الثلاثاء، 24 أكتوبر 2017

عن: حدائق الرئيس / محمد مسلم

رواية كُتِبت لتُقرأ مرات ومرات

محمد مسلم
قرأت في الأدب العراقي، في آخر السنوات كثيرا.. فؤاد التكرلي، سنان انطون، أحمد السعداوي، علي بدر، حسن بلاسيم، حسن مطلك.. ولكن كل ما قرأته في الأدب العراقي شئ.. وهذه الرواية شئ آخر على الإطلاق.
هذه الرواية هي تحفة أدبية بالنسبة لي بلا منازع ..كل ما أريده وجدته في تلك الرواية ..يمكنني القول ان تلك الرواية هي تلخيص كامل لآخر 50 عاما في دولة العراق
يكتب الكاتب روايته بعد ان يعلم عن حادثة مقتل تسعة من اقاربه في القرية فيبدأ رواية بأهداء لهما قائلا الى ارواح اقاربي التسعة الذين ذبحوا في الثالث من رمضان عام 2006
بعد الاهداء يبدأ الكاتب ببراعة الاستهلال التي تحدثت عنها سابقا في روايته السابقة ايضا بعنوان تمر الاصابع فيبدأ روايته قائلا
"في بلد لا موز فيه استيقظت القرية على تسعة صناديق موز في كل واحد منها رأس مقطوع لأحد ابنائها ومع كل رأس بطاقته الشخصية التي تدل عليه لأن بعض الوجوه تشوهت تماما بفعل تعذيب سابق لقطعها او بسبب تمثيل بها بعد الذبح".
أبناء شق الأرض
ثلاثة اصدقاء اجتمعو منذ البداية.. طارق الفتى المحب للنساء.. ابراهيم الفتى الطيب الوديع المحب للاخرين..  وعبد الله الملقب بعبد الله كافكا لحبه للكاتب التشيكي كافكا وولعه بأفكاره
اعتاد ابناء شق الارض التجمع كل يوم في الحقول لمناقشة كل شئ.. الدراسة.. الفتيات.. التطور الذي يحدث في قريتهم البسيطة
عبد الله وجد طفلا عندما كان صغير من احد سكان القرية وكان هذا الساكن عقيما فقرر ان يربيه هو وزوجته ولكن كان يعلم اغلب اهل القرية انه طفل من الزنا وليس ابن العائلة التي ربته.. لهذا رفض والد طارق ان يزوجه بأبنته سميحة عندما طلب الزواج منها
قامت الحرب وتفرق ابناء شق الارض الثالثة.. عبد الله كافكا ذاهب الى المعركة العراقية الايرانية.. ابراهيم ذاهب الى غزو العراق على الكويت وطارق ظل في بيته ينتظر عودة الاثنين
يبدأ الكاتب بسرد معناة عبد الله كافكا في الصراع العراقي الايراني وكيف كان يعامل الايرانين الاسرى وكيف تحول عبد الله كافكا الى شخص عدمي... يقول دائما كل الحقب خراء في خراء.. كل شئ خراء بلا فائدة.. عندما عاد من الاسر الايراني بعد 20 عاما اصبح شخصا مشوها... لا روح به... لا يهتم بأحد حتى اصدقائه المقربون ابناء شق الارض
عاد عبد الله كافكا الى قريته محمل بهموم تعذيه لاكثر من 20 عاما في المعتقلات الايرانية ليجد جدته زينب تحكي له حكاية عجيبة عن ام معاقة ذهنيا واب مغتصب هارب يدعى جلال وان هذه هي حقيقة نسبه التي اخفوها عن القرية لستر الفضيحة ليحمل بهموم اكثر مما يتحمل اي انسان
ابراهيم ذهب الى الغزو الكويتي وعاد من الغزو منهزما وفاقد احد قدمين واحد اهم اصدقائه تركه في العراء.. عاد ابراهيم الى قريته محملا بخيبة الهزيمة وقدما واحدة وعجز جنسي جعله لا يقرب امراءته مرة اخرى ولا يوافق على تزويجه من زوجة اخيه الذي قتل ايضا في الحرب حتى لا يفضح ستره
ابراهيم لديه ابنة واحدة من زوجته وهي قسمة ..قسمة فتاة انانية لا تحب ابيها .تراه رجلا ضعيف لن يحقق لها ما تطمح به ولهذا تكره عجزه وتواضعه كثيرا
يحاول ابراهيم الخروج من قريته والبحث عن عمل في العاصمة حتى يجد جواب تعين في احد القصور الرئاسية.. انها وظيفة قام بالتقديم لها الاف البشر ولكن وافق الرئيس على 50 شخص فقط.. انهم الاكثر وفاء من وجهة نظره كان ابراهيم احد هؤلاء الخمسين
في البداية عمل ابراهيم بستاني في احد حدائق الرئيس وكان عمل روتيني ممل الى ان شاهد الرئيس عن قرب دون ان يشعر في احد المرات وهو يقتل شخص في قصره ويأمر الخدم ان يأخذونه بعيدا
هنا تغيرت حياة ابراهيم كليا فقامو بترقيته ليعمل دافن للموتى في حدائق الرئيس.. انظر هناك.. في ذلك الفضاء الواسع ستتلقى كل يوم عدد من الجثث ثم تقوم بدفنهم كما تريد المهم في الامر ان لا يظهرون على السطح مرة اخرى
ظل ابراهيم يدفن الجثث لسنوات وسنوات.. ظل يكتب في دفتره ما يميز تلك الجثث التي قد يبحث عنها اهاليها ذات يوم ..ظل يقرأ القرأن عليهم وقت الدفن وهو لا يقدر على فعل شئ اخر
كل تلك الجثث هي جثث معارضين للنظام.. يعذبون بأبشع الطرق ثم يقتلون في نهاية الامر ويقوم ابراهيم بدفنهم في الحدائق..لا يستطيع ابراهيم التحدث الى احد بما يعمل ولا يستطيع ان يطلب استقالته لانهم سيقتلونه في نهاية الامر
اختارت قسمة طريق المال والسلطة والجاه والمظاهر تاركة والدها في وقت احتياجه لها ولكن هذا الاختيار يؤدي بها الى مصائب فهي تتزوج ظابط يحب الرئيس.. يعشق الرئيس.. يتمنى ان يكون مثله.. بل يتمنى ان يكون مكانه لما لا
يحدث العزو الامريكي للعراق.. جثث في كل مكان.. سرقات.. نهب.. قتلى.. حتى تأتي رأس ابراهيم مع ثماني روؤس اخرى عائدة في صناديق الموز في تلك البلد التي لا موز فيها
ولكن هل هذه نهاية الالم والمواجع وهل ابراهيم اخر هؤلاء الشهداء
لا أعتقد
رواية كتبت لتقرأ مرات ومرات
التقيم العام.. العلامة الكاملة 5 نجوم
---------------------
*محمد مسلم: كاتب مصري، من أعماله: كلام في الكتب.

الجمعة، 20 أكتوبر 2017

صورة الأب ودلالاتها في رواية «تمر الأصابع» لمحسن الرملي / جواد السراوي

صورة الأب ودلالاتها في رواية «تمر الأصابع» لمحسن الرملي
 
جواد السراوي
تحفل روايات عديدة بتصوير الأب من حيث هو موضوع سردي، غير أنه من اللافت للانتباه أن نجد رواية تحتفي به من فاتحتها حتى نهايتها، إلى درجة القول إن شخصية الأب هي من تحرك خيوط السرد وتتحكم فيها. ضمن هذا السياق، سنحاول مقاربة رواية «تمر الأصابع» للروائي العراقي محسن الرملي، من خلال التركيز على صورة الأب الذي تجمعه صلات متشابكة ومعقدة مع وسطه الأسري من جهة، وبمحيطه الاجتماعي وببعض الأنساق من جهة أخرى. «تمر الأصابع» هي الرواية الثانية لمحسن الرملي، وقد استطاعت أن تخلق تلقيها الخاص في النسق العربي والغربي على حد سواء. إذ تحفل بموضوعات جديرة بالانتباه، مثل العلاقة بين الشرق والغرب، الحب، الهجرة، الحرية، والديكتاتورية، ولعل هذا ما جعلها محط اهتمام منذ صدورها بالإسبانية في مدريد 2008، قبل ترجمتها للعربية 2009. ليتم ترشحها ضمن القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) عام 2010.
الرواية
تبدأ أحداث «تمر الأصابع» باصطحاب إستبرق إلى المدينة لتلقي العلاج بعد مرض ألمّ بها، وفي الطريق يتجرأ عليها شاب ويلمس مؤخرتها وهو ما حمل آل مطلق على جمع رجال القرية والهجوم على «تكريت» حيث نوح الذي تم القبض عليه جراء محاولة غرزه الرصاصة في مؤخرة الشاب، ثأرا لإستبرق. وبعد الاشتباكات بين الطرفين، تحكم الشرطة سيطرتها على القرية فتبدل ألقابهم، من «المطلق» إلى «القشمر» هذه التسمية التي توحي في العامية بالاستخفاف والإهانة. يستغيث الجد مطلق بأصدقائه من القرى المجاورة، وبعد معرفة الحكومة بذلك تطلق سراح نوح بعد تعذيبه، وهو ما تسبب في عدم إنجابه مذاك. يسافر نوح إلى مدريد، يعقب ذلك سفر سليم الذي يصادف أباه هناك، وفي خضم ذلك يكتشف الأصدقاء الجدد لأبيه (من الألمان والإسبان والإنكليز). يود استفساره في وفاة (أو قتل) مطلق جده، لكن بدون جدوى. يزداد ارتياد سليم للمرقص حيث يعمل الأب، وينخرط في الحديث مع فاطمة، المرأة المغربية. بعد ذلك يستحضر سليم أيامه في القــــرية مقارنا إياها مع ما يعج في المرقص، حيث تجتمع كل المتناقضــــات ليسترسل في قصة فرض الحكومة تجنـيد الشــباب العراقيين واستبدال تسمية قرية القشامر باسم قرية الفارس. وستشكل هذه الحادثة الحدث المفصــلي الذي أثر على الجد مطلق. عاود رجال هذا الأخير بمن فيهم نوح الهجوم على الجبهة، جيء بسيارات حكومية، توقفت وسط القرية حاملة لسبعة عشر تابوتا فيها جثت شباب القرية الذين قتلوا في الهجوم الأخير على الجبهة، وكان من ضمنهم صراط حبيب إستبرق. بعد ذلك، لم يأذن الجد مطلق لرجال القرية بدفن الجثت إلا بعد الثأر لها، وهو ما جعلها تتعفن وتنبعث رائحتها. في الصباح، وبعد نقاش صاخب بين الأب (مطلق) والابن (نوح) يموت الأب (أو يقتل) ويقرر نوح السفر إلى إسبانيا للأخــــذ بالثأر، وغرز الرصاصة المتبقية في مؤخرة الشاب/الدبلوماسي الذي تجرأ على لمس مؤخرة إستبرق. في الأخـــير، يكتشف نوح بمساعدة من صديقه الكردي أن الشاب الذي تجرأ على إستبرق قد تم تعيينه ملحقا في السفارة العراقية في إسبانيا، يعدل عن ثأره ويسافر رفقة حبيبته روسا إلى ألمانيا التي كان متيما بها تاركا مرقصه لابنه الذي تزوج هو الآخر بفاطمة.
تصوير شخصية الأب
لا تخفى الإمكانات التي يثيرها التصوير الروائي في فهم العالم وتعقيداته وتشــــابكاته. تحتفي الرواية بثلاث شخصيات جوهرية تتحكم في مسار السرد وهي على التوالي: الابن (سليم) والأب (نوح) والجد (مطلق). هذه الشخصيات الثلاث تنتظـــــم في علاقــــــات متشابكة ومعقدة في ما بينها، بحيث يعسر فهم أحدها بمعزل عن الآخر، إنها تتشابك في ما بينها، في الوقت الذي تؤسس فيها لاستقلاليتها.. علاقة السارد (سليم) بأبيه (نوح)، علاقة نوح بأبيه (مطلق)، ثم علاقة السارد بنفسه.
علاقة السارد سليم بأبيه نوح
يمكن أن نميز فيها بين مرحلتين.. قبل سفر الأب إلى إسبانيا وبعده. وتتكشف علاقة السارد بأبيه في النص عبر مجموعة من الصور الجزئية التي تنتظم في ما بينها لتشكل في ما بعد صورة كلية، قوامها الازدواجية التي طبعتهما معا، فغدا كل واحد منهما «آخر» بالنسبة للآخر. تغيرت نظرتهما إلى القرية المهجورة، وإلى عالم الآخر (إسبانيا) الذي سيصبح في مستقبل السرد فضاء للحرية والانعتاق من سطوة التقاليد وكل أشكال السلطة، سواء الداخلية (سلطة الأب/سلطة الأسرة) أو الخارجية (سلطة القرية بعاداتها وتقاليدها). كان الأب نوح يختزن في داخله ذلك الآخر الذي لم يرد أن يكشف عنه في نسق «محافظ»، يعج بأشكال الطاعة والولاء، حيث يجسد الأب مطلق المركز الذي تنتظم حوله العائلة ما يجعل من العلاقة الأولية بينه وبين الابن نوح والحفيد سليم علاقة هرمية. وسيتضح في ما بعد أن هذه العلاقة ستخضع لانعطافات جديدة بفعل عوامل خارجية مساعدة، منها السفر نحو «الآخر» وتمثل قيمه ونمط عيشه. يقول السارد واصفا العلاقة القبلية التي كانت تجمعه بأبيه نوح: «في أثناء صعود الحمار للجبل يضعني أبي أمامه كي لا يميل جسده الضخم على جسدي الصغير، وعند النزول يردفني خلفه كي أستند إلى ظهره. وكانت لحظات تطويق ذراعي لجسده واحتضانه هي أحب اللحظات إلى نفسي، حيث الإحساس بقربي لأبي واتحادي به. كنت أشعر بحنان لذيذ وثقة ودفء لأنها أشد حالات التصاقي به، أشعر بحب كبير له وبحبه لي». هذه العلاقة التي قوامها التقدير والاحترام بين الابن سليم والأب نوح، ستعرف تغيرا لافتا، بل إن ذلك سيؤثر على علاقة السارد بنفسه، كما ستساهم في تغيير نظرته للأمور وللنسق الذي يقطن فيه. في خضم هذه المتغيرات سيطفو نوح الجديد، نوح المنبهر بالنسق الإسباني، الولوع بترف الحياة والبذخ وقيم الحرية والديمقراطية، المهووس بالثقافة الألمانية الحافظ لديوان غوته «الديوان الشرقي للمؤلف الغربي». يقول السارد واصفا أباه الجديد: «أنا مشغول جدا يا سليم… ولا يقول ابني ـ كما ترى، ولكنني أعدك غدا.. غدا بالتأكيد ـ ولا يقول إن شاء الله». «أفكر بأن أبي في داخله اثنان، هناك كان يخفي الذي يمارسه هنا، وهنا يخفي الذي كان يمارسه هناك، بدون أن يتخلى عن أحدهما نهائيا، وأحيانا يطعم أحدهما بالآخر». إن الاستشهادات المنتقاة تومئ بالتبدل النوعي الذي طرأ على شخصية الأب نوح، وهو ما أثر على علاقته بابنه سليم الذي انبهر بهذا «الأب الجديد». وعبر أطوار السرد يظل السارد في سعي حثيث نحو فهم هذه الازدواجية التي طرأت على شخصية أبيه. لذلك ما فتئت الرواية ترسل في السمة التركيبية بين الأب والابن، وهي خليط من التقليد والحداثة، فيها شيء من الماضي وشيء من الحاضر، كحال المجتمع العربي المعاصر الذي ما زال يرزح تحت وطأة الحنين إلى الماضي والتوق إلى عوالم الحداثة، فلا يملك إلا أن يزاوج بينهما. ذلك حال الشخصيات الثلاث في الرواية، إنها تعود إلى ماضيها الغابر، لكنها تقيم مسافة بينها وبينه.
علاقة نوح بأبيه (مطلق)
يكشف السارد منذ فاتحة السرد وحتى نهايته عن العلاقة الوطيدة التي تجمع بين أبيه نوح والجد مطلق، وهي علاقة يتم تصويرها بالاستناد إلى أساسيين متلازمين معقدين هما: الطاعة والولاء من جهة، والتمرد والتحرر من جهة أخرى. وبهذا المعنى، فإنه يمكن النظر إليها بالمقياس السابق، أي قبل السفر وبعده. يقول السارد: «أبي لم ينظر في عيني جدي أو حتى حدّق في وجهه على الإطلاق، دائما ينظر إلى الأرض مستمعا إلى كلامه بانتباه، تجاوز عمره الأربعين عاما وهو يقول إنه يستحي من النظر إلى وجه أبيه». «وأعترف لك الآن وحدك، ولأول مرة في حياتي.. بأنني كنت غالبا ما أرى الرب مجسدا فيه». تدلنا الأمثلة المنتقاة بطبيعة العلاقة التي تجمع بين الأب والابن في بعض الأنساق العربية، علاقة قوامها الهيبة والاحترام والرهبة في آن، لا سيما في الأوساط القروية، فرمزية الأب فيها تتجاوز الوظيفة البيولوجية المتمثلة في التربية والإعالة، لتغدو سلطة رمزية فوقية، وتصير له «الوصاية» على كل من تحت ولايته من أفراد أسرته. لكن الأب مطلق لا يبرز من موقع الأب المتسلط الذي يفرض خضوعه وطاعته، بل كشخصية مثقفة وقارئة، شخصية تمتلك من مؤهلات التواصل ما يجعلها تعقد صلات مع إثنيات متعددة. وعليه، فإننا لا نقرأ في الأمثلة السالفة نوحا واحدا، بل ذلك النوح الجديد المتجدد؛ فيه من رواسب النسق الذي تربى فيه (إحدى قرى العراق) وفيه من عالم الآخر وما يعج به من قيم الديمقراطية والحرية والانفتاح، إنه شكل من أشكال الانفلات من سلطة الأب الرمزية، فيكتشف القارئ أمارات التغيرات التي طرأت على هذه الشخصية، إذ خرجت من انطوائيتها وأصبحت تنعم بحرية الرأي وحرية الاختيار.
علاقة السارد بنفسه
من عاديات الأمور أن تحدث شقوق في البناء الداخلي للسارد، وهو ما سيؤثر على علاقته بنفسه ومحيطه الخارجي، لا سيما بعد وفاة الجد مطلق، علاوة على التأثر بـ»الأب الجديد» نوح الذي خلق مسافة بينه وبين ماضيه. علاقته أيضا بجده مطلق مبنية في كافة أطوار السرد على الاحترام والهيبة والرهبة والخوف في الوقت ذاته. يقول: «لا أدري ماذا أفعل، وقلبي يدق بشكل لم أعهده من قبل إلا في حالات الخوف من جدي». وفي مستقبل السرد، خاصة بعد رحيل سليم إلى إسبانيا، بعدما خنقته رائحة الجثث المتعفنة، نقرأ ساردا جديدا هو ذلك المعجب بإسبانيا المنبهر بقيمها، يفسر ذلك التوق الشديد لتمثل قيم هذا الآخر والرغبة الجامحة في التموضع ضمن هذا النسق، يقول: «صار يعجبني العيش هنا وسط هذه الحرية وهذا السلام لذا فأنا منهم، من هنا حيث أكون خارج شقتي».
صورة الأب المثقف
تضعنا الرواية أمام شخصيات مثقفة تعبر عن وجهة نظرها ومنظورها للأمور، استنادا إلى مقولة دمقرطة الحكي. سننصت للرواية من زاوية تصويرها للابن (سليم) والأب (نوح) والجد (مطلق) باعتبارهم شخصيات تتمتع بذخيرة معرفية، إنهم قارئون لتراثهم وتراث الآخر. يقول السارد: «وربما كنت مدفوعا إلى الشعر بسبب أبي أيضا، الذي يحفظ (الديوان الشرقي الغربي) لغوته بالألمانية». «تعلم أبي الألمانية والإنكليزية من الأجانب في شركات النفط، وكان يحفظ أيضا مقاطع من هاملت وشكسبير، وبالطبع يحفظ القرآن كاملا». فالشخصيات الثلاث وعبر مسار السرد تكشف عن ذخيرتها وخلفياتها المعرفية التي تتأرجح بين المعرفة بالنسق ومعرفة أخرى تنهل من الآخر وتتفاعل معه في الوقت ذاته، لتشكل صورة كلية أرست ما يمكن أن نسميه بـ»بلاغة التناقض»، فالرواية تغرق في أشكال الازدواجية التي طبعت شخصياتها.
*نشرت في صحيفة (القدس العربي)، العدد 8980 بتاريخ 19/10/2017 لندن.
**جواد السراوي: كاتب وباحث مغربي.

الخميس، 12 أكتوبر 2017

حدائق الرئيس: الواقعية المطلقة والرمزية التامة/ عبيد بوملحه


 حدائق الرئيس: الواقعية المطلقة والرمزية التامة
عبيد بوملحه
ما زال الإبداع الانساني يسمو بالانحطاط البشري، مبيناً وكاشفاً أو ملامساً مقوّماً محاوراً للفكر أو الروح من أجل المبادىء الحياتية الراسخة والمتغيّرة، يسري مثل النهر شاقّاً طريقه في القلوب والعقول القابلة وناحتاً المتحجر منها، مبعثه الصراع الانساني الأبدي للفرد مع نفسه أو مع الآخرين - بصورة شخصية أو موضوعية- أو مع الوجودية والعدمية، تاركاً إرثاً إنسانياً عظيماً تأصّل في الجذور تأرث له نيران النفوس أو تضطرم متمردة كصفة منبتها لتنبثق رواية حدائق الرئيس للروائي محسن الرملي معلنة عن كيانها الروحي بصورة محسوسة وتجليّات انبّجست من الهوان والتنزّه حافظاً للفرد العراقي بشكل خاص والبشرية بشكل عام الكرامة الانسانية، أبدع الأستاذ محسن الرملي في الخِلقة السردية لحدائق الرئيس خالطاً بين مدرستي الواقعية المطلقة والرمزية التامة الوافية حتى أصحبت أمشاجاً، نسيج واحد محكم الفتل وثيق انسيابي وَوَسَقٌ يصعّب على القارئ التفريق بينهما، مشركاً إيّاه في أن يهوي خلف السطور في أرض أخرى بعيدة عن حبر الكلمات المتراكبة ليسمق محلّقاً يفكّك يصفّي ويغربل بين نقيين منقّباً عن المعاني الغائبة ليصل إلى العلّة واللب، البحث الانساني الدائم عن الحقيقة والاستقصاء في رحلة الحياة ومحطات الاستقرار والسفر والرحيل، العزلة والانزواء، المخالطة والانضواء. 
السرد في حدائق الرئيس بسيط وسلس جاذب كنبأ يحاكي جلّ المستويات، يحوي عمقاً محسوساً وغير محسوس يتسلقه القارئ بحسب إمكانياته. حذاقة الأستاذ محسن الرملي وتمكّنه من صنعته جعلته يختلق قصّاً روائياً مبتكراً يرتكز على نقاط انطلاق وهي الشخصيات والأحداث ولكن من غير مركزية، فكل نقطة عنده تنطلق في اتجاهات عدة في فوضى خلّاقة بنت رائعة محسن الرملي "حدائق الرئيس"، فقد نشاهد إحدى نقاط مرتكزاته تعود إلى الماضي ومن ثم تنطلق في صورة أفقية تلامس النقاط المجاورة فينطلق مرتكز آخر إلى المستقبل وتتخالط فيما بينها وتتشابك ويفككها بمهارة ودربة وانتقالات سلسة يستحيل معها أن يشعر القارئ بقطع في الأحداث أو اغتراب عن النص الروائي. يعلن الأستاذ محسن الرملي عن تحديه للقارئ بأن يضع خارطة للطريق وألغاز أو إشارات لرحلة بحث تفضي في نهاية المطاف لتأويل آخر ومعانٍ مختلفة على القارىء حلها وتفكيك رمزيتها، يتضح ذلك من النص بداءة من أسماء شخصيات الرواية مثل عبدالله كافكا وإبراهيم قسمة البسيط الراضي وطارق المندهش أو الشيخ وما لكل اسم من دلالات واختلافات أصولية وفكرية وصفاتية، فعلى سبيل المثال قد يرمز عبدالله كافكا إلى النضال وغرائبية الحياة وغموضها، البؤس والشقاء بين الدواوينية والمثالية، أو قد تشير إلى خلافات البطل مع أبيه، والأب قد يرمز أيضاً إلى العديد التأويلات والتفسيرات، ويبين لنا الأستاذ محسن الرملي ذلك في صفحة 80: "للحظة فكّر كيف أنه بين عمياوين، ظلامين، الولادة والموت، (وقد اعتاد على أن ثمة رموزاً في الكون دائماً)"، ومن هذه الرموز التي أوردها الأستاذ محسن الرملي في صفحة 118 عن شجرة شوكة البحر والتأويلات التي تحيلنا إلى الوجودية والمكانية الآنية، ولكن الإبداع في الرمزية عند الأستاذ محسن الرملي أنّه بناها ككيان مرن هلامي غير محسوس لا يحيل إلى فكرة واحدة فقط، ولكنه يحاكي فكر كل قارئ ليستنبط منها ما شاء بحسب خارطته الذهنية وقدراته التأويلية أو البحثية، فكما قيل: "جميع إمكانيات التأويل تظل مفتوحة، وكل واحدة منها تنطوي على شيء ما شبيه بالحق، لكن ليس بين هذه الإمكانيات إمكانية واحدة مؤكدة بصورة واحدة وثابتة". 
وذلك ما تحيلنا إليه نهاية حدائق الرئيس من سوداوية تشرذم وتفرق، أو بيضاوية البحث عن الحقيقة من بين الأشلاء والتاريخ، وذلك بحسب الزاوية التي ينظر منها القارىء نفسه، ليخلط الأستاذ محسن الرملي بين استراتيجيتين في الكتابة بصورة إبداعية، وهما: جلوس الكاتب في برجه العاجي ليفهمه الناس ويصلوا إليه، وبين أن يكون الكاتب لسان المجتمع وحاله.
اللغة.. الإيحاءات في أسماء الشخصيات وبعض المواقف والأحداث.
---------------------------------------------
*عبيد بوملحه: كاتب وناقد إماراتي، من أعماله: رجل بين ثلاث نساء، ليلة غاشية، سوق نايف، الذبابة.. وغيرها.
*نشرت في (مداد) بتاريخ 12/10/2017 الإمارات.
 
 
 

الخميس، 5 أكتوبر 2017

عن: ذئبة الحب والكتب / عبدالله مكسور

ذئبة الحب والكتب.. صورة البحث عن الحياة بتناقضاتها
عبدالله مكسور
عديدة هي النصوص الروائية التي تناولت مفهوم الهجرة، في وصف لما يلاقيه المغترب من صعوبات في مواجهة عالم جديد. هذا العالم بكل ما فيه من تناقضات ونزاعات وأمل ومآس تعكسه رواية “ذئبة الحب والكتب”، الصادرةُ، مؤخرا، عن “دار المدى”، في بيروت وبغداد وأربيل، للكاتب العراقي محسن الرملي الذي يصور لنا الهروب إلى الخارج حيث الراوي الذي يسرد لنا حكايات عن الحرب والموت والصداقة المقتولة والحب.
عبر ما يقارب الأربعمئة وخمسين صفحة يطوف الكاتب العراقي محسن الرملي برحلة الحياة من الوطن وإليه، خلال روايته المرشّحة في القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب في دورتها الحالية “ذئبة الحب والكتب” بسرد غريب يمسك الراوي بهِ من أطراف عدّة رغم تعدّد الأمكنة والأزمنة، إلا أنَّه يحافظ على التشويق وعلى ملامح الشخصيات ليضع القارئ أمام مفارقات عديدة يتم اكتشافها تباعا خلال النص.
“الأشياء الصغيرة تجلب الغبطة الصافية، الذاكرة تنتقي، تقدم وتؤخر كما تشاء”، بهذا المفتاح يمكن قراءة رواية الكاتب العراقي المقيم في أسبانيا محسن الرملي، “ذئبة الحب والكتب” ليست رواية فقط، إنها حكايات في قلب حكاية أرادها الرملي مختلفة عن كل ما قدمه في إنتاجاتهِ الأدبية فبدأها بإقرار لا يقبل اللبس بأنَّه هو محسن الرملي الكاتب العراقي الذي قدّم للوسط الثقافي كل أعماله السابقة إلا هذه التي بين يدي المتلقي الصادرة عن دار المدى في بيروت وبغداد وأربيل، هذا النص الذي أراده الرملي كشف حساب مع الماضي دون مواربة، الماضي بكل ما فيه من مشاكل وأحلام وعقبات.
العمل من منظور نفسي
بدأ تشكل المستقبل عند الرملي في مرحلة مبكرة من حياته، وهنا بالطبع لا بد من إخضاع النص للمدرسة النفسية التي تقوم على قراءة الأدب من منطلق نفسي، حيث نرى طيف الشاعر العراقي حسن مطلك الذي تدور حوله الحكاية، ساكنا في ثنايا النص وإن حاول محسن مرارا الاختفاء بعباءته عبر الاختباء بصورة أنثى عاشقة للشاعر العراقي الذي اتهمته سلطات البلاد في ذلك الوقت بالتخطيط لقلب نظام الحكم الذي يقوده القائد الضرورة.
يقدم الرملي بعد مرور سنوات بيان نعيٍ أدبي مكثّف اعتمد من خلاله ترميم المشاعر وتوظيف التكثيف في بنية السرد بين ثلاثة أعمدة وثلاث مدن، الأعمدة الثلاثة تمثلَت بالشاعر الراحل الذي هو شقيق محسن الأكبر والكاتب ذاته الرملي وامرأة تظهر وتختفي تحت اسم هيام.
وتمتد الحكاية عبر هذه الأركان بتفاصيل يضمنها الرملي ذاكرته الشخصية المتنوعة، ذاكرته التي عاشها في ثلاث مدن ظهرت في النص على هيئة العراق بوصفه مدينة كبيرة ممتدة من الموصل وحتى البصرة، والأردن بوصفها مرتكزا للمنفى الأول الذي وصله الرملي بمئتي دولار فقط فخلق ذلك ثنائيةَ عمان وإربد، بينما تظهر مدريد بوصفها الحلم الكبير البعيد الذي يقع على الضفة الأخرى من المتوسط.
رغم المواربة التي وضعت على غلاف الرواية بأنها عن عراقيين يعيشون الحب رغم كل الظروف، إلا أنّ المقطع العرضي للنص يدفعني إلى القول إن الزمان والمكان هما زمان ومكان محسن الروائي بصفته الكاتب والإنسان معا، تاريخه الشخصي الذي اعترف لي محسن مرة بحوارٍ سابق إنه يمرره عبر شخوص أعماله، يجعلها تتغذى عليه فتحمل ملامحه وذهنيته وأوجاعه وأفكاره ومشاعره، لذلك يمكن تصديق الحبكة الخيالية التي قدمها في مطلع الرواية عن بريد إلكتروني يطابق إيميل المدونة التي أنشأها الراوي لشقيقه الراحل بعد حكم الإعدام وحرصه الشديد على أن يضع فيها كل قصاصة وكل جملة وكل عبارة تركها حسن مطلك، تلك القصة التي أراد منها محسن أن يغوص أكثر في عوالم النفس البشرية من خلال المسح النفسي لرجل فقد كل شيء خلال الحرب، فقد تاريخه وحاضره ومستقبله، ولكنه ظل مؤمنا بالحب كمظلة تجمع كل النقائض.

دائرة السرد
يسير النص في دائرة مغلقة، بدأها الرملي بذاته العراقية وأنهاها في نقطة معلقة بين حدودين في مواجهة العراق الوطن الذي عاد إليه باحثا عن الحب الذي اخترعه وصدقه، دائرة يسير قطرها دون نقطة ارتكاز سوى الحب الأزلي الذي يمشي على ساقين عند الرملي ضمن إحساسين الأول هو الأخوة الصرفة تجاه حسن مطلك والثاني هو حب الأنثى الغائبة التي تطابق حبّ ما قبل النظرة الأولى لمرأةٍ تسكن الروح.
القطر الذي يسير ضمن نقطتين في دائرة السرد نراه يعبر المدن ويصورها من خلال الأحداث المختلفة التي ضربتها، تكثيف الحدث التاريخي يظهر بشكل جلي في مدن العراق ليمر على الحرب الإيرانية العراقية وحرب الكويت والاحتلال الأميركي لبلاد الرافدين عام 2003، الحدث الأخير يفرض نفسه عبر مسارات يحاكم من خلالها الرملي الموقف الإنساني داخليا وخارجيا من الاحتلال، أثر الحرب على الذين وقفوا على الحياد فيها، بين ضفتين رمت كل منهما الواقفين فيها بعبث دون انتظار اكتمال الحدث، هنا يظهر قطب القصة للمرأة المتخيلة هربا من الاحتلال والموت نحو اليمن ومنها إلى الخرطوم وصولا إلى ليبيا عبر شاحنة خطت عجلاتها في الصحراءِ آثارا عكسها الرملي في نفسية منكسرة تبحث عن الحب وصولا إلى مدريد، ذلك الوصول الذي دفع بالرملي الكاتب إلى اتخاذ قراره بالاتجاه نحو أسبانيا بعد أن قدم مقطعا عرضيا آخر للحياة الثقافية والاقتصادية في ثنائية “عمَّان/ إربد” في الأردن.
خلال تلك المرحلة أرسى الرملي خيوطا كثيرة وآراء عديدة في الرواية والمسرح والشعر والجمال ضمنها خلال الحديث عن علاقاته الاجتماعية في عمان، وهو هنا استخدم أسماء صريحة لأشخاص وشعراء وصحفيين، فضلا عن تعيينه لأسماء مطاعم ومقاه وجامعات ومسارح وأحياء لإضفاء الشرعية على النص.
تحضر الأسطورة في الرواية من خلال صورة جلجامش وأنكيدو والجد الذئب وهذا يقودنا نحو قراءة أخرى للنص تقوم على التأويل ضمن ثلاثية أخرى تقوم على الإنسان والسماء والأرض، مررها الرملي في متتالية تتناسل منها الحكايات ليصوغَ اللوحةَ الكاملةَ للحياة في ظل الدكتاتور وخارجها، ليضع مسارات جديدة يتحدّث فيها عن الممنوع والمسموح والممكن في ظل السلطات المتعددة المتمثلة بالضمير والدين والأخلاق والقبيلة والزوج والأب معتمدا في هذا البوحِ على صوتين رئيسين هما المرأة والرجل المختبئ خلف رجل آخر وصلت إليه المراسلات صدفة فدفعته الأحداث ليكون البطل كما يعترف الرملي أن ذلك حدث في حياته الشخصية حين قضى حسن مطلك إعداما فحمل هو بأناه الواحدة صورة الرجل الراحل ليصل صوته إلى كل مكان.
----------------------------------------------
*نُشرت في صحيفة (العرب)، بتاريخ 2015/11/02، العدد: 10085 لندن.


عبدالله مكسور