الثلاثاء، 29 يونيو 2010

زاوية (جداريات) /.. عن الأُقصوصة


.. عن الأُقصوصة

د.محسن الرملي

يبدو وكأن الحلول أو الأمور الوسط صارت تختفي تباعاً من عالمنا المعاصر مثلما تضمحل تدريجياً ما تسمى بالطبقة الوسطى في المجتمعات، فالمشاكل السياسية الكبيرة تتم معالجتها إما بالحرب أو بالإهمال، والاقتصادية إما بقروض طائلة أو بإعلان الإفلاس، والنصوص الأدبية إما أن تكون طويلة أو قصيرة، فإذا كانت رواية، يحثك الناشر على أن تكون طويلة قدر الإمكان وإذا كانت قصة فلتكن قصيرة جداَ أو حتى جداً جداً!. حتماً أن للأمر علاقة بطبيعة علاقتنا بالوقت الذي صار بمثابة مادة أولية علينا أن نأخذ مسألة استثمارها بعين الاعتبار دائماً. وبالطبع فإن لتسارع هيمنة التطور التكنولوجي وعصرنا الاستهلاكي دوراً في ذلك. أسوق هذا التقديم كنوع من التأمل والانتباه إلى ظاهرة عودة "الأقصوصة" بقوة. فإذا كانت القصة القصيرة قد تطورت وازدهرت سابقاً مع تطور وازدهار الصحافة، بحكم ضيق المساحة، فهل لنا أن نربط الآن هذا الانتعاش والاهتمام المتزايد بالأقصوصة بمسألة الوقت والتطور التكنولوجي؟ وأعني منه تحديداً وسائل الاتصال الألكترونية وشبكة الإنترنيت طبعاً. ففي الآونة الأخيرة لاحظنا بجلاء بأنه لايمر يوم دون أن نرى ونقرأ عن دعوة أو مسابقة للقصة القصيرة جداً، أو دون أن ننتبه إلى أننا قد قرأنا نصاً أو أكثر منها. بعضها يصل عبر الإيميل وأخرى عبر سبل أخرى كالصحف والمواقع الألكترونية والإذاعات وشركات الدعاية كي تستخدمها في الإعلانات، وحتى عبر الهاتف المحمول فثمة مسابقات تقيمها بعض دور النشر والمجلات الثقافية بالتعاون مع شركات الهواتف والاتصالات. ولا غرابة في هذا، فقد عودتنا الفنون، والآداب منها بشكل خاص، على قدرتها الهائلة على التجدد والتكيف مع كل زمان ووسيلة ابتداءً بألواح الطين وليس انتهاءً عند الشاشات. هناك الدراسات الكثيرة عن فن الأقصوصة تاريخياً وتقنياً وحداثة، ويمكن إجمال اشتراطاتها الفنية بكل ما تشترطه (النكتة) باستثناء شرط أو هدف الإضحاك، وكلما كانت أقصر وأقوى حبكة فهي أفضل. وعدا كون الأقصوصة موجودة أصلاً في ثنايا مختلف أجناس النصوص الأخرى كلها بما في ذلك القصيدة، فإنني أرى بأن من فوائد عودتها أنها ستشكل اختباراً جيداً للقدرات الإبداعية والأسلوبية واللغوية في الكتابة وخاصة بعد أن شهدنا ترهلها مؤخراً بحكم ظاهرة استسهال الكتابة والنشر وتفشيها كما هو حاصل في كتابة الرواية والشعر، مما جعلنا نعاود التفكير مراراً بإجابة بورخيس عن سبب عدم كتابته لها حين قال بأن الرواية بلا شكل.
وفي رأيي أن نسعى نحن أيضاً لأن نبادر مبكراً بمواكبة عودة هذا الاهتمام الكبير بالأقصوصة، ولنبدأ على أقل تقدير بألا نبقى حائرين بتسميتها بين: قصة قصيرة جداً، قصة صغيرة، ميكرو قصة وأقصوصة. وشخصياً أميل إلى تسمية (أُقصوصة).. هكذا بكلمة واحدة بدل اللجوء إلى تسميات وصفية في أكثر من كلمة. وعلى ذكر ذلك أيضاً أن نحذف صفة "قصيرة" أو "طويلة" التابعة بتصنيف " قصة" بغض النظر عن عدد صفحاتها وكلماتها وفق ما كان يتم اقتراحه من قبل البعض في السابق لتصنيفها، بحيث طالعتنا أغلفة وصفحات بمسميات مثل: رواية طويلة، رواية قصيرة، قصة طويلة، قصة قصيرة.. إلخ. من بديهيات لم يعد الكاتب المبتدئ بحاجة إليها ولا القارئ، فلنقصر الأمر إذاً على: رواية، قصة وأقصوصة. ونحيي عودة الأخير على هذا النحو الملفت، إلى الحد الذي قد يدفعنا للتساؤل أحياناً: ترى هل نحن على أبواب مرحلة ستقودنا لتسميتها بـ: زمن الأقصوصة؟.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشر في زاوية (جداريات) في الملحق الثقافي لصحيفة (الثورة) السورية بتاريخ 29/6/2010 العدد 698

الثلاثاء، 15 يونيو 2010

قَص (عيون) محسن الرملي


عُــيُـون

محسن الرملي

.. إلى الذي فقد عينه في غيابي.. أخي حسين.

سألتُ القادم من قريتي إلى مدريد عن أهلي فقال:" أغنامهم زادت وصغارهم كبروا..". طلبتُ منه أن يُوطّن إجابته المُحلِّقة فسارع إلى وضع سلّة التمر ـ التي بعثوها ـ أمامي وأَلقَم جهاز التسجيل شريط ربابة من أمي. توسلتُ به فتنهد وقال:" سأُخبركَ وأخلَص.. حسين.. أخوك.. (ما به؟) فقد إحدى عينيه.. (كيف؟ أين؟) شظية". قالت ربابة أمي:" يا عيني أمطري دمعاً.. طوال الدهر يا عين". جرى دمعي على وجنتي وسقط فوق كيس التمر. تذكرتُ لقاءنا الصدفوي قرب (عين كاوة)، أيام جنديّتي، حين ترجلَ من مُدرعته جوار دبابتي دامي الوجه فتعانقنا وسط الدخان والغبار وصخب التحارب الجنوني حيث كانت الحكومة تجبر الناس على أن يفقأ بعضهم عيون بعض وطائرات التحالف تفقأ بلدنا بالقنابل.. تعانقنا.. كعناق في يوم قيامة وقال:" لا تبكِ.. إنها مجرد شظية صغيرة في الحاجب".. اتفقنا على الهرب لأن أمي قالت:" معلولة وعلّتي من قدمي إلى هامتي.. كأن ربي قد خلقني مُخصصة للهموم". دمدمتُ لنفسي أخاطبه:"هذه المرة.. أصابت عينك". قال القادم:" عينه الأخرى سليمة".
أخذتُ سلة التمر وشريط الربابة لأنطلق راكضاً على امتداد شارع Ferraz متحاشياً النظر إلى العيون المحمولة إلى دور السينما والمرافق بمناسبة السبت.. يا عيني اسكبي دمعاً/ دماً حتى تلاقيهم.. دفعة واحدة.. أنتبهُ الآن لتوالي انطفاءات عيون أحبتي من حولي، فتهطل عيناي بمسكوبهما.. عزلة أو خجلاً من صحتهما والقلب ينبض.. يراوده التوقف.. هكذا مثل مصابيح حفلة تدنو من نهايتها؛ أخي وأصدقائي، أما التي أحبها فهي بعين واحدة منذ أن كانت بارتفاع زهرة البامياء حين فقأ ديك الجيران عينها في آب. أواصلُ الركض متناسياً قوانين إسبانيا الجديدة المنسجمة مع تحضُرات الاتحاد الأوربي، أمرُ جوار المعبد الفرعوني الذي أهداه عبد الناصر لإسبانيا (كأن معابد الفراعنة مُلك أبيه..!). أعبر الجسر بين (ساحة إسبانيا) و (القصر الملكي).."عيون المها بين الرصافة والجسر/ جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري". أضمُّ التمر والشريط إلى صدري وأضاعف الركض.. كأني أسعى إلى التعجيل بإيقاف انسحاب عينيّ صديقي خلف نظاراته الطبية. انعطفتُ بمحاذاة مبنى مجلس الأعيان، مستعيناً بفتح فمي على الصعود إلى مسكننا في الطابق الرابع. وصلتُ لاهثاً وكان صديقي كعادته؛ يقرأ "أساطير بلاد الرافدين" قرب النافذة. صحتُ به وأنا ألهثُ:" عبدو.. هيا انزل معي إلى طبيب العيون". رفع رأسه وأزاح نظاراته ليرمقني بنظرات مستنكرة، أدركتُ منها بأنه يذكرني بحيرتنا هذا الصباح في الاستدانة لدفع إيجار الشقة. قلت له وأنا أشير إلى أعلى مكتبتنا؛ حيث نرفع نموذجاً مصغراً من الفخار لملوية سامراء، حملناه معنا من بغداد حين غادرناها قبل سبعة أعوام:" نبيع الملوية في سوق الحرامية". فاضت عيناه. أعاد نظاراته وعاد إلى قراءة "أسطورة الفيضان". توجهتُ إلى الهاتف واتصلت بصديقي الضائع في ثلوج القطب الشمالي الذي انطفأت عينه في آخر رسالة بعثها لي:" منذ أسبوع، استيقظت لأجد نفسي بعين واحدة. قال الأطباء لا علاج لها.. جلطة عينية". قلت:"أترك الشِعر الذي فقأ عينكَ". قال:" فقدنا العراق فهل نأسى على فقد عين أحبته..". أغلقتُ السماعة وانفتح الصدى في القلب (عيناك يا بغداد أغنيةٌ.. يُغنى الوجود بها ويُختَصرُ / لم يُذكَر الأحرار في وطنٍ إلا وأهلك في العُلا ذُكِروا).. شاخصة أبصارهم، تُرهقهم المنافي.. اصبروا وصابروا فإن مصيركم العودة إلى بلد من نهرين وعيون، تحيتكم فيها من دون بلاد العالمين (شلونك عيني). توجهتُ إلى بيت حبيبتي المغربية، أحث الخطى خجلاً من عينيّ أو سارقاً النظرات إلى عيون المارة، راغباً بسرقة عيونهم: الزرق، الخضر والسود لأمنحها لأخي، لأصدقائي، للمعري، للجاحظ وواحدة لحبيبتي (من أجل عين تكرم ألف عين). قبَلّتُ عينها الكريمة حال وصولي فقالت:"أهي حلوة حقاً؟" مستندة في سؤالها على ما أخبرتني به سابقاً عنها، حين كانت في ربيعها الرابع وحملتها أمها إلى بيت الجارة، أجلستها على بساط في الظل جوار شجرة بامياء مزهرة في شمس آب، وتوجهت كي تُعين جارتها في توليد بقرة أسترالية. جاء ديك جميل ونقَرَ إحدى عينيّ طفلتي فصرخت، وسالت عينها. جاءت أمها بالعجوز الطبيبة، لحّاسَة العيون في القرية من رمل وتِبنٍ وحديدٍ أو شَعرَة. ارتابت أمها وهي ترى العجوز تطيل اللحس مستطعمة ما سال من العين بتلذذ، وظل ارتيابها يعصرها كلما قابلت العجوز التي تنحني من فورها مقبّلة العين الأخرى، ولم تسترح حتى ماتت اللحاسة بعد عام.. كررتُ تقبيل عين حبيبتي فكررت عليّ السؤال:" أهي حلوة حقاً؟". قلت:" حلوة… حلوة إلى الحد الذي يؤجج خلاياي رغبة بالحياة ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشرت في مجلة (تكست) العدد 4 سنة 2010 / العراق.

الثلاثاء، 8 يونيو 2010

زاوية (جداريات) / عن الشكوى من غياب الجمهور


عن الشكوى من غياب الجمهور


د.محسن الرملي


يشكوا المنتجون الثقافيون والإبداعيون من أزمة التلقي، تراجع الاهتمام وغياب الجمهور، وشكواهم لها ما يبررها دون شك، فهي تصف واقع حال بيّن. ومن رأيي أن أفضل الحلول المتاحة، في حال الوصول إلى طريق مسدود أو أزمة، هو العودة إلى البدايات، إلى البديهيات التي هي، في الأصل، خلاصات تجارب بشرية طويلة، وهكذا مثلاً كنا نشهد توالي الفلسفات، فكلما خبت واحدة بأجوبتها، ولدت أخرى منطلقة من إعادتها لطرح الأسئلة الأولى ذاتها من جديد.
ولنأخذ، هنا، المسرح مثالاً، فمنذ أعوام والمسرحيون يشكون من تناقض المشاهدين، من غياب الجمهور وعزوفه أو حتى إعراضه تماماً عن الذهاب إلى المسارح، والحل هنا، في رأيي، هو أن يعود المسرح إلى ما كان يمارسه في بداياته الأولى، أي أن يذهب هو إلى الجمهور. لماذا لاتعاود الفرق المسرحية خروجها من العواصم إلى المدن الأخرى والتجوال في البلدات الصغيرة والقرى النائية، الذهاب إلى الجامعات والمدارس والمصانع والمؤسسات، الخروج إلى الشوارع والساحات والأسواق وإلى حيث ما يوجد ناس. ها هو الشِعر يحاول ذلك، فبعد أن أعلن البعض عن موته ومنهم الناشرون طبعاً، خرج الشعراء بحثاً عمن يسمعهم وعبر كل الوسائل بما فيها تلك التي أخذت الجمهور منهم، كما نشهد ظاهرة آلاف المهرجانات الشعرية في العالم بحيث أشك بأن أي عصر آخر، بما فيها عصور ازدهار الشعر، قد كان لها كل هذا العدد الهائل من المهرجات والملتقيات الشعرية، هذا عدا عودة نشاطات المقاهي الثقافية وأمسيات القراءات الشعرية بكثافة تستدعي الاعجاب والتقدير فعلاً، فالشعر على هذا النحو يقاوم الدعوات بموته.. أو الدعاء عليه بالموت، فهو وإن لم يحل الأزمة تماماً لكن محاولاته هذه بحد ذاتها إيجابية ورائعة.
يشخص المسرحيون بأن الشاشات هي التي خطفت جمهورهم منهم، ابتداءً بشاشة التلفزيون ثم السينما وصولاً إلى شاشات الكمبيوتر، وهذا تشخيص واقعي أرى أن عليهم الانطلاق منه تحديداً لأن التشخيص هو نصف العلاج كما يقول الأطباء، فهذه الشاشات قد زادت من عزلة الإنسان وجعلت علاقته الحميمة والحية بالإنسان الآخر أشبه بالمقطوعة على الرغم من أن اسمها وسائل اتصال، وهي تكرس كل يوم انفصالنا عن الحي والدافيء الإنساني لتقصر تواصلنا عبر الأسلاك، كل منا في حجرته وتزيد من التعقيد في علاقاتنا وارتباكنا عند التعامل المباشر.
لذا فهي فرصة المسرح كي يعاود استثمار إحدى أهم خصائصه التي انطلق منها، وهي: اللقاء الحي، المباشر والحميمي بين الإنسان والإنسان مجسداً من لحم ودم ومشاعر وتفاعل انفعالي وعاطفي وذهني ملموس، تجمعهم درجة حرارة واحدة وتلفهم العتمة ذاتها أو يضيئهم المصباح نفسه ويجمعهم ذات الزمان والمكان سواء أكان قاعة بجدران أو فضاء مفتوح، وهذا أمر تفتقر إليه علاقات الشاشات.
أرى أن على المسرح أن يستثمر هذه النقطة تحديداً ولا يكتفي ببضعة مهرجانات في العام في بضعة مسارح في بعض العواصم ولبضعة أيام ثم يكتفي بتكراره لشكواه من غياب الجمهور. علينا ألا نكتفي بالسؤال أو العتب على من غاب إذا كان يهمنا فعلاً، وإنما أن نذهب للبحث عنه بأنفسنا، ولابد للذي زرته مرتين بنفسك وأحبك أن يسعى لزيارتك بنفسه في المرة الثالثة. وببساطة، فكما يقول المثل الإسباني: "إذا لم يأت الجبل إلى محمد فليذهب محمد إلى الجبل".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشر في زاوية (جداريات) في الملحق الثقافي لصحيفة (الثورة) السورية بتاريخ 8/6/2010 العدد 695

السبت، 5 يونيو 2010

عن نظرة الآخر إلى الشخصية العراقية / د.محسن الرملي


العراقي متعلم .. ومظلوم عنيف

جانب من محاولة استقراء لنظرة الآخر عن الشخصية العراقية

د. محسن الرملي

على الرغم من أن الأهم هو معرفة العراقي بنفسه أولاً إلا أن السعي في محاولة تلمس طبيعة نظرة الآخر إليه، له أهميته أيضاً ويعين في الإضاءة أكثر لمسألة معرفته بذاته.
ولكي تكون محاولة كهذه أكثر موضوعية وعملية وعلمية يفترض القيام بها على شكل مسح أو استفتاء مدروس بعناية والقيام بدراسة ميدانية تطبيقية على شريحة ما أو عينة محددة أو أكثر من هذا الآخر الشاسع المتنوع والمتعدد. أي القيام بتحديد: من هو هذا الآخر أولاً. هل هو العربي؟ المسلم؟ الإفريقي؟ الآسيوي؟ الأمريكي اللاتيني؟ الشرقي؟ الغربي؟ ومن ثم مَن مِن بين هؤلاء؟ القريب أم البعيد ثقافياً وجغرافياً؟ وإذا قلنا الغربي، على سبيل المثال، فمن نقصد؟ الأوربي أم الأمريكي؟ وإذا قلنا الأوربي، فهل نقصد به الشمالي أم الجنوبي أم الشرقي؟ وأية عينة من الناس نقصد؟ الإنسان العادي البسيط؟ المتعلم أم المختص؟.. وهكذا إلى أن يتم تحديد نوع العينة من الآخر لكي نتمكن من تشخيص طبيعة نظرته ضمن ظروفها وخصائصها وإطارها الثقافي والتاريخي والسياسي والجغرافي.. الموضوعي؟.
بلا شك أن القيام بدراسة لطبيعة نظرة الآخر إلى الشخصية العراقية من خلال النتاج الثقافي كالأدب والسينما مثلاً، سيكون أكثر عمقاً وتحديداً وإنصافاً وعلمية، على الرغم من قلة النتاجات الإبداعية التي تناولت ذلك حتى الآن. كذلك تقصي هذا الأمر في الصحافة أو الخطاب السياسي مثلاً هو أيسر.
إلا أننا سنحاول هنا العمل على الجانب الحي والإنساني معتمدين على المعايشة الطويلة والتجربة الشخصية وعلى إعادة استنطاق من نعرفهم من مثقفين وزملاء واصدقاء وطلاب وعائلة ومعارف وغيرهم؛ عن رؤيتهم الشخصية ومن خلالهم عن تصورهم حول رؤية الآخرين كأفراد وجماعات، محاولين بذلك بلورة بعض أبرز النقاط العامة المشتركة التي نجدها عند الإنسان العادي والمتعلم والمختص، وكذلك من لم يحظ بأية معرفة شخصية مباشرة بإنسان عراقي والآخر الذي عرف ولو نموذجاً واحداً أو أكثر.
لذا، وفي كل الأحوال، تهمنا الإشارة إلى أن ما سنسوقه هنا لا يعد سوى محاولة بسيطة، تقريبية، يغلب عليها الصحفي، الأدبي والشخصي أكثر من اليقين القطعي المختبري العلمي. وأن ميدانها سيكون بالشكل الأكبر ضمن إطار المجتمع والثقافة الإسبانية، علماً بأن إسبانيا لاتختلف كثيراً عن محيطها الغربي في هذا الأمر.

نظرة عامة:
الصورة العامة عن الشرقي عموماً والعربي بشكل خاص لم تبتعد كثيراً عن تلك التي تبلورت في القرون الوسطى والمتأتية من خلال طبيعة الاحتكاك الثقافي حينها وما تمت ترجمته والتماس المباشر من خلال الصراعات والحروب الصليبة والتبادل التجاري، وبالطبع قد لعبت الخلفية الإيديلوجية، المتمثلة بالأديان آنذاك، دورها في التأثير على تكوين التصور عن الآخر، وكذلك الآداب المترجمة التي تأتي في مقدمتها (ألف ليلة وليلة)، ومن ثم الآداب الخاصة بهم التي تتطرق إلى موضوعات وشخصيات عربية ومنها كتب روايات الفروسية ابتداءاً بـ(ملحمة السيد) وانتهاءاً برواية (دون كيخوته) التي قضت على هذا الجنس الأدبي وفتحت الباب نحو الرواية الحديثة.
لقد ارتبطت صورة العربي عموماً بالصحراء، الجَمل، الخشونة، الفضاضة، التعصب، العنف والرجولة والذكورية بتنوع دلالاتهما الإيجابية والسلبية، كالفحولة والحضور السريع لتصور قصوراً مكتظة بالحريم المملوكات لرجل واحد، أو مسألة اضطهاد وقمع المرأة عموماً. وبالطبع يعتبر العراق جزء من هذا المشهد العربي وضمن هذا التصور الغائم عموماً، إلا أننا نلاحظ بعدها نوعاً من التفريق والتمييز بينه وبين عرب آخرين، فمثلاً أن النظرة إلى المصري ترتبط بالأهرامات والحضارة الفرعونية بحيث أن كثر ينسون أو حتى يجهلون أن مصر عربية أيضاً. العراق يأتي ضمن إطار التفريق بين المشرق والمغرب العربيين والسمات الخاصة بكل منهما، ومعرفة الإسباني هي أكبر بكثير فيما يتعلق بالمغرب العربي عموماً وبالمغربي من دولة المغرب تحديداً، منها بمعرفته بالعراق ودول المشرق الأخرى المجاورة له كبلاد الشام مثلاً، وذلك لأن علاقة إسبانيا بالمغرب هي علاقة متداخلة جغرافياً وتاريخياً وثقافياً ومتواصلة بكل إشكالياتها وتعقيداتها وإيجابياتها وسلبياتها حتى اليوم، والصورة عن المغربي هي سلبية بشكل عام، وذلك بحكم عوامل عديدة منها كون الجنرال فرانكو قد استعان بالمغاربة أثناء الحرب الأهلية الإسبانية وما عرف عن حرسه منهم من قسوة وبأس شديد، ثم إشكاليات الهجرة الآن وتفوق عدد المهاجرين المغاربة في إسبانيا على أية جالية عربية أخرى، ووجود نسبة عالية من هؤلاء ممن عبروا البحر المتوسط بمغامرة زوارق الموت واضطرار بعض الشباب منهم للسرقة أو التجارة بالمخدرات والحشيش كونهم بلا أوراق قانونية وصعوبة عثورهم على عمل وما إلى ذلك مما يرتبط بظاهرة هذا النوع من الهجرة من سلبيات.
في الثقافة الإسبانية يتم استخدام كلمة (مورو moro) والتي تطلق باستهجان ونوع من التصغير والتحقير تجاه المغربي ومن ثم توسعت لتشمل العربي عموماً، إلا أننا نجد الأسبان يروحون يفرقون بالتسمية حينما يتعلق الأمر بشخص عربي من الشرق وخاصة من الخليج فيقولون (عربي) وبنوع من التبسيط والنقد يمكننا القول بانهم يسمون الغني (عربي) والفقير (مورو) مثلما يقومون بالتمييز بين اصطلاح (مهاجر) و(أجنبي)، فيتم النظر بنوع من التعالي وحتى الاستهجان والشكوى والرفض أحياناً إلى المهاجر القادم من بلد معروف كثيراً بهجرة أبنائه بحثاً عن العمل أو بحثاً عن عيش أفضل كالمغرب مثلاً، وبين الآخر القادم لأسباب الدراسة أو السياحة أو لأسباب تتعلق باللجوء السياسي أو الثقافي، أي من بلد تندر فيه هجرة أبنائه كدول الخليج والعراق مثلاً. فيتم تصور بلد المهاجر الأول على أنه بلد مدقع بالفقر والتأخر وأن الحياة فيه صعبة والوسائل متخلفة إلى الحد الذي يضطر للهجرة منه على هذا النحو، فيما يتم تصور الآخر على أنه قادم من بلد غني ومرفه وتتوفر فيه الإمكانيات العالية إلا أنه مختلف والأسباب تتعلق بالشخص المهاجر ذاته أو بحال أو ظرف ما بعينه في ذلك البلد، وضمن هذا الإطار يتم النظر إلى العراقي.
وبالطبع يلعب حجم الجالية الموجودة من بلد ما في بلد آخر، أو من طبيعة حجم التعامل السياحي معه، على تكوين الصورة عن هذا الآخر، فيما يتم استكمال الصورة عن الجاليات القليلة من خلال بقايا الذاكرة العامة ومن خلال وسائل الإعلام التي تطغي عليها الصبغة السياسة عموماً. الجالية العراقية في إسبانيا تعد من أقل الجاليات كما أن العراق لم يعرف عن أبنائه الهجرة تاريخياً أو على الأقل في العصور الحديثة، كما أنه ليس من البلدان المعروفة بتوجه السياحة إليها. لذا فأغلب ما يتم تكوينه عنه مرتبط بالحرب والدكتاتورية والنفط وتاريخ الحضارات القديمة، والملفت للنظر أننا حين نحصر الأمر بذكر (بغداد) فسرعان ما يتم تغير التصور مباشرة نحو أجواء (ألف ليلة وليلة) والمخيال السحري عنها وخاصة من خلال مناخات حكايات أبرز ثلاث شخصيات عرفت عنها في الآداب والسينما الغربية وهي: علاء الدين والسندباد وعلي بابا.
لا شك أن هناك تأثير كبير لوجهة النظر الأمريكية في العصر الحديث على أوربا والغرب عموماً في تشكيل التصور عن العرب وعن العراق وغيرهم، لما للهيمنة الإعلامية والسياسية والثقافية الأمريكية من فاعلية وقدرة عملاقة على فعل ذلك في ظل معطفها العولمي، ومن بعض جوانب وجهة النظر هذه مثلاً: أن إسرائيل بلد صغير، ديمقراطي وحديث ولكنه محاصر ببلدان وشعوب عربية متخلفة أو حتى متوحشة أحياناً، فيعرفون عما في إسرائيل من فن وموسيقى وفنانيين وكتاب وما إلى ذلك فيما يجهلون تماماً أنواع الموسيقى والفن وأسماء الكتاب والفنانيين في العراق مثلاً.
يقول الكاتب والمترجم الإسباني ماريو غرانده بأن إسبانيا، بشكل عام، منغلقة تجاه الخارج وحين تنفتح فهي تصوب وجهها نحو معرفة من هو أفضل منها في المحيط الأوربي أو الغربي، فيما تجهل الكثير جداً عن جارتها البرتغال كونها تعتبرها أقل منها.
ولأن أوربا عموماً قد عانت الخراب وخاصة في الحرب العالمية الثانية، وإسبانيا خصوصاً وما عانته خلال الحرب الأهلية لذا فهم لا يريدون معرفة الكثير عن المناطق المثخنة بالحروب، وما يرتبط في الذهن عن العراق هو الحروب، حربه مع إيران، حربه في الكويت وهذه الحرب الأخيرة التي أزعجت الأسبان كثيراً مشاركة حكومتهم فيها فخرجوا بمظاهرات مليونية وأسقطوها في أول انتخابات ثم سحبوا قواتهم من العراق وما عادوا يريدون معرفة شيء عن الأمر، لقد سببت لهم المشاركة في هذه الحرب بما يشبه العقدة، ليس لأجل العراق ولكن لأنهم ضد أن يكونوا طرفاً في أية حرب، و يريدون نسيان هذا الأمر.
الأسبان في إقليم الباسك يتعاطفون مع الأكراد لأنهم ينظرون إليهم على أنهم يشبهونهم من حيث أنهم شعب يطمح إلى استقلاليته عن دولة يعتبر نفسه فيها أقلية مختلفة، ولكنهم لا يعرفون الكثير عن ظروف وتفاصيل ذلك الوضع العراقي العام وتاريخ هذه المسألة.
لقد هيمن الخبر السياسي عن العراق على تكوين التصوير عنه عموماً مما حيّد أو حتى ألغى فرصة تكوين تصور واضح عن الشعب وشخصية الإنسان العراقي وطبيعته الثقافية. قبل الاجتياح الأخير الذي قادته الولايات المتحدة سنة 2003 كنا نجد صعوبة في إفهام المقابل كي يفرق بين العراقي والإيراني وخاصة أن اسمي البلدين يتشابهان باستثناء الحرف الأخير (Irak - Iran) هذه الصعوبة صار يواجهها الإيراني الآن بحكم طغيان اسم العراق في وسائل الإعلام مؤخراً بعد أن كان الخميني وثورته هما الأبرز في عقد الثمانينات.
يقول الفنان التشكيلي والشاعر خوان ماسانا بأن الصورة عن العراق عموماً غامضة، وأيام حكم الدكتاتور كان التصور عنه بأنه بلد غني وأناسه يعيشون بسعادة ورفاهية باستثناء معاناتهم من الدكتاتورية والحروب التي يدخلها الدكتاتور، إنه بلد يرتبط ذكره بمشاكل تستدر التعاطف ولكنها لاتثير الفضول للتعرف عليها، مسألة الحروب والدكتاتورية والحصار والآن الإحتلال. الحرب مع إيران عدت بأنها حرب منسية، ولم يشعرالناس عموماً بمعاناة العراقيين خلالها ولا حتى بمعاناتهم من أعوام الحصار. وما يحدث الآن لم يخلق أيضاً تحديد تصور أدق عن العراق، بل ربما زاد من تعقيد تكوين تصور عن هويته، فقد تبين للناس أن العراق ليس بلد واحد موحد، كما كانوا يظنون، وأن فيه انقسامات داخلية عرقية ودينية وتوقع الجميع أنه سيتقسم.
وهكذا صار العراقي، لأول مرة، يجد نفسه، عند احتكاكه بالآخر، أمام سؤال جديد فيما إذا كان: عربي أو كردي؟ سني أو شيعي؟.
هذا وعلى الرغم من أنه، ومن خلال الخبر ووسائل الإعلام، قد تبلور ثمة تصور ما عن الشعب الأفغاني وعن شخصية الإنسان الأفغاني، مثلاً، في كونه رجل محارب دائماً، عنيد وذو بأس شديد يصعب الانتصار عليه وتجاربه مع الإنكليز والسوفيت والآن الأمريكان ماثلة، متحصن في أراضيه الوعرة والجبلية، متمسك بعادته وتقاليده، القبائلية وحقول زراعة المخدرات، وتصور عن مظهره ولبسه، فالرجل ملتحي، نحيف، سروال وعمامة، والمرأة خاضعة، برقع وعيون سوداء.. وما إلى ذلك. فيما لا نجد تصوراً ولو بهذا المستوى عن الإنسان العراقي على الرغم من تشابه خضوع الطرفين للحالة والوضع الإعلامي المسلط ذاته، ربما يرجع الأمر في حال العراق لطبيعة الخطاب السياسي والتحليل المرتبط به إلى الاهتمام فيما يتعلق بأمريكا حيال هذه القضية أكثر مما يتعلق بالعراق نفسه، ما يتعلق بالسياسة في الشرق الأوسط، بالنفط، بالمواقف الغربية وتأثر علاقتها بأمريكا وفقاً لحسابات ذلك، كما أن ما يحدث من تفجيرات، مفخخات وقتل في العراق، يرتضي البعض بالتفسير الأمريكي له حيث يتم ربطه بالقاعدة التي هي ليست عراقية، أو ربطه بمقاومة مجهولة الوجه والزعامة والخطاب أو مجرد اعتباره حال طبيعي لمتمردين مسلحين ومستفيدي حروب وعصابات، لا يريد الغربي البسيط تصديع رأسه بفك ومعرفة تفاصيلها التي لا تؤثر أو لا تنفعه أو تمس حياته اليومية المكتظة بالمفردات. وهكذا يختار إدارة وجهه ووجهة نظره عنها باعتبارها مسألة بعيدة عنه والمعرفة بها لا تسمن ولا تغني عن جوع.

نظرة خاصة:
بالتأكيد أن ما يؤثر في تكوين النظرة الأقرب والأكثر خصوصية أو تشخيصاً هو التعامل الأقرب سواء أكان ذلك بحكم اختصاص، مهني، أكاديمي، ثقافي أو الاهتمام بأي موضوع مرتبط بالعراق والشأن أو الإنسان العراقي، أو التعامل الشخصي مع عراقيين من خلال زيارة العراق نفسه أو اللقاء بعراقيين في الخارج. ويتأثر هذا التصور بطبيعة ونتائج هذا التعامل حتماً. إلا أننا هنا سنحاول أن نؤشر ما يمثل المشترك والعام بين مختلف هذه النظرات، حيث نجد أن الصورة عن العراقي بكونه:
ـ متعلم، هذا إذا لم نقل مثقف، ويمتاز بتنوع المعرفة والحماسة للدخول في حوارات يثريها بمعلوماته ومعرفته بغض النظر عن مستوى هذه المعلومات أو المعرفة، إلا أنه عادة ما يبدي ثقة بما يطرحه، متمسك بآرائه ويدافع عن طروحاته بضراوة يبدي من خلاله إصرار على غلبة وجهة نظره حتى وإن افتقرت إلى الموضوعية أو المنطقية إلا أنه لا يكل من سوق الدفاع عنها بأسلوب يعتمد التميز والتنوع في لغة الكلام. يصعب عليه قبول الهزيمة حتى وإن كان مدرك لصواب رأي المقابل، ومستعد للخوض في أي موضوع وإن لم يكن من اختصاصه إلا أنه أبرز في المواضيع التاريخية، السياسية، الأدبية والثقافية عموماً.
ـ شديد الكبرياء والاعتداد والاعتزاز بنفسه، ويسارع إلى تمييز نفسه عن المُجمَل العربي والشرقي حال التعرف عليه، بحيث يفاجئه أو حتى يزعجه جهل المقابل به وبأهمية هويته كعراقي، ففي الوقت الذي يشعر به الإنسان العربي أو (من المغرب العربي) البسيط بنوع من التواضع أو حتى الدونية، يوحي (العربي الشرقي عموماً) والعراقي خصوصاً بنوع من المساواة أو حتى التعالي، وفيه صيغة من المطالبة بنوع من التمييز بالمعاملة، مبدياً ثقة عالية بنفسه محيلاً المقابل نحو إرثه الحضاري التاريخي كهوية، غاضاً الطرف عن الصفة الإسلامية فيها، فسرعان ما يستحضر أو يُحضر (ميسوبوتاميا) الحضارات القديمة، كالبابلية والسومرية وألآشورية وغيرها كمرتكز اعتزاز وهوية وذاكرة يعتبرها حية فيه وتمثله حتى الآن، إضافة لما هو بارز ومعروف في حاضره حتى لو كان رمزاً سلبياً كالدكتاتور، أو الحروب ومنبهاً إلى حضور اسم بلده في واجهة الأخبار. وحتى حين يقدم نفسه كضحية فإنه يقدمها على أنها ضحية قوية ومؤقتة، وعادة ما يكون ذلك بشكل واعي بالغرض سواء أكان من أجل مصلحة أو كسب تعاطف من نوع ما أو في حالة عاطفية معينة.
ـ الكرم والسخاء، إنه شخص مضياف يفتح بيته للآخرين بترحاب ومسارع إلى دفع الحساب وتقديم كرمه بأريحية وبشكل ظاهر وكذلك إلى استعداده الدائم والكريم لتقديم النصح والمساعدة، وهذا أمر شخّصه كل من تعامل مع عراقيين في الخارج، وأكثر منهم من زار العراق وتعامل مع أهله وعايشهم بحيث يصعب لاحقاً نسيان هذا الانطباع الحميم والغالبية يتمنى الرجوع لزيارة العراق وبعضهم حتى يبدي افتاتنه وعشقه بالعراق وإعجابه بالشخصية العراقية.
ـ بالغ الحساسية، لذا فهو سريع الانفعال و(الزعل) أيضاً، وهو بانفعاليته هذه سريع وراديكالي أيضاً في تغير أحواله وحتى مواقفه، بحيث يرتفع به جام غضبه لنسيان أية مصلحة حتى لو كانت تخصه وأي منطق يختلف عن منطقه.
ـ غير متطرف أو متعصب دينياً وإن كان يبدي معرفة أكبر من غيره بدينه وببقية والأديان، وهو في الوقت نفسه لديه استعداد للتطرف فيما هو غير ديني أو حتى بما هو نقيض للديني، كالتطرف في الشرب أو الانفتاح والمبالغة في فعل أو نتاج أو سلوك ما.
ـ تعامله مختلف مع المرأة، كما تقول الشاعرة والناقدة تشيلو كانديل، يبدو أكثر تهذيباً وحداثة واحتراماً وانفتاحاً وإن كان يبقى حريصاً على إظهار صورته بكونه هو الرجل والأقوى في العلاقة دائماً، ذكوري في تعامله مع المرأة وسخي ومهيمن. وندرة العراقيين تجعل من التعرف عليهم شيء مثير. فضول الندرة والمعرفة والدهشة وفي الوقت نفسه إن الجهل بماهيته يجعل الاقتراب منه محفوفاً بالحذر، فيتأرجح موقف المقابل بين الإعجاب أو الانجذاب والحذر.
ـ إنه قلق، طموح ومتطلع دائم بحيث يبدو بأنه من الصعب إرضائه.
ـ يجمع بين اللطف، التهذيب، الظرف، حلاوة المعشر وحدة الطبع، اختلاف المزاج، خصوصية الذائقة، العناد وصعوبة المراس.
ـ على الرغم من أن التصور عنه بأنه ضحية لظلم وظروف قاهرة معروفة، إلا أنه أيضاً شخص يتسم بالعنف، ومما لعب دوراً في تكوين هذا التصور هي مشاهد إطلاقه للنار في الأفراح كفوز فريق كرة قدم أو مشاهد التطبير في عاشوراء ومشاهد ذبح المختطفين ومن بينهم ذبح نساء وحكايات العقوبات والتعذيب في السجون سابقاً في المرحلة الدكتاتورية وحتى في المرحلة الحالية في تعامل المجاميع مع خصومها، وكذلك مشاهد الراقصين والهاتفين قرب الجثث المحترقة أو جثث المقتولين كما حدث في الرقص والأهازيج قرب الجثث المعلقة على جسر في الفلوجة أوفوق جثث لتسعة من الأسبان الذين قتلوا في جنوب العراق.
ـ متعصب لآرائه وذاته ونتاجه وأقل اعتدالاً أو حيادية في النقد، حيث يكون إطلاقياً ومتحمساً لما يراه أو يدافع عنه فيما يبدو طرحه حول ما يختلف معه مشوب حتى بنبرة عدائية.
ـ شديد الحرص والمطالبة بالانضباط exigente في السلوك والعمل إذا ما تعلق الأمر بكل ما هو جاد ويحاول فرض وجه نظره وأسلوبه هو في العمل.
ـ حميم جداً ويتداخل بالشخصي حالما يشعر بالثقة أو يكسب ثقة الآخر، وإن بدا في أول التعارف أكثر رسمية وانضباطاً. لذا يطيب التعاشر معه ولكن مع اليقظة والانتباه إلى ما قد يمس حساسيته المفرطة.
بشكل عام فإن الصورة ناقصة وغامضة عن العراق وعن الشخصية العراقية ومنها أيضاً التصور عن المرأة العراقية، فبين ما قد يراه الغربي من المتواجدين في أراضيه بنجاحهم وانفتاحهم وبين مشاهد النساء في وسائل الإعلام بالعباءات السوداء والحجاب بما في ذلك مشاهد لوزيرات ونائبات محجبات في البرلمان وزوجات مسؤولين، وإن كان ثمة تصور ما عن أنها امرأة قوية وخاصة بحكم ما احتملته من عبء العائلة وخشونة الوضع والرجال هناك. وليس من السهولة تحسين هذا التصور إلا ما قد يتم من خلال الجهود الشخصية والاحتكاك المباشر بالعراقيين سواء المتواجدين العاملين والفاعلين في الغرب وأغلبهم متعلمين ومبدعين في مجالاتهم وناجحين أو عن طريق التعامل المباشر لمن يزور العراق ويتعرف عن قرب على أهله. وفي كل الأحوال تبدو الجماعات مثل الأفراد في تعاملاتها مع بعضها ويكون لتصور الإنسان عن نفسه دور مهم في خلق التصور عنه في ذهن الآخر.
إننا بحاجة إلى المزيد من الجهود في تعرفنا على ذواتنا وبالتعريف بها وخاصة ما يتعلق بالجوانب الثقافية والفنية والحضارية والإنسانية وغيرها وعلينا عدم ترك المجال شاغراً لتملأ التصورات الإعلامية والسياسية هذا الفراغ بما هو متقلب وغير دقيق يضر بصورة العراقي أمام نفسه وأمام غيره أكثر مما يقوم بتمثيلها حقاً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشرت في مجلة (ثقافتنا) الفصلية، العدد الثامن، سنة 2010 بغداد.

*ونشرت أيضاً في موقع (كتابات) بتاريخ 5/6/2010م.