الثلاثاء، 22 فبراير 2022

حوار مع محسن الرملي / مريم عادل / النهار

 

الروائي محسن الرملي في حوار مع (النهار) :

لا توجد كتابة جادة تعتمد على الموهبة الفطرية فقط

فالكتابة فن وعِلم

حوار: مريم عادل

خُلق من ماء دجلة وترعرع في قريةٍ تقع على ضفاف ذلك النهر السحري، نسج من عبق شاطئهِ شخصًا مستقلًا فكريًا عن أقرانه وعن البيئة التي ولدَ وأصبح شابًا فيها، شخصًا متمرداً على ما عاشهُ وآلفهُ، إنسانًا يسعى للتجرد دائمًا من كل قيود المعاصم. هو أحد الطيور المهاجرة من بلدٍ جدليٌّ بامتياز إلى بلدٍ منفتح بامتياز، أخذ على عاتقهِ حمّل قضية هذا البلد بكل جوانبهُ وقضاياه المتشابكة، راسمًا بكلماتهِ لوحاتٍ للواقع العراقي المرير ليعرضها في معارض العالم الغربي.

ضيفي اليوم هو الكاتب العراقي الكبير "محسن الرملي" الذي تألق في الثورة على المحظور والمستور والمُغيب، هو شاعر وروائي ومترجم، أبدع في نحت مخطوطاتٍ تُمثل بعضًا من آرائه وأفكاره وجوانب متعددة من شخصيته ومِمَن عاشرت تلك الشخصية، هو ذلك الإنسان الذي أثبت نجاحهُ في كل المجالات التي خاض بها ونال جوائز عدة على نتاجاتهِ الأدبية المميزة، هو الذي تتحدث أغلب رواياته (الفتيت المبعثر، حدائق الرئيس، تمر الأصابع، بنت دجلة،...الخ) عن موضوعٍ واحد، لكن بقدرتهُ الإبداعية ينسج لنا في كلِّ مرة؛ رواية جديدة بشخصياتها، لكن مضمونها الأساسي واحد. 

حبهُ لوطنهِ الأم واعتزازهُ بالبلد الذي وجدَ ذاتهُ فيها (إسبانيا) جعلتهُ في صراعٍ دائم في حقيقة انتمائه ومن أيّ هويةً هو، ليجد نفسه حائراً ما بين العقل والقلب، لكن الحقيقة هو عراقيٌّ بالانتماء والوجع، عراقيٌّ بتلك اللهفة والحنين إلى الموطن الأصلي والرغبة للعيش تحت كنف تلك الأرض المعجونة بدماء أبنائها.

ضيفي الكريم، اِرتأيتُ ألا أكون نمطية في أسئلتي، وأن تتخللها فقط الأسئلة الخاصة بالكتابة والرواية، وددتُ محاورتك لأنك شخصية عراقية ناجحة، مؤثرة وواعية، تحمل من تجارب الحياة الكثير، وحملتَ من أدوارها الكثير، فالروائي محسن هو دكتور جامعي وزوج وأب، وهذا ما يهمني من أجل محاورة تعود بالنفع على مجتمعنا العراقي والعربي بشكل عام، محاورة مع شخصية، رغم نجاحاتها الكثيرة، لكنها بسيطة وصادقة وقريبة من الناس كثيراً، ولعل هذه البساطة هي التي جعلت من قرائك متعلقين ومتأثرين بكتاباتك، وأنا واحدة منهم.

*في ايّ عمر اكتشف الدكتور محسن موهبة الكتابة؟

**ربما في الثانية عشر أو الثالثة عشر من عمري. كان أخي حسن مطلك يجلب لي قصص ومجلات الأطفال فصرت أقلدها، وكان يشجعني، بمزيد من الهدايا منها، كلما كتبت قصة جديدة، وأحياناً يقترح عليّ المواضيع، أذكر منها أن إبهام قدمي كُدمت وتورمت أثناء اللعب فاقترح عليّ أن أكتب قصة عن ذلك، وقصة أخرى عن انتظاري مع أمي وهي تهز القربة لاستخراج اللبن وأنال أول قطعة من الزبدة، وهكذا إلى أن فاجأني ذات يوم بالهتاف "هذه قصة رائعة، هذه قصة مكتملة"، كتبتها عن تجربتنا مع معلم الدين وأول صلاة لنا في الجامع، وكان سعيداً بها بشكل لا يصدق ويحمل نسخ منها إلى أصدقائه، كانت تلك قصة (العصر الطباشيري)، والتي ضمنتها لاحقاً في مجموعتي القصصية الأولى.

*أعلم بأن الروايات هي بمثابة الأبناء عند الروائي، لكن أيُّ الأبناء أقرب إلى قلب الكاتب محسن الرملي؟

**بالفعل كل أعمالي قريبة مني، لأنها، في الأصل، جزء مني وأخذت وقتاً طويلاً من تفكيري وانشغالي واشتغالي، فيصعب المفاضلة بينها من قِبلي، وحتى من قِبل القراء، ذلك أنني أتلقى وأقرأ دائماً لمن يقول هذه هي الأفضل بالنسبة له وآخر يقول تلك… وإذا كان لا بد من تحديد أحدها، فلنتفق على ما اتفقت عليه الغالبية من القراء العرب والأجانب، وهي رواية (حدائق الرئيس).

*كي يكون الكاتب مبدعاً، هل يجب أن يعيش الكثير من المشاهد المأساوية والمواقف المفرحة حتى تتكون في ذاكرته أحداث يستطيع نسجها على صفحاتهِ البيضاء؟ أم الكتابة تعتمد على قوة الموهبة الفطرية؟

**لا توجد كتابة جادة تعتمد على الموهبة الفطرية فقط، ذلك أن الكتابة فن وعِلم أيضاً وتحتاج الكثير من الجهد المتواصل، بل تحتاجك كلك، ومما تحتاجه الكثير من القراءة والتجربة الخصبة طبعاً، فكلما كانت التجربة الحياتية ثرية كان العمل ثرياً، وتبقى المأساة أهم من الفرح بالنسبة للكتابة، فكل الأعمال العظيمة والخالدة في تاريخ الأدب الإنساني قائمة في جوهرها على مأساة معينة. بالطبع ليس شرطاً أن يعيش الكاتب المآسي لكي يكتب عنها، فمعرفته الكبيرة بها عن طريق القراءة وعن طريق الآخرين الذين عاشوها، ومدى شعوره بها حد التقمص، سيكفي لأن يكتب عنها بصدق عملاً مهماً.

*هل الجرأة في الكتابة باستخدام ألفاظ وأوصاف لا تناسب سوى البالغين، توقع المؤلف في فخ نفور الجمهور المتشدد أخلاقياً، إذا صح التعبير؟ وهل الألفاظ النابية أو الخادشة للحياء تكون بإرادة الكاتب، أم سير النص يجبرهُ على ذلك؟

**هذه مسألة تحتاج إلى الكثير من الوقت والكلام لتفكيكها، على الرغم من أنه؛ يُفترض بأن الناس قد تجاوزتها، كما حدث في غالبية الثقافات الأخرى في العالم، ولكن لا بأس، سأحاول الإجابة باختصار قدر الإمكان. المسألة ليست في الألفاظ أو الكلمات، والكاتب لم يخترعها، فهي كلها موجودة في الشارع وفي وسائل التواصل والمجتمعات وفي القواميس وكتب البشرية عبر التاريخ، ولو كانت هذه الكلمات غير مستخدَمة وغير ضرورية لاندثرت، حالها حال آلاف الكلمات التي ماتت في كل لغات الدنيا. المسألة تتعلق بالصدق، والناس هي التي تسمي الصدق جرأة، وخاصة في المجتمعات التي لديها شح وخوف ومشكلة مع الحرية. إذاً المسألة هي مسألة صدق أكثر مما هي جرأة، سواء الصدق الفني أو صدق الطرح وصدق الوصف.. بحيث يرى الفرد والمجتمع صورته عارياً على حقيقته في العمل الفني الصادق والجيد، الفنون عموماً والأدب خاصة هو في النهاية مرآة للمجتمع والفرد وشاهد على عصره، بكل همومه وقضاياه وطبيعة علاقات الناس فيه ولبسهم وشربهم وألفاظهم أيضاً، الجميل منها والقبيح على حد سواء. أما الذين ينصبون أنفسهم حراساً للنوايا وللحياء العام وهيبة الدولة والذوات، فهم منافقون، لأنهم لا يعترضون على بطش السلطات وقمع الحريات وعنف المتشددين والفقر والجهل والأمراض والظلم وهم يرونه أمام عيونهم كل يوم، بينما يصدحون بالاعتراض على كلمات في رواية خيالية يقرأها القارئ بإرادته ومع نفسه منزوياً، حالها كأي حوار وخيال خاص أو فعل حميمي مع الذات، وليس جهراً أمام جمهور، وغالباً ما تفرح السلطات بأفعال هؤلاء المنافقين، فتتخذها حجة لإخراس أي وعي أو صوت حُر صادق يزعجها. وبالنسبة لي ككاتب، مثل هؤلاء المنافقين لا يهمني كسبهم كقراء، وإذا حدث وأن قرأوا واستفزتهم بضع كلمات، فهو المطلوب، أي استفزازهم، كجزء من وظيفة العمل الفني بتحريك الذهن والتفكير والتأمل والانفعالات. أما عن توظيفها في العمل الفني فبالتأكيد لضرورات فنية يقدرها الكاتب، فإن أخطأ في التقدير فسوف يضر ذلك بعمله وإن أصاب فهذا جزء من جودة العمل.

*دكتور محسن.. يُطالبنَّ النساء في هذا العصر بواجب فرض المساواة بين المرأة والرجل فما موقفك من هذا المطلب؟ وهل أنت من مؤيدي المساواة؟

**النساء يطالبن بذلك في كل العصور وفي كل زمان ومكان، وهو حق أساسي كحق الحياة نفسه، وبالطبع أنا معهن في ذلك، في القول والعمل، ليس الآن، وإنما طوال عمري، فلم يحدث لي أبداً أن تعاملت أو نظرت إلى إنسان إلا انطلاقاً من كونه إنساناً كأي إنسان آخر، بغض النظر عن جنسه أو جنسيته أو عقيدته أو عمره أو لونه أو عِرقه. لقد آن لهذه التصنيفات اللاإنسانية أن تنتهي، إنه لأمر مخجل ومعيب ومرفوض أن البعض مازال يتعامل ويحاول فرض تصنيفات كهذه بين إنسان وآخر لأغراض سلطوية ومادية وأنانية وغيرها، ويحاول المراوغة والتملص بتبريرات واهية، مريضة، غير عقلانية، غير منصفة وغير إنسانية.

*تربية الأبناء سلاح ذو حدين، فإن شددنا عليهم أفلتوا، وإن تراخينا ضاعوا، فكيف يتعامل السيد الرملي بخصوص تربيته مع ابناءه؟

**هي صعبة فعلاً، وخاصة إذا حاول الآباء أن يجعلوا من أبنائهم نسخاً منهم وأن يفهموا الحياة ويتعاملوا معها كما فهموها هم وتعاملوا معها. وأنا شخصياً لا أريد أن يكون أبنائي نسخاً مني وإنما نسخاً من أنفسهم هم. أعتقد بأنه لابد من الانطلاق من قاعدة أن هؤلاء أشخاص من جيل آخر وزمن آخر وأن لهم شخصيتهم وذائقتهم وأحلامهم المختلفة عنا، وأن دورنا هو أن نعينهم على ذلك وليس أن نُصادرها منهم. بالنسبة لي أتعامل مع أبنائي بكل الحُب والاحترام والمسؤولية، أحاول ألا أفرض عليهم شيئاً، وإنما إقناعهم به، أسألهم عن رأيهم دائماً، في كل شيء يخصهم، مهما كانواً صغاراً، أسعى وأحرص على تعزيز ثقتهم بأنفسهم ودعم استقلاليتهم مبكراً، واجبي أن أوفر لهم كل أساسيات الحياة الحرة الكريمة.

*جميعنا نحن البشر كحجر النرد بيد القدر.. كي نحظى بالفوز، هل للحظ النصيب الأكبر أم للمجهود؟

**أعتقد بأن الأمر يشبه مسألة الموهبة والجهد في الشؤون الإبداعية، يعني أن الموهبة وحدها لا تكفي، والحظ وحده لا يكفي، فلابد من جهود مضاعفة لكي نجيّر ونستثمر هذه الموهبة أو هذا الحظ بشكل صحيح وعملي يوصلنا إلى تحقيق الهدف.

*نصيحتك للشباب والمراهقين الذين ينشغلون بوسائل التواصل مأخوذين بسلوتها بعيداً عن فائدتها، متناسين مهمة الإنسان الأساسية، وهي تحقيق الانجازات لإعمار هذه الأرض… 

**ما يمكن النصح به هو كثير، ولا أدري إن كنتُ مؤهلاً للنصح أو أن نصائحي صائبة تماماً أو أن هناك من يأخذ بالنصائح فعلاً، ولكنني سأفعل على أية حال، ومن ذلك أقول: عليهم أن يتجنبوا المغالاة بالتعصب والتشدد لأي شيء كان، أن يتجنبوا العنف، أن يكونوا منفتحين ومتفهمين للآخر المختلف ويحترمونه، أن يُذكروا أنفسهم دائماً بأن الوقت ثمين جداً جداً، لأن الوقت هو حياتهم، فلا يبددوه دون غاية، أن يعرفوا ما يريدون مبكراً وأن يعملوا جاهدين لتحقيق ذلك، وألا يكفوا عن الحلم أبداً.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*نشر في صحيفة (النهار) العراقية، العدد 2670 بتاريخ 22/2/2022م