الاثنين، 15 أبريل 2024

فحوصات عن أزمة الشعر، محسن الرملي

 

فُحوصات ثقافية

هل الشِعر في أزمة حقاً؟

بقلم: الدكتور محسن الرملي

الغالبية، إن لم نقل الجميع، في كل العالم، يتحدثون عما يسمونه (أزمة الشِعر)، حتى صار الأمر وكأنه مُسلّمة مُتَّفق عليها.. بل وقال البعض بموته. لذا سأحاول هنا، في هذه الوقفة القصيرة، أن أنظر إلى الأمر بشكل مغاير، القيام بفحص عام، أو النظر إلى نصف الكأس المُمتلئ.

أعتقد بأن الذي أطلَق وأشاع وكرّس هذا التصور (أزمة الشِعر)، ورَفع مقابله لافتات ازدهار الرواية و(زمن الرواية)، هو سُوق الكِتاب، الناشرون وأصحاب المكتبات ومجمل العاملين في تجارة الكتُب، وصَدقَّهم الجميع، بما في ذلك الشُعراء أنفسهم، وفاتهم أن سوق الكتاب ليس لديه معايير نقدية أو أدبية أو فكرية أو جمالية، أو أهداف معنوية تتعلق بالارتقاء بالحس الإنساني والذائقة الفنية والإثراء اللغوي والوعي الاجتماعي والهم الوجودي وما إلى ذلك، وإنما لديه معيار أساسي واحد، ألا وهو نسبة المبيعات والأرباح، وهو وفق معياره هذا، صادق في إطلاق حكمه وشعاره، لأن دواوين الشِعر لم تعُد تحقق مبيعات جيدة فعلاً، وحتى شعراء غربيين كبار، تنشُر لهم دور نشر كبيرة، صاروا لا يطبعون سوى خمسمئة نسخة من أي ديوان، وإذا تم بيعها يقومون بطبعة ثانية من خمسمئة نسخة وهكذا، وهذا إجراء احترازي براغماتي عَملي مادي مُبرَّر ويمكن تفهمه، لأن هناك أزمة في بيع الشِعر... كيف يَحدث هذا ونحن الذين نستهلك الشِعر دائماً بالملايين؟ شُعراء وقراء ومستمعون ودارسون ومُغنون وعشاق وحزانى وفِرحون وسهارى ومستأنسون وغاوون وعاطلون!

ببساطة، ومن منطق السوق نفسه: لماذا نشتري بضاعة متوفرة بكثرة ومجاناً، بمختلف أصنافها وفي كل الأوقات؟ بإمكاننا قراءة أية قصيدة ينشرها أي شاعر، من على صفحاته في وسائل التواصل، أو من مختلف مواقع الإنترنيت المقروءة والمرئية والمسموعة، سواء للصحف والمجلات والمهرجانات والقنوات والمسابقات والأمسيات وغيرها.

كل ما يتعلق بالشِعر هو في ازدياد، إلا بيعه في كُتب، عدد الشعراء في ازدياد، مهرجانات الشعر وجوائزه وترجماته ومناسباته وأماسيه ومسابقاته وبرامجه وقراءاته وإصداراته وتوظيفاته وعلاقاته ودراساته ونقده والحديث عن عنه، وابتكار سُبل مختلفة ومتجددة لإيصاله والحث على اقتنائه، ومنها إصدار الدواوين المخطوطة باليد مع رسومات لفنانين معروفين، إرفاق النصوص بأقراص فيديو وموسيقى، ذهاب الشعراء بأنفسهم للبحث عن القراء، عبر الإكثار من أمسيات التقديم في المكتبات والمدارس والمقاهي والساحات والأسواق، القراءات المصحوبة بالمشاهد المسرحية، النشر في مواقع التواصل الاجتماعي، مضاعفة عدد المهرجانات الشعرية في الدول والمدن والقرى الصغيرة، والترجمة إلى كل اللغات الممكنة.. بينما جل هذا غير مُتاح، أو غير مناسب لأجناس أدبية وكتابية أخرى كالرواية والقصة والنقد والمُذكرات والدراسات والسِير الذاتية وغيرها، حيث مازالت أفضل وسائط إيصالها وقراءتها هي الكِتاب.

وفي رأيي، أن أزمة بيع الشِعر هي لصالحه، لأنها تُحرِّره من اشتراطات السوق وضغوط المتاجرة التي تتعرض لها بقية الأجناس بشكل لا هوادة فيه ولا فكاك منه. ولهذا نجد أيضاً، بأن الشِعر الذي يخضع لتلك الشروط هو أضعفها وأكثرها افتعالاً، وإن كان أعلاها صراخاً، ومنه قصائد المناسبات وبرامج المسابقات وما شابهها.

إن الشِعر هو رفيق الإنسان في كل زمان ومكان، والفن القادر على التكيّف مع أي لغة ولهجة وظرف وتجريب وتغريب، وإذا كان الأدب هو حُسن انتقاء وتنظيم اللغة بجمال، فإن الشِعر هو روح الأدب وأجمل أجناسه.

خلاصة: هي أزمة بَيع دواوين الشِعر، وليست أزمة الشِعر نفسه، فالشِعر لا يموت.

*كاتب وأكاديمي عراقي إسباني يقيم في مدريد.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*نشرت في مجلة (الناشر الأسبوعي)، العدد 66 ابريل 2024 الشارقة.

https://xsi.sibf.com/content/uploads/publisherweekly/pdf/2_6b8bf016612b41aa89b782222a30e1.pdf

ليست هناك تعليقات: