الثلاثاء، 30 نوفمبر 2010

زاوية (جداريات) / .. عن السياحة الأدبية


.. عن السياحة الأدبية

د.محسن الرملي
نعم، ربما يبدو الأمر نوعاً من البَطَر، عندما نتحدث عن قطاع إبداعي آخر في الميدان السياحي، وخاصة في بلداننا التي لم تُعط، حتى الآن، السياحة التقليدية نصف ما تستحقه، فهذه آثار حضاراتنا العريقة مُهمَلَة ومتاحفنا هزيلة ساذجة العرض والتنظيم بحيث لم تُغرِنا حتى نحن أنفسنا بزيارتها، وجغرافيتنا المتنوعة من زرقة الماء وخضرة الحقول وعلو الجبال وذهبية الصحراء وغيرها متروكة لمصيرها الغامض وسط استغاثات البيئة الكونية من التلوث. فيما يبتكر الغرب حتى قطاعاً لما يسميه (سياحة الكوارث) وينظم سفرات لمواقع البراكين والأعاصير وخراب الهزات الأرضية والحروب، بل ويقيم متاحفاً لتخليد ذكراها، والقطاع الآخر هو (السياحة الأدبية) والذي نود التنبيه إليه هنا، فعلا سبيل المثال: تُحرك سياحة السير في الطريق الذي مشت فيه شخصية (دون كيخوته) الأدبية، ملايين الدولارات سنوياً، فيجيء الناس أفواجاً لاتباع دروب طلعاته في الفلوات الأسبانية المذكورة في الرواية، ويمرون بالقلاع والأودية التي مر بها ويأكلون وجبات الطعام التي أكلها ومن ثم وصولاً إلى البيت الذي (يفترض) أنه مسقط رأس مؤلفها.. وغير ذلك من تفاصيل جميلة. وما أكثر من حرص منا على زيارة قبر أو مقهى أو بيت أو حتى تمثال كاتب معروف في البلدان التي نزورها، وكلنا سمع مثلاً بالاحتفالات السنوية برواية (يوليسيس) لجويس في دبلن حيث تدور أحداث الرواية، وفي بطرسبورغ يزور الناس الشارع الذي تدور فيه أحداث رواية (الجريمة والعقاب) لدسيتوفسكي. يشار إلى أن (السياحة الأدبية) قد استُحدثت بفضل الأدب أيضاً، فبفضل المعجبين برواية (البحث عن الزمن المفقود) لبروست منذ عقود وتتبعهم لأماكن سير أحداثها من باريس إلى نورمانديا قد جاءت الانطلاقة العملية للاشتغال على هذا القطاع السياحي. حيث صارت البلدان والمدن والقرى في العالم تستثمر أكثر نتاجات وإرث وأسماء أبنائها من المبدعين مادياً ومعنوياً، ولن تكون كولومبيا في استحداثها للسياحة بقرية (ماكاندو) في روية (مائة عام من العزلة) وكل ما يتعلق بماركيز، أو بيرو في استحداثها للسياحة في الأماكن المذكورة في روايات فارغاس يوسا هما الأخيريتين في هذا المجال. وغني عن الذكر المدن التي تقام وتزداد انتشاراً لشخصيات والدزني الخيالية وغيرها. فكل ما يتعلق بهذا النوع من السياحة إيجابياً لكل الأطراف، ترى لماذا لا نشيّد، على سبيل المثال، مدناً تستقي نفسها من أجواء ألف ليلة وليلة؟ لماذا لا نؤهل الدرب الذي سار فيه المتنبي حتى مقتله؟ وخرائط لشوارع وحارات نجيب محفوظ وقرية (موسم الهجرة إلى الشمال) ونيلها، ولاذقية روايات حنا مينا وغيرها؟ لماذا لا نرمم، على الأقل، بيوت وقبور ومقاهي الأسماء الكبيرة في ثقافتنا ونكثر من التماثيل والنصب لهم؟ فنوظف بذلك آلاف العاطلين ونجذب سياحة آلاف أو ملايين من الآخرين، وفي الوقت نفسه هو فعل ثقافي حيوي سيكون له الأثر الكبير في إعلاء شأن الثقافي بيننا ولنا ولأبنائنا.
إنني أحلم الآن بالدخول إلى مدينة (ألف ليلة وليلة) مرتدياً لباس أهلها ومتعاملاً بعملتها متجولاً بين أسواق الوراقين والصاغة وداخلاً حاناتها ومخادع الأميرات وكهوف الساحرات فيها وطائراً بصحبة طفلتي على بساط الريح فوق قبابها.. إنني أحلم بسياحة ثقافية أدبية لا تنتهي في قرانا والمدن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشرت في زاوية (جداريات) في الملحق الثقافي لصحيفة (الثورة) السورية، بتاريخ 30/11/2010 العدد 718

الثلاثاء، 2 نوفمبر 2010

زاوية (جداريات) /.. عن المجلات الثقافية


.. عن المجلات الثقافية
د.محسن الرملي
ثمة قول معروف مفاده بأن "الذي لا يتجدد يموت"، فإلى أي حد ينطبق هذا القول على المجلات الثقافية؟. ها نحن نراها تتراجع وتموت تباعاً بعد أن كانت منابر قوية في كل ثقافات العالم، وكم من مجلة نذكرها قد كان مجرد النشر فيها يعد اعترافاً بصاحب المنشور ككاتب أو كصحفي، وكم من مجلة كانت نواة لحركة فكرية أو تيار ثقافي بأكمله أو كانت خلاصة لصوت وهوية جيل أو مرحلة بكل همومها وأفكارها وأحلامها ومرجعاً لا مناص منه في اختصاصها ولدارسيها.. وكم وكم من مجلة ثقافية صنعت ثقافة حقيقية!.. فلماذا إذاً نراها تتهاوى هكذا حتى تكاد تنقرض من حياتنا؟ أهي هيمنة التكنلوجيا وحدها التي انتصرت عليها أم أن لنمطيتها وكسلها عن التجديد دوراً في موتها؟
إن إنشاء مجلة وإدارتها وتحريرها هو إبداع أيضاً ويفترض به أن يحرص على خصوصيته وأن يقدم المتميز والجديد والخاص في الشكل وفي المضمون وأن يسعى للتكيف ومواكبة عصره فيما يطرح وفي كيفية الطرح في كل عدد جديد. أضرب أمثلة، عرفتها هنا في إسبانيا، لمجلات ثقافية استطاعت ولازالت تقف على أقدامها الورقية بقوة، ومنها مجلة (إنيه) المتخصصة بالقصة القصيرة، وهي فصلية، تختار لكل عدد موضوعاً واحداً، كأن يكون: العائلة، الليل، التلفزيون، الطفولة، الحب، الإنترنيت...إلخ، ثم تستكتب عشرة كُتاب، حققوا حضوراً معيناً، من بلدان مختلفة لكتابة قصة عن تلك الموضوعة بحيث لا يقل النص عن خمس صفحات، وبعدها تُصدر العدد بالقصص العشرة وبمقدمة وبتعريف موجز بكل كاتب، وقطع طباعتها من الحجم المتوسط، أي أن القارئ سيحملها بمثابة كتاب واحد عن موضوع واحد (أنطولوجيا) لعشر مؤلفين من بلدان وثقافات مختلفة وبأساليب مختلفة، هذا إلى جانب إقامة المجلة لمسابقات سنوية في القصة لم يقل المشاركين فيها عن خمسة آلاف في أي عام، وأخرى للأقصوصة يمكن إرسال المشاركة فيها عبر الإيميل أو حتى الهاتف الجوال.. وهكذا تواصل المجلة حضورها وحيويتها بحيث تحولت إلى مؤسسة ثقافية تهتم أيضاً بالنشر والتصوير والديكور وغيرها مطلقة على نفسها تسمية (مصنع الأفكار). المثال الآخر، وفي اختصاص القصة أيضاً، هو تجربة لكتاب شباب اجتمعوا فيما بينهم لإصدار مجلة باسم (الجانب الآخر من المرآة) وسعوا إلى الاجتهاد في التصميم الحديث والفني الحداثوي لصفحاتها، تشكيل يمزج بين صورة الكاتب ونبذة عنه والنص وموضوعه.. ونوّعوا في أحجام وألوان تصانيف الخط، كما نشروا قصصاً مصورة وينفتحون على أي تجريب يمزج بين الفن البصري والنص مهما تكن غرابته، بحيث تتحول كل صفحة فيها إلى لوحة مستقلة يمكن قصها وتأطيرها وتعليقها على الجدار.. أقول هذا وأود لو أننا في ثقافتنا نسعى إلى الابداع والابتكار في مجلاتنا أو في إصدار مجلات جديدة تأخذ هذه الروحية بعين الاعتبار، بدل الاكتفاء أو الاستمرار بالنمط التقليدي الذي يجمع شتى النصوص والأجناس والمواضيع بلا رابط ولا عناية كوجبة تخلط المالح بالحلو والحامض والطازج بالبائت فلا تتقبلها معدة سليمة، ليتنا لا نكتفي بلاستسلام السلبي حيال هذا التراجع والموت البطيء للقلة الباقية من مجلاتنا الثقافية، فلنحثها على التخصص والتعمق والإبداع.. وعلى التجدد.. لأن الذي لا يتجدد يموت.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشرت في زاوية (جداريات) في الملحق الثقافي لصحيفة (الثورة) السورية، بتاريخ 2/11/2010 العدد 715

http://thawra.alwehda.gov.sy/_thakafi.asp?FileName=90897955020101102112728