فُحوصات ثقافية
دَع قلَق الترجمة
وابدأ الكتابة
بقلم:
الدكتور محسن الرملي
الترجمة هي أحد أهم المواضيع الثقافية
وأخصبها للحديث والبحث والدراسة والنقاشات، وفيها من القضايا والمحاور ما يصعب
حصره، لذا؛ سأكتفي هنا بتناول مسألة ترجمة الآخر لأعمالنا وترجمتنا لأعماله، وأشير
وأشيد أولاً؛ بما نشهده في ثقافتنا العربية من حركة ترجمة رائعة وكبيرة، غير
مسبوقة، تستحق الاحتفاء والاعتزاز بها، بل صارت تتفوق على العديد من حركة الترجمة
في ثقافات أخرى، كماً ونوعاً ومواكبة للجديد، بحيث إن كثرة الأعمال المترجَمة
الجيدة صارت تُزاحم الأعمال المكتوبة بالعربية أصلاً، وعلى حسابها أحياناً، لكن أغلب
ما نترجمه هو أعمال أدبية، تقابلها شِحّة في الميادين الأخرى، ومنها العلمية، كما أن
توافر برامج الترجمة الإلكترونية، ومنها غوغل، قد تسبب بتسرب الكثير من ترجمات
متسرعة، مشوّهة مغشوشة، بحيث صار القارئ يتردد باقتناء الترجمات، إن لم يكن واثقاً
من اسم المترجم أو دار النشر... ربما نحتاج إلى إقامة وِرش تعليم الترجمة، كما
نفعل الآن مع ورش الكتابة الإبداعية. الترجمة شريان حيوي لأية أمة تحرص على النمو
ومواكبة عصرها، وعليها ألا نتوقف عن ابتكار ودعم المشاريع الكبيرة المتعلقة
بالترجمة.
أستطيع
القول، وبكل ثقة، بأننا تَرجمنا، ونعرف، عن الآداب الغربية (إنكليزية، فرنسية،
إسبانية، ألمانية)، أكثر مما ترجموا، ويعرفوا، عن آدابنا، وهذا الأمر يُقلق ويزعج
غالبية مثقفينا ومبدعينا، ويصل بهم الأمر أحياناً، إلى جلد الذات، ورمي العيوب على
نتاجنا الأدبي والثقافي، وهنا تحديداً، أود الوقوف، وتأمل ذلك بشكل مختلف، فأقول: إن
هذا يحدث مع ثقافات أمم أكثر مِنا عَدداً، وأقوى منا سياسياً واقتصادياً وعسكرياً
وتكنولوجياً، وأصحاب حضارات عريقة مثلنا، كالصين والهند، اللذين يفوق عدد سكان كل
منهما مجموع العَرب بمليار نسمة، ومع ذلك، يبدو بأن شحة ترجمة الغرب لنتاجهم، لا تقلقهم،
وكأنهم لا يكترثون.. بل وأنهما يفضلان ذلك، بشكل ما، لأنهما يعتبران جهل الآخر
بهما هو زيادة في تحصينات الأمن القومي، فاللغات يُمكنها أن تكون جسوراً أو حواجزَ
وأسوارا إضافية، هم يواصلون ترجمة نتاج الآخر، ولو من باب (اِعرِف عدوك)، ولا
يكترثون كثيراً بترجمة الآخر لنتاجهم، فهذا شأنه، والنقص سيكون في معرفته عنهم، لا
في معرفتهم هم بأنفسهم وبالآخر.
أما على الصعيد الفردي، فقد لمستُ عند
الكثير من أصدقائي وزملائي الأدباء العرب، القلق بشأن ترجمة أعمالهم إلى لغات
أخرى، بل أن بعضهم، ومنهم شباب، صاروا يفكرون بنشر أعمالهم بلغات أخرى، حتى قبل
نشرها بالعربية، ظناً منهم بأن الآخر سيكون أكثر اهتماماً وإنصافاً، وهذا تصوُّر
غير دقيق، ومن رأيي أن يكون تركيزك مُنصبّاً على أعمالك بلغتك الأم، على نجاحك
أولاً وتدرُّجاً، في محيطك، ثم مدينتك، ثم بلدك، ثم البلدان العربية، فمن ينجح في
ثقافته ويُلفِت الانتباه، سيسعى الآخر إليه بنفسه، لمعرفته وترجمته، بدل أن تسعى
أنت إليه بنفسك، وكما يُقال: "المحليّة تصنع العالمية". فاحرص على نجاحك
محلياً أولاً.
وهنا أُذكر الأصدقاء القلقين بشأن ترجمة
أعمالهم أكثر من أعمالهم ذاتها، بأن طاغور، شاعر الهند العظيم، كان قد تجاوز
الخمسين من عمره ونشر عشرات الأعمال الأدبية بلغته البنغالية فقط، وأثناء رحلة
بحرية له مع ابنه إلى لندن، قام بنفسه بترجمة ديوانه الأخير، من باب التسلية؛ لطول
وقت الرحلة، وعند وصوله، عرف بذلك صديق إنكليزي، وأَطلَع عليها الشاعر بيتس، فدُهِش،
فنقحها ووضع مقدمة لها ونشرها، وهكذا انطلقت ترجمات أعمال طاغور وشهرته، ونال جائزة
نوبل بعدها بعام واحد.
لذا؛ وعلى غرار العنوان/ العبارة الشهيرة
(دَع القلق وابدأ الحياة)، أقول: دَع قلَق الترجمة، وابدأ الكتابة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشرت في مجلة (الناشر الأسبوعي)، العدد 67، مايو 2024م.
https://xsi.sibf.com/content/uploads/publisherweekly/pdf/2_5a850883401c45358d4ab7efc73f75.pdf
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق