فُحوصات
ثقافية
اِضمحلال
الثقافة والفنون في الجامعات
بقلم: الدكتور
محسن الرملي
أمضيتُ نصف عمري في
الجامعات، شرقاً وغرباً، طالباً وأستاذاً ومُحاضِراً وزائراً، فاعلاً ومتفاعلاً، في
الشؤون الثقافية تحديداً. وانطلاقاً من هذه التجربة، أود التنبيه بجديّة، إلى
تراجع مَهول في دورها وأنشطتها الثقافية والفنية والفكرية، وحتى في دراساتها
للتخصصات الإنسانية.
في السابق، كان لكل
جامعة أو كُلّية: فِرَق مسرحية، موسيقية، رياضية، مرسَم، معارض فنية، معارض كُتب، مهرجانات
ثقافية، جوائز أدبية، أندية حوارية، مؤتمرات فكرية، استضافات أعلام، حفلات، سينما،
رحلات استكشافية، مشاركات اجتماعية، مكتبات مواكِبة، إصدارات كُتب، ومجلات فصلية
وشهرية وأسبوعية وإذاعات وغيرها. ومن رحم هذه الفعاليات كانت الانطلاقة الأولى الناضجة
والعملية للمواهب التي تحوّلت لاحقاً إلى أسماء كبيرة. كنا لا نحتاج، ولا نريد
الخروج من جامعاتنا طوال اليوم، ففيها نجد كل ما نريده من حياة ثقافية.. أين كل
هذا الآن؟ حيث الطلبة والأساتذة يأتون ويخرجون سِراعاً، مكتفين بأداء وظيفتهم
المطلوبة فقط، فيما النشاطات الثقافية لبعض المقاهي تفوق أنشطة أية كُليّة، كمّاً
ونوعاً.
كانت الجامعات هي
الطليعية في التجديد وقيادة حِراك التحولات في المجتمعات، ثقافياً واجتماعياً
وسياسياً. حاضنة للشباب الباحث عن التغيير، الساعي للتأثير، الحالم بالتحديث.
حاضنة لتبادل الأفكار، فحص المُعطيات، مراجَعة النظريات، التعرف على الإيديولوجيات،
نقد المسَلّمات، تقديم الطروحات، توليد الفكر والفلسفات، تنظيم الحركات، نشر
الموضات، رعاية الإبداعات، تبادل النتاجات، كسب الصداقات والانتماءات، صيانة
وتوسِعة الحُريات وغيرها. ومن هذا المختبر الفكري والثقافي، خرجَت العديد من الشخصيات
والتيارات والأحزاب والنظريات والرؤى التي غيّرت مسارات أجيال وشعوب بكاملها،
ويكفي، مثالاً، أن نلقي نظرة على السِيَر الجامعية لنيتشه وشوبنهاور وكانط وهيغل
وماركس وطه حسين وإدوارد سعيد وتودوروف وفوكو ولوكاش وبدوي والجابري وفؤاد زكريا
وغيرهم كُثر، في مختلف الاختصاصات.. أين كل هذا الآن؟ حيث أصبحت رسائل الماجستير
وأطاريح الدكتوراه مثيرة للشفقة، اجترار تقليدي، قَص ولَصق، لا جديد فيها، رغم أن
الشرط الأساسي لإجازتها هو الإتيان بجديد!
أساتذة اليوم لا يقرأون،
وإذا قرأوا لا يُفاعِلون قراءاتهم مع الطلبة. همّهم إحضار دروسهم بأقل جهد. لا
يكتبون، وإذا كتبوا، فمقالات ودراسات مكرَّرة السياقات والكليشيهات، هدفها مشاركة
في مؤتمر، ونشر في مجلة مُحكمة من أجل الترقيات، وليس لفتح نقاش حول أفكار جديدة.
يقول الأكاديمي
الكولومبي المفكر روبن خاراميلو بيليث: إن شخصية الأستاذ الأكاديمي المثقف المفكر
في الجامعات صارت تختفي، ولا نرى الآن سوى سيلاً من الرسوم المتحركة الأستاذية. يهيمن علينا عدد قليل من
التكنوقراط النيوليبراليين الذين لا يعرفون حتى التحدث بلغة سليمة.
والطلبة كالأساتذة، لا
يقرأون ولا يكتبون، يكتفون بأداء الواجبات كيفما اتفق، همّهم الحصول على الشهادة،
وبعضهم غير مقتنع بجدواها، وإذا حصل عليها، صار همه التوظيف. طلبتنا الآن كالأشباح،
يجولون في الحرم الجامعي وهم مُنكَبّون على شاشات هواتفهم طوال الوقت.
شكوى دائمة من ضيق
الوقت، سباق محموم لإنجاز الأمور بسرعة، فتح لمزيد من صفحات وسائل التواصل ومواقع
الانترنيت، هدفها الدعاية لا الرعاية. ولم تعد المكتبات روح الجامعة، بعضها توقف
عن اقتناء أي كتاب جديد منذ عقدين، بحجة تقليل النفقات غير الضرورية.. تخيل أن تَعتبِر
جامعة المكتبة غير ضرورية!
وموضة كثرة الجامعات
الخاصة زاد الأمر سوءاً، فهي مجرد مشاريع استثمارية لكسب المال، الذي لا تُنفق منه
شيئاً على الأنشطة الإبداعية والثقافية والمغامرات التفكيرية، فأي طلب لدعم مشروع أو
نشاط ثقافي، سيصطدم ببيروقراطية مُحبِطة، يقابل ذلك ارتفاع محموم في الرسوم. وذات
خلاف مع أحد الطلبة، بشأن درجاته، قالها لنا العَميد صراحة، بعد خروج الطالب: تذكّروا
بأن الطالب زَبون، وعلينا الحرص على إرضاء الزبائن، لكسب المزيد منهم.
الجامعات تذبل، بل
وتنتحر ثقافياً، لتتحول إلى مؤسسات ودوائر روتينية بيروقراطية وظيفيّة، أو دكاكين
شهادات، بلا أية آفاق إبداعية مؤثرة في المجتمع والإنسانية. أين أنشطتها الثقافية
في المجتمعات؟ وأين الناس في أروقتها للنهل من خصبها الثقافي؟
*كاتب
وأكاديمي عراقي إسباني
*نشرت في مجلة (الناشر الأسبوعي)، العدد 65 مارس 2024
الشارقة.
https://xsi.sibf.com/content/uploads/publisherweekly/pdf/2_afc729ac83ec4e3288aa330ef98adb.pdf
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق