الثلاثاء، 26 يناير 2016

حوار مع محسن الرملي / أجراه: أحمد مجدي همام

حوار
محسن الرملي: جيل التسعينات العراقي عايش حروباً وديكتاتورية وهجرة


أجراه: أحمد مجدي همّام
يعيش الكاتب العراقي محسن الرملي في العاصمة الإسبانية مدريد، ويكتب باللغتين العربية والإسبانية، إلا أن جلّ نتاجه الكتابي والأدبي مرتبط بالعربية. ينتسب الرملي إلى جيل التسعينات، وهو شقيق الكاتب العراقي الراحل حسن مطلك الذي أُعدِم في عهد صدام حسين بتهمة شروعه في قلب نظام الحكم. ربما كان إعدام مطلك، مضافاً إلى الحروب العراقية في إيران والكويت، الركيزة الأساسية التي شكّلت وعي محسن الرملي. ثم جاء إتقانه اللغة الإسبانية ليفتح له أفقاً واسعاً، ويرفد هذا التكوين بدفق إضافي من الفنون والآداب بلغة أخرى.
للرملي إصدارات عدّة بين الرواية والقصة والشعر والترجمة والسيناريو، منها روايات «تمر الأصابع»، و«الفتيت المبعثر» و «حدائق الرئيس»، ومن المجاميع القصصية: «هدية القرن القادم»، و«برتقالات بغداد وحب صيني».
هنا حوارٌ معه.
> رصدت 50 سنة دموية في العراق، بين ويلات الحرب والأسر في إيران، إلى طغيان نظام صدام حسين واستبداده، وصولاً إلى الغزو الأميركي... هل كتبت «حدائق الرئيس» لتوثّق الجحيم العراقي؟
- كتبتها للإجابة عن سؤال كان يوجه إليَّ دائماً بعد أي نشاط أقدمه في أي بلد أجنبي، وهو: لماذا يحدث في العراق هذا الذي يحدث؟ وعن سؤال كان يوجَّه إليَّ في البلدان العربية كافة، وهو: لماذا تكرهون صدام حسين؟ لذا، حاولت استعراض تاريخ العراق المعاصر منذ حرب 48 وصولاً إلى الاجتياح الأميركي من خلال تصوير ما حدث للناس البسطاء، وكيف عبثت الأحداث بمصائرهم، وفي ذلك أيضاً نية إطلاع الأجيال العراقية الجديدة التي تعاني الآن، على بعض ما عاناه أسلافها وكيف حدث كل هذا الخراب الذي وجدت نفسها مولودة وسطه. أردتُ أن أكتب عملاً يقول أقصى ما يمكن عن أوجاع العراقيين في العقود الأخيرة، ثم ألتفت بعد ذلك لكتابة أعمال عن تجاربي الجديدة خارج العراق، ولكن رغم ذلك ما زلت مصاباً بداء يؤلمني في كل لحظة، اسمه العراق.
> يبدو أن تأثير إعدام شقيقك عام 1990 ندبة لن تندمل أبداً... هل قصدت أن تمرر حكايته في شكل غير مباشر في روايتك الأخيرة؟
- نعم، وقد جعلته هو المحرك الرئيسي لشخصيتيها الرئيسيتين مستنداً إلى جزء من سيرتي الشخصية، لأنه، هو الدافع الحقيقي لي في حياتي كي أكون كاتباً، وربما لولاه ولولا فاجعة مقتله التي طعنت روحي في الصميم، لما كتبت، وكنت سأمتهن مهنة أخرى غير الكتابة، أي في شكل ما، صرتُ كاتباً كي أحقق له حلمه هو وكي أقول أنه هو الكاتب الحقيقي وليس أنا. حسن مطلك كان يعيش ويتنفس أدباً في كل لحظة، يعيش في الأدب ومن أجل الأدب، كان يبدو كأنه شخصية أدبية خارجة من بطون الكتب وجدت نفسها في واقع غريب عنها. لذا، غادر هذا الواقع سريعاً وبصورة أدبية أيضاً، إلى الحد الذي كان طلبه الأخير من المحكمة التي حكمت عليه بالإعدام شنقاً هو أن يصحح قرار حكمها لغوياً.
> تبدو مسألة الهوية بالنسبة إلى المهاجر العراقي في أوروبا سؤالك الرئيسي في «تمر الأصابع»، إلى أين وصلت بخصوص إجابتك عن سؤال الهوية، وأنت كما تقول مزيج عراقي إسباني؟
- انتهيت منه خلال كتابة (تمر الأصابع) وبعدها، وصرت أرى الآن أنه قد قيل وكتب عن (الهوية) و(العولمة) أكثر مما يجب وأكثر مما يستحقان وأن فيهما الكثير من الإيهام واللغو ويجيرهما كل شخص على هواه وأنهما ملغومان بالعنصرية والأنانية والتضييق على إنسانية الإنسان. لقد تصالحت مع نفسي بعد كتابتي (تمر الأصابع) ولم تعد تشغلني مسألة كم فيّ من هذه الثقافة أو تلك أو قضية الحفاظ على «هوية» جماعة ما، لأن ما هو عميق وأصيل وصادق لا خوف عليه من انفتاح أو عولمة. أما ما هو ليس كذلك فمن العبث أن أستميت للمحافظة عليه ومن الأفضل أن أترك لرياح حركة الحياة أن تكنسه.
> تتحدث عن افتقاد الرواية العربية للاشتغال على التخييل والفانتازيا، بينما نرى أن غالبية رواياتك منغمسة في وحل الواقع، كيف ترى ذلك؟
- هذه إحدى غُصَّاتي وحسراتي في الكتابة فعلاً، فكم أتمنى أن تهدأ أحداث الواقع قليلاً كي نلتفت إلى الخيال والحلم والابتكار، لأنها جزء لا يتجزأ من إنسانية الإنسان، بل إن الخيال هو الذي يميز هذا الكائن عما سواه والخيال هو الذي يجعل الإنسان أجمل وأطيب وأحَن وأكثر إنسانية. أما الواقع فيحدده، يحصره، يقمعه ويحوله إلى مجرد مادة أخرى متحركة اضطرارياً وسط كون لا حدود له من مواد أخرى. وعلى صعيد الأدب، كنا نحن في الشرق وفي المنطقة العربية مصدراً من مصادر الخيال والبهجة والفانتازيا لبقية الثقافات وما زالت مسحورة بألف ليلة وليلة ورسالة الغفران وغيرها، أما الآن، فماذا سنقدم لغيرنا إذا ما وصفنا واقعاً مللنا حتى نحن أنفسنا من بؤسه؟
> تتقافز بين أشكال كتابية عدة، كيف ترى هذه الخفة في التعامل مع القوالب؟ وهل هناك لون منها أقرب إلى قلبك؟
- ربما أبدو متقافزاً أو راقصاً، ولكن في النهاية، أنا أتحرك في البقعة والميدان ذاته، ألا وهو الأدب. كلها أشكال كتابية وأنا كاتب، والفكرة أو الموضوع هو الذي يفرض أو يختار الشكل الأنسب له. وكقارئ، الأقرب إلى نفسي هو الشعر والفلسفة، أما ككاتب فأقربها إلى نفسي هو السرد، ومنه الرواية على وجه التحديد.
> وماذا عن الترجمة بين العربية والإسبانية؟ هل ترفدك بالمزيد أم تقتص من وقت الكتابة؟
- إنها تفعل بي هذين الفعلين معاً، ترفدني وتعلمني الكثير جداً من حيث الاشتغال الكتابي والتركيب والصياغة اللغوية وفي الوقت نفسه، تقتص من وقتي الذي أتمنى تكريسه للكتابة ولمشروعي الشخصي أكثر. لكنني أرى أن الترجمة فريضة على كل عارف بلغة أخرى، ولو ترجَم كل عربي يعرف لغة أخرى كتاباً واحداً في اختصاصه من تلك اللغة، لأصبحت حالنا وحال ثقافتنا على غير ما هي عليه الآن تماماً.
> وصلت رواياتك إلى قوائم مسابقة البوكر، وسبق أن فزت بجوائز عربية وغربية، كيف ترى قيمة الجائزة للكاتب؟ وهل ثمة فروق كبرى بين الجوائز العربية والأوروبية؟
- عموماً، أنا مع الجوائز في كل أشكالها وأنواعها، ومهما كثرت أرَها قليلة، فكل إنسان يتمنى الحصول على مكافأة معينة على جهده وعمله ولو كانت مجرد كلمة شكر أو اعتراف وسط هذا الكم الهائل من المحبطات والمثبطات وخيبات الآمال التي يتلقاها يومياً. بول أوستر بعظمته، جاء، على حسابه الخاص، إلى قرية في إسبانيا لاستلام جائزة اخترعتها مجموعة صغيرة من القراء في تلك القرية، وما هذه الجائزة إلا عبارة عن ورقة شكر مطبوعة على الكومبيوتر. أما بالنسبة إلى الفروق بين الجوائز العربية وغيرها، فلا أعتقد أنها كبيرة لأن الجوائز كافة في العالم وعبر التاريخ تتأثر أو تخضع لاعتبارات معينة في ظروف معينة ولذائقة مجموعة أفراد محكمين وتقويمها.
> تعمل في تنسيق مهرجانات وملتقيات أدبية عدة بين إسبانيا وأميركا اللاتينية، كيف تلخص تجربتك وملاحظاتك في هذا الشأن؟
- إنها من التجارب الغنية بالنسبة لي، وأتمنى نقلها على أوسع نطاق في عالمنا العربي، والخلاصة الأبرز منها هي أن الفعل الثقافي يمكن أن يصنعه الأفراد والجماعات باستقلال تام عن الحكومات والمؤسسات، بينما في عالمنا العربي عودونا أن المهرجانات هي دائماً حكومية وأننا لا يجب ولا نستطيع أن نقومها من دون الحكومة، بينما في الحقيقة أن الفعل الثقافي هو فعل شعبي وفعل أفراد وجماعات محبة للثقافة والفن والجمال ولا تحتاج إلى إمكانات ضخمة كما قد يتوهم البعض وإنما فقط تحتاج إلى إرادة وحب حقيقيين.
> نشرت كتاباتك في الأردن ومصر والعراق والجزائر... كيف ترى سوق النشر العربية؟
- إنها أفضل حالاً من الكثير من أسواق النشر التي عرفتها في بلدان أخرى غير عربية، والنشر الآن مزدهر في العالم العربي وثمة سوق واسعة ومتنوعة وهناك حركة قراءة متصاعدة، بخاصة من الشباب، إلا أن النشر عندنا ما زال في حاجة إلى المزيد من تحسين أدائه المهني من حيث جودة التحرير والطبع والترويج والحقوق القانونية والتوزيع.
> هل تؤمن بالمجايلة الأدبية؟
- نعم، وكنت أتمنى لو أن لدينا حركة نقدية جادة تعتمد هذا التصنيف الإجرائي الذي يضيء ويدرس سمات وأعمال كتّاب كل مرحلة ويغربلها في شكل موضوعي وعلمي وليس مجرد إطلاق تسمية سهلة تعتمد على تسمية كل عقد من السنين، والدليل أن المعنيين لم يستمروا بهذه التسميات بعد أن دخلنا الألفية الثالثة لمجرد أن لفظها لا يبدو سهلاً، فلم يقولوا جيل الألفين أو جيل الألفين وعشرة بينما كانوا يقولون ذلك منذ الأربعينات وحتى التسعينات ثم توقفوا فجأة، ولو أنهم اعتمدوا فعلاً على قواعد تسمية الأجيال الأدبية المتعارف عليها في الثقافات العالمية، والتي بدأتها إسبانيا منذ نهاية القرن التاسع العشر لما توقفوا الآن عن إطلاق تسمية الأجيال، فالأجيال أو الجماعات المبدعة يمكن إيجاد تسميات أخرى لها غير تسميات العقود الزمنية. أما بالنسبة لي، ووفق التصنيف السهل المجاني العربي الذي أشرت إليه، فيعتبرونني من جيل التسعينات، والذي من سماته، عراقياً، أنه عايش حروباً وحصاراً وديكتاتورية وهجرة، وأنه يتعامل مع اللغة على أنها وسيلة وليست هدفاً وأنه التفت إلى الواقع المباشر بلا تهويمات واقترب من الناس وقرَّب الأدب إليهم أكثر وليست لديه عُقَد ولا مشاحنات وحروب أدبية بين مبدعيه ولم يحرص أو يسعى لمناصب ولا يقف طويلاً أمام عتبات المؤسسات ومنابر النشر والرقابات والنقاد كي يمنحوه إجازة الاسم والقول. وغير ذلك الكثير، مما يُفترض دراسته وتأشيره وإضاءته لمصلحة المتلقي والكاتب وعموم حركتنا الأدبية والثقافية.
> إلى أين يمضي الشرق الأوسط؟ والعراق تحديداً؟
- يمضي إلى مواجهة نفسه في شكلها الحقيقي للمرة الأولى في التاريخ، مواجهة حقيقية عارية لا تغطيها الشعارات ولا النظريات ولا التغني ولا الأكاذيب، مواجهة مع النفس ومع الآخر بلا أي تزييف ولا مجاملات ولا أي خداع للذات. إنه ينزف الآن في شكل مؤلم جداً ولكن من بين هذا النزيف يخرج القيح المتراكم والكراهية والتناقضات وغيرها. إنه في حالة تشريح سريري وإجراء عملية جراحية لذاته، فإما أن يشفي نفسه أو ينتحر، وأنا أميل إلى التفاؤل رغم إيماني العميق بالتشاؤم الوجودي، ذلك أنني أتمنى وأريد وأعمل لانتصار الحياة في النهاية وانتصار ما فيها من خير وحق وجمال.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشر في صحيفة (الحياة) العدد 19289 بتاريخ 26/1/2016م.
**ونشر في كتاب (مصنع الحكايات)، أحمد مجدي همام، دار (مداد)، دبي 2016م


طبعة رابعة من «الفَتيت المُبعثَر» لمحسن الرملي

طبعة رابعة من «الفَتيت المُبعثَر» لمحسن الرملي
شيماء فؤاد
أصدرت دار المدى في بيروت وبغداد وأربيل، الطبعة الرابعة من رواية “الفتيت المبعثر” للكاتب والمترجم العراقى د.محسن الرملي.
الفتيت المبعثر” هي الرواية الأولى للكاتب العراقي محسن الرملي، صدرت طبعتها الأولى عن دار “الحضارة العربية” في القاهرة سنة 2000،  وحازت الترجمة الإنجليزية لها (الفتيت المبعثر Scattered Crumbs” ) على جائز أركنسا Arkansas الأمريكية لعام 2002، كما ترجمت للإسبانية والإيطالية .
يصف الرملي في هذه الرواية عائلة عراقية، تتمثل فيها معاناة الشعب العراقي، في ظل الحروب والدكتاتورية. وقد تم تدريس هذه الرواية في جامعة القاضي عياض المغربية سنة 200 ـ 2001، وجامعة ميشيغان الأمريكية سنة 2003 ـ 2004، جامعة هارفرد سنة 2005 - 2006 وجامعة لندن سنة 2005.
ونقرأ منها: "نحن المبعثرون في المنافي لم نختر أماكننا الحالية وإنما وصلنا إليها إثر انفجارات الدخان في جحر النار الأزلية والمترنحون اختناقا لا ينظرون، اية بقعة تطأ أقدامهم. لم نختر أراضينا الجديدة، نحن الذين ركلتهم قديمتهم حين ديست بلا رحمة ولهذا نكابد أوجاعنا الشبيهة بسلخ الجلد حيا، وما زال السابقون منا يفتحون صنابير ذاكرتهم بالحديث، سائلين عن مقهى عزاوي والثور المجنح ونومى البصرة، واللاحقون تجيش صدورهم بالغثيان لكثر التشكي فيوجزون: من دخل قبره فهو آمن"
وصدر للكاتب محسن الرملي أيضا رواية “تمر الأصابع” والتى ترشحت ضمن القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) سنة 2010، وهي الرواية الثانية للرملي بعد ”الفتيت المبعثر”، ثم أصدر بعد ذلك ”حدائق الرئيس” ومؤخرا ”ذئبة الحب والكتب” التى ترشحت لجائزة الشيخ زايد للكتاب .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*عن (محيط) بتاريخ 24/1/2016م.



الجمعة، 22 يناير 2016

محسن الرملي: كل ما كتبته كان عن العراق/ محمد الحمامصي

روائيون يكاشفون تجاربهم في ملتقى الرواية العربية
الكاتب العراقي محسن الرملي: 
'الفتيت المبعثر' أكثر تجريبًا وتكثيفًا وإيحاءات رمزية،
وفي 'تمر الأصابع' هيمنت الثنائيات على كل شيء تقريبًا.
كتب ـ محمد الحمامصي
في إطار فعاليات ملتقى الرواية العربية في دورته السادسة وضمن محور شهادات وتجارب روائية، ارتحل الروائيون المغربية ربيعة ريحان واللبناني عباس بيضون والعراقي محسن الرملي والمصريون محمد سلماوي وعبده جبير وصفاء عبدالمنعم في الجلسة الأولى من جلسات هذا المحور في أجواء الكتابة وعوالمها وعلاقاتها، كاشفين عن جوانب مهمة من تجليات رؤاهم وأفكارهم الروائية شكلا ومضمونا، حيث تناول كل منهم تجربته من زاوية مختلفة عن الآخر.
• كل ما كتبته كان عن العراق
وتحت عنوان "كل ما كتبته كان عن العراق وقناعاتي عرضة للشك" كانت شهادة الروائي العراقي محسن الرملي، التي كانت كاشفة إلى حد كبيير لرؤيته وأفكاره، قال الرملي "روايتي الأولى "الفتيت المُبعثر" تناولت آثار الحرب العراقية ـ الإيرانية على المجتمع ـ ورواية "تمر الأصابع" دارت حول إشكاليات المهاجر العراقي والدكتاتورية وثنائيات أزمة الهوية، و"حدائق الرئيس" حاولت فيها استعراض مساحة أوسع من تاريخ العراق الحديث مع التركيز على ما حدث له قبل وبعد الغزو الأمريكي".
وأضاف "مما لمسته في تجربتي أن ثمة تحولات طرأت على الأسلوب وفي المراحل التي تناولتها كل رواية، فكانت "الفتيت المبعثر" أكثر تجريبًا وتكثيفًا وإيحاءات رمزية، وفي "تمر الأصابع" هيمنت الثنائيات على كل شيء تقريبًا من حيث مستوى السرد والزمان والمكان والمواضيع والانشطار النفسي، أما في "حدائق الرئيس" فقد عاد السرد المستقيم المباشر الذي يركز على الموضوعية أكثر من التجريب باللغة، مع أن هذه الروايات الثلاث تشترك جميعها بأنها تتحدث عن العراق وأثر الأحداث والتقلبات السياسية عليه، لكن هذه التحولات في السرد، متأتية من طبيعة محتوى كل عمل بذاته وكذلك متأثرة بتحولات السرد الروائي في العالم بشكل عام".
وأوضح الرملي "لا زلت مقتنعًا أيضًا بالفكرة المتوارثة عن أرسطو وابن سينا وفرويد وباختين وغيرهم ممن قالوا بأن عملية الكتابة تحمل في طياتها جانبًا تطهيريًا يتعلق بالذات والآخر، حيث أشعر بتفريغ الشحنات الانفعالية والهواجس وبالتغيرات التي تطرأ على نفسيتي ورؤيتي وشخصيتي في أثناء وبعد الانتهاء من كتابة كل عمل، وكذلك بنوع من راحة الضمير كوني أشعر من خلال الكتابة بأداء أمانة التعبير عن هواجس وهموم الناس الذين عرفتهم ومعاناة الضحايا في بلدي، وتكرار محاولات إعادة طرح وصياغة الأسئلة الوجودية الإنسانية ذاتها".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشرت في (ميدل ايست أونلاين) بتاريخ 18/3/2015م.

الفتيت المبعثر من الخارج إلى الداخل/د.علاء مشذوب

الفَتيت المُبعثَر من الخارج الى الداخل

د.علاء مشذوب
عناصر الرواية  مهما ادعى من أدعى أنها ترتبط بطريقة تلفيقية لتكون في مجموعها النص  الروائي، فأنها لا تصل الى مستوى النص، ان لم تكن قد انصهرت في كيان واحد، وبطريقة كيمياوية بحيث يصعب إعادة تلك العناصر الى سيرتها الأولى، كعناصر مستقلة.
ومن تلك العناصر الرئيسة في الرواية هي الفكرة، التي تكاد تكون بمثابة النواة التي تحمل كل السمات التي يتسم بها النص، بل تكاد تكون هذه النواة هي العنصر الأول والمكون لما يتبعه من العناصر الأخرى كالأسلوب والأحداث والشخصيات...الخ، وتتمثل بالروح الى الجسد، فكما تنساب الروح في الأشياء لتبعث فيها الحياة، كانت فكرة عراقي الداخل التي تمثلت في الرواية الصغيرة أو القصيرة تحت عنوان (الفتيت المبعثر) للروائي محسن الرملي هي النواة التي التفت حولها العناصر الأخرى. فكيف وظف الروائي فكرته داخل النص، وكيف نظر الى عراقي الداخلي من خلال روايته.
تتكلم الرواية عن عائلة ضخمة في قرية هجرها (محمود) وتبعه الراوي العليم بكل شيء "باحثا عنه حالما بأن نفعل شيئا ما ونصبح رجالا يستحقون الاحترام كي تبحث عنا، من بعد نساء مثل وردة، ابنة عمتي التي تنقلت بين الأزواج حتى انتهت تحت اسماعيل الكذاب". هذا ما يبدأ به الراوي نصه بالهروب من العراق الذي طوقه الجحيم باحثا عن محمود، ومن ثم يسرد لنا تفاصيل عائلة الحاج عجيل وأبنائه السبعة ونساءهم وابنته الجامحة واحفاده .
ومن ثم يستعرض لنا نماذج من هذه العائلة، ومنها سعدي الذي يحمل مرض اللواطة، والذي يجبر الآخرون على فعل القبيح به، والذي سيتحول فيما بعد الى بغداد ليرأس فرقة (أحباب القائد) ويصبح شخص يشار له بالبنان، بينما تتحول وردة هذه الشابة الجميلة التي يُعدم زوجها الى الزواج من رجل كذاب اسمه (اسماعيل الكذاب) لمجرد انه يحلم بإعداد خطة للانقلاب على الوضع الراهن، ولكنه كذاب ولم ينفذ ما وعد به. بينما يعدم النظام الفنان الموهوب قاسم وتبقى جثته في العراة لمدة ثلاثة أيام ومن بعدها تحمل لتوارى الثرى، بينما يختفي الكائن الهجين عبود من ساحة الأحداث، ليخضعوا أحمد هذا الشاب المجتهد الى يحصل على أعلى الدرجات وليصبح قاضي يمثل القانون لابتزازهم وعندما رفض دبروا له المكيدة "بعثوا الى داره امرأة تحمل حقيبة تاجر، فتحها جوار أقداح الشاي فوق الطاولة، وراحت تخرج منها رزم الورق النقدية مفتعلة حاجتها لمساعدته في قضية، وحمل أحمد أكداس الورق ليعيدها الى الحقيبة منزعجا رافضا، فالتقطوا له الصور، هجموا على الدار، والتقطوا ليرموا به في السجن (مرتشيا) ويرجع أطفاله الى عمتي المشغلة بالنواح ومسح خيط الدم النازل من تفاحة آدم. ص90" .
تخلص فكرة الرواية الى بقاء سعدي اللوطي واسماعيل الكذاب في العراق، بينما باقي العائلة ما بين متوفي ومهاجر ومختفي، والسؤال، هل بلد بحجم شعب العراق يتحول الى هذين النموذجين فقط، ألم يكن جنوب العراق ثائر هائج مضطرب على مدار حكم البعث، الذي عمل ما بوسعه من تنشيف الأهوار الى قتل أهله وبمساعدة الغرب دون طائل، ومثله شمال العراق، ألم يكن ثائرا على حكومة البعث الفاشستية ولم يركن له بالرغم من جرائمه المتكررة في المذابح والكيمياوي، ألم يثر الشعب في الانتفاضة الشعبانية، وعند إعدام بعض رجالات الدين المؤثرين، بل تحول العراق الى مجموعة من المعتقلات العلنية والسرية والسجون ومخابئ كل أجهزة الداخلة والأمنية وقد امتلأت بأجساد رفضت حكم البعث، وفي المقابل كانت اغلب الشعوب والحكومات المحيطة بالعراق معادية له، هل كان من المفروض على الشعب العراقي ان يهاجر كله عن طريق الأردن أو سوريا، في مقابل جواز سفر تفوق تكلفة إصداره الـ(600) ألف دينار، ومن يستقبله من الدول العربية أو العالمية. ليخيره الروائي في نصه بين أن يكون (لوطي) أو (كذاب).
أعتقد ان النص (الفتيت المبعثر) من ناحية السبك والنسيج كان أكثر من رائع، كما وامتاز بطريقة خاصة به، هي إعطاء بعض المفاتيح للأحداث ليتبعها بالتفصيل الجميل، لغته الروائية جميلة ورائعة وضعت على قدر معلوم ، كما لا يخفي ان الرواية قد حصلت على جائزة (أركسنا الأمريكية – 2002) وهي الآن في طبعتها الثانية. لكنه لم يكن موفق من ناحية الفكرة في تقسيم الشعب العراقي إلى عراقي داخل متخاذلين منكسرين لوطيين وكذابين، وبين عراقي الخارج الذين نفذوا بجلدهم .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشرت في ملحق (أوراق) لصحيفة (المدى)، العدد 3516 السنة الثالثة عشرة، بتاريخ 6/12/2015م.

الثلاثاء، 19 يناير 2016

ماجستير عن روايات محسن الرملي

ماجستير عن روايات محسن الرملي بإشراف شربل داغر 

الرواية.نت
بيروت/ حاز الباحث العراقي عدي جاسم أحمد على درجة امتياز عن أطروحته للماجستير في اللغة العربية وآدابها تحت عنوان (أنماط الشّخصيّة ودورها في البناء السّردي في روايات محسن الرملي) وذلك تحت اشراف الكاتب اللبناني د. شربل داغر في كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة جامعة البلمند في لبنان.
      وتندرج هذه الاطروحة ضمن الدّراسات الرّوائيّة الحديثة التي تناولتها المؤسسات الأكاديمية وغير الأكاديمية. فعلى صعيد الحضور النّقدي الممارس يأخذ النقد الرّوائيّ النصيب الأوفر في هذا الطرح. وهي تستفيد من عدد واسع من المناهج والدّراسات والتّجارب، لتقف من خلالها عند أعمال الرّوائي العراقي محسن الرّملي، دراسة وتنقيباً في إطار التقصي النقدي الخاص بالشّخصية. ويمكن عدّ هذه دراسة شاملة لموضوع الشّخصية والتّفرعات الخاصة بها، عند الرملي. كما يمكن القول أن تمظهرات الشّخصيات كانت المحفز المهم الذي اعتمده الباحث وفق الدّراسات الأكاديمية. ولكي تكون كذلك _ أي أكاديمية-  فكانت مقسمة على (ثلاثة فصول)، يسبقها تمهيد ويلحق بها نتائج، لا تخرج عن الواقع المتجلي لشخصيّات الرملي، وأرفق ذلك بجدول لجميع أسماء الشخصيّات في الرّوايات وعلاقة بعضها مع بعض مع مهنة كل شخصيّة من أجل التعرف عليها ومعرفة أجناسها وهوياتها في سير العمل الرّوائي.
جاء الفصل الأول بعنوان (أنماط الشخصيّة) وتم فيه تناول: الشخصيّة المحورية، الشخصيّة الرئيسة، الشخصيّة الثانوية ثم تبعه بإحصائية لجميع الشخصيات في الروايات الثلاث والتي كشفت عن أن الرملي يحرك قرابة الخمسين شخصية في كل واحدة من رواياته بغض النظر عن حجم أي عمل. وفي الفصل الثاني بحث في (أبعاد الشخصيّة) المختلفة ومنها: البعد الخارجي، الاجتماعي، النفسي والفكري، أما الفصل الثالث فقد تناول (الشخصيّة وعلاقتها بعناصر السرد) ومنها: الشخصيّة والمكان، الشخصيّة والزمن، الشخصيّة والحدث، الشخصيّة والحوار ثم أرفق بحثه بإيراد ملف عن سيرة الروائي قيد البحث تحت عنوان: (محسن الرملي: السيرة والمنجز).
    وقامت الدراسة الموسومة (أنماط الشّخصيّة ودورها في البناء السرديّ في روايات محسن الرّملي / تمر الأصابع – الفتيت المبعثر – حدائق الرئيس)، على مقاربة سرديّة تحليليّة، وأفادت من عدد كبير من الكتب والأبحاث والمقالات. وتوصّلت إلى عدة نتائج، من بينها:
v    إنَّ معظم روايات محسن الرمليّ تدور أحداثها بين المجتمع العراقيّ والإسبانيّ، لذا نجد أنَّ الرمليّ قد تأثّر بالمناخ الإسبانيّ إبان إقامتهُ في إسبانيا، وصاغ شخصيّاته من طبقات مختلفة.
v    في الرّوايات ثمّة طابع سير ذاتي يهيمن على إجمالي الرّوايات، وهذا الطابع يفضي بالضرورة إلى طرح عدد كبير من الشّخصيّات، ومنها الشخصيّة المحوريّة، أي شخصيّة الذات الرّاوية / الكاتبة، وشخصيّات سير غيرية وهي شخصيّات واقعية في عموم الروايات.
v    ثمّة شخصيات ثانويّة ظهرت في عموم الروايات، هي محركة للعمل السرديّ، وقد اشتركت مع الشخصيّات الأخرى وقامت بتسيير الأحداث، مثل شخصية (صراط، الجد، البدوي أبو فهدة الدكتور بهنام..... وغيرها).
v    ميّز الرملي الشخصيّات المحوريّة عن باقي الشخصيّات الأخرى، ولها حضور واسع ومتشعّب في عموم الروايات الثلاث.
v    فضلاً عن وجود شخصيّات محوريّة، يوجد أحداث وأماكن وأزمنة هي الأخرى سير ذاتيّة وتأخذ طابعاً، واقعيّاً حقيقياً، مع أن صبغة المتخيّل وقضايا الفن الرّوائيّ لم تكن غائبة.
v    إنَّ ثّمة علاقة تربط بين مفاهيم الشخصيّة اللّغويّة والاصطلاحيّة وبين آراء النقاد والدراسات الأكاديميّة والمناهج النقديّة حول مفهوم الشخصيّة.
v    شيوع عدد من الشخصيّات السير ذاتيّة التي حركت السرد نحو وجهة معينة ومحددة وواقعيّة مثل (الأب)، في رواية تمر الأصابع، و(إبراهيم / عبد الله)، في رواية حدائق الرئيس، وكذلك (قاسم / محمود)، في رواية الفتيت المبعثر.
v    تمثّل شخصيّة (إستبرق / الشيخ عبد الشافي / عالية) في رواية تمر الأصابع و شخصّية (قسمة / احمد)، في رواية حدائق الرئيس، و(احمد / وردة / حسيبة) في رواية الفتيت المبعثر، من الشخصيّات التي أخذت بالنمو مع خط سير الأحداث في عموم الروايات.
v    إلى جانب هذا نمت شخصيّات أخرى لم يكن لها الأثر الكبير والشديد في عموم الروايات لكنّها حاولت أن تظهر بعض الدلالات التي كانت الذّات الرّاوية تسعى إليها لتجعلها محطة استراحة للقارئ على نحو، (الأم / فاطمة)، في رواية تمر الأصابع، وفي رواية حدائق الرئيس (طارق / الراعي / سهيل / أبو قسمة / ظاهر / المختار)، وفي رواية الفتيت المبعثر( الضابط / سعدي / عجيل).
v    يحاول الرّاوي / الكاتب، أن يزج بشخصّيته بين الحين والأخر في عموم أجزاء الروايات ويحاول في حين آخر أن يقف عند الماحول العائليّ ويوضّح هموم العائلة وقصة هروبه إلى إسبانيا.
v    تظهر في الروايات مجموعة أنماط من الشخصيّات، فعلى النحو الذي تظهر به شخصيّات إجرامية ومؤذية تظهر شخصيّات إنسانيّة وواضحة ومحبة للآخرين.
v    يحاول الرّاوي أن يقف تقريباً عند الملامح الشخصيّة الخارجيّة والداخليّة أحياناً لعدد كبير من الشخصيّات التي تعرض لها وإن كانت ثانوية قليلة الأهميّة، أو أنها مسطّحة ولا تظهر كثيراً أو أنّها لا علاقة لها بسير الأحداث.
v    أعطى الرّاوي من خلال شخصيّاته الماثلة مجموعة قيم أوضحت المجتمعان العراقيّ والإسباني وحاول من خلالها أن يقف عند الأمور السلبيّة والإيجابيّة في كل من العراق وإسبانيا، بوصفهما الأمكنة الأكثر حضوراً.
v    ينتسب الرّاوي من الشخصيّات الكليّة العلم، وهي على اطّلاع بقضايا السرد الذاتيّ والسرد الموضوعيّ وهي محرك الشخصيّات.
v    ظهرت في الروايات مجموعة أبعاد نفسيّة واجتماعيّة وفكريّة وخارجيّة للشخصيّات الماثلة وكان كل ذلك باستشهاد وتحليل عند هذه الظواهر.
v    أوقفنا الرّاوي عند الحركة الإيقاعيّة وتنقل الشخصيّات حسب سير الأحداث وتفاعلها مع الأحداث بطرق متوازية ومتداخلة في الحدث.
v    كشفت الدّراسة عن علاقات جوهريّة تربط الشّخصيّات بعناصر السرد الأخرى، وكانت فيها وقفة تحليليّة عن علاقة الشخصيّات بالزمان والمكان والحوار والحدث، والتي كشفت عن ترابطات قوية بينها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشرت في (الرواية) نت، بتاريخ 19/1/2016م.

*وفي (صوت العراق) :

الأحد، 17 يناير 2016

حوار مع محسن الرملي / أجراه: المحفوظ فضيلي / الجزيرة.نت

حوار
محسن الرملي: للمبدعين دور إيجابي بالربيع العربي


أجراه: المحفوظ فضيلي
في الحلقة الثالثة من سلسلة حوارات الجزيرة نت تسائل المبدعين عن الربيع العربي، لا يتردد الكاتب العراقي -المقيم في إسبانيا- محسن الرملي في القول إنه كان يتوقع انتفاضات الربيع العربي، ولكن ليس بالشكل الذي حدث تماما.
وعن مآلات ذلك الربيع وما شابه من انتكاسات، يرى الرملي -الذي ولد عام 1967 شمال العراق وانتقل للعيش في إسبانيا عام 1995- أن الشعوب العربية تمضي إلى مواجهة نفسها بشكلها الحقيقي لأول مرة في التاريخ، مواجهة حقيقية عارية لا تغطيها الشعارات.
وعن دور المبدعين والكتاب في الربيع العربي، يقول الروائي والمترجم والأكاديمي العراقي إن دورهم بشكل عام كان إيجابياً، قبل وأثناء وبعد الربيع العربي، باستثناء حالات فردية لبعض المثقفين الذين تعاملوا مع الأمر بحسابات ومصالح شخصية آنية لا تخفى على المتابع.
وفي ما يلي نص الحوار.
http://www.aljazeera.net/mritems/images/2005/8/14/1_556817_1_10.jpgهل كنتم تتوقعون اندلاع "الربيع العربي"؟
نعم، وإن لم يكن بالشكل الذي حدث تماماً، لأن القارئ للتاريخ وتطورات الأحداث، يعرف أنه من البديهي أن الضغط سيولد الانفجار، والبلدان التي حدثت فيها الثورات كانت تعاني ضغوطاً على مدى عقود، وسبق للعراق الذي كان يعاني من أشد الدكتاتوريات بطشاً أن حدثت فيه انتفاضة شعبية عام 1991 وكنت شاهداً عليها.
http://www.aljazeera.net/mritems/images/2005/8/14/1_556817_1_10.jpgإلى أي حد تعتقدون بأن الإبداع العربي لعب دورا، أو لم يلعب أي دور، في ذلك الربيع؟
العمل الثقافي عموما، ومنه الإبداع، يكون فعله بطيئاً، لكنه راسخ وليس كالعمل السياسي أو الاقتصادي الذي يكون أثره مباشراً، لذا أرى أن الإبداع العربي قد كان له دور في أنه كان ينطوي على بذرة الوعي والتوعية، فأغلب النتاج الإبداعي والثقافي على امتداد القرن العشرين وحتى اليوم كان يتناول في أطروحاته مواضيع سياسية، واصفاً ومحتجاً ضد القمع والظلم والفقر والتخلف، وداعياً إلى الحرية والعدالة والنهوض.
ولاشك أن ذلك قد شكّل تراكماً معرفياً في توعية متلقيه، وقد لاحظنا أن الذين أطلقوا حراك الربيع العربي في بدايته كانوا من الشباب المتعلمين الذين استخدموا القصائد والأغاني والرسم في التعبير عن أنفسهم، وكان أشهر ما رددوه هو بيت شعري للشابي: "إذا الشعب يوماً أراد الحياة..."، وكان هتافهم بمثابة إجابة واستجابة له: "الشعب يريد...".
http://www.aljazeera.net/mritems/images/2005/8/14/1_556817_1_10.jpgكيف تقرؤون موقف المبدعين العرب ومواكبتهم الربيع العربي؟
بشكل عام، أرى أنه كان إيجابياً، قبل وأثناء وبعد الربيع العربي، باستثناء حالات فردية لبعض المثقفين الذين تعاملوا مع الأمر بحسابات ومصالح شخصية آنية لا تخفى على المتابع. كان المبدعون العرب عموماً في طليعة الذين عانوا من التضييق والمطاردة والتجويع والقمع والسجون والتعذيب والنفي أو القتل في سبيل حرية شعوبهم، حتى قبل أن تنتفض هذه الشعوب، لقد دافعوا عن شعوبهم على الرغم من أن شعوبهم لم تدافع عنهم عندما، كانوا يواجهون السلطات منفردين.
كما كانوا في طليعة المؤيدين لهذه الثورات والمشاركين فيها، على الرغم من أنهم أضعف الناس من حيث إمكانياتهم المادية والجسدية والسلطوية، وشاركوا على الرغم من أنهم غير مطالبين بمشاركة مادية ملموسة كما هو مطلوب من العسكري والسياسي والعامل والفلاح وغيره، لأن أداة المبدع هي إبداعه وموقفه وحسب.
http://www.aljazeera.net/mritems/images/2005/8/14/1_556817_1_10.jpgبعد نشوة الربيع العربي، هل بدت لكم في الأفق بوادر الانكسارات؟ وكيف تقرؤون مآل ذلك الربيع حاليا؟
نعم، ولكن إذا أردنا النظر إلى الجانب الإيجابي فسنجد أنه قد أحدث تغييراً فعلاً، وأبرز ما فيه أنه كسر حاجز الخوف المرعب الذي كان يبدو له من قبل مستحيل الزحزحة. والآن نرى أن الشعوب العربية تمضي إلى مواجهة نفسها بشكلها الحقيقي لأول مرة في التاريخ، مواجهة حقيقية عارية لا تغطيها الشعارات ولا النظريات ولا التغني ولا الأكاذيب، مواجهة مع النفس ومع الآخر بلا أي تزييف ولا مجاملات ولا أي خداع للذات.
إنها تنزف الآن بشكل مؤلم جداً، ولكن من بين هذا النزيف يخرج القيح المتراكم والكراهية والتناقضات وغيرها. إنها في حالة تشريح سريري وإجراء عملية جراحية لذاتها؛ فإما أن تشفي نفسها أو تنتحر، وأنا أميل أو أفضل التفاؤل رغم إيماني العميق بالتشاؤم الوجودي، ذلك أنني أتمنى وأريد وأعمل لانتصار الحياة في النهاية وانتصار هذه الشعوب الطيبة وما فيها من خير وحق وجمال.
http://www.aljazeera.net/mritems/images/2005/8/14/1_556817_1_10.jpgعلى أي مدى (متوسط، بعيد، ...) ترون أن أهداف الربيع العربي (ديمقراطية، وعدالة اجتماعية، وحرية، ...) ستتحقق على أرض الواقع؟
"كان المبدعون العرب عموماً في طليعة الذين عانوا من التضييق والمطاردة والتجويع والقمع والسجون والتعذيب والنفي أو القتل في سبيل حرية شعوبهم"
ربما على المدى المتوسط، فأوروبا مرت بالحروب عشرات الأعوام لكي تصل إلى ما وصلت إليه، والثورة الفرنسية احتاجت إلى نحو عقد من الزمن لتحقيق أهدافها، وبلدان أميركا اللاتينية لا زالت الديمقراطية فيها تتعثر أحياناً، لكنها سائرة في الطريق.
وهكذا، فإن حال الشعوب العربية كحال بقية الشعوب، ستحتاج مزيداً من الوقت والمخاضات لنيل مطالبها، خاصة أن الدكتاتوريات المتراكمة التي أزاحتها وفي طريقها لإزاحتها لم تكن سهلة، لكنها متجذرة في كل شيء تقريباً.
إنه لمن المؤسف أن يكون ثمن ما هو حق طبيعي كالحرية والكرامة والعدالة باهظاً إلى هذا الحد، ولكن هذا هو واقع الحال ومنطق التاريخ، ولا بد من مواجهته ودفع الثمن.
http://www.aljazeera.net/mritems/images/2005/8/14/1_556817_1_10.jpgهل راكم الإبداع العربي ما يكفي من الرؤى والتصورات ليكون له دور ما في تحقيق تلك الأهداف؟
ليس بالمستوى المطلوب، وبما يتناسب وحجم الحدث، ولذلك أسبابه المنطقية، والتي منها أن وسائل القوة المؤثرة مباشرة ليست بيد المبدعين، وأن الظروف الاقتصادية والاجتماعية العسيرة التي تمر بها المنطقة عموما تضر بحجم ونوع وطبيعة فاعلية إيصال نتاجهم وأفكارهم، وأن العالم اليوم بمجمله يفتقر إلى أفكار وفلسفات جديدة، لذا يتم الاكتفاء بالعمل على مناقشة وتكييف وتطوير ما هو موجود من تجارب وأطروحات وأفكار كمسألة الديمقراطية والحقوق وغيرهما.
*المصدر : الجزيرة/بتاريخ 17/1/2016