حبهما لا ينذر بخير، وأنه سيعود بهما، أي هذا الحب، إهذا المكان لزيارة قبر طفلتهما فرادى، هو وزوجته زهراء. وفي السادسة، توحي عبارة: أحببت هذا البيت التي تطلقها زهراء، إلى أن حلمها سيتحقق بزواجها من أستاذها، لتعيش في البيت الذي أحبته. كما أن اسم شقيقة أمير (إنضباط)لا يوحي فقط إلى تحملها للمصاعب التي مرت بالعائلة، وإنما أيضا إلى صبرها الطويل إلى أن تحينت فرصة الزواج لها بابن خالها منهل. وعبارة: إن مت فحدث أميرة الزهراء ولا تتزوج من بعدي، توحي بعكس ذلك، إلى أنه سيتزوج مرتين وينجب من زواجه غير الشرعي ومع مجموعة كبيرة من النساء، سبعة وعشرين طفلا. وعبارة: مقبرة الأحلام القديمة، إلى الخوف من المستقبل، وزهراء حزينة وحيدة إلى تصوره أنها بحاجة إليه:(علي أن أسارع إليها قبل فوات الأوان، أنقذها وأنقذ نفسي، أو أدفعها لتسقط وأسقط معها، أو أتصادم معها حتى نحطم بعضنا ونتهشم.).
كما أن العبارات الخمس التي تأتي على لسان هاني وزجته، تدل على أن الرواية ستنتهي بعودة أمير إلى العراق، في العبارة الأولى من خلال تيقن السارد بأن هاني ما زال مسكونا بمصر. وهذه العبارات هي:
1ــــ نعم، إنه أجمل نهر في العالم في أجمل بلد في العالم، اسمه مصر، ووالدي جاء من هناك، ورضع من مياه النيل أكثر مما رضع من حليب أمه.
2ــــ وزوجة هاني تطلب من السارد أن يبقى هنا، معهم في بلدتهم لأنها لم تر هاني سعيدا الى هذا الحد، منذ قدوم السارد الى بلدتهم. ما معناه أن هاني يحن الى مصر، شانه شان السارد.
3ـــ لا أريد أن أكون جيفارا صغيرا أو كبيرا، أريد أن أبقى كما أنا، عاطفيا هشا، لي الفن الذي يرققني، ولك السلاح الذي يخشنك يا مجنونة. .
4ـــ وفي نهاية الأمر يعود المرء الى أصله.
5ـــ لا أدري. . ولكن لا أريد أن أبقى الى أبد الأبدين. الغربة في الحياة كافية، فلماذا نغترب في الموت ايضا.
أما تقنية تناقض الشخصيات مع نفسها ومع الآخرين، وإن وظفها المؤلف في روايته بإعتبارها حبكة الرواية الى جانب عبارة هاملت المعروفة أكون أو لا أكون، غير أنها لم تبلغ الحجم الذي وظفت فيه (تمر الأصابع). وتتمثل هذه الحبكة في عبارة:(إقناع المقابل بالشيء ونقيضه)، وذلك من خلال انتقام السارد من موت طفلته، إنجاب سبعة وعشرين طفلا في أسبانيا وكولومبيا، دون أن يتحمل مسؤوليتهم لا كأب ولا كزوج، واستغلال منهل للطاقات البشرية في زجها للقيام بأعمال غير شرعية، مقابل دفع ثمن تجاوزها للقوانين، كاستغلال السارد السفر لكولومبيا مع مارينا، وتوزيع الطعام على الفقراء والمتشردين، مقابل توريطهم في سرقات والحفاظ على مصالحه.
 إن منح السارد لكل أنثى ترغب الإنجاب منه، بدون أن يتحمل مسؤولية الطفل القادم، لم تعد انتقاما لموت طفلته فحسب، وإنما أيضا إنتقاما لزواج زهراء من الدكتور ياسين، أستاذهما في كلية الفنون الجميلة، ومن ثم والده الذي حرمه من الأخوة والأصدقاء، صعودا من كل المنظمات الإجتماعية، مبررا فشله في موت طفلته ومخيبا أمل زوجته كزوج، بالتعويض عن كل ذلك بمزيد من الأحياء، دون الحاجة لتحمل أية مسؤولية، مقتصرا دوره على إسعاد الآخرين، وتاركا أن يعيش أولاده كما يحلو لهم، أحرارا، بعكس والده الذي أراد أن يكون نسخة منه.
إن تحول السارد من أب وزوج لا يتحمل مسؤولية أبنائه وزيجاته، الى تحملها، وبالتالي قراره الأخير في العودة الى الوطن، والتخلي عن إنتقامه لطفلته وزوجته وأبيه، حدث هذا التحول بتأثير ابنة كارمن، وبقسط لا بأس به من مارينا في مسامحتها لمانويل، فضلا عن تغيير تصوراته السابقة عن مانويل من السيء إلى الأحسن.
تبرز أكثر ما تبرز، نزعة تناقض الشخصيات مع نفسها، وتناقضها مع الشخصيات الأخرى في شخصية زهراء بأنسياقها وراء ممارسة هواية التمثيل، دون علم أهلها، واقترانها بالشاب الذي أحبته، تمردا على أهلها. يبرز هذا التناقض في الحالة الأولى، كونها أنموذجا للفتاة المثقفة، بخداعها لأهلها تناقض نفسها لعدم إنسجام الثقافة والرياء مع بعضهما. وفي الثانية بتمردها على أهلها للزواج من السارد، تتصرف بمنتهى الحكمة، أما أن يقترن هذا التصرف الحكيم المفعم بالتضحية من جانبها، بالتخلي عن زوجها الذي هو بمثابة حكم الأعدام عليه وبإيعاز من أهلها الذين كانت قد أنكرتهم، وبمسوغ واهية، وظروف خارجة عن إرادة الزوج، إنما هي بقدر ما تناقض نفسها، بالقدر ذاته تناقض الآخرين. تناقض نفسها لعدم قدرتها على استيعاب اللحظات الحرجة التي مر بها زوجها إلى أن أستطاع دفن طفلتهما، وتناقض الشخصيات الأخرى، قياسا موقفها هذا بمواقفها السابقة، سيما من زوجها وأهلها، زوجها بحبها العارم له، وأهلها بخدعها وتمردها عليهم.
والشخصية الثانية التي تبرز فيه هذه النزعة، هو شخصية السارد/ أمير/ الذي يكسب لأبن خاله منهل الذي تحول أسمه في أسبانيا إلى مانويل، انطباعات وتصورات متباينة ولا تتطابق مع بعضها البعض، ولتتحول فيما بعد هذه الانطباعات والتصورات إلى سلوكه هو ليتعامل معه بنفس الصيغة، فهو في الوقت الذي يراه شريرا، يوافق على زواجه بشقيقته، وفي الوقت الذي يخونه بإرساله إلى كولومبيا، يسامحه بعد العودة إلى أسبانيا. ولعل هذا التناقض مع نفسه يتضح أكثر في عملية انتقامه لموت طفلته، بإنجاب سبعة وعشرين طفلا، من خلال شعوره بالندم على مستقبل الأطفال الذين يجهلون آبائهم.
أما تناقض مانويل مع نفسه ومع الشخصيات الأخرى، يبرز في مسالة واحدة فقط، وهي استغلال المحتاجين، أمثال السارد ومارينا والأطفال المتشردين، بزجهم في مواقف محرجة من خلال التعامل معهم بطرق ملتوية وغير قانونية، ولكن بعودة الفائدة ماديا للطرفين له وللمستغل، وأثر اقتراب الرواية من نهايتها يزول هذ التناقض القائم في شخصية مانويل، ذلك أن الملتلقي يكتشف بأنه قد أودع كل الأموال التي حصل عليها لإستغلاله المحتاجين في البنك. هذه المفارقة تلتقي مع مفارقة أخرى في نهاية الرواية، وهي عودة السارد إلى وطنه العراق. وبهذا اللقاء بين المفارقتين، ينشد المؤلف إلى بناء عنصر التغريب في روايته، القائم على مفهوم النسبية واللا مألوف.
ما من شخصية في الرواية تخلو من التمرد، ما عدا شخصية الأم، فحتى وإن بدت إنضباط أكثر الشخصيات صبرا وتضحية، بيد أنها في الأخير تمردت على أبيها، بزواجها بابن خالها، إثر إلتحاقها به في أسبانيا. والتمرد الوحيد الذي أحدث تحولا جوهريا في مجرى أحداث الرواية ومسارها، هو تمرد ابنة كارمن على السارد. كما أن كوثر التي أحبت السارد وكادت أن تتزوج به قبل نهاية الرواية بقليل، لولا تمرد ابنة كارمن. تمردت عليه كوثر مرة واحدة فقط بجملة:(حرام عليك). والسارد بدوره تمرد على مارينا، عندما طلبت الزواج منه لأكثر من مرة في كولومبيا، ولربما أستمد جزء من هذا التمرد من (إيراسيما) الفتاة الثورية المناصرة لأفكار جيفارا التي تزوجها السارد، وكل المحاولات التي جربها لاتخاذ موقف مناويء وصريح، تجاه مانويل رغم ملاحظاته الكثيرة عنه، إلا أنه لم يفلح، ويتراجع في اللحظات الأخيرة بالتمرد عليه. إن أبرز تمرد للسارد هو تقليده لشَعر أستاذه، بتركه طويلا ومبعثرا، ومن ثم تمرده على أهله سواء بانتقاله للدراسة في كلية الفنون الجميلة أو الزواج بزهراء. والتمرد الحقيقي المؤثر في مجريات وأحداث الرواية، هو تمرد زهراء وتمرد مانويل، إذ لولا تمرد الأولى على السارد، لما أنتقم لإنجاب سبعة وعشرين طفلا، كما أن لولا تمرد الثاني على رفض والد إنضباط الزواج منها، لما هاجر إلى أسبانيا وأشتغل بإستغلال الطاقات البشرية.
لقد وظف المؤلف عنصر التمرد بهدف التحول في الشخصية، كما في شخصية مانويل السيئة الصيت التي تتحول إلى ما يشبه مصلحا إجتماعيا، ولكن بمسكوت عنه وعدم دراية أحد، وتمرد ابنة كارمن على السارد، لينعكس هذا التمرد عليه، مغيّرا مجرى حياته، بتمرده هو الآخر ليس على كوثر فقط وإنما على أطفاله وزيجاته وكل الدول الأوروبية قاطبة.
وبالمناسبة، فإن مفردة (التمرد) تتكرر ثلاث مرات في الرواية، في المرة الأولى على لسان السارد وهو يقول:(قررت أن أترك شعري طويلا ومبعثرا، وفي ذلك أيضا نوع من بدايات التمرد على تعاليم أبي). وفي الثانية يطلقها الدكتور ياسين قائلا:(وأنا كذلك كان أهلي معارضين لي ولكنني تمردت عليهم). وفي المرة الثالثة أيضا الدكتور وهو يقول:(إذا كان حب الفن فيكما حقيقيا، فسوف تتمردان حتما).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*صباح هرمز: ناقد عراقي، آخر أعماله: (روايات عشتُ معها).
**نشر في (الحوار المتمدن)، العدد 6306 بتاريخ 31/7/2019

صباح هرمز

الاثنين، 22 يوليو 2019

ذئبة الحُب والكُتب...أطروحات عديدة وأزمنة مختلفة / ولاء علي


ذئبة الحُب والكُتب...أطروحات عديدة وأزمنة مختلفة 

ولاء علي
(ذئبة الحب والكتب) العنوان الأنسب الذي وضعه الكاتب العراقي المغترب في إسبانيا (محسن الرملي) الذي ولد عام 1967 في العراق في قضاء الشرقاط قرية السديرة شمال العراق، مفارقات عديدة للرواية أزمنة متفرقة الربط بين كل من الحاضر والماضي ومستقبل، رواية تملؤها الحكايات والمغامرات تطرق الرملي فيها الى أكثر من زمان ومكان، إنها رواية حُب تدعو للحُب في أزمنة تُهمش الحُب، لذا يهديها كاتبها الى كل الذين حُرِموا من حُبهم بسبب الظروف. (ذئبة الحب والكتب) هي مجموعة رسائل ظهرت في طريق الرملي عند اغترابه في عمان على أحد الايميلات التي وجدها صدفة في احدى مقاهي الحاسبات لامرأة أربعينية تعيش في إسبانيا تبحث عن الحب كانت النقطة المشتركة بين المرأة و(محسن الرملي) اخوه الكاتب (حسن مطلك) الذي تم إعدامه على أيدي أحد الانظمة السياسية آنذاك، (محسن الرملي) أعاد صياغة هذه الرسائل بأسلوبه الخاص وأضاف عليها ما يتحمل الاضافة والأبداع الفكري للرملي خاصة تفاصيل حياته التي عاشها في الأردن وصعوبة هذه الحياة. (هيام) هي بطلة (محسن) التي أعاد كتابة رسائلها وإضافة اليها واقعه المرير في عمان مرورا بالتجربة الأهم في حياته وهي الكتابة.
الحرية، الحب، الكتب، الجرأة، القوة، الضعف والفشل والنجاح، مجموعة المتناقضات التي اجتمعت لتكون لنا في نهاية المطاف شخصية (هيام)، عند مناقشة الرواية مع كاتبها (الرملي)، ذكر مفارقة مهمة، إن شخصية (هيام) ما هي في الحقيقة إلا عدة نساء تم تجسيدهن في شخصية واحدة، فقد أضاف (محسن) على رسائل (هيام) العديد من الصور الأخرى حتى تظهر الرواية بهذه الجوهرة للعديد من النساء في مجتمعنا. جمال حقبة السبعينيات من الموصل إلى البصرة حياة تملئها المغامرة رواية مليئة بالروح، (هيام) الشجاعة التي تتأثر بحياة جدها في الحب الذي كان يطلق عليه بالذئب لكثرة علاقاته الغرامية، لماذا لا أصبح أنا الذئبة؟ فيا لها من ذئبة تخوض غمار الحب مع العديد من الشخصيات كل شخصية تعكر صفو علاقتها به حدث ما. الرواية تصبح ابعد مما تكون عليه كرواية تستند على امرأة أربعينية تكتب ماضيها الغرامي وبحثها عن الحب، الى واقع البلد السياسي المرير كيف كان جمال البلد في سبعينيات مضت وكيف هي في فترة الحروب التي عاصرها العراق والخوف المقيت الذي حل بالبلاد، ومن ثم يمر (محسن الرملي) على ليلة احتلال بغداد 2003 التي صورها (الرملي) بقلم من رعب، ليلة تملئها الدموع والخوف والحسرة على كل ماضٍ وربما على كل ما أتى بعدها.
إضافة إلى كونها رواية اجتماعية تحاول إن تنصف المرأة في ظل مجتمع تسوده الأبوية والسلطوية من قبل الذكور، (هيام) المثقفة التي التهمت أكبر عدد ممكن من الكتب في حياتها ابتداءً برواية (دابادا) لـ(حسن مطلك) ومدارس علم النفس لفرويد والكتب الدينية وغيرها الكثير فهي امرأة عاشقة للكتب. اظهر الرملي المرأة في موضوع القوة والشجاعة. فهي رواية مثقفة عن مثقفين، تبحث في أعماق الكبت والحرمان والمعاناة. وحصلت الرواية على جائزة الشيخ زايد للكتاب، القائمة القصيرة عام 2016.
-----------------------------------
*نشرت في صحيفة (عدسة الفن) العدد 74 بتاريخ 18/7/2019 بغداد