البَقَـرَة الوُجُـوديَّـة
https://www.youtube.com/watch?v=zeQaqEfzSpA
قراءة الكاتب والناقد والإعلامي التونسي:
كمال الرياحي
قصة: محسن الرملي
رأيتُ
بَقرةً هنا، في غُربتي، في هذه الأرض البعيدة، فاستحضرتُ كل الأبقار التي توالَت
على التواجد في بيتنا وأرضَعَنَني.. اِقتربتُ منها.. كأنها إحداهُن.. كأنها كُلهن..
شعرتُ بحنين وشُكر، حَدّ الرغبة بتقبيلها.. ولأن أمي كانت تُسمي أبقارها، سألتُ
هذه البقرة عن اسمها، فقالت: بُووووووع.
ولأن أمي كانت تُجيد التحدث مع الأبقار، جرَّبتُ
الكلام مع هذه البقرة، فتحدثتُ طويلاً عن نهاية التاريخ والعولَمة وقرارات مجلس
الأمن ومشاكل الفايروسات في الانترنيت ومصير الهويات و.. فأدركتُ بأن هذه الأشياء
لا تعني البقرة على الإطلاق.. لأن هويتها هي ذاتها، مُجسَّدَة كما هي. تأكُل
وتُعطي الحليب وتتكاثر، ولا تشغلها مسألة المصير أبداً.. فكل بقرة هي هوية لكل
الأبقار.. تَطابقٌ في الحِس المَعيشي والرؤية الصامتة، الثابتة، الواحدة للوجود ـ
أو اللا رُؤية ـ وإيقاف العَقل عن التَعب، لأن النتيجة واحدة... تُبادِل السلوكيات
بمثلها، في آنِها، وكَفى... طَيِّبةٌ مع المُتعامِلين معها بِطيبة، رافِسةٌ
للمتعاملين معها بالرفس.. لا يُوجعها إلا لحمها هي وصغيرها حتى يَكبر.. البقرة هي
هي، منذ بداية وجودها كجنس حي، وحتى تَنقرِض.. لم تتغير، ولهذا؛ فإن أيّة بقرة في
أيّ مكان، هي أيّة بقرة في أيّ مكان آخر. تَكفي معرفة واحدة لمعرفة الجميع، لذلك؛
فلا قلق على هويتها.. وكأنها لا تموت.. فرغم التاريخ الطويل من الذبح فيها،
واستغلالها تَحميلاً وحَرثاً ورُكوباً وتَقطيعاً.. ما زالت كما هي؛ تجسيداً
لهويتها، وثباتها في موقفها ورُؤيتها وسُلوكها.. كأنها فَهِمَت كل شيء، وارتَضَت
الصمت، أو أنها لم تفهم شيئاً، ولجأتْ إلى الصمت.. والإصرار على تكرار السلوك
الحياتي المُستجيب لها، هو حاصل في لحظته..
البقرةُ التي رأيتها هنا في هذه الأرض البعيدة،
جعَلتني أستحضرُ كل الأبقار التي توالَت على التواجُد في بيتنا وأرضعَنَني...
اقتربتُ منها.. كأنها إحداهن.. كأنها كُلهن.. شعرتُ بحنين وشكر، حَدّ الرغبة
بتقبيلها.. وحين سألتها عن فهمها لهذا العالَم، قالت: بُووووووع.
_____________________
*من كتاب (تحفة السهران)، قصص محسن
الرملي، دار المدى 2017م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق