الأحد، 31 يناير 2021

عن رواية: تمر الأصابع / محمد أمين

 

تمر الأصابع ــــــ محسن الرملي

رواية عن العراق وأبنائه 

محمد أمين

قراءة أولى: يناير 2021

يأخذ الكاتب محسن الرملي على عاتقه في رواية تمر الأصابع كشف جزء حي من واقع أبناء العراق في الغربة ومدي توافقهم واستجابتهم لمكان العيش الجديد وكيف آن لهم أن يؤلفوا بين حاضر غريب لا يعلمون له تأويلا وماضي بعيد لا يستطيعون له سبيلا. أحداث الرواية تجمع ثلاثة أجيال (الجد والأب والابن) وعائلاتهم التي جمعتهم قرية الصبح العراقية في حياه بسيطة برعاية الجد الأكبر "المطلق" صاحب المقولة الشهيرة: "إذا نبح عليك كلب فلا تنبح عليه، وإن عضك عضه". هذه المقولة الأثيرة لديه والتي لازمته منذ الطفولة والتي شكلت عنده مبدأ حياتي كان سبب في انقلاب حياة العائلة رأساً على عقب وكانت بداية الرحلة الطويلة من الاغتراب والوحشة والفراق. 

يلعب الرملي عن طريق شخصياته القليلة على أفكار عدة، منها الحب والذي يتجلى في مراهقة البطل في عراقه البعيدة مع "عالية" وكيف بدأ وكيف خبا، ويتجلى في شبابه في مدريده الجديدة مع "فاطمة" المغربية والتي تعيد تأثيث روحه من جديد. أيضا نجد معني الاغتراب والبحث عن معني الوطن كما جاء على لسان الأب لابنه " إن وطننا الحقيقي هو الذي نصوغه نحن بأنفسنا كما نريد.. لا كما صاغه غيرنا، كما فعل الطاغية.. انه على هذا النحو ليس الوطن الذي نريده". من الأفكار المطروحة أيضا في الرواية مبدأ الثأر وكيف أنه قد يكون محور حياة وهدف تم تحديده وعهد لا يقبل الجدال وقد تتوارثه الأجيال، الثأر الذي لا تمحيه تغيير الأماكن ولا الثقافات ولا حتى جلود البشر.

الإشارة الي التمر تكررت كثيرا في الرواية وعلى لسان شخصيات مختلفة ليجعل من نفسه بطل للأحداث وشريك متضامن في اسم الرواية. ومما لا يخفي على الكثيرين أن النخل والتمر العراقي يشكلان جزء أصيل من الحضارة والتاريخ والثقافة لهذا البلد وأهله من قديم الازل. وقد لاح لنا ذكر التمر على لسان الجد والأب والابن في مواضع كثيره واستخدامات عديده بعضها نعلمه والبعض الاخر تم اكتشافه بين أحداث هذه الرواية.

اللغة سهله وغير متكلفه ولم يلجأ الكاتب الي استخدام كثير من الكلمات من العامية العراقية الدارجة. مسرح الأحداث ينقسم لمنطقتين أساسيتين في الزمان والمكان، الحاضر حيث يعيش الابن في اسبانيا والماضي حيث نشأ وسط عائلته في العراق، وتأخذنا الاحداث الي الماضي العراقي تارة لتنبش في رفاته الرمادي وتعود بنا تارة أخري للحاضر الأوروبي لتبحث في أحواله المتفككة ومحاولات الشخصيات لتجميع الصورة النهائية لحياتهم. السرد يجمع بين الوصف واسترجاع الأحداث في نقلات واعيه ومحسوبة بدون تشتيت ولا اصطناع.

تمر الأصابع هي رواية للباحثين عن وطن، للسابحين في شتات المهجر، للواقعين في أحابيل الموروثات الثقافية والمعضلات الأخلاقية، للمشتتين بين الماضي والحاضر، (تمر الأصابع) رواية عن العراق وأبنائه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*محمد أمين: كاتب من مصر.

https://www.facebook.com/photo?fbid=10157520371736022&set=a.10156808364946022 


قراءة في رواية: تمر الأصابع / جمعة عبدالله

 

قراءة في رواية (تمر الأصابع) للكاتب محسن الرملي 

    جمعة عبدالله

تدور أحدث النص الروائي بين الماضي والحاضر عبر الاجيال الثلاثة، أو المراحل الثلاثة، التي يمثلها الشخصيات (الجد والاب والابن) وكل شخصية تمثل مرحلة معينة مرت على العراق في عواصفها الاجتماعية والسياسية. في مسائلها الحساسة والعويصة في دوامة الصراع وتقلباته وتحولاته عبر هذه الشخوص. الجد (المطلق) والاب (نوح) والابن (سليم) التي احتلت أحداث المتن السردي، الذي يملك براعة في الصياغة والمعنى والرؤية والتعبير في المغزى والرمز الدال. بما شهد العراق من تحولات تمثلت. الفترة الملكية. فترة عهد البعث. فترة الشباب الذي تشرد وعانى الغربة والاغتراب. وما تحمل هذه المراحل من صراعات مختلفة بالتناقض والاضداد في داخلها، في المعايير والمواقف تجاه الحكم واساليب السلطة في العراق، بما تعرض من أحداث عاصفة صبغت بلونها هذه التحولات. وكل مرحلة تتسم بمواصفات معينة تميزها عن المراحل الاخرى، في سياق الأحداث الجسيمة التي جرت على العراق. وحملت في رحمها من زوابع في تهشيم النسيج الاجتماعي والسياسي.  إلى مرحلة التأم وحتى مزق الهوية. لذا نجد في هذه الشخصيات الرمزية الدالة، صورة العراق في العادات والتقاليد الاجتماعية في الثأر والانتقام. في منصات الحب وأشجان القلب وعواطفه المنفعلة بالانفعال العشقي. في مسائل الارهاب وخاصة في زمن الدكتاتور المتسلطة. التي جلبت الارهاب والحروب. مما جعل جيل الشباب ان يهرب من شبح الدكتاتورية والحروب. بعدما سدت آفاق الحياة والعيش. مما جعلهم ان يخوضون مغامرة الهجرة في الغربة والاغتراب. وبدورها تؤثر على وتيرة الصراع الاجتماعي والسياسي إلى الذروة التأزم. تدور أحداث المتن السردي في عتباته، بين الاب والابن في اسبانيا مدريد، اثناء تواجدهما. وما صاحبه من تسليط الضوء على صورة العراق. وكذلك الصراع الثقافي بين العقليتين الشرقية والغربية. من عواطف مشحونة بالانفعالات بين العقلانية والتهور. على خلفية الماضي والحاضر في خضم الصراع على صورة الوطن. ولكن لابد من التمييز والتفريق في مواصفات هذه الشخصيات التي تمثل مراحل العراق المتعاقبة. لا شك أن الجد (مطلق) يمثل الارضية الراسخة في الاقناع العقلي والفكري والديني. يمثل الحكمة البصيرية في رؤية ميادين الصراع القائم، يمثل العقلية المقبولة والموضوعية في مواجهة الأحداث بالعقلانية. بينما نجد الاب (نوح) يمثل المرحلة المضطربة والتي تعاني من الازدواجية في الشخصية بين (المطيع والمتمرد). وهي أسطع مثال على فترة عهد الدكتاتورية البعثية في وجهها المتناقض بين (الديني والارهابي) في العقلية والثقافة. بينما نجد الابن (سليم) يمثل الجيل الذي عانى من وزر الدكتاتورية بين الارهاب والحرب. والهروب من وجه الدكتاتورية البشع. في محنته في التشتت والحرمان من الحرية والتأزم في الهوية. ولكن رغم هذه الاهوال ظل أميناً على حب الوطن ويحمل صورة الوطن في عقله وقلبه، رغم معاناة الغربة والاغتراب. نجد في شقة (سليم) الصغيرة جدرانها تمثل متحف لصور العراق. وكذلك يتميز بالسلوك العقلاني ووضوح الرؤية والموقف، في الصراع بين الثقافة والعقلية الشرقية والغربية. أن (سليم) في سلوكه وتصرفه يمثل صورة مشرقة للبطل الايجابي، عكس البطل السلبي في الصراع بين العقلية الشرقية والغربية. التي تناولتها الروايات العربية، على سبيل المثال، رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) ورواية (الحي اللاتيني). ونجد الاب (نوح) والابن (سليم) في صراع وخلاف، ضمن المنطق المسموح بين الاب والابن، ولكن يجمعهما الجد (مطلق) في التوافق والانسجام. فالجد هو الخيمة الذي يجمع عليها الفرقاء في داخلها على التوافق. نجد ان المتن الروائي توغل عميقاً في تفاصيل صورة العراق وتحولاته عبر الفترات المتعاقبة. والتي كانت الدكتاتورية الضربة القاصمة التي كسرت ظهر العراق، في التحطم والتشتت والارهاب. واصابت الوطن في أعمق أزمة حتى مزقت هويته. وأصبح كل أمل الغريب والمغترب ان يجد هويته داخل الوطن حتى ينهي عناء البحث عنها (حيث أمارس هويتي الأولى، حنيني، شوقي إلى احتضان الأم واخوتي، إلى زيارة قبر عالية، إلى السباحة في نهر دجلة، إلى اصدقائي، إلى ابقارنا وحميرنا ودجاجاتنا والجبل.. أتلهف إلى أخبارهم، وعنهم. كيف هم الآن؟ ماذا حدث؟ وماذا يحدث؟ من مات منهم؟ ومن تزوج) ص38. هذه لهفة الحنين والشوق التي تفور في أعماق الوجدان بقهر وحزن وحسرة (أنه العراق يا أبي) هذا الترابط العضوي بين الماضي والحاضر. الذي دنسته الدكتاتورية في مجيئها المشؤوم. والتي حرثت في الخراب والتدمير، وما أصاب العراق من فواجع، لذلك يقول الاب (نوح) إلى أبنه (سليم) (أكتب ما تشاء فلن يحدث أسوأ مما حدث.. هذا العالم الجايف) هذه حكايات العراق المأساوية التي تقطع الانفاس بحشرجة الالم والحزن والغضب. بأنها معاناة تحطيم الانسان وتهميشه. هذه تجسيدات الشخصيات المحورية التي سلط عليها المتن السردي. ولكن لابد من استعراض الملامح السمات البارزة لهذه الشخصيات التي تمثل مراحل العراق المختلفة:

1 - الجد (مطلق) : يمثل الحكمة والعقلانية في الفعل والارشاد بحكمته القائلة (أذا نبح عليك الكلب فلا تنبح عليه، ولكن أذا عضك فعضه) ص9. وكان سعيه الحثيث والمثابر، في تشيد ما يطلق عليه من تسمية بالمدينة الفاضلة أو القرية الفاضلة، لكن هذا الحلم والامل اصطدم في المواجهة مع الحكومة في اجهاضه. كان ملتزما بوعي في التراث الديني وتقاليده وما جاء في القرآن. كان ملتزماً بالعقلية التي تبعده عن الطيش والتهور وسوء التقدير. لذلك من اجل امتصاص انتقام السلطة انتقل بقريته إلى الضفة الاخرى من النهر، ليكن بعيداً عن الصراع غير المتكافئ مع قوات الحكومية. وكان يقول عنه الاب (نوح) موجهاً كلامه إلى أبنه (سليم) (جدك رجل عظيم يا سليم، لكنه ربما ولد في غير عصره. أنني أحبه بشكل كبير) ص116.

2 - الاب (نوح) : يمثل مرحلة في  عهد البعث بفترته الاولى والثانية، ويتميز هذا الجيل بين الاطاعة والتمرد. يمثل روح الازدواجية المتناقضة بين (الديني والارهابي). وهو بالذات نهج وسلوك حكم البعث في الارهاب، أو الدعوة إلى الحملة الايمانية الدينية. وكذلك وجه الطيش والانتهاك. لذلك حين التقى (سليم) مع أبيه وجهاً لوجه في اسبانيا/ مدريد. كان (سليم) صعق بالغرابة والاستغراب، لم يصدق عينيه بأن هذا الواقف أمامه هل هو أباه حقاُ ؟، في هيئته المتنافرة والغرائبية (هذا الرجل حليق الشاربين، صلع خفيف فوق الجبهة، طويل الشعر مربوطة إلى الخلف، وخصلتان صغيرتان منه مصبوغتين بالأحمر والاخضر، ثلاث حلقات فضية تتدلى من أذنه اليسرى، أقراط.. أيعقل أن يكون هذا أبي؟! أهذا هو أبي حقاً) ص19.. جاء إلى إسبانيا/مدريد من أجل أخذ الثأر والانتقام من فتى السلطة الطائش، الذي تحرش بأبنته الصغيرة (استبرق) حين مسكها من مؤخرتها (بالضبط مثلما كان يفعل عدي صدام حسين في التحرش بالفتيات ويخطفهن من الشوارع) فما كان من الاب (نوح) ان أفرغ في مؤخرته طلقتين. والفتى الطائش يصيح بغضب (أتعرف من أنا؟ فيجيبه: أنت أبن كلب.... أبن قحبة) ولكن كان الدمار والخراب حل بالقرية آل مطلق. فقد عاثت الحكومة قتلاً وخراباً، والنتيجة كان عدد الضحايا 17 قتيلاً حتى الاب (نوح) خرج من السجن معوق ومخصي. وسميت قريتهم بقرية (القشامر) وغيروا لقب (مطلق) إلى اسم أل قشامر، ولكن بعد اشتداد ضراوة الحرب العراقية الايرانية، وحاجة الدكتاتورية إلى وقود للحرب لتجنيد الشباب والرجال ودفعهم إلى جبهات القتال. غيرت أسم قرية (القشامر) إلى اسم (قرية الفارس) تيمناً بالفارس الدكتاتور، الذي حول العراق إلى جحيم وتوابيت. فلذلك يتساءل بجزع عن عمل لجان التفتيش لنزع اسلحة الدمار الشامل بالقول (أية أسلحة ودمار شامل، هل هناك ما هو أكثر دماراً من الدكتاتور نفسه، الذي قتل وشرد الملايين، فلماذا لا ينتزعونه ويخلصوننا!؟) ص125. وفي الاخير عرف الاب (نوح) بأن فتى السلطة الطائش الذي عين بعد ذلك في السلك الدبلوماسي. قد انتقل إلى بلد آخر، أو إلى جهة مجهولة، وربما قتل أو مات. لذلك غير قناعاته بالثأر والانتقام.

3 - الابن (سليم) : يمثل الجيل الذي عانى الغربة  والاغتراب، عاني شبح الدكتاتورية وارهابها، ومنهم السارد أو الروي نفسه، وهو يحمل مواصفات الكاتب أيضاً، في مقارعة النظام والسلطة الارهابية، لذلك يصيح بالتذمر والسخط ( لماذا.... لماذا فعلتم بنا كل هذا.. يا مجرمين) ص164. كان في بداية براعم حياته الشبابية، أحب (عالية) أبنة عمه، حباً ملك جوانحه، وكان يبعث الرسائل والقصائد الشعرية عبر شقيقته الصغرى (استبرق) وبعد ذلك اختار مكاناً لعش الحب بينهما، يلتقيان يومياً بالعاطفة العشقية الملتهبة وهم يمضغان أصابع التمر بكل شهية واشتياق وشهوانية. كان يطير بجوانحه العشقية بالبهجة، لكن الموت خطف (عالية) واصابه الحزن الشديد. وفي شبابه كان ضد الارهاب والسلطة مما ضيقت عليه الخناق. مما دفعه إلى التخلص من شبح الدكتاتورية بالهجرة إلى إسبانيا، وهناك استطاع ان يوصل صوته المعارض للنظام. وينقل محنة ومأساة الوطن إلى الرأي العام الاسباني. وهو يمثل العقلية الناضجة والواعية من شريحة المغتربين في المهجر. ويحمل صورة العراق بكل معاناتها. يمثل الجيل الذي باستطاعته أن يتحمل المسؤولية العراق في الانعتاق والحرية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*نشرت في (صحيفة المثقف)، العدد 5250 بتاريخ 19/1/2021م.

https://www.almothaqaf.com/b/readings-5/952744

*ونشرت في (صوت كردستان) بتاريخ 16/1/2021م

http://sotkurdistan.net/2021/01/16/%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%A1%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%B1%D9%88%D8%A7%D9%8A%D8%A9-%D8%A3%D8%B5%D8%A7%D8%A8%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%85%D8%B1-%D9%84%D9%84%D9%83%D8%A7%D8%AA%D8%A8-%D9%85%D8%AD/ 

جمعة عبدالله

الجمعة، 1 يناير 2021

قراءة في رواية: بنت دجلة / عبيد بوملحه

بنت دجلة: دفن الرأس يستوجب البحث عن الجسد

عبيد بوملحه

انفرد الدكتور محسن الرملي في روايته (بنت دجلة) الصادرة عن دار المدى العراقية، بكتابته رواية فلسفية عميقة، في جوفها روايتين، إحداهما صريحة خطّتها الأحداث والشخصيات والحبكات، أرى أنها تعتمد على جانب الوعي والبحث والقراءة والاستقراء وتنطلق من الفلسفة التي أعادتني إلى الرواقي ماركوس أريليوس: "في كل خطرة من خطراتك التزم ملكة الرأي والفهم". ويتبين ذلك من قدرة الرملي على المحافظة على وظيفته البنائية "في كل خطرة من خطراته" ببعد فني وجمالي ودلالي رغم تشابك الأحداث وتطور الشخصيات. وبالمقابل أضفى تلك الفلسفة الرواقية على شخوص بنت دجلة ليتحد الباني في إحدى صفاته مع البناء. محيلاً القارئ إلى أبواب أخرى من الفلسفة يبنيها كما بنى "الشيخ طافر مرقد أبو الأنوار" ليحطمها في لحظة اكتشاف "براء" وأخيه "رهيب" سر المرقد العجيب والذي بني من (…)! تفاهة، ليتحول إلى مقدس في كوميديا سوداء وسخرية تبين مدى التفاهة التي تستحوذ على عالمنا المعاصر. ومنها دخول شخصية “حميد الشخار” في الصفحة 32 المغرقة في السلبية وعدم الاهتمام لتتحول الرواية به إلى الواقعية السحرية والتي يرمز الرملي بها إلى أن الواقع قد يكون أغرب من الخيال ولا يتصوره عقل، ويجعل شخصية صامتة سلبية ثانوية شخصية يتفاعل معها القارئ، يكرهها ومن ثم يحبها بمُكنة الروائي الرصين. يكشف محسن عن المرض ويعلنه فيستخدم قلمه كمشرط جراح، حيث جاء في صفحة 253: “يعجبني الشخص الذي يتبنى عاهته بوصفها جزءا من هويته. وعلّق عبدالله: وما نحن جميعاً في نهاية الأمر إلا عاهات في هذا الكون العاهة”. وأيضاً ما ورد في صفحة 121 و122 عن قصيدة “طيط” والتي ارتبطت في النهاية بمرقد أبو الأنوار بصورة غير مباشرة لم يتم التصريح بها ولكن يعود العقل بواسطتها إلى جذور بناء الرواية. ليؤكد الرملي تمكّنه بأن السخرية في الأدب هي فكرة خاطئة في ذهن شخصية، تقوم على أساسها زلات كثيرة مناقضة للمألوف. ولكنه يمعن في التناقضات برفع الضد ونقيضه في الرواية ليترك للقارئ مساحة للتفكير والتأويل، كما ورد في صفحة 126: “أصل الحضارة والفنون… فأول كتابة: شخبطة”. لتكون الرواية مادة خام للأفكار والنزاعات والنزعات الإنسانية يفصل الرملي مكوناتها وينقيها ويبرز شوائبها بملائمة وتناغم مع الدفق الروائي مثلما جاء في الفصل الخامس “مبارزة الأنوثة والذكورة بحضور الأمريكان والعشيرة”. بخطين سرديين متشابكين ومتمازجين يصعب الدمج بينهما بمثل هذه السلاسة بين الداخل الإنساني والواقع الخارجي، حيث شبكهما بطريقة يستحيل معها الفصل بينهما ولا يتخيل أن يوجد أحدهما بدون الآخر ليكونا الأصل والشكل، موضحا الذوات الإنسانية المتفاعلة مع بعضها بطريقة الدافعية والنفعية والتي يكون مبعثها الذاتية. مراهنا على راهنيّتها كمبتغى إنساني في ظل تبدليّة الأحوال وتجددها حيث تأتي بداية الرواية بسيطة لأم وابنها وزوجها مروا في طريق البحث عن الجسد بعد أن دفن الرأس بصديق لمقابلته-الصفحة 11: “في رأيي من الأفضل ألا نذهب اليوم مباشرة إلى بغداد، وإنما نمر بإحدى القرى التابعة لسامراء، هي على شاطئ النهر، أعرف شيخها، فهو صديق منذ أيام الطفولة”. ليغرق الرملي في الكتابة الرمزية خلف السطور، يصدم القارئ بالفراغ الذي يستحث الذهن على التفكير، صفحة 17: “سألهم: هل أخبرتم الشيخ بأنني صديقه الشيخ طارق؟ قالوا: نعم، وهو الذي أمرنا بعدم فتح الباب لك.”. الانكسار الثاني الذي يضاف للشيخ طارق في أول يوم من زواجه. فما كان منه إلا أن يمضي إلى فعل جديد بعدما أوصدت الأبواب في وجهه، ولكن: “أدار مفتاح السيارة هاما بالسير إلى الخلف والمغادرة، فركض إليه الحراس وأوقفوه: لقد أمرنا ألا نسمح لك بالمغادرة.” (صفحة 18). ليبين أن الفعل الإنساني محكوم بالأقوى وغير مرتبط بالمنطقية والرغبة الفردية، وأن الحياة نهر يجرف الناس ويرسم لهم طريقا غير ما ابتغوه أو حلموا به أو تخيلوه. حوّله الرملي من مجرد درب أرغمت بعض شخوص الرواية على سلكه إلى تتابع للأحداث وفي صميمها بانسجام مدهش ساعده فيه البناء المركب والمعقد لشخصياته على الرغم من أن الرواية تنبع من رواية أخرى في تحدّ كبير يخوضه ويضع فيه قدراته على المحك. وهذه التحولات في الرواية تبين أنّ الحقائق لم تكن جامدة أبدا ولا معتّقة بل تستمد تجددها من الأحوال الإنسانية والطبيعية، التي يناوشها بالمذهب العقلاني والكلامي ويرفع سلاحه (القوة الناعمة) في مواجهة مع خليط كبير من الأفكار السياسية والدينية والاشتهاءات الشخصية، ويعرضها تاركا حرية الفهم والتأويل ليكون قلمه منتجا غير مكبل يسلب الفكر الإنساني توهّجه والعقل تأملاته وقراءاته وليكون صاقلا للرؤى والآمال المعرفية في ظل الصناديق الفكرية أو الدينية المقدّمة كقوالب غير قابلة للمساس. فينطلق بعيدا عن النمذجة والموجّهات التاريخية المسيّرة مرسيا معرفية واقعية وتساؤلات تثيرها الرواية ويصرح بها لسان شخوصها مثلما جاء في الصفحة 26: “في زمننا هذا باستطاعة من يشاء أن يسمي نفسه ما يشاء، شيخ، أو سياسي أو رجل أعمال أو فنان أو شاعر أو أي شيء، لن يعترض أي أحد فنحن في عصر السرعة والفوضى الخلاقة”. ويؤكد ذلك في تصدي “قسمة” للمجلس واتكائها على مرتكزات دينية في صفحة 45 ومناقشتها وفلسفتها متعدية بذلك على “الشيخ طارق” العالم في الدين. ومتكئا على الواقعية التي أسسها حزب نخيل الوطن عن طريق الدين متمثلا في الشيخ طارق والثقافة والأدب في بريتون الشخابيطي والقوة عن طريق تأسيس ميليشيا داعمة ومن المنطلق العشائري والمكاني. يزاوج الرملي بين طموح الفكر وطموح الإرادة الذي يتبين من الصعوبات التي تواجه مؤسسي الحزب، كما ورد صفحة 259 عند قرار طارق بترك الحزب وحوار قسمة الداخلي: “أيقنت بأنها ستكون عاجزة عن إقناع طارق بالعدول عن قراره هذه المرة، ولكنها ليست ممن يستسلمون بسهولة أبداً.”. بيّن الرملي القرار وصعوبة العدول عنه ولكن بحنكته وضع ضوءا في نهاية النفق، ليضع لبنات مختلفة ينقل القارئ بينها، لبنات فكرية وسلوكية واعتقادية تبني من الواقع واقعا آخر، وتؤكد أن الانسان كائن متغير يتجاوز الفكر المحنط إلى الفكر الحي، بمناوشات أدبية تخيرية غير قسرية تطلق عنان التفكير بومضات يدسها في العمل تحيل إلى خيارات متعددة أمام القارئ، منها مشهد النهاية والذي مهد لخياراته في الصفحة 71: "بدا لها بأن شخصا ملثما قد هددها بالذبح، لم تكن متأكدة من الأمر تماما." والرواية الأخرى التي كتبها الرملي تكمن خلف السطور، وهي رواية مفعمة بالرمزية تستند على الهرمنيوطيقا ما يجعل لها خصوصية عند كل قارئ بطبيعة فهمه وتأويله بعد ذلك، ولم تكن الرمزية في بنت دجلة خوفا من أية حدود يرسمها الروائي لنفسه، إذ يتضح ذلك من العمل نفسه والذي حطّم فيه الرملي الطوطم والتابو بمعاول مختلفة ومن زوايا متعددة، وبحنكته وتمرسه نجح في مألفة ذلك مع الدفق السردي وتطوّر الأحداث وربطها مع بعضها ما يستدعي دحرجة عجلة الأفكار المختلفة ليكتمل النسيج الروائي بها، رغم الغرائبية التي تتمتع بها بعض شخصيات الرواية مثل “بريتون الشخابيطي أو براء”، و”عبدالله كافكا”، وذلك لا ينفي الصراع الداخلي الكبير الذي في دواخل أغلب الشخصيات والتطور الكبير فيها مع تقدّم الخلق السردي وتقلّب نزعاتها مثل “قسمة” الهادئة التي تنفجر فجأة لتتشظى المسارات الروائية في عقل القارئ وتجعله يلهث محاولا كشف غموض المستقبل والغوص في جوف الصنعة لتتملك الخيوط كلها من مسابقة في البول مع الشيخ “طافر” لحظة تافهة لكنها عظيمة في مدلولاتها وأسس بنائها وانطلاقها من مبادئ انسانية وخلافات فكرية تبيّن تحولاً كبيراً في مسار القصة والمتواجدين حين حدوثها وبالتالي في عقول القراء. و”طارق” الزوج المتدين الذي تتوالى انكساراته في الرواية من لحظة بزوغه فيها حيث جاء في الصفحة 8: “فتح غطاء المحرك وراحا ينظران فيه، ثم أغلقاه وأمرا طارقا أن ينحني مستندا بذراعيه إليه، حاول الممانعة ولكنهما ثبتاه بقسوة، فنظر إلى قسمة شاعرا بإهانة عظيمة، متمنيا أن تنسى هذا المشهد لاحقاً، وألا تتذكره أبدا، وخاصة في الليالي الهائجة التي سيطلب منها أن تنحني هكذا ويأتيها من الخلف”. والذي استطاع الرملي أن يرسم شخصيته بتدفق الأحداث ولم يصرح بها ويبنيها في الرواية ويطورها، يرفعها ويحط بها، مخاطبا بها الإنسانية كما يخاطب بكل شخصية في روايته، وكأنه قد جمع الأنماط البشرية المختلفة في بنت دجلة، وذلك للمس كل قارئ لتكون إحدى الشخصيات قريبة منه وجدانياً مثل: صابر وصبرية. أو شخصية أخرى يكرهها لحدث تمثّل له أو لموقف من شخص يشبه الصفات النفسية للشخصية المكروهة والتي قد يمثلها: ظاهر. واستطاع محسن بفطنته أن يمسك بزمام الشخصيات ويرخي لجامها كلما تطلبت الأحداث ذلك. حيث وضع لكل منها دور محدد يساهم في دفع الأحداث أو تبيانها أو لإضفاء الغموض والتشويق في الرواية مثلما حدث مع “آدم” والذي كان تواجده في مسرح الأحداث يضفي حالة من الإبهام في إشارة لإلحاح جسدي من قبل قسمة يتحول إلى درجة في السلم السياسي فكأن الرواية رقصة على حقل من الألغام، تبحث فيها قسمة التي: “أحست بالجوع، فقررت أن تأكل العراق” (صفحة 7)، عن جسد والدها، وفيها رمزية كبيرة بغياب الرأس أو القيادة ليتم البحث عن الجسد، يقول أفلاطون: “ليست هناك نفس تريد أن تحرم عمدا من الحقيقة”، وهناك إحالة أخرى بالبحث عن الحقيقة والتي تتضح من أفعال قسمة في ثلاجات الموتى في الصفحة 110: “سارعت بالكشف عن الساقين، فكانت بالفعل بلا قدم يسرى، وأثر قطعها قديم ملتئم، لكنها على الفور أدركت بأنه ليس والدها، لأن القطع أعلى، يكاد يكون في منتصف بطة الساق، أما قدم والدها فمقطوعة من آخر الساق، عدا أنها تعرف وتتذكر جيداً كيف ينتهي التئام القطع….. رآها الرجل تطيل التأمل. سألها إن كانت تريد رؤية بقية الجسد مع تنبيهه لها بأنه بلا رأس، أومأت برأسها أن نعم.”! على الرغم من تأكدها أن الجسد لم يكن لوالدها. ويحيّر الرملي القارئ بنظرته لجيل المستقبل من الأطفال والذي ذكر في صفحة 130: “اهتدت قسمة إلى حل، بزغ في ذهنها فجأة كلحظة إلهام، وهو أن يجعلا ابنها (إبراهيم قسمة النخيلي البغدادي) زعيماً وأن يكونا هما نائبيه”. في تلميح إلى الأمل بالمستقبل، لكنه يعود ويؤسس خطاً آخر في الصفحة 281 في المعتزل الذي لاذ به طارق: “ابنته الصغرى زينب الأحب إلى قلبه، هي المرسال بينه وبين زوجته، تأتيه بالطعام والثوب النظيف والطفل إبراهيم، ويستبقيها أحيانا لساعات طويلة معهما، براءة روحيهما الطفولية كانت تريح وتبهج روحه، بحيث تصبح أكثر طفولية وبراءة ونقاء”. فانتقل طارق بإبراهيم (الطفل/ المستقبل) في الرواية من المعترك السياسي إلى العزلة والروحانيات لننظر إلى الحياة مرة أخرى بنظرة ثانية. غير التي اعتدنا أن نراها بها.

بنت دجلة رواية التحولات، تبين أن سلاسل الحياة مرتبطة ببعضها، فبكل الزخم السردي والأحداث يوصلنا الرملي إلى نهاية تفجّر كل ما بناه في عقل القارئ وأسسه لشخصية قسمة تجعله يعود لقراءتها مرة أخرى ليستنبط شخصية أخرى غير التي كانت.

قال أبو العلاء المعري:

نزول كما زال أجدادنا… ويبقى الوجود على ما ترى

نهار يضيء وليل يجيء… ونجم يغور ونجم يُرى

-----------------------

*عبيد بوملحه: كاتب وناقد إماراتي، من أعماله: رجل بين ثلاث نساء، ليلة غاشية، سوق نايف، الذبابة، طقوس للموت.

https://obaidbumelha81.wordpress.com/