الجمعة، 1 يناير 2021

قراءة في رواية: بنت دجلة / عبيد بوملحه

بنت دجلة: دفن الرأس يستوجب البحث عن الجسد

عبيد بوملحه

انفرد الدكتور محسن الرملي في روايته (بنت دجلة) الصادرة عن دار المدى العراقية، بكتابته رواية فلسفية عميقة، في جوفها روايتين، إحداهما صريحة خطّتها الأحداث والشخصيات والحبكات، أرى أنها تعتمد على جانب الوعي والبحث والقراءة والاستقراء وتنطلق من الفلسفة التي أعادتني إلى الرواقي ماركوس أريليوس: "في كل خطرة من خطراتك التزم ملكة الرأي والفهم". ويتبين ذلك من قدرة الرملي على المحافظة على وظيفته البنائية "في كل خطرة من خطراته" ببعد فني وجمالي ودلالي رغم تشابك الأحداث وتطور الشخصيات. وبالمقابل أضفى تلك الفلسفة الرواقية على شخوص بنت دجلة ليتحد الباني في إحدى صفاته مع البناء. محيلاً القارئ إلى أبواب أخرى من الفلسفة يبنيها كما بنى "الشيخ طافر مرقد أبو الأنوار" ليحطمها في لحظة اكتشاف "براء" وأخيه "رهيب" سر المرقد العجيب والذي بني من (…)! تفاهة، ليتحول إلى مقدس في كوميديا سوداء وسخرية تبين مدى التفاهة التي تستحوذ على عالمنا المعاصر. ومنها دخول شخصية “حميد الشخار” في الصفحة 32 المغرقة في السلبية وعدم الاهتمام لتتحول الرواية به إلى الواقعية السحرية والتي يرمز الرملي بها إلى أن الواقع قد يكون أغرب من الخيال ولا يتصوره عقل، ويجعل شخصية صامتة سلبية ثانوية شخصية يتفاعل معها القارئ، يكرهها ومن ثم يحبها بمُكنة الروائي الرصين. يكشف محسن عن المرض ويعلنه فيستخدم قلمه كمشرط جراح، حيث جاء في صفحة 253: “يعجبني الشخص الذي يتبنى عاهته بوصفها جزءا من هويته. وعلّق عبدالله: وما نحن جميعاً في نهاية الأمر إلا عاهات في هذا الكون العاهة”. وأيضاً ما ورد في صفحة 121 و122 عن قصيدة “طيط” والتي ارتبطت في النهاية بمرقد أبو الأنوار بصورة غير مباشرة لم يتم التصريح بها ولكن يعود العقل بواسطتها إلى جذور بناء الرواية. ليؤكد الرملي تمكّنه بأن السخرية في الأدب هي فكرة خاطئة في ذهن شخصية، تقوم على أساسها زلات كثيرة مناقضة للمألوف. ولكنه يمعن في التناقضات برفع الضد ونقيضه في الرواية ليترك للقارئ مساحة للتفكير والتأويل، كما ورد في صفحة 126: “أصل الحضارة والفنون… فأول كتابة: شخبطة”. لتكون الرواية مادة خام للأفكار والنزاعات والنزعات الإنسانية يفصل الرملي مكوناتها وينقيها ويبرز شوائبها بملائمة وتناغم مع الدفق الروائي مثلما جاء في الفصل الخامس “مبارزة الأنوثة والذكورة بحضور الأمريكان والعشيرة”. بخطين سرديين متشابكين ومتمازجين يصعب الدمج بينهما بمثل هذه السلاسة بين الداخل الإنساني والواقع الخارجي، حيث شبكهما بطريقة يستحيل معها الفصل بينهما ولا يتخيل أن يوجد أحدهما بدون الآخر ليكونا الأصل والشكل، موضحا الذوات الإنسانية المتفاعلة مع بعضها بطريقة الدافعية والنفعية والتي يكون مبعثها الذاتية. مراهنا على راهنيّتها كمبتغى إنساني في ظل تبدليّة الأحوال وتجددها حيث تأتي بداية الرواية بسيطة لأم وابنها وزوجها مروا في طريق البحث عن الجسد بعد أن دفن الرأس بصديق لمقابلته-الصفحة 11: “في رأيي من الأفضل ألا نذهب اليوم مباشرة إلى بغداد، وإنما نمر بإحدى القرى التابعة لسامراء، هي على شاطئ النهر، أعرف شيخها، فهو صديق منذ أيام الطفولة”. ليغرق الرملي في الكتابة الرمزية خلف السطور، يصدم القارئ بالفراغ الذي يستحث الذهن على التفكير، صفحة 17: “سألهم: هل أخبرتم الشيخ بأنني صديقه الشيخ طارق؟ قالوا: نعم، وهو الذي أمرنا بعدم فتح الباب لك.”. الانكسار الثاني الذي يضاف للشيخ طارق في أول يوم من زواجه. فما كان منه إلا أن يمضي إلى فعل جديد بعدما أوصدت الأبواب في وجهه، ولكن: “أدار مفتاح السيارة هاما بالسير إلى الخلف والمغادرة، فركض إليه الحراس وأوقفوه: لقد أمرنا ألا نسمح لك بالمغادرة.” (صفحة 18). ليبين أن الفعل الإنساني محكوم بالأقوى وغير مرتبط بالمنطقية والرغبة الفردية، وأن الحياة نهر يجرف الناس ويرسم لهم طريقا غير ما ابتغوه أو حلموا به أو تخيلوه. حوّله الرملي من مجرد درب أرغمت بعض شخوص الرواية على سلكه إلى تتابع للأحداث وفي صميمها بانسجام مدهش ساعده فيه البناء المركب والمعقد لشخصياته على الرغم من أن الرواية تنبع من رواية أخرى في تحدّ كبير يخوضه ويضع فيه قدراته على المحك. وهذه التحولات في الرواية تبين أنّ الحقائق لم تكن جامدة أبدا ولا معتّقة بل تستمد تجددها من الأحوال الإنسانية والطبيعية، التي يناوشها بالمذهب العقلاني والكلامي ويرفع سلاحه (القوة الناعمة) في مواجهة مع خليط كبير من الأفكار السياسية والدينية والاشتهاءات الشخصية، ويعرضها تاركا حرية الفهم والتأويل ليكون قلمه منتجا غير مكبل يسلب الفكر الإنساني توهّجه والعقل تأملاته وقراءاته وليكون صاقلا للرؤى والآمال المعرفية في ظل الصناديق الفكرية أو الدينية المقدّمة كقوالب غير قابلة للمساس. فينطلق بعيدا عن النمذجة والموجّهات التاريخية المسيّرة مرسيا معرفية واقعية وتساؤلات تثيرها الرواية ويصرح بها لسان شخوصها مثلما جاء في الصفحة 26: “في زمننا هذا باستطاعة من يشاء أن يسمي نفسه ما يشاء، شيخ، أو سياسي أو رجل أعمال أو فنان أو شاعر أو أي شيء، لن يعترض أي أحد فنحن في عصر السرعة والفوضى الخلاقة”. ويؤكد ذلك في تصدي “قسمة” للمجلس واتكائها على مرتكزات دينية في صفحة 45 ومناقشتها وفلسفتها متعدية بذلك على “الشيخ طارق” العالم في الدين. ومتكئا على الواقعية التي أسسها حزب نخيل الوطن عن طريق الدين متمثلا في الشيخ طارق والثقافة والأدب في بريتون الشخابيطي والقوة عن طريق تأسيس ميليشيا داعمة ومن المنطلق العشائري والمكاني. يزاوج الرملي بين طموح الفكر وطموح الإرادة الذي يتبين من الصعوبات التي تواجه مؤسسي الحزب، كما ورد صفحة 259 عند قرار طارق بترك الحزب وحوار قسمة الداخلي: “أيقنت بأنها ستكون عاجزة عن إقناع طارق بالعدول عن قراره هذه المرة، ولكنها ليست ممن يستسلمون بسهولة أبداً.”. بيّن الرملي القرار وصعوبة العدول عنه ولكن بحنكته وضع ضوءا في نهاية النفق، ليضع لبنات مختلفة ينقل القارئ بينها، لبنات فكرية وسلوكية واعتقادية تبني من الواقع واقعا آخر، وتؤكد أن الانسان كائن متغير يتجاوز الفكر المحنط إلى الفكر الحي، بمناوشات أدبية تخيرية غير قسرية تطلق عنان التفكير بومضات يدسها في العمل تحيل إلى خيارات متعددة أمام القارئ، منها مشهد النهاية والذي مهد لخياراته في الصفحة 71: "بدا لها بأن شخصا ملثما قد هددها بالذبح، لم تكن متأكدة من الأمر تماما." والرواية الأخرى التي كتبها الرملي تكمن خلف السطور، وهي رواية مفعمة بالرمزية تستند على الهرمنيوطيقا ما يجعل لها خصوصية عند كل قارئ بطبيعة فهمه وتأويله بعد ذلك، ولم تكن الرمزية في بنت دجلة خوفا من أية حدود يرسمها الروائي لنفسه، إذ يتضح ذلك من العمل نفسه والذي حطّم فيه الرملي الطوطم والتابو بمعاول مختلفة ومن زوايا متعددة، وبحنكته وتمرسه نجح في مألفة ذلك مع الدفق السردي وتطوّر الأحداث وربطها مع بعضها ما يستدعي دحرجة عجلة الأفكار المختلفة ليكتمل النسيج الروائي بها، رغم الغرائبية التي تتمتع بها بعض شخصيات الرواية مثل “بريتون الشخابيطي أو براء”، و”عبدالله كافكا”، وذلك لا ينفي الصراع الداخلي الكبير الذي في دواخل أغلب الشخصيات والتطور الكبير فيها مع تقدّم الخلق السردي وتقلّب نزعاتها مثل “قسمة” الهادئة التي تنفجر فجأة لتتشظى المسارات الروائية في عقل القارئ وتجعله يلهث محاولا كشف غموض المستقبل والغوص في جوف الصنعة لتتملك الخيوط كلها من مسابقة في البول مع الشيخ “طافر” لحظة تافهة لكنها عظيمة في مدلولاتها وأسس بنائها وانطلاقها من مبادئ انسانية وخلافات فكرية تبيّن تحولاً كبيراً في مسار القصة والمتواجدين حين حدوثها وبالتالي في عقول القراء. و”طارق” الزوج المتدين الذي تتوالى انكساراته في الرواية من لحظة بزوغه فيها حيث جاء في الصفحة 8: “فتح غطاء المحرك وراحا ينظران فيه، ثم أغلقاه وأمرا طارقا أن ينحني مستندا بذراعيه إليه، حاول الممانعة ولكنهما ثبتاه بقسوة، فنظر إلى قسمة شاعرا بإهانة عظيمة، متمنيا أن تنسى هذا المشهد لاحقاً، وألا تتذكره أبدا، وخاصة في الليالي الهائجة التي سيطلب منها أن تنحني هكذا ويأتيها من الخلف”. والذي استطاع الرملي أن يرسم شخصيته بتدفق الأحداث ولم يصرح بها ويبنيها في الرواية ويطورها، يرفعها ويحط بها، مخاطبا بها الإنسانية كما يخاطب بكل شخصية في روايته، وكأنه قد جمع الأنماط البشرية المختلفة في بنت دجلة، وذلك للمس كل قارئ لتكون إحدى الشخصيات قريبة منه وجدانياً مثل: صابر وصبرية. أو شخصية أخرى يكرهها لحدث تمثّل له أو لموقف من شخص يشبه الصفات النفسية للشخصية المكروهة والتي قد يمثلها: ظاهر. واستطاع محسن بفطنته أن يمسك بزمام الشخصيات ويرخي لجامها كلما تطلبت الأحداث ذلك. حيث وضع لكل منها دور محدد يساهم في دفع الأحداث أو تبيانها أو لإضفاء الغموض والتشويق في الرواية مثلما حدث مع “آدم” والذي كان تواجده في مسرح الأحداث يضفي حالة من الإبهام في إشارة لإلحاح جسدي من قبل قسمة يتحول إلى درجة في السلم السياسي فكأن الرواية رقصة على حقل من الألغام، تبحث فيها قسمة التي: “أحست بالجوع، فقررت أن تأكل العراق” (صفحة 7)، عن جسد والدها، وفيها رمزية كبيرة بغياب الرأس أو القيادة ليتم البحث عن الجسد، يقول أفلاطون: “ليست هناك نفس تريد أن تحرم عمدا من الحقيقة”، وهناك إحالة أخرى بالبحث عن الحقيقة والتي تتضح من أفعال قسمة في ثلاجات الموتى في الصفحة 110: “سارعت بالكشف عن الساقين، فكانت بالفعل بلا قدم يسرى، وأثر قطعها قديم ملتئم، لكنها على الفور أدركت بأنه ليس والدها، لأن القطع أعلى، يكاد يكون في منتصف بطة الساق، أما قدم والدها فمقطوعة من آخر الساق، عدا أنها تعرف وتتذكر جيداً كيف ينتهي التئام القطع….. رآها الرجل تطيل التأمل. سألها إن كانت تريد رؤية بقية الجسد مع تنبيهه لها بأنه بلا رأس، أومأت برأسها أن نعم.”! على الرغم من تأكدها أن الجسد لم يكن لوالدها. ويحيّر الرملي القارئ بنظرته لجيل المستقبل من الأطفال والذي ذكر في صفحة 130: “اهتدت قسمة إلى حل، بزغ في ذهنها فجأة كلحظة إلهام، وهو أن يجعلا ابنها (إبراهيم قسمة النخيلي البغدادي) زعيماً وأن يكونا هما نائبيه”. في تلميح إلى الأمل بالمستقبل، لكنه يعود ويؤسس خطاً آخر في الصفحة 281 في المعتزل الذي لاذ به طارق: “ابنته الصغرى زينب الأحب إلى قلبه، هي المرسال بينه وبين زوجته، تأتيه بالطعام والثوب النظيف والطفل إبراهيم، ويستبقيها أحيانا لساعات طويلة معهما، براءة روحيهما الطفولية كانت تريح وتبهج روحه، بحيث تصبح أكثر طفولية وبراءة ونقاء”. فانتقل طارق بإبراهيم (الطفل/ المستقبل) في الرواية من المعترك السياسي إلى العزلة والروحانيات لننظر إلى الحياة مرة أخرى بنظرة ثانية. غير التي اعتدنا أن نراها بها.

بنت دجلة رواية التحولات، تبين أن سلاسل الحياة مرتبطة ببعضها، فبكل الزخم السردي والأحداث يوصلنا الرملي إلى نهاية تفجّر كل ما بناه في عقل القارئ وأسسه لشخصية قسمة تجعله يعود لقراءتها مرة أخرى ليستنبط شخصية أخرى غير التي كانت.

قال أبو العلاء المعري:

نزول كما زال أجدادنا… ويبقى الوجود على ما ترى

نهار يضيء وليل يجيء… ونجم يغور ونجم يُرى

-----------------------

*عبيد بوملحه: كاتب وناقد إماراتي، من أعماله: رجل بين ثلاث نساء، ليلة غاشية، سوق نايف، الذبابة، طقوس للموت.

https://obaidbumelha81.wordpress.com/

ليست هناك تعليقات: