الثلاثاء، 19 ديسمبر 2017

حوار مع محسن الرملي / أجرته: ميسون شقير/ضفة ثالثة

حوارات
محسن الرملي:
واقعنا الدامي لطّخ حتى أحلامنا وخيالاتنا 
تصوير: خالد كاكي

حاورته: ميسون شقير
ذاهب دائما لترجمة نفسه، مثلما هو يترجم آداب الآخرين إلى لغة عمرتنا، ليقرأها أناس عمروا أرواحنا، أو ما يزالون هناك يعيشون في أوطان هدمت فينا. ذاهب لترجمة الأحمر في جراحنا إلى كل ألوان الأرض، علّ سماء ما، في زمان ما، وفي غفلة من الأسود الذي يرفرف في سماواتنا، تبتدع يومًا قوس قزح. ذاهب بالرواية إلى الماضي وهو يمسك يد المستقبل ويشده من شعره عقابا على الحلم، وذاهب بالرواية أيضا إلى مستقبل يمسك يد الماضي ويشده من قلبه كي يتجرأ دائما على الحب.
هذا هو محسن الرملي، الكاتب العراقي الذي يسكن في مدريد من سنوات لكنه لم يزل يعيش في بغداد، الكاتب الذي ولد في شمال العراق عام 1967 ويقيم في إسبانيا منذ عام 1995، والحاصل على الدكتوراه بامتياز في الفلسفة والآداب من جامعة مدريد، مع درجة الشرف، والذي يكتب باللغتين العربية والإسبانية. عمل في الصحافة كاتبًا ومحررًا ثقافيًا منذ عام 1985 وله عشرات المواد المنشورة في الصحافة العربية والإسبانية والأميركولاتينية. تَرجم العديد من الأعمال الأدبية بين اللغتين العربية والإسبانية، وله ما يزيد على العشرين إصدارًا تنوعت بين القصة والشعر والمسرحية والترجمات والرواية. ومنها روايته "الفتيت المبعثر"، التي فازت ترجمتها الإنكليزية بجائزة أركنساس 2002، وروايتا "تمر الأصابع" و"حدائق الرئيس"، اللتان تَرشحتا ضمن القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية 2010 و2013، ونالت الترجمة الإنكليزية لـ"حدائق الرئيس" جائزة القلم الدولي 2016. وكذلك رواية "ذئبة الحُب والكُتب"، التي وصلت للقائمة القصيرة لجائزة الشيخ زايد للكتاب 2015. تُرجمت بعض أعماله لأكثر من لغة، وشارك في العديد من المهرجانات والمؤتمرات الدولية. وهو شريك في تأسيس وإدارة دار نشر ومجلة "ألواح" الثقافية الفكرية في إسبانيا منذ عام 1997، وعضو في هيئة تحرير مجلة "آركيترابا" الكولومبية المعروفة المتخصصة بالشعر، وفي الهيئة الوطنية لتنظيم مهرجان طليطلة الدولي للشعر. يعمل حاليًا أستاذًا في جامعة سانت لويس الأميركية في مدريد.
هنا حوار خاص معه:

الآداب والفنون ثروة الشعوب المعنوية
*تقول دائما بأنه يجب على الشعوب أن تتعامل مع الأدب بشكل تراكمي لكي تتعلم من نفسها، 
برأيك لماذا هذه القطيعة في الأدب العربي والتي جعلتنا نخسر الكثير؟
ـــ الأدب هو مرآة وذاكرة الشعوب والأفراد، ومن خلاله يمكن معرفة الذات والآخر، وقطيعة شعوبنا مع آدابها واضحة ومتشعبة، فنحن لا نحترم الآداب ولا نقدرها حق قدرها في التعليم والصحافة والحياة اليومية في الشارع أو في البيت، لذا لدينا تصور مشوه وناقص عن ذاتنا ونقص في ذاكرتنا فنكرر الأخطاء ذاتها. السلطات عندنا لا تعرف شيئاً عن الأدب في بلدانها ولا تتابعه، بل تعتبره شيئاً مزعجاً، وتسلط رقابات بوليسية وأمنية جاهلة على الفنون، لا نرى تماثيل لمبدعينا في شوارعنا ولا شوارع ومؤسسات تحمل أسماءهم، كذلك القمع والنفي والاضطرابات المتواصلة أبعدت المبدعين عن التواصل المباشر مع المتلقين، إضافة إلى وجود أكثر من قطيعة داخلية بين الحقَب وبين الأجيال الأدبية ذاتها، وفي رأيي لا بد من ترميم كل ذلك كي يكون قاعدة صحيحة وصحية للوعي العام للأفراد والشعوب. الآداب والفنون هي ثروة الشعوب المعنوية، لذا لابد من المحافظة عليها ومراكمتها وليس إهمالها أو بعثرتها وتهميشها.  
*شهادة الدكتوراه التي نلتها في إسبانيا، كانت حول تأثير الثقافة العربية والإسلامية في الكيخوته، ما هي أبرز النقاط التي اعتمدت عليها في هذا البحث، والتي برهنت من خلالها على هذا التأثير للثقافة العربية في الأندلس وفي آلية صنع شخصية الدون كيخوته لثربانتس؟
ـــ لا يمكن فهم أبعاد أي عمل فني بشكل جيد إلا بمعرفة طبيعة المحيط الذي ولد فيه، وكان لابد لي أن أدرس كل ما يتعلق بالفترة التي تمت فيها كتابة الكيخوته، تاريخياً وأدبياً وسياسياً وغيرها، وتتبع أدق تفاصيل حياة مؤلفها ثربانتس، والتي من بينها أعوام أسره في الجزائر، وهي أكثر حدث أثر في حياته وأعماله، وبما أن أغلب وأهم الدراسات التي كتبت عن الكيخوته، منذ القرن السابع عشر وإلى اليوم، هي دراسات ووجهات نظر غربية وتعتمد على مصادر غربية، سعيت لأن أستخدم مصادر الضفتين الشرقية والغربية، فكانت هنا الإضافة وهنا الجديد، في التأويل وتوسيع الفهم لهذا العمل. لذا تناولت فيه مختلف تأثيرات الثقافة العربية والإسلامية، من حيث اللغة والدين والبناء السردي والموروث التاريخي وتتبع أصول الشخصيات والأقوال والأفكار.. فكانت النتيجة مهمة فعلاً باعتراف لجنة التقييم والمختصين بالدراسات الثربانتيسية.
*ككل مغترب، نعاني من انشطار الهوية وحالة فصام دائم بين مرجعيتنا الثقافية الأولى، الوطن الذي ربانا ثم أكل قلوبنا، وبين ما نعيشه في بلاد غريبة أوتنا وحمت حقنا في الحياة.. ما تأثير هذا التشظي على ما يمكن أن تقدم من أدب، وهل هي ميزة إضافية إلى جانب كونها جرح نازف؟
ـــ نعم، هو ميزة وجرح في الوقت نفسه، ففي رأيي أن الاغتراب هو حالة أو ميزة مرافقة لكل مبدع، حتى وهو في بلده وفي أحضان أسرته، ذلك أنه يختلف في رؤيته وفهمه لذاته وللعالم، عمن يحيطين به، وما اغترابه الفيزيائي اللاحق ومغادرته لموطنه الأول، طوعاً أو كرهاً، إلا لكونه غير راض عن الحال ومعارِض له، وفيما يتعلق بهم الوطن، هو جرح، لأنه لم يستطع أن يكون هو ذاته وكما يريد وينمو ويبني ويحقق أحلامه في مكانه الأول، وثمة شعور دائم ومسؤولية تجاهه مهما ابتعد عنه. فها أنا أعيش خارج العراق قرابة الربع قرن ومع ذلك فإن كل كتاباتي عن العراق.
*في روايتك (حدائق الرئيس)، والتي صنفتها الغادريان ضمن أفضل عشرة كتب في عام 2017 تحدثت عن المقابر الجماعية التي كان يقيمها صدام لمعارضيه، هل هي، أخيرا، انتقام لمقتل أخيك الكاتب والشاعر على يد الطاغية؟
ــــ لا، فلا توجد في نفسي ولا في تفكيري نية أو فكرة (الانتقام)، وإنما هي وصف وتعبير صارخ عن الألم الذي عانته كل الضحايا في العراق بسبب بطش الدكتاتورية الطاغية والحروب والحصار، سعيت فيها لتقديم صورة بانورامية وتاريخية، نوعاً ما، عما مر به العراق في العقود الأخيرة. وهذه الرواية هي أقل رواياتي اعتماداً على سيرتي الشخصية، لذا فهي الوحيدة، حتى الآن، التي لم تُروى بصيغة المتكلم، الضمير الأول (أنا)، فيما بقية روايتي تتغذى من سيرتي وتجربتي الشخصية، وفي آخرها، رواية (ذئبة الحب والكتب) استخدمت اسمي الصريح، واعتمدت شخصية أخي حسن مطلك كمحرك للأحداث، ولكن كمحرك للبحث عن الحب والثقافة والفن والجمال والحرية وليس محركاً للانتقام من شيء أو من أحد. 

الصدق ميزان الكتابة الحقيقية
*ألا تخشى من أن يبقى ما نقدمه من أدب أسيراً لما حملناه من ثقوب في أرواحنا.. وأن يبقى أدباً محروقا؟
ـــ أحياناً قليلة نعم، ويحز في نفسي ألا نقدم للقارئ إلا ما هو تراجيدي وحزين ومرير، ولكن من جهة أخرى فإن ميزان الكتابة الحقيقية هو الصدق، والكاتب يكتب عما يعرفه بما في ذلك أحلامه وخيالاته ذاتها، لكن واقعنا الدامي قد طغى ولطخ حتى أحلامنا وخيالاتنا، وأنا ككاتب يشغلني الألم الإنساني أكثر مما يشغلني الفرح، وأعظم الأعمال الأدبية هي تلك التي كانت بذرتها ومنبعها الألم، بما فيها (الكيخوته) التي يتصورها أغلب الناس بأنها رواية للضحك. في رأيي أننا عندما نرسم سواد العالم فسيوف يكون فيه لأي نقطة بيضاء قيمة وسطوعاً أكبر، ونحن عادة ما نبث هذه النقاط البيضاء وسط السواد بشكل جمالي باعث على أمل ما وسط الخراب مهما يكن. كما أن قيامنا بالتعبير عن همومنا وأوجاعنا يعيننا على التخفف نوعاً ما من وطأتها على أذهاننا وأرواحنا، مما يجعلنا بعدها أكثر تخففاً وتجدداً وقوة في مواجهة صعوبات الحياة وأكثر بهجة بمسراتها الصغيرة.
*هل رواية (تمر الأصابع) هي اعتراف بالانشطار الذي يحيا فينا ونحيا فيه؟
ـــ نعم، وهي أكثر رواياتي تناولاً لهذه المسألة، قائمة على الثنائيات والازدواج في كل شيء، كتبتها خلال معاناتي في سنوات اغترابي الأولى، ومن خلالها استطعت أن أعرف الكثير عن نفسي وأسباب تلك المعاناة، وبالتالي فإنها أحدثت تحولاً عميقاً في حياتي ورؤيتي وشخصيتي، فبعد أن شخصت مكامن هذا الانشطار في ذاتي بين الشرق والغرب والتقاليد والحداثة، الدكتاتورية والحرية والوطن والغربة وغيرها.. استطعت التصالح مع نفسي بعد أن فهمتها، ولم يعد تعدد ألوان هويتي يقلقني كما كان في السابق، بل على العكس، صار يعجبني ويسعدني وأشعر بأنه يمثلني أكثر من مجرد كوني بهوية واحدة محددة.
*في (ذئبة الحب والكتب) انتصار حقيقي للحب في أي مكان وأي زمن، هل تعتقد بأنه ما زال بإمكاننا المراهنة على الحب كي ينقذنا من كل هذا الموت؟
ـــ نعم فالحب واحد من أهم وأكبر الألغاز الإيجابية في الحياة، والدعوة إليه هي دعوة للخير ضد الشر، دعوة للجمال ضد القبح، دعوة للحلم والأمل ضد اليأس، ودعوة لنُصرة التفاهم والتسامح والتقارب والتعايش، وفي هذه الرواية أشير إلى أن أغلب مآسينا ناتجة عن سوء فهم الآخر، ابتداء بسوء استعمال اللغة ذاتها.. ولو كان الأمر بيدي لاستبدلت حتى مجلس الأمن الدولي بمجلس الحُب الدولي.
*الشعر يمسك يدك في كتابك (أوراق بعيدة عن دجلة) وكأنك أسيره الحُر.. كيف ذلك؟
ـــ أوه، ما أجمل وأدق تعبيرك هذا! (أسيره الحُر)، نعم أنا كذلك بالفعل في علاقتي معه، فأنا في الأصل مُدمن على قراءة الشعر يومياً، وأكتبه منذ أن تعلمت الكتابة، لكنني تأخرت كثيراً جداً بنشره، وأول قراءة ونشر لقصائدي كان بالاسبانية، بعيداً عن أعين اللغة العربية الشعرية بامتياز.. وكنت ولازلت أتردد وأرتبك عندما أقول عن نفسي بأنني أكتب الشعر، لما له من مهابة وعظمة في نفسي وذائقتي، لذا كان يتسلل عنوة في نصوصي السردية الأولى تلك، ولكن بعد أن صرت أنشره وأعترف للأخرين بأنني أتعاطاه، صارت نصوصي السردية أقل شعرية وأكثر سردية، بل وحدث ما يشبه التحول المعاكس، حيث صارت حصة النثري تتمدد أكثر حتى إلى النصوص الشعرية.. ذلك أن خزين الحكي في دواخلنا عما عشناه ولازلنا نعيشه صار يفيض ويطفح. 

أثر الأدب الإسباني في الأدب العربي المعاصر كبير
*ما أجمل وأهم ما وجدته في الأدب الاسباني، وخاصة الحديث؟ وكم برأيك أثرت الأسماء الاسبانية العملاقة، مثل لوركا، على الشعر العربي المعاصر؟
ـــ وجدت الكثير جداً من الجمال، ومنذ أن تعلمت اللغة الإسبانية وأنا أتعامل مع الأدب المكتوب بها  بالمستوى نفسه، أي ليس أدب إسبانيا فقط وإنما آداب بلدان أمريكا اللاتينية بمجملها وآداب أبنائها المهاجرين خارجها ولكنهم يكتبون بالاسبانية، ومن الأشياء التي أنتبهت لها وأعجبتني وأثرت في كتابتي، على سبيل المثال: امتزاج التجربة والجانب الشخصي البحت للكُتاب بمواضيع ولغة كتبهم، الاهتمام بالحي الحالي أكثر من الاهتمام بالتاريخي، التنوع والجرأة والحرية والتمرد أحياناً، والمبالغة باعتبارها من سمات الفن للفت الانتباه.. وسمات أخرى كثيرة أعتبرها جميلة، أما عن لوركا وألبرتي والأسماء الأخرى، وخاصة من جيل الـ 27 الشعري وأثرها في الشعر العربي المعاصر، فهو كبير وواضح وثمة دراسات عنه، وأغلب الشعراء عندنا كتبوا قصائداً عن لوركا أو أو مهداة له أو ذكروا اسمه فيها، كذلك تأثيرات كبار الشعراء بالاسبانية الآخرين أمثال بابلو نيرودا وأوكتافيو باث وخوان رامون خيمينيث الذي ألف العقاد عنه كتاباً بعد نيله لجائزة نوبل بعنوان (شاعر أندلسي وجائزة عالمية)، كما أن تأثير الرواية كان كبيرا منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي حيث بدأت ترجمات روايات ماركيز ويوسا وفوينتس وغيرهم، فأنا نفسي مثلاً، قد قررت دراسة الإسبانية بعد قراءة ترجمة (مائة عام من العزلة) بدافع أن أقرأها بلغتها الأصلية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشر في ملحق (ضفة ثالثة) الثقافي، صحيفة (العربي الجديد) بتاريخ 18/12/2017 لندن
محسن الرملي وميسون شقير / مدريد 2017 ــ مكتبة ماريو فارغاس يوسا

الأربعاء، 6 ديسمبر 2017

حدائق الرئيس ــ من أفضل الكتب عام 2017 ــ الغارديان

حدائق الرئيس لـ محسن الرملي 
في قائمة الغارديان لأفضل روايات عام 2017
http://www.dostor.org/1648508
http://www.almadapaper.net/ar/ViewPrintedIssue.aspx?PageID=26299&IssueID=3475
http://www.almadapaper.net/ar/ViewPrintedIssue.aspx?PageID=26306&IssueID=3475
http://www.almadapaper.net/ar/news/539632/%D8%AD%D8%AF%D9%8A%D9%82%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A6%D9%8A%D8%B3-%D9%84%D9%85%D8%AD%D8%B3%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%85%D9%84%D9%8A-%D9%81%D9%8A-%D9%82%D8%A7%D8%A6%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%BA%D8%A7%D8%B1
https://twitter.com/Dar_Almada/status/936699299966193669
https://www.facebook.com/husen.letif?hc_ref=ARQUtJuO9Nz840Mk6XrvHK5vlVQgeAxSzqMQz-SWMv32DYImrx6tG64Elid7J1fptIk&fref=nf&pnref=story
https://www.theguardian.com/books/2017/nov/30/best-books-fiction-2017
دار كيركوس تحتفي بـ على قائمة أفضل الكتب في وتصدر طبعة تجريبية بالانكليزية الامريكية فيما ستصدر الطبعة الرسمية وتوزعها بأنحاء في مايو 2018
https://www.instagram.com/p/BcLQlr1hnUH/?hl=es&tagged=muhsinalramli
http://www.almadapaper.net/ar/ViewPrintedIssue.aspx?PageID=26306&IssueID=3475

جائزة شعرية / مدريد / محسن الرملي

محسن الرملي ينال جائزة شعرية في مدريد
http://cihispanoarabe.org/news/el-poeta-arabe-iraqui-muhsin-al-ramli-gana-el-premio-de-la-4a-jam-poetica-de-la-hucha-literaria/
جائزة (الحصّالة الأدبية) الشعرية في دورتها الرابعة
أقيمت الاحتفالية الشعرية والفنية في مكتبة ماريو فارغاس يوسا وشارك فيها شعراء وفنانين من مختلف الجنسيات
في مدريد ـــ إسبانيا
بتاريخ 30/11/2017م
http://www.chispasliterarias.com/ganadores-de-las-huchas-literarias
 


الأربعاء، 15 نوفمبر 2017

محسن الرملي: الترجمة امتحان للكتاب / الناشر الأسبوعي


محسن الرملي: الترجمة امتحان للكِتاب

مجلة (الناشر الأسبوعي) العدد الأول 2017 الشارقة


http://www.sibf.com/Content/Uploads/Downloads/1_e3a9d4bbe26c4ddaa2ff8ecbab1620.pdf

محسن الرملي:
لقد استفدت كثيرا من ترجمة أعمالي إلى لغات أخرى، معنويا وماديا، وتعلمت الكثير لما فيه المزيد من تحسين كتابتي وإنضاجها، ابتداء بمعرفة سبب اهتمام الناشر الأجنبي بعملك ومن ثم بملاحظاته واقتراحاته على العمل قبل نشره، ومن خلال النقاشات المطولة والتفصيلية مع المحررين الأدبيين المحترفين في دور النشر الأجنبية، ومن ثم من خلال ما سيأتي لاحقا بعد نشر الكتاب من مقالات في صحف ومجلات رصينة وواسعة الانتشار عالميا، ومن خلال آراء القراء التي يقولونها لي مباشرة في حفلات التقديم وفي المؤتمرات ومعارض الكتب ومن خلال رسائلهم وما يكتبونه من تعليقات في مدوناتهم وصفحات القراءة ووسائل التواصل الاجتماعي وغيرها، والجيد في الأمر أن ليس هناك أية مجاملة من قبلهم لأنهم لا يعرفونك شخصيا، وكل هؤلاء يشيرون لك إلى ما أعجبهم وما لم يعجبهم وإلى نقاط الضعف والقوة في عملك مما يجعلك لاحقا أكثر إدراكا لها والأخذ بنظر الاعتبار ما أقتنعت به منها.
كذلك شعورك بالاطمئنان على حقوقك المعنوية والمادية مع الناشر الأجنبي أكثر مما هو مع الناشر العربي، وأن العقود بين الكاتب والناشر حقيقية وقانونية وملزمة، وأن الناشر بشكل عام يتبنى عملك باعتباره عمله هو أيضاً فيسعى بكل السبل للترويج له والتعريف به بعد العناية الدقيقة بإعداده وإخراجه وطباعته على أفضل ما يمكن، إضافة إلى عمله على توزيعه بطرق أخرى غير الورقية، مثل بيعه للقارئ اللأكتروني وبصيغة (كتاب مسموع) وغيرها، كما يوافيك بشكل متواصل بأرقام دقيقة عن عدد النسخ المباعة وحصتك من حقوقك المادية، ويتابع لك كل ما يُكتب عن عملك في الصحافة ويزودك بنسخة منها، بل وإذا كان العمل ناجحاً يحثك على المزيد من الكتابة، كما فعل معي ناشري الانكليزي لرواية (حدائق الرئيس) الذي أقنعني بكتابة جزء ثاني لها، وهو أمر لم يكن في حسباني، ودفع لي نصف حقوقي المادية لكتابته مقدماً.
الأمر الآخر، هو أن  الترجمة بشكل عام تعد امتحانا جادا لجودة عملك، فبعد نشر العمل بلغة أخرى وتقديمه لمتلقي أخر من ثقافة مختلفة لها رؤيتها وهمومها، ستدرك كم بقي في عملك مما هو إنساني فعلا وليس شأنا محليا أو شخصياً عابرا، مما يعني أنك لامست جوهرا لا يفرق بين إنسان وآخر وربما حتى ما بين زمن وآخر، وهذا يطمئنك على أن عملك ربما يكون قد أضاف شيئاً ولو بسيطا جداً ضمن النتاجات التي تخدم الانسانية، وكل ذلك وغيره سيعينك على فهم عملك أفضل وعلى تطويره إضافة إلى أنه سيتيح لك مساحة أكبر لإيصال صوت أهلك وبلدك وقضايا أمتك وهمومها إلى أمم أخرى. وهذا أمر مهم ونوع من الشعور بأداء مسؤوليتك تجاه ثقافتك الأولى وتقديمها والتعريف بها أفضل، وكذلك من مهمتك كمساهم في مواصلة بناء الجسور الثقافية التي تقرب بين الشعوب والأمم وبين الناس في عالمنا بشتى اختلافاتهم الثقافية، لما فيه خدمة الإنسان والإنسانية بشكل وقدر ما.
د.محسن الرملي: كاتب وشاعر وأكاديمي ومترجم عراقي، ولد في شمال العراق عام 1967 ويقيم في إسبانيا منذ 1995، حاصل على الدكتوراه بامتياز في الفلسفة والآداب من جامعة مدريد، مع درجة الشرف. يكتب باللغتين العربية والإسبانية، عمل في الصحافة كاتباً ومحرراً ثقافياً منذ 1985 وله عشرات المواد المنشورة في الصحافة العربية والإسبانية والأمريكولاتينية. تَرجم العديد من الأعمال الأدبية بين اللغتين العربية والإسبانية، وله ما يزيد على العشرين إصداراً تنوعت بين القصة والشعر والمسرحية والترجمات والرواية، كرواياته: (الفَتيت المبعثَر) التي فازت ترجمتها الإنكليزية بجائزة أركنساس 2002 و(تمر الأصابع) و(حدائق الرئيس) اللتان تَرشحتا ضمن القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية 2010 و2013، ونالت الترجمة الإنكليزية لـ(حدائق الرئيس) جائزة القلم الدولي 2016. ورواية (ذئبة الحُب والكُتب) التي وصلت للقائمة القصيرة لجائزة الشيخ زايد للكتاب 2015.
تُرجمت أغلب أعماله لأكثر من لغة كالإنكليزية والإسبانية والإيطالية والبرتغالية والكردية والفرنسية وغيرها، وشارك في العديد من المهرجانات والمؤتمرات الدولية. وهو شريك في تأسيس وإدارة دار نشر ومجلة "ألواح" الثقافية الفكرية في إسبانيا منذ 1997. له ثلاثة دوواين شعرية بثلاث لغات وهو عضو في هيئة تحرير مجلة (آركيترابا) الكولومبية المعروفة المتخصصة بالشعر. يعمل حالياً أستاذ في جامعة سانت لويس الأمريكية في مدريد.
http://www.sibf.com/Content/Uploads/Downloads/1_e3a9d4bbe26c4ddaa2ff8ecbab1620.pdf


الثلاثاء، 24 أكتوبر 2017

عن: حدائق الرئيس / محمد مسلم

رواية كُتِبت لتُقرأ مرات ومرات

محمد مسلم
قرأت في الأدب العراقي، في آخر السنوات كثيرا.. فؤاد التكرلي، سنان انطون، أحمد السعداوي، علي بدر، حسن بلاسيم، حسن مطلك.. ولكن كل ما قرأته في الأدب العراقي شئ.. وهذه الرواية شئ آخر على الإطلاق.
هذه الرواية هي تحفة أدبية بالنسبة لي بلا منازع ..كل ما أريده وجدته في تلك الرواية ..يمكنني القول ان تلك الرواية هي تلخيص كامل لآخر 50 عاما في دولة العراق
يكتب الكاتب روايته بعد ان يعلم عن حادثة مقتل تسعة من اقاربه في القرية فيبدأ رواية بأهداء لهما قائلا الى ارواح اقاربي التسعة الذين ذبحوا في الثالث من رمضان عام 2006
بعد الاهداء يبدأ الكاتب ببراعة الاستهلال التي تحدثت عنها سابقا في روايته السابقة ايضا بعنوان تمر الاصابع فيبدأ روايته قائلا
"في بلد لا موز فيه استيقظت القرية على تسعة صناديق موز في كل واحد منها رأس مقطوع لأحد ابنائها ومع كل رأس بطاقته الشخصية التي تدل عليه لأن بعض الوجوه تشوهت تماما بفعل تعذيب سابق لقطعها او بسبب تمثيل بها بعد الذبح".
أبناء شق الأرض
ثلاثة اصدقاء اجتمعو منذ البداية.. طارق الفتى المحب للنساء.. ابراهيم الفتى الطيب الوديع المحب للاخرين..  وعبد الله الملقب بعبد الله كافكا لحبه للكاتب التشيكي كافكا وولعه بأفكاره
اعتاد ابناء شق الارض التجمع كل يوم في الحقول لمناقشة كل شئ.. الدراسة.. الفتيات.. التطور الذي يحدث في قريتهم البسيطة
عبد الله وجد طفلا عندما كان صغير من احد سكان القرية وكان هذا الساكن عقيما فقرر ان يربيه هو وزوجته ولكن كان يعلم اغلب اهل القرية انه طفل من الزنا وليس ابن العائلة التي ربته.. لهذا رفض والد طارق ان يزوجه بأبنته سميحة عندما طلب الزواج منها
قامت الحرب وتفرق ابناء شق الارض الثالثة.. عبد الله كافكا ذاهب الى المعركة العراقية الايرانية.. ابراهيم ذاهب الى غزو العراق على الكويت وطارق ظل في بيته ينتظر عودة الاثنين
يبدأ الكاتب بسرد معناة عبد الله كافكا في الصراع العراقي الايراني وكيف كان يعامل الايرانين الاسرى وكيف تحول عبد الله كافكا الى شخص عدمي... يقول دائما كل الحقب خراء في خراء.. كل شئ خراء بلا فائدة.. عندما عاد من الاسر الايراني بعد 20 عاما اصبح شخصا مشوها... لا روح به... لا يهتم بأحد حتى اصدقائه المقربون ابناء شق الارض
عاد عبد الله كافكا الى قريته محمل بهموم تعذيه لاكثر من 20 عاما في المعتقلات الايرانية ليجد جدته زينب تحكي له حكاية عجيبة عن ام معاقة ذهنيا واب مغتصب هارب يدعى جلال وان هذه هي حقيقة نسبه التي اخفوها عن القرية لستر الفضيحة ليحمل بهموم اكثر مما يتحمل اي انسان
ابراهيم ذهب الى الغزو الكويتي وعاد من الغزو منهزما وفاقد احد قدمين واحد اهم اصدقائه تركه في العراء.. عاد ابراهيم الى قريته محملا بخيبة الهزيمة وقدما واحدة وعجز جنسي جعله لا يقرب امراءته مرة اخرى ولا يوافق على تزويجه من زوجة اخيه الذي قتل ايضا في الحرب حتى لا يفضح ستره
ابراهيم لديه ابنة واحدة من زوجته وهي قسمة ..قسمة فتاة انانية لا تحب ابيها .تراه رجلا ضعيف لن يحقق لها ما تطمح به ولهذا تكره عجزه وتواضعه كثيرا
يحاول ابراهيم الخروج من قريته والبحث عن عمل في العاصمة حتى يجد جواب تعين في احد القصور الرئاسية.. انها وظيفة قام بالتقديم لها الاف البشر ولكن وافق الرئيس على 50 شخص فقط.. انهم الاكثر وفاء من وجهة نظره كان ابراهيم احد هؤلاء الخمسين
في البداية عمل ابراهيم بستاني في احد حدائق الرئيس وكان عمل روتيني ممل الى ان شاهد الرئيس عن قرب دون ان يشعر في احد المرات وهو يقتل شخص في قصره ويأمر الخدم ان يأخذونه بعيدا
هنا تغيرت حياة ابراهيم كليا فقامو بترقيته ليعمل دافن للموتى في حدائق الرئيس.. انظر هناك.. في ذلك الفضاء الواسع ستتلقى كل يوم عدد من الجثث ثم تقوم بدفنهم كما تريد المهم في الامر ان لا يظهرون على السطح مرة اخرى
ظل ابراهيم يدفن الجثث لسنوات وسنوات.. ظل يكتب في دفتره ما يميز تلك الجثث التي قد يبحث عنها اهاليها ذات يوم ..ظل يقرأ القرأن عليهم وقت الدفن وهو لا يقدر على فعل شئ اخر
كل تلك الجثث هي جثث معارضين للنظام.. يعذبون بأبشع الطرق ثم يقتلون في نهاية الامر ويقوم ابراهيم بدفنهم في الحدائق..لا يستطيع ابراهيم التحدث الى احد بما يعمل ولا يستطيع ان يطلب استقالته لانهم سيقتلونه في نهاية الامر
اختارت قسمة طريق المال والسلطة والجاه والمظاهر تاركة والدها في وقت احتياجه لها ولكن هذا الاختيار يؤدي بها الى مصائب فهي تتزوج ظابط يحب الرئيس.. يعشق الرئيس.. يتمنى ان يكون مثله.. بل يتمنى ان يكون مكانه لما لا
يحدث العزو الامريكي للعراق.. جثث في كل مكان.. سرقات.. نهب.. قتلى.. حتى تأتي رأس ابراهيم مع ثماني روؤس اخرى عائدة في صناديق الموز في تلك البلد التي لا موز فيها
ولكن هل هذه نهاية الالم والمواجع وهل ابراهيم اخر هؤلاء الشهداء
لا أعتقد
رواية كتبت لتقرأ مرات ومرات
التقيم العام.. العلامة الكاملة 5 نجوم
---------------------
*محمد مسلم: كاتب مصري، من أعماله: كلام في الكتب.

الجمعة، 20 أكتوبر 2017

صورة الأب ودلالاتها في رواية «تمر الأصابع» لمحسن الرملي / جواد السراوي

صورة الأب ودلالاتها في رواية «تمر الأصابع» لمحسن الرملي
 
جواد السراوي
تحفل روايات عديدة بتصوير الأب من حيث هو موضوع سردي، غير أنه من اللافت للانتباه أن نجد رواية تحتفي به من فاتحتها حتى نهايتها، إلى درجة القول إن شخصية الأب هي من تحرك خيوط السرد وتتحكم فيها. ضمن هذا السياق، سنحاول مقاربة رواية «تمر الأصابع» للروائي العراقي محسن الرملي، من خلال التركيز على صورة الأب الذي تجمعه صلات متشابكة ومعقدة مع وسطه الأسري من جهة، وبمحيطه الاجتماعي وببعض الأنساق من جهة أخرى. «تمر الأصابع» هي الرواية الثانية لمحسن الرملي، وقد استطاعت أن تخلق تلقيها الخاص في النسق العربي والغربي على حد سواء. إذ تحفل بموضوعات جديرة بالانتباه، مثل العلاقة بين الشرق والغرب، الحب، الهجرة، الحرية، والديكتاتورية، ولعل هذا ما جعلها محط اهتمام منذ صدورها بالإسبانية في مدريد 2008، قبل ترجمتها للعربية 2009. ليتم ترشحها ضمن القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) عام 2010.
الرواية
تبدأ أحداث «تمر الأصابع» باصطحاب إستبرق إلى المدينة لتلقي العلاج بعد مرض ألمّ بها، وفي الطريق يتجرأ عليها شاب ويلمس مؤخرتها وهو ما حمل آل مطلق على جمع رجال القرية والهجوم على «تكريت» حيث نوح الذي تم القبض عليه جراء محاولة غرزه الرصاصة في مؤخرة الشاب، ثأرا لإستبرق. وبعد الاشتباكات بين الطرفين، تحكم الشرطة سيطرتها على القرية فتبدل ألقابهم، من «المطلق» إلى «القشمر» هذه التسمية التي توحي في العامية بالاستخفاف والإهانة. يستغيث الجد مطلق بأصدقائه من القرى المجاورة، وبعد معرفة الحكومة بذلك تطلق سراح نوح بعد تعذيبه، وهو ما تسبب في عدم إنجابه مذاك. يسافر نوح إلى مدريد، يعقب ذلك سفر سليم الذي يصادف أباه هناك، وفي خضم ذلك يكتشف الأصدقاء الجدد لأبيه (من الألمان والإسبان والإنكليز). يود استفساره في وفاة (أو قتل) مطلق جده، لكن بدون جدوى. يزداد ارتياد سليم للمرقص حيث يعمل الأب، وينخرط في الحديث مع فاطمة، المرأة المغربية. بعد ذلك يستحضر سليم أيامه في القــــرية مقارنا إياها مع ما يعج في المرقص، حيث تجتمع كل المتناقضــــات ليسترسل في قصة فرض الحكومة تجنـيد الشــباب العراقيين واستبدال تسمية قرية القشامر باسم قرية الفارس. وستشكل هذه الحادثة الحدث المفصــلي الذي أثر على الجد مطلق. عاود رجال هذا الأخير بمن فيهم نوح الهجوم على الجبهة، جيء بسيارات حكومية، توقفت وسط القرية حاملة لسبعة عشر تابوتا فيها جثت شباب القرية الذين قتلوا في الهجوم الأخير على الجبهة، وكان من ضمنهم صراط حبيب إستبرق. بعد ذلك، لم يأذن الجد مطلق لرجال القرية بدفن الجثت إلا بعد الثأر لها، وهو ما جعلها تتعفن وتنبعث رائحتها. في الصباح، وبعد نقاش صاخب بين الأب (مطلق) والابن (نوح) يموت الأب (أو يقتل) ويقرر نوح السفر إلى إسبانيا للأخــــذ بالثأر، وغرز الرصاصة المتبقية في مؤخرة الشاب/الدبلوماسي الذي تجرأ على لمس مؤخرة إستبرق. في الأخـــير، يكتشف نوح بمساعدة من صديقه الكردي أن الشاب الذي تجرأ على إستبرق قد تم تعيينه ملحقا في السفارة العراقية في إسبانيا، يعدل عن ثأره ويسافر رفقة حبيبته روسا إلى ألمانيا التي كان متيما بها تاركا مرقصه لابنه الذي تزوج هو الآخر بفاطمة.
تصوير شخصية الأب
لا تخفى الإمكانات التي يثيرها التصوير الروائي في فهم العالم وتعقيداته وتشــــابكاته. تحتفي الرواية بثلاث شخصيات جوهرية تتحكم في مسار السرد وهي على التوالي: الابن (سليم) والأب (نوح) والجد (مطلق). هذه الشخصيات الثلاث تنتظـــــم في علاقــــــات متشابكة ومعقدة في ما بينها، بحيث يعسر فهم أحدها بمعزل عن الآخر، إنها تتشابك في ما بينها، في الوقت الذي تؤسس فيها لاستقلاليتها.. علاقة السارد (سليم) بأبيه (نوح)، علاقة نوح بأبيه (مطلق)، ثم علاقة السارد بنفسه.
علاقة السارد سليم بأبيه نوح
يمكن أن نميز فيها بين مرحلتين.. قبل سفر الأب إلى إسبانيا وبعده. وتتكشف علاقة السارد بأبيه في النص عبر مجموعة من الصور الجزئية التي تنتظم في ما بينها لتشكل في ما بعد صورة كلية، قوامها الازدواجية التي طبعتهما معا، فغدا كل واحد منهما «آخر» بالنسبة للآخر. تغيرت نظرتهما إلى القرية المهجورة، وإلى عالم الآخر (إسبانيا) الذي سيصبح في مستقبل السرد فضاء للحرية والانعتاق من سطوة التقاليد وكل أشكال السلطة، سواء الداخلية (سلطة الأب/سلطة الأسرة) أو الخارجية (سلطة القرية بعاداتها وتقاليدها). كان الأب نوح يختزن في داخله ذلك الآخر الذي لم يرد أن يكشف عنه في نسق «محافظ»، يعج بأشكال الطاعة والولاء، حيث يجسد الأب مطلق المركز الذي تنتظم حوله العائلة ما يجعل من العلاقة الأولية بينه وبين الابن نوح والحفيد سليم علاقة هرمية. وسيتضح في ما بعد أن هذه العلاقة ستخضع لانعطافات جديدة بفعل عوامل خارجية مساعدة، منها السفر نحو «الآخر» وتمثل قيمه ونمط عيشه. يقول السارد واصفا العلاقة القبلية التي كانت تجمعه بأبيه نوح: «في أثناء صعود الحمار للجبل يضعني أبي أمامه كي لا يميل جسده الضخم على جسدي الصغير، وعند النزول يردفني خلفه كي أستند إلى ظهره. وكانت لحظات تطويق ذراعي لجسده واحتضانه هي أحب اللحظات إلى نفسي، حيث الإحساس بقربي لأبي واتحادي به. كنت أشعر بحنان لذيذ وثقة ودفء لأنها أشد حالات التصاقي به، أشعر بحب كبير له وبحبه لي». هذه العلاقة التي قوامها التقدير والاحترام بين الابن سليم والأب نوح، ستعرف تغيرا لافتا، بل إن ذلك سيؤثر على علاقة السارد بنفسه، كما ستساهم في تغيير نظرته للأمور وللنسق الذي يقطن فيه. في خضم هذه المتغيرات سيطفو نوح الجديد، نوح المنبهر بالنسق الإسباني، الولوع بترف الحياة والبذخ وقيم الحرية والديمقراطية، المهووس بالثقافة الألمانية الحافظ لديوان غوته «الديوان الشرقي للمؤلف الغربي». يقول السارد واصفا أباه الجديد: «أنا مشغول جدا يا سليم… ولا يقول ابني ـ كما ترى، ولكنني أعدك غدا.. غدا بالتأكيد ـ ولا يقول إن شاء الله». «أفكر بأن أبي في داخله اثنان، هناك كان يخفي الذي يمارسه هنا، وهنا يخفي الذي كان يمارسه هناك، بدون أن يتخلى عن أحدهما نهائيا، وأحيانا يطعم أحدهما بالآخر». إن الاستشهادات المنتقاة تومئ بالتبدل النوعي الذي طرأ على شخصية الأب نوح، وهو ما أثر على علاقته بابنه سليم الذي انبهر بهذا «الأب الجديد». وعبر أطوار السرد يظل السارد في سعي حثيث نحو فهم هذه الازدواجية التي طرأت على شخصية أبيه. لذلك ما فتئت الرواية ترسل في السمة التركيبية بين الأب والابن، وهي خليط من التقليد والحداثة، فيها شيء من الماضي وشيء من الحاضر، كحال المجتمع العربي المعاصر الذي ما زال يرزح تحت وطأة الحنين إلى الماضي والتوق إلى عوالم الحداثة، فلا يملك إلا أن يزاوج بينهما. ذلك حال الشخصيات الثلاث في الرواية، إنها تعود إلى ماضيها الغابر، لكنها تقيم مسافة بينها وبينه.
علاقة نوح بأبيه (مطلق)
يكشف السارد منذ فاتحة السرد وحتى نهايته عن العلاقة الوطيدة التي تجمع بين أبيه نوح والجد مطلق، وهي علاقة يتم تصويرها بالاستناد إلى أساسيين متلازمين معقدين هما: الطاعة والولاء من جهة، والتمرد والتحرر من جهة أخرى. وبهذا المعنى، فإنه يمكن النظر إليها بالمقياس السابق، أي قبل السفر وبعده. يقول السارد: «أبي لم ينظر في عيني جدي أو حتى حدّق في وجهه على الإطلاق، دائما ينظر إلى الأرض مستمعا إلى كلامه بانتباه، تجاوز عمره الأربعين عاما وهو يقول إنه يستحي من النظر إلى وجه أبيه». «وأعترف لك الآن وحدك، ولأول مرة في حياتي.. بأنني كنت غالبا ما أرى الرب مجسدا فيه». تدلنا الأمثلة المنتقاة بطبيعة العلاقة التي تجمع بين الأب والابن في بعض الأنساق العربية، علاقة قوامها الهيبة والاحترام والرهبة في آن، لا سيما في الأوساط القروية، فرمزية الأب فيها تتجاوز الوظيفة البيولوجية المتمثلة في التربية والإعالة، لتغدو سلطة رمزية فوقية، وتصير له «الوصاية» على كل من تحت ولايته من أفراد أسرته. لكن الأب مطلق لا يبرز من موقع الأب المتسلط الذي يفرض خضوعه وطاعته، بل كشخصية مثقفة وقارئة، شخصية تمتلك من مؤهلات التواصل ما يجعلها تعقد صلات مع إثنيات متعددة. وعليه، فإننا لا نقرأ في الأمثلة السالفة نوحا واحدا، بل ذلك النوح الجديد المتجدد؛ فيه من رواسب النسق الذي تربى فيه (إحدى قرى العراق) وفيه من عالم الآخر وما يعج به من قيم الديمقراطية والحرية والانفتاح، إنه شكل من أشكال الانفلات من سلطة الأب الرمزية، فيكتشف القارئ أمارات التغيرات التي طرأت على هذه الشخصية، إذ خرجت من انطوائيتها وأصبحت تنعم بحرية الرأي وحرية الاختيار.
علاقة السارد بنفسه
من عاديات الأمور أن تحدث شقوق في البناء الداخلي للسارد، وهو ما سيؤثر على علاقته بنفسه ومحيطه الخارجي، لا سيما بعد وفاة الجد مطلق، علاوة على التأثر بـ»الأب الجديد» نوح الذي خلق مسافة بينه وبين ماضيه. علاقته أيضا بجده مطلق مبنية في كافة أطوار السرد على الاحترام والهيبة والرهبة والخوف في الوقت ذاته. يقول: «لا أدري ماذا أفعل، وقلبي يدق بشكل لم أعهده من قبل إلا في حالات الخوف من جدي». وفي مستقبل السرد، خاصة بعد رحيل سليم إلى إسبانيا، بعدما خنقته رائحة الجثث المتعفنة، نقرأ ساردا جديدا هو ذلك المعجب بإسبانيا المنبهر بقيمها، يفسر ذلك التوق الشديد لتمثل قيم هذا الآخر والرغبة الجامحة في التموضع ضمن هذا النسق، يقول: «صار يعجبني العيش هنا وسط هذه الحرية وهذا السلام لذا فأنا منهم، من هنا حيث أكون خارج شقتي».
صورة الأب المثقف
تضعنا الرواية أمام شخصيات مثقفة تعبر عن وجهة نظرها ومنظورها للأمور، استنادا إلى مقولة دمقرطة الحكي. سننصت للرواية من زاوية تصويرها للابن (سليم) والأب (نوح) والجد (مطلق) باعتبارهم شخصيات تتمتع بذخيرة معرفية، إنهم قارئون لتراثهم وتراث الآخر. يقول السارد: «وربما كنت مدفوعا إلى الشعر بسبب أبي أيضا، الذي يحفظ (الديوان الشرقي الغربي) لغوته بالألمانية». «تعلم أبي الألمانية والإنكليزية من الأجانب في شركات النفط، وكان يحفظ أيضا مقاطع من هاملت وشكسبير، وبالطبع يحفظ القرآن كاملا». فالشخصيات الثلاث وعبر مسار السرد تكشف عن ذخيرتها وخلفياتها المعرفية التي تتأرجح بين المعرفة بالنسق ومعرفة أخرى تنهل من الآخر وتتفاعل معه في الوقت ذاته، لتشكل صورة كلية أرست ما يمكن أن نسميه بـ»بلاغة التناقض»، فالرواية تغرق في أشكال الازدواجية التي طبعت شخصياتها.
*نشرت في صحيفة (القدس العربي)، العدد 8980 بتاريخ 19/10/2017 لندن.
**جواد السراوي: كاتب وباحث مغربي.