الاثنين، 4 مارس 2019

قراءة في رواية حدائق الرئيس /أحمد العربي


الاستبداد لعنة تصيب كل جوانب الحياة بالخراب

أحمد العربي
الرواية عراقية، حديثة ومعاصرة للعراق في الخمسين سنة الأخيرة، تبدأ الرواية من حدث قاس ومؤلم، حيث تستيقظ القرية القابعة بناسها القليلين، المنشغلين في حياتهم الريفية على تسع كرتونات موز ملقاة في ساحة البلدة، تحوي على رؤوس تسعة من أبنائها الذين غادروا سابقا إلى بغداد.
هنا تبدأ الرواية من الرؤوس رأس إبراهيم قسمة؛ وهو واحد من ثلاثة ولدوا في الخمسينيات وترعرعوا في القرية، من خلال متابعة حياتهم ندخل في عمق العراق وما مر به.
هم عبد الله كافكا، وإبراهيم قسمة، وطارق المندهش، أولاد “شق الأرض” وهي تسمية أطلقها عبد الله على نفسه في المدرسة، جواباً على سؤال معلمة له عن نفسه، أنه لقيط، ووجد بجانب شق الأرض، ولا أهل له، تضامن معه رفيقيّه وقالوا: إنّهم أبناء شق الأرض أيضاً.
عبد الله وإبراهيم وطارق كبروا سوية حتى سن الالتحاق بالجيش، طارق حوّله والده الوجيه الثري المتنفذ لدراسة الدين ليعود للقرية إماما ولينتهي من الجيش، إبراهيم وعبد الله ذهبا للجيش كانت خدمتهم بالبصرة، بعد وقت قليل ستبدأ الحرب العراقية الإيرانية، وسيصبحان جزءاً من وقودها، يواجهان ويلاتها، كان إبراهيم قد تزوج قبل التحاقه بالجيش، عاد في إحدى إجازاته ليجد عنده طفلة يسميها قسمة، وهذا لقبه لأنه يقول عن كل شيء قسمة ونصيب، أما عبد الله كافكا، فقد نُسب لكافكا العدمي الوجودي، لأنه كان لا يرى معنى لأي شيء في الحياة، وكل شيء تافه في نظره، خاصة أنّهم حرموه ممن يحب، فقط لأنه لقيط رغم أن أسرةً لم تنجب أولاداً تبنته، لقد جرحوه وأعادوه لتفاهة الحياة. في الجيش طالت الحرب لسنوات بكل مآسيها، نقل عبدالله لموقع آخر، وتنقطع أخباره ويصبح من المفقودين.
انتهت الحرب وعاد إبراهيم لقريته ولزوجته وطفلته، لحياته الريفية، ويتواصل مع صديقه طارق المندهش، وذلك بسبب اندهاشه من أي شيء، ليجده صار إمام القرية ومعلم أولادها، وضع في طفلته كل آماله بدلالها وتعليمها، لم ينجب غيرها، طرحوا عليه الزواج كثيرا، لم يقبل، يعلم أنّه أصبح عقيما من المواد الكيماوية التي تعرّض لها وقت الحرب.
إننا أمام رواية مليئة، هي دراسة نفسية، اجتماعية، سياسية، وتاريخية، 
تغطي مرحلة خصبة من تاريخ العراق والمنطقة. ويجب إعطاءها حقها من الاهتمام.
بعد سنتين عاد للجيش مجددا ليجد نفسه في حرب احتلال الكويت، ويجد نفسه أمام الموت والنهب، وأنه واحدٌ من آلاف يساقون لموت فظيع، خاصة بعد تدخل القوات الأجنبية حيث عايش القيامة، القتل والدمار، الجثث والجنود المذعورون، والهروب الفوضوي والطائرات والقصف وملاحقة فلولهم حتى داخل العراق، سار في طريق الموت، مع الهاربين من الكويت، تلقّى قنبلة فوجد نفسه بين الجثث، جاء من أنقذه لكن دون قدمه، عولج في البصرة، ساعدته عائلة كان شارك ابنها بمحاولة الثورة التي تم القضاء عليها بالتناغم بين الأمريكان والنظام العراقي. عاد لقريته ليحصل على قدم صناعية، ويجد نفسه قد أصبح عالة على عائلته، وليعيش من إنتاج الأرض.
أما عبدالله فقد وصلت رسالة منه تقول؛ إنّه أسيراً في إيران، كان الخبر عيدا عند أصدقائه وقريته، فعبد الله مازال حيا، وسرعان ما مضى الوقت ليعود عبد الله إنسانا آخر، أكثر تشاؤما وسلبية، بمضي الوقت تحدث عن أسره، وعن التعامل الوحشي من الجنود الإيرانيين، القتل لأبسط سبب، السحل بالسيارات، وأخيرا المعتقلات التي تحولت لمركز تعذيب، وإعادة تأهيل وغسل دماغ؛ فالذي يتجاوب مع اعتقادهم عن إيران، ونائب الإمام، ودولة الكفر العراق، يتحول تدريجيا ليكون السجان، ويعاد مجددا إلى الجبهة ليقاتل ضد دولته، أما الذي لا يستجيب فإنه يذوق صنوف عذاب، الموت أهون منها. وهكذا حتى حضر الصليب الأحمر إلى المعتقل وبعث رسالته تلك، بعد تنقلات من معتقل لأسوأ، ليكتشف ما لا يتصوره عقل عن وحشية التعامل معهم، وبعد تسعة عشر عاما يعود من الأسر لقريته، ليجد أهل القرية على ما هم عليه، أصدقاؤه يفتقدوه، وهو يزداد سوداوية وعدمية، ليجد أنه في مواجهة حقيقته الخاصة ومأساته الذاتية.
كانت الخالة زينب زوجة المختار، والتي تعامله كابنها قد أصيبت بالعمى وشاخت، أخبرته أنه حفيدها من ابنها الكبير الذي زنا بابنة أحد الفارين إليه وهي شابة قاصرة عقليا، وكيف انتظروا حتى يولد الطفل لينفي أبوه، وتقتل أمه وتدفن، الأم التي يسمع حكايته عند قبرها. زادت سوداويته وكثر المجرمين في حياته، أباه بما فعل وجده قاتل أمه والحرب والأسر، كل ذلك أعاده لنفسه، يشرب الدخان ويتأمل وينتظر موتا تافها كالحياة.
أما إبراهيم صديقه فقد ساعده طارق عبر علاقاته بالعاصمة فعمل في حدائق الرئيس مستفيدا من قدمه التي خسرها بالحرب، كان العمل بسيطا في قصور وحدائق كالجنان ضمن شروط أمن مضبوطة مع ثلاثية القرود: ﻻ أسمع ﻻ أرى لا أتكلم، تحسّن دخله، واشترى سيارة لابنته التي لم تكن تقبل بحياة أبيها الفقيرة التافهة، شاهد من الجمال والترف ما لا عين رأت، وتفاجأ برؤية الرئيس صدام حسين مرة يصطاد السمك من البحيرة، ثم وجود موسيقي شهير يعزف له، وكيف ينكّل به لأنه تحدّث عن الديمقراطية، ويقتله بسلاحه ويلقيه في البحيرة، ثم تذاع أغانيه في اليوم الثاني في التلفاز.
الاستمرار بالاستبداد والمستبدين بالوجود، وتحقيق مصالحهم ونزواتهم، 
تجعلنا كلنا بشرا خارج إنسانيتنا، وضحايا كل الوقت.
صار الرعب يسكنه مما رأى من ترف وبذخ وبطش ورضي بحاله، وبعد فترة غيروا عمله إلى الليل حيث تأتيه في حديقة القصر جثث عليه أن يدفنها دون إظهار أي أثر، كان العمل في البداية جحيما ولا مهرب منه قتلى بالسلاح، بالتعذيب، بالسلاح الأبيض، تأقلم مع الحالة مع الزمن، صار يتصرف مع الجثث كأهلها، يدفنها باحترام، صنفها وأرشفها وحدد موقعها، زادت الضحايا بالآﻻف صار خبيرا، جاءه معاونين، نقل بين القصور ليعلّم الآخرين، ونقل إلى مدن أخرى ليقوم بذات الدور. زوّج ابنته لضابط، وجدت ابنته بزوجها فرصة للخروج من عالم الفقر والقرية والذل… وهكذا حتى بدأ العدوان الأمريكي على العراق، وقبله صارت تأتي الجثث بالمئات، وبعضها يقتل ميدانيا ويدفن بالجرافات.
دخلت القوات الأمريكية وبدأ القتل والنهب. عاد لقريته، وابنته لحقت به بعد شهر، أخبرته أنها فقدت زوجها قبل أشهر من العدوان، حدثته أنه من الممكن أن يكون ضحية وقتل من النظام، حدّثها عن أرشفة القتلى ومدافنهم، عادت مع والدها إلى بغداد لتخرج جثة زوجها، وليصبح هو قبلة لكل من له مفقود، وليقوم بدوره بإخلاص وتفاني، ينذره صديقه طارق بأنه مطلوب لبقايا العهد السابق، كخائن للأمانة ومشوّه للقائد صدام، ومطلوب للأمريكان وأزلامهم كواحد من زمرة النظام السابق، لم يرتدع، أعيد رأسا دون جسد، تحرك طارق الذي تزوّج “قسمة” في رحلة البحث عن الجثة، سار عبد الله معهم جزءاً من الطريق، لكنه عاد عندما علم أن جلال أبوه المطرود من جدّه قديما قد عاد مع الأمريكان، كزعيم للمرحلة الجديدة، الأب الذي اغتصب أمّه، وسبّب قتلها، وهرب، وها هو يعود ليغتصب البلد كلها.
هنا تنتهي الرواية، وفي تحليلها نقول: إننا أمام رواية مليئة، هي دراسة نفسية، اجتماعية، سياسية، وتاريخية، تغطي مرحلة خصبة من تاريخ العراق والمنطقة. ويجب إعطاءها حقها من الاهتمام.
وبالنسبة لنا تؤكد أنّ الاستبداد لعنة تصيب كل جوانب الحياة بالخراب، وأنّ الاستمرار بالاستبداد والمستبدين بالوجود، وتحقيق مصالحهم ونزواتهم، حتى أنّهم يفعلون كل شيء وما لا يخطر على أذهاننا من أفعال سيئة، وتجعلنا كلنا بشرا خارج إنسانيتنا، وضحايا كل الوقت.
محسن الرملي: كاتب وأكاديمي ومترجم وشاعر عراقي يقيم في إسبانيا. ولد سنة 1967 في قضاء الشرقاط شمال العراق. حصل على الدكتوراه بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف من جامعة مدريد بكلية الفلسفة والآداب  عام 2003 يكتب باللغتين العربية والإسبانية. له عشرات المؤلفات موزعة ما بين الرواية والشعر والمسرح.
------------------------------------------------------------
*نشرت في (الأيام السورية) بتاريخ 24/2/2019

ليست هناك تعليقات: