الخميس، 23 أغسطس 2012

تعليب الموت.. في رواية (حدائق الرئيس) / د. طلعت شاهين

 
نصف قرن من عمر الوطن في «حدائق الرئيس» للعراقي محسن الرملي
تَعليب الموت
                                    د. طلعت شاهين
” في بلد لا موز فيه، استيقظت القرية على تسعة صناديق موز، في كل واحد منها رأس مقطوع لأحد أبنائها، ومع كل رأس بطاقته الشخصية التي تدل عليه لأن بعض الوجوه تشوهت تماما بفعل تعذيب سابق لقطعها، أو بسبب تمثيل بها بعد الذبح، فلم تعد ملامحها التي عرفت بها على مدى أعوام حياتها المنتهية، كافية للدلالة عليها”، بهذا المشهد المرعب يبدأ الروائي العراقي الدكتور محسن الرملي روايته الجديدة “حدائق الرئيس” الصادرة مؤخرا عن دار ثقافة للنشر والتوزيع في أبوظبي، وهذه الرواية الثالثة بعد روايتين سابقتين “الفتيت المبعثر” و”تمر الأصابع” وعدد من المجموعات القصصية والشعرية المتميزة، أثبت فيها قدرته على امتلاك ناصية الكتابة في القصص القصيرة والشعر بلغة خفيفة ممتزجة بالتهكم حتى في وصفه للمشاهد القاتمة، وتسيطر “تيمة” الحرب وتوابعها على معظم إبداعه وهو الذي عاشها طفلا ومجندا كادت تدمره مع ما دمرت خلال سنوات لم تعرف العراق فيها سلاما، وانتهت بلجوئه إلى أسبانيا عله يجد فيها الراحة، فدرس لغتها، وتخصص في أكبر إبداع بها “دون كيخوته” وربما كان هذا له تأثيره على طريقته في السرد الساخر.
إلا أن هذه البداية التي تحكي الحدث بهذه اللغة اللاذعة، جمعت أبناء القرية وفرقتهم عندما تنازعوا دفن تلك الرؤوس، ما بين مؤيد ورافض انتظارا للعثور على جثث هذه الرؤوس نفسها لينتصر في النهاية الرأي باللجوء إلى رأي الدين عبر شيخهم الذي كانت فتاواه عن “الموت” دائما دون أن تقدم لهم فتوى تأخذهم إلى الحياة خوفا من النظام القائم، وكان رأيه أن الدفن المؤقت يحفظ للقتلى كرامتهم إلى حيث استكمال طقوس الدفن بعد العثور على ما تبقى من هؤلاء.
هذه البداية تتخلق منها مواقف وشخصيات قدمت نفسها بعد ذلك على أنهم “أبناء شق الأرض”، إنهم ثلاثة من أبناء القرية جمعتهم الصداقة منذ الطفولة وتضامنوا لإخفاء نسب واحد منهم مجهول الأبوين ليصبحوا معا أبناء هذه الأرض التي أنجبتهم وتحولت أحداث حياتهم إلى جزء لا يتجزأ من تاريخ الوطن “العراق” خلال النصف قرن الأخير الذي شهد أحداثا دامية لم يتوقف نزف جراحها حتى اليوم، ومن هنا كانت أيضا نهاية الرواية المفتوحة بتفرق امتدادات تلك الشخصيات في مواقفها تعبيرا عن ما يشهده العراق الآن من تفرق وتحزب، لأن الرواية اتخذت الشكل الدائري، تبدأ وتنتهي بالمقطع نفسه، لأنها ترى أن الحياة ليست سوى دوائر تتداخل مع بعضها لتشكل في النهاية الدائرة الكبرى.
صناديق الموز هذه والرؤوس المقطوعة التي تحتويها تفتح من البداية الطريق أمام تشكيل درامي يشي بدموية المشهد، وفي الوقت نفسه بتناقضات هذا المشهد، ليست هناك أكثر سخرية من أن هذه القرية لا تعرف الموز، فيأتيها الصندوق خاليا من تلك الفاكهة المنتظرة ويحمل في باطنه ما يدمي القلوب بدلا من أن يرطبها، ومن تلك اللحظة نتعرف على الشخصيات الرئيسية التي تشكل حياتها محور الرواية: عبد الله كافكا وإبراهيم قسمة والشيخ طارق، أسماء تحمل معانيها في ألقابها أو كنيتها، تعيش متدخلة وتتقاطع حياتهم فيما بينهم لتشكل ذلك المزيج من تاريخ العراق خلال النصف قرن الأخير، لكل حياة دائرة قد تبتعد عن الدوائر الأخرى لكنها سرعان ما تتقاطع وتلتقي لتأخذ القارئ إلى الدائرة الأخرى حتى تصل به في النهاية إلى الدائرة الكبرى التي هي الرواية.
عبد الله كافكا، وكما هو واضح من كنيته شخص عدمي متشائم يمارس العدمية انطلاقا من نسبه المجهول الذي يكتشفه في النهاية ولكن اكتشاف هوية الأبوين لا يدفعه إلى الانطلاق بحثا عن الأب يزداد عدمية، ويقرر البقاء إلى جوار قبر الأم المغدورة، فالحياة لم تمنحه شيئا، لم تدعه يسير في حياة عادية بل أخذته الى حرب لا يعرف عنها شيئا ليسقط أسيرا ويعاني ويلات الاسر في ايران، وبعد العودة يقر أن يكمل حياته على طريقته بعد أن حرموه الحياة بفقدانه حبيبته سميحة دون سبب واضح.
وإبراهيم قسمة الذي يجد نفسه غارقا في تلك الحروب التي تعيشها بلاده أيضا ودون أن يعرف سببا لها نتيجة يأسه من نهاية لتلك الحروب تزوج مبكرا وأنجب ابنته “قسمة” في سنته الأولى في الجيش، ولكن شيئا منعه من الاستمتاع بطفل كان يريده، وفشلت كل محاولات زوجته في اللجوء إلى كل ما تعرفه العجائز لتحقيق أمنيته، خلال تلك الحروب التي استخدمت فيها كل أنواع الأسلحة الكيماوية والجرثومية تركت أثرها عليه ليكون ضحية لشيء لا يعرفه، ولم تكن لديه رغبة في معرفة أكثر من ذلك.
ومن مغامرة الحرب مع إيران استيقظ الجميع على دبابات العراق في شوارع الكويت واستدعاء الجنود لحرب جديدة، حرب مدمرة هدفها المواطن قبل أن يكون لها هدف آخر، عاش إبراهيم الحرب الجديدة ليفقد أصدقاء جدداً عرفهم في طريق هروبه من القصف الأمريكي. وأيضا فقد قدمه ليصاب بعاهة لم تصبه في معارك العراق السابقة، يبدو انه لا أمل حتى لمثل هذا المسالم الراضي بنصيبه في حياة هادئة يداعب فيها طفلته الوحيدة في هدوء.
طارق المندهش محظوظ مثل أبيه لم يذهب إلى الحرب لأنه كان معلما في مدرسة القرية وإمام مسجد وله معارف فلم تكن مهمته في التجنيد سوى نوبات حراسة خفيفة سرعان ما هجرها عندما شاهد انهيار النظام، فتفرغ لحب النساء والأناقة في الملبس وممارسة متع الحياة.
وبعد أن اتخذ كل منهم طريقة في ممارسة الحياة في القرية سنحت الفرصة لإبراهيم أن يذهب إلى بغداد للعمل في حدائق الرئيس، بستانيا يرعى الورود، ولكن الورود لم تكن ورودا بل أصبحت دفن جثث معارضي الرئيس في تلك الحدائق.
وبعد أن استيقظ الناس في العراق على حرب جديدة هدفها المعلن إطاحة الرئيس، ولكن نتيجتها الحقيقية دمار البلاد، لتعود رأس المسكين إبراهيم قسمة في صندوق موز لا يعرفه سكان القرية، وليجتمع الأصدقاء مجددا هذه المرة بشكل مغاير:عبد الله كافكا وطارق المندهش ورأس إبراهيم قسمة الذي حلت في تلك الحلقة محلة ابنته “قسمة” ذاتها وبعد إلحاح قرروا البحث عن جسد إبراهيم لدفنه مع رأسه، ولكن اكتشف كل منهم أن طريقته في الحياة مختلفة، عبد الله كافكا قرر العودة إلى حياته العدمية لأنه لا شيء في الحياة يستحق المغامرة، وقسمة اكتشف أن مرافقة طارق للبحث عن جثة أبيها هدفه آخر، فقد أصبح كل شيء ”خليط غير متجانس، مزيج من ملوحة وحموضة وحلاوة ومرارة، أحجار تتطاحن وسط مرجل قيح يغلي في جوفها“.
حدائق الرئيس” للكاتب محسن الرملي، انعكاس لنصف قرن من حياة وطنه العراق، حروب متواصلة، أناس يذهبون إلى المذبح دون أن يعرفوا لماذا، أسرى ومفقودون وقتلى، ولا أحد يفهم ما يحدث له، وكل فرد يجد نفسه في موقف ذاتي يبعده عن الانتماء إلى الآخرين حتى في لحظات التضامن.
---------------------------------------------------
*نشرت في صحيفة (الاتحاد) الأماراتية بتاريخ 23/8/2012م

الأربعاء، 22 أغسطس 2012

حوار مع د. محسن الرملي / أجراه: محمد الأصفر


د. محسن الرملي :
المثقف العربي واجه الديكتاتوريات عندما كانت الشعوب صامتة

 حاوره: محمد الأصفر

الكاتب العراقي محسن الرملي واحد من الأسماء الأدبية التي برزت في الأدب العربي المعاصر في السنوات الأخيرة، فهو يكتب بالعربية والإسبانية وترجمت بعض نصوصه إلى لغات عديدة، وإضافة إلى رصيده من إصدارات في الرواية والشعر والمسرح والترجمات وصلت إلى عشرين كتاباً منها روايتيه الفتيت المبعثر وتمر الأصابع، ها هو يصدر الآن مجموعة قصصية رابعة في الأردن تحمل عنوان (برتقالات بغداد وحب صيني)، التقيناه بعيد وصوله من مشاركة في معرض غوادالاخارا الدولي للكتاب في المكسيك، ليحدثنا عن مشاركته في معرض المكسيك للكتاب وعن إصداره القصصي الجديد (برتقالات بغداد وحب صيني) :

ـ كيف وجدت حضور الثقافة العربية في المكسيك؟
ـ للأسف، يكاد حضور الثقافة العربية أن يكون معدوماً في المكسيك وفي عموم أمريكا اللاتينية، بينما يفترض أن يكون تقاربنا وتعاوننا أكبر، وخاصة أن ليس بيننا وبينهم أي عداء تاريخي فلم نحتلهم ولم يحتلوننا كما فعل الأنكليز والفرنسيون والأمريكان، كما أن القوى الكبرى صنفتنا وإياهم على أننا من العالم الثالث، وثمة عوامل مشتركة كثيرة بيننا وبينهم من حيث الحس الثقافي العاطفي والعائلي وتسليط الديكتاتوريات علينا، وكذلك وجود أعداد لا يستهان بها منهم من أصول عربية برزت بينها شخصيات كبيرة في الثقافة والسياسة والاقتصاد والفنون. حين سألت إدارة معرض غوادالاخارا، وهو أكبر معارض الكتاب في أمريكا اللاتينية، عن سبب الغياب العربي، قالوا بأنهم يتمنون أن يخصصوا إحدى دوراته للثقافة العربية ولكنهم كلما خاطبوا الجهات العربية عبر سفاراتها منذ أعوام يقولون سندرس الموضوع ولا يردون.

ـ بدأت بالقصة ثم انتقلت الى الرواية والآن تعود إلى القصة مجددا، كيف كان هذا التجوال؟
ـ  نعم أنا بدأت بالقصة القصيرة ولكنني لم أنقطع عنها وليس في نيتي فعل ذلك، فهي من أرقى الفنون الأدبية وأصعبها بعد الشعر، إلا أنها لا تكفيني أحياناً عندما أريد التعبير عن مواضيع أو قضايا كبيرة، وهذا ما كان يحس به ويقوله حسن مطلك أيضاً، وأتصور أن غالبية الكتاب لديهم هذا الشعور، وخاصة أن الرواية فن مطواع وقابل لاستيعاب مختلف الأجناس الأدبية وللتكيف مع شتى التحولات المعاصرة.

ـ في فترة ماضية اهتممت بروايات أخيك الشهيد حسن مطلك وقمت بنشرها، أين تلتقي مع أخيك إبداعيا؟ في الرؤى، في الأسلوب، في الإحساس بالعراق وظلم الديكتاتورية؟
ـ لازلت وسأبقى مهتماً بنشر بقية أعمال أخي حسن مطلك ولن أشعر بالراحة إلا أن أتم نشرها كلها، أولاً لأنها تستحق ذلك وثانياً كنوع من المقاومة والتحدي للديكتاتورية التي أخرست صوته وهو في عز عطائه، أما عما نلتقي به، فربما ببعض الرؤى والإحساس بالعراق، فيما نختلف بالأسلوب ولا أجرؤ حتى على إجراء مقارنة بشأنه، لأن أسلوبه متفرد ولا أتردد في وصفه كجوهرة أو تحفة من تحف الأدب العربي الحديث.

ــ كيف ترى المشهد الثقافي العربي في ظل الثورات الحالية؟
ـ أعتقد بأن الوقت لازال مبكراً لتقييم ذلك، فعدا أن الثورات العربية لم تكتمل أو لم تحقق أهدافها بعد، فإن الثقافة الحقة ليست عبارة عن ردود أفعال مباشرة وإنما تحتاج إلى وقت، إلى مسافة زمنية عن الأحداث كي تقدم رؤيتها بشكل أنضج، وأتوقع أن تحدث تحولات إيجابية لاحقاً على المشهد الثقافي العربي، والعالم ينتظر منه الكثير. وأنا لا أتفق مع الذين هاجموا المثقف واتهموه بالتقصير وطالبوه بالمشاركة الفيزيائية في الثورات، ذلك أن أدوات المثقف أو المبدع مختلفة، كما أن المثقف العربي كان يواجه الدكتاتوريات في أعتى قوتها وبطشها حين كانت الشعوب صامتة وكم من مثقفينا ومبدعينا عانوا السجن والقتل والتشريد فيما لم تخرج أية مظاهرة من أجلهم!، والأمة التي تهمش أو تقلل من شأن مبدعيها إنما تقلل من شأن هويتها ونفسها.
ـ بين الصين وبغداد عدة طرق، منها طريق الحرير، وبغداد والصين مكانين مثخنان بالتاريخ والحضارة، هل من علاقة بين سور الصين العظيم وبرج بابل ومكتبتها؟
ـ  الصين أمة عظيمة وجهة أخرى من العالم لازالنا مقصرين في معرفة ثقافتها وبالتعامل معها في الزمن الراهن فيما كان أجدادنا على صلة وتبادل أفضل بحيث ساهما معاً بالتأثير وإغناء الثقافة العالمية الإنسانية، وبالفعل ثمة أشياء كثيرة تاريخية وثقافية واقتصادية تربطنا، وكلانا نحسب على الفلسفة والثقافة الشرقية الأمر الذي سيجعل تفاهمنا أسهل ومن تلاقح ثقافتنا قوة مؤثرة ومثيرة للإنسانية جمعاء وخاصة في زمن نلاحظ فيه الإنهاك الذي يصيب الكثير من مفاصل الثقافة الغربية فكرياً وروحياً واقتصادياً.

ـ يقولون أن الامبراطور الذي بنى سور الصين العظيم كان قد أحرق كل الكتب التى في الصين وفي بغداد هناك دار الحكمة التى حرقها المغول.. هل من حريق إبداعي داخل قصصك هذه يمكننا الاستئناس بنوره ودفئه؟
ـ أظن وآمل بأن القارئ لكتابي هذا لن يشعر بالخيبة وبأنه سيجد فيها شيئاً يعجبه، ففي مجموعتي القصصية (برتقالات بغداد وحب صيني) أنواع من الاحتراقات، إذا جاز التعبير، وهي تتطرق لعدة قضايا منها عن سلوك المثقف الشاعر بمواجهة الحرب والاحتلال، ومنها عن الحب والهم الوجودي وعن الذاكرة والهجرة وتلاقي الثقافات المختلفة وغيرها، وفي قصة (حب عراقي ـ صيني)، على سبيل المثال، تجد نموذجاً لهذا الذي ذكرناه عن العراق والصين.
-----------------------------
*نشر في موقع (المأنوس) الليبي، بتاريخ 19/8/2012م
  محمد الأصفر / أصيلة

الاثنين، 13 أغسطس 2012

"حدائق الرئيس" رواية الحرب والديكتاتور والمصائر المعلّقة/ أحمد يماني


"حدائق الرئيس" لمحسن الرملي

رواية الحرب والديكتاتور والمصائر المعلّقة

أحمد يماني

يعود الروائي العراقي محسن الرملي المقيم في مدريد منذ ما يقارب العقدين من الزمن، بإصدار جديد عنوانه "حدائق الرئيس" عن دار "ثقافة للنشر والتوزيع"، أبو ظبي، وبالاشتراك مع "الدار العربية للعلوم" في بيروت، بعدما كانت روايته "تمر الأصابع" وصلت إلى قائمة البوكر العربية الطويلة في نسختها قبل الماضية وبعد ترجمتها إلى الإسبانية والإنكليزية.
تبدأ الرواية بمشهد قاس يتحول على طول العمل إلى تفنيد هذه القسوة، متجاوزا فكرة الحرب إلى الطبيعة البشرية، التي تتخيل أحيانا أنها تؤدي واجبا دينيا أو أخلاقيا أو وطنيا، وفي أحيان كثيرة دونما حاجة حتى إلى أي تبرير من أي نوع. لكأن ثمة خطيئة أصلية في هذا الكائن البشري تمضي به إلى تتبع القسوة "بدم بارد" وفق ترومان كابوتي.
"في بلد لا موز فيه، استيقظت القرية على تسعة صناديق موز، في كل واحد منها رأس مقطوع لأحد أبنائها ومع كل رأس بطاقته الشخصية التي تدل عليه لأن بعض الوجوه تشوهت تماما". هذا هو المشهد الافتتاحي للرواية ويتم التأريخ لهذا الحدث بعام 2006، ثم ينتقل الراوي إلى حرب فلسطين عام 1948 بحكاية تواطؤ الآباء على اختراع دور بطولي في تلك الحرب. ثم تتوالى الحروب بعد ذلك من الحرب العراقية - الإيرانية إلى الغزو الأميركي مرورا بغزو الكويت وحروب الديكتاتور الداخلية.
تقوم أحداث الرواية بشكل رئيسي على ثلاث شخصيات، ثلاثة أصدقاء ولدوا معا في العام نفسه 1959 وتربّوا معا وأصبحوا لا يفترقون. هم أبناء "شق الأرض" كما أطلق عليهم أهالي القرية. لكن هذه العلاقة الحميمة التي تربط الثلاثة لا تخلو من منغصات وحسد في بعض الأحيان. فعبدالله كافكا وإبراهيم قسمة أكثر قربا وتشابها، سواء على المستوى النفسي أو الجسدي، بينما طارق المندهش، الضلع الثالثة في مثلث الصداقة، هو أبعد نفسيا وجسديا من عبدالله وإبراهيم. هو المتعلم الوحيد فيهم، ولا أظن أن ثمة تلميحا أو ترميزا الى المثقف، فطارق في النهاية لا يمثل المثقف بقدر ما يمثل الإنسان العملي الذي يسخر التعليم والدين من أجل مصالحه. وهو بلا شك شخصية أكثر تركيبا وتعقيدا من عبدالله كافكا وإبراهيم قسمة اللذين يمثلان براءة ما، سواء في قبول القدر كأمر حتمي كما هي حال إبراهيم قسمة، ومن هنا لقبه، أو في السخرية من القدر والرؤية الأحادية له باعتباره عبثاً لا ينقضي في حالة عبدالله كافكا، الذي تحظى شخصيته بتعاطف الراوي، وتظل هي الأبرز والأكثر إثارة على طول العمل.
لا تسعى الرواية إلى مقاربة موضوع الحرب في ذاته ولا البحث في أسبابها لكننا نجد أنفسنا كل مرة أمام حرب جديدة، كأنها قدر يهبط فجأة من دون داع لفهم أسبابه. لا تحاول الرواية التركيز على حرب بعينها بل تتعامل مع مختلف حروب العراق بالمنطق نفسه تقريبا: يصحو الناس على الحرب وتبدأ دورة جديدة من التشرد والقسوة والعنف. تبدو الحرب إذاً كمبرر آخر للقسوة والفظاظة والعنف، كما يمكننا أن نرى في مناطق أخرى في الرواية القسوة نفسها بعيدا من الحرب. كأن الكاتب يسعى إلى تأكيد نوع من الخراب يشمل الكائن البشري أيا يكن الظرف الذي يحيط به.
هل نحن أمام رواية ديكتاتور بالمعنى الذي تم إعطاؤه لها في أميركا اللاتينية؟ كادت رواية الديكتاتور اللاتينية أن تصير جنسا أدبيا مستقلا. على سبيل المثال "السيد الرئيس" لميغال أنخيل أستورياس، و"حفل أخاب الملك" لإنريكه لافوركادي، و"خريف البطريرك" لماركيز، و"ذيل السحلية" للويسا بالينثويلا، و"حفلة التيس" لماريو فارغاس يوسا.  "حدائق الرئيس" تقترب من هذه الكتابة بقدر ما. الحديقة التي تبدو من الخارج فردوسا أرضيا، تخفي تحتها حقلا من جثث المعارضين يقوم الديكتاتور نفسه بدهس عشبها بعربته إذلالا لعظام النائمين تحتها وتأكيدا لسطوته. وهو يظهر، في مشاهد أخرى من الرواية، في صورة نزقة أسطورية. لا نناقش هنا دقة الصورة من عدمها، ففي هذه الحال يمكن منح الديكتاتور أكثر الصور غرائبية وعجائبية، بالمعنى الذي منحه تودوروف للمصطلحين، حيث يظهر وهو يتعاطى الشراب ويصيد الأسماك ويقتل بنفسه الموسيقي الشهير الذي كان يعزف له بينما يتناول شرابه ويدخن سيجاره الكوبي الغليظ. ويظهر أخيرا في مشهد اغتصابه إبراهيم قسمة. على رغم هذا "الظهور" المتعدد، لا نظن أننا أمام رواية ديكتاتور، لسببين رئيسيين أولهما أن الرواية لا تسعى للتعامل مع شخصية الطاغية كموضوع محوري لها، وثانيهما أننا لسنا في إزاء مساءلة فكرة السلطة وبحثها. لكننا نرى فقط تجليات هذه السلطة وخصوصا لدى من يقترب من دائرة الديكتاتور. لكن على الرغم من هذا كله، نعتقد أنها خطوة مهمة في تعامل الرواية العربية مع طغاة حديثين وليس فقط التسربل بالماضي كما نرى في روايات مهمة في سياق الرواية العربية مثل "مجنون الحكم" لسالم حميش.
لا تقع الرواية في الميلودراما على رغم العنف والقسوة والألم والغرام والمحبة والصداقة والحنان والمشاعر الكثيفة. ويحسب للكاتب نجاحه في الهرب من الثنائيات الضدية وتنميط الشخصيات التي وإن حافظت على خيط وجودي ممتد على طول الرواية إلا أن الشك يحضر فيها. وقد جاء مشهد النهاية على قدر كبير من التوفيق حيث يعود الشك ليضرب روح قسمة وهو يكتشف أنانية طارق واهتمامه الزائد بصورته. وكأن الحروب، التي لم يشارك في أي منها وظل في مأمن منها في قريته البعيدة، أثرت فيه أكثر من الآخرين الذين عانوا أهوالها. وتنتهي الرواية بمشهد تقيؤ قسمة، في إشارة واضحة إلى الرغبة في البدء من جديد.
--------------------------------------------------------
*نشرت في صحيفة (النهار) اللبنانية، العدد 24818 بتاريخ 12/8/2012م
http://www.annahar.com/article.php?t=adab&p=2&d=24818

*ونشرت أيضاً في صحيفة (النهار) العراقية، العدد 470 بتاريخ 29/8/2012م