السبت، 29 نوفمبر 2008

مسرحية / النائحة


محسن الرملي
النـائِـحـــة
أو
( دفاعاً عن الحزن )

مسرحية في فصل واحد
*كتبت هذه المسرحية بتاريخ 26/4/1990م خلال عيد رمضان.
*نشرت ضمن مجموعة مسرحيات (البحث عن قلب حي) في الكتاب الصادر عن دار ألواح، سنة 1997 مدريد.
* نشرت في مجلة (المدى) العدد 22 دمشق 1998م.
*كتب عنها الفنان والمخرج العراقي المعروف كريم جثير وفي مقال له في صحيفة (المغترب) العدد 322 الصادرة في كندا 2000 قائلاً: " إن ما يحسب لمحسن الرملي وقبل كل شيء هو اختياره لشخصية النائحة، المرأة التي تتخذ من الحزن وظيفة بندبها ألآخرين في المآتم، وحسب علمي أن الرملي هو أول من ينتبه إلى هذه الشخصية ويجعلها في نص مسرحي... وهو من خلال هذا النص يحاول أن يفلسف لنا الحزن من وجهة نظر النائحة والدفاع عن وظيفتها، منطلقة من أحزانها الخاصة وكذلك لكي تجعل أبناءها بعيدين عن الحاجة من خلال ما تحصل عليه جراء الندب... بهذا المنطق وبهذه الحوارات المؤثرة يبني الرملي نصه المسرحي... إلا أنه يفاجئنا في نهاية المسرحية بانتصار الحزن ومنطق الأم".
*ومما جاء في مقدمة كتاب (البحث عن قلب حي) عما يخص ظروف كتابة هذه المسرحية: " أما مسرحية (النائحة) فقد كتبتها بعد إعدام ورحيل أخي حسن مطلك وحزني الكبير عليه وحزن أمي الذي أهلكها فيما بعد بحيث لم يبارحنا الحزن أو نبارحه حتى في الأعياد، لأننا صباح العيد ـ الذي يُفترض فيه أن نفرح ـ كنا نذهب للبكاء والنواح في المقابر، بين قبور الكثير من أحبتنا الراحلين، فعدت إلى البيت ممتلئاً باليأس، مثقلاً بالحزن، والسواد يلف العالم وكل شيء من حولي. وبعد جلوس صامت تناولت ديواناً لريلكه كان جواري فقرأت قصائده ومراثيه حتى وقفت عند كلمة (نائحات) التي جرتني لاستحضار تلك الشخصيات المنسية في مجتمعاتنا؛ المرأة التي تبكي في المآتم وتُبكي الناس بالأشعار والندب والنواح والتي يسميها البعض (المُلاية) أو (العَدادة) أو (النَدابة) أو (الشاعرة) وغيرها من التسميات الشعبية حسب اختلاف المناطق، فوجدتني أتقمصها، وأرى العالم بعينيها، أو أتخيلها أمي، لأن أمي تفعل فعلها أمامي كل يوم.. تبكي وتنوح، فسارعت إلى كتابة مسرحية النائحة التي تدافع عن الحزن وجهاً حقيقياً من وجوه الحياة ووجودنا، نحاول إخفاءه بستائر واهية. وتكمن الصعوبة في هذه المسرحية كونها مسرحية فكرة وليست مسرحية حدث، الأمر الذي يتطلب شداً دائماً، وتصعيداً لأهمية الفكرة وفاعليتها إلى الحد الذي يجعلها جديرة بالنيابة عن الحدث من أجل إبقاء المشاهد على تواصل وتفاعل.
--------------------------------------

النص:
النـائِـحـــة
أو
( دفاعاً عن الحزن )
مسرحية في فصل واحد

محسن الرملي

.. إلى روح أمي التي عاشت وماتت حزينة.
الشخصيات:-
الأم: النائحة...
أحمد: ابن النائحة، شقيق سارة، يدرُس الطِب.
سارة: ابنة النائحة، شقيقة أحمد، موظفَة في وزارة الثقافة.
رجُل: ...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(بيت متواضع وفيه صوُر مؤطّرَة بشرائط سوداء لأشخاص ميتين. يدخل أحمد والنظارات على عينيه، يرمي بالكتب التي في يديه على أحد الكراسي، ثم يشرع بالبحث عن أمه، يفتح أبواب الغرف الأخرى، ويعود ليقف قلقاً، متأففاً، ينظر إلى ساعته... يسمع جلبة عند الباب فيسرع نحوه، فتدخل أخته سارة وتجفل...)
سارة:ـ هاااه.. أحمد؟! لقد أفزعتني.. متى عُدت؟.
أحمد.ـ ليس في هذا ما يهم.. أين أمي؟.
سارة:ـ لا أدري، ها أنت تراني أعود من الدائرة تواً.
أحمد:ـ وسامي؟.
سارة:ـ في المدرسة.
أحمد:ـ ألا تعلمين إلى أين ذهبَت؟.. ألم تقل لكِ شيئاً؟.
سارة:ـ لا.. لم نعتد أن نسألها ذلك.
أحمد:ـ كان علينا أن نفعل.
سارة:ـ أحمد.. ما الأمر؟!.
أحمد:ـ أوفـفـفـف..
سارة:ـ تكلم.. ماذا هناك؟.
أحمد:ـ الحكاية ذاتها.
سارة:ـ أوووه.. لقد يئسنا من هذه الحكاية.
أحمد:ـ لا.. لابد أن ننتهي منها اليوم.
سارة:ـ ماذا حدث لكي تدعوني أنتَ لذلك بينما كنتُ أشكو إليك ساعات لتقف إلى جانبي فيها؟!.
أحمد:ـ التافهة.. البذيئة..
سارة:ـ إذاً.. لابد أنها قد رفضت الزواج منك بعد أن عرفت مهنة أمك..
سارة:ـ مقاييس حقيرة..
سارة:ـ هل أدركتَ الآن ما كان يؤلمني في ذلك؟.
أحمد:ـ كنت أدركه منذ وقت طويل.. منذ أن كنتُ صبياً أتحاشى اللعب مع بقية الأولاد.
سارة:ـ ولكنك كنت تبرر كالعادة..
أحمد:ـ لا تُنكري أنكِ ولدتِ معي في وضع وموقف واحد..
سارة:ـ حاجتنا إلى المال.. الصبر.. أحلامنا..
أحمد:ـ الفقر.. ولكننا الآن نستطيع العيش براتبك ثم بإمكانها أن تجد عملاً آخر إلى أن أكمل أنا دراستي.
سارة:ـ كم تحدثنا معها في هذا الموضوع! وكنا ننتهي بأن تقنعنا هي بما تفعل.
أحمد:ـ لا.. هذه المرة ستكون الأخيرة ولن نتراجع.
سارة:ـ وإذا أصرّت مهما حاولنا؟؟.
أحمد:ـ حينها قد نفعل أي شيء..
سارة:ـ كيف؟.
أحمد:ـ نتصرف بشكل آخر.
سارة:ـ مثلاً؟.
أحمد:ـ أ.. أن نهجر البيت.. أو.. أو..
سارة:ـ أو ماذا؟.
أحمد:ـ أو نطردها.
سارة:ـ (تصرخ بغضب) أحمـد..!.
أحمد:ـ (يصيح) لقد كبرنا يا سارة والألسن خناجر.
سارة:ـ (تدنو منه بهدوء) أحمد.. أنت تعلم بأنني أتألم بسبب هذا الموضوع أكثر منك، ولكن.. أتعتقد بأن أمنا على خطأ؟.
أحمد:ـ لا أدري يا سارة.. بالضبط لا أدري وطوال حياتي كنت أدفع هذا السؤال بعيداً عني حين لا أجد له إجابة قاطعة.. ولكن تلك المشكلة التقليدية العتيقة.. التي لها يد في كل قضية.. مشكلة الناس وكلام الناس.. الناس الذين يتدخلون في كل شيء ولا يتدخلون في شيء.. يقررون الخطأ والصواب ولا يقررون.. يهمسون.. يوشوشون.. يصرخون.. يظلمون.. يُقبلون.. يُدبرون.. يتوحدون.. يتمزقون.. ينافقون ويثرثرون.. و.. و.. و.. وإلى أن ننتهي وينتهون.
سارة:ـ إننا لا نستطيع أن ننكر أن كل ما فعلته أمنا هو من أجلنا أنا وأنت وسامي.
أحمد:ـ من أجلنا وضدنا.. أو كان من أجلنا وأصبح ضدنا.. لا أدري بالضبط.. ولكن الذي أعرفه الآن هو أننا لم نعد نحتمل ما تقوم به.. لقد أخذتُ أشعر بطعم دموعها وآلامها في كل ما أتناوله.
سارة:ـ وأتلمس رطوبة دموعها في كل ثوب أرتديه.
أحمد:ـ وأسمع نواحها يرافق كل الأغاني والضحكات.
سارة:ـ وأبصرها تنتف شعرها كلما مشطتُ شَعري.
أحمد:ـ وأجد عينيها الباكيتين كلما قرأت في كتاب.
سارة:ـ وأراها نائحة في كل أحلامي بالعرس.
أحمد:ـ لقد بكت وتألمت كثيراً، وآن لها أن ترتاح.
سارة:ـ إنني أحبها يا أحمد.
أحمد:ـ جداً.. إنها امرأة عظيمة.. أم رائعة وهذا ما يدفعنا أيضاً إلى ردها.. بل علينا أن نجبرها على الكف عن عملها نهائياً مهما قد يكلفنا ذلك.
سارة:ـ ولكن بلطف يا أحمد.. بلطف.
أحمد:ـ ألا ترين بأننا قد نضطر أحياناً أن نكون قساة مع من نحب؟.
سارة:ـ إن لأُمنا ذكاءً حاداً وخِبرة كبيرة في الحياة.
أحمد:ـ وإرادة عجيبة وهذا ما يحدو بي لأن أؤكد على أن تكوني معي حتى النهاية في الضغط عليها.
سارة:ـ ولكن..
أحمد:ـ (يقاطعها) أرجوكِ يا سارة.. لم نعد نحتمل.. علينا أن ننتهي من هذا الأمر اليوم.
سارة:ـ حسنٌ.. ولكن هناك مسألة أخرى وددتُ أن..
(صوت غلغلة مفتاح في الباب. تهرع سارة إليه لتفتحه وتدخل الأم مرتدية ثوباً أسود كالعادة)
سارة:ـ أمي؟.
الأم:ـ أهلاً يا عزيزتي.. كيف حالك يا أحمد؟ أين أخوكِ سامي؟.
سارة:ـ في المدرسة وسيأتي الآن.
أحمد:ـ أين كنتِ؟.
الأم:ـ كنت حيثما كنت. لقد جلبتُ لكم اليوم غداءً رائعاً.
أحمد:ـ ثمة ما هو أهم من الطعام الآن.
الأم:ـ (متجهة إلى باب إحدى الغرف) حسنٌ سأستبدل ثوبي فقط وأعود.
أحمد:ـ (بتهكم) تستبدلينه..!.. بأي ثوب؟ بالأسود أم بالأسود الآخر؟ فكل ثيابك كالذي ترتدينه.
الأم:ـ أحمد.. ما الأمر يا عزيزي؟!.
أحمد:ـ (بألم وضجر) الأسود يا أمي.. الأسود..
الأم:ـ الأسود؟!!.
أحمد:ـ هذا السواد الذي يلفك منذ عشرين عاماً.. السواد الذي كان أول شيء أبصرناه في هذا العالم.. منذ أن كنتِ تهدهدينا صغاراً في حضنكِ.. ننام فيه ثم نستيقظ لنجد أنفسنا فيه.. هذا السواد الذي لا يعني غير الحزن والألم والدموع.. لا يُذكر إلا بالتجهم والندب والنواح.. لا يعني إلا الحزن، لا بديل.. إما البكاء بمشتقاته أو الصمت بمشتقاته.
الأم:ـ يبدو أنك قد عدت إلى الموضوع نفسه.
سارة:ـ ومتى غادَرَنا أو غادرناه لنعود إليه يا أمي؟.
الأم:ـ وأنتِ أيضاً؟!.
سارة:ـ أماه.. أرجوك يا حبيبتي.. كفاكِ ما تفعلين.. أتوسل إليكِ رأفة بنا ورحمة بنفسكِ.
الأم:ـ إن بإمكاني استبدال ثوبي الأسود بأبيض ولكن هل بإمكاني استبدال قلبي المترع بالحزن؟.
أحمد:ـ عشرون عاماً وأنتِ تنوحين فإلى متى يا أمي؟ إلى متى؟؟.
الأم:ـ إلى أن أموت.
أحمد:ـ عشرون عاماً ولم نر أحداً يدعوكِ إلى عرس أو حفل أو وليمة.. الكل يأتي ليدعوكِ إلى المآتم.. لا يَذكرونكِ إلا عندما يرون الموت ولا يذكرون الموت إلا عندما يرونك.. فلماذا؟.
الأم:ـ لأنها حرفتي.. أنا نائحة.
أحمد:ـ.. البكاء؟!.. حرفتك البكاء؟!.. وهل يحترف عاقل البكاء يا أمي؟!.
الأم:ـ الكثيرون يا بني، الكثيرون وإن لم يعلنوا ذلك مثلي.
سارة:ـ أية حرفة بائسة هذه!.
الأم:ـ بائسة حقاً.. ذلك لأن البؤس جوهرها وجوهر كل شيء..
أحمد:ـ الذي نعرفه أن الإنسان يحزن لنفسه، ويبكي لنفسه لا لكل الناس أو بالأجر.
الأم:ـ هذا يعني أنك لن تعالج الناس وإنما ستعالج نفسك فقط عندما تصبح طبيباً؟.
أحمد:ـ حرفتي تختلف.
الأم:ـ صدقني أن الحزن دواء وهو خدمة للإنسانية جمعاء.. إن البكاء دواء لأمراض كثيرة.. لأمراض أخطر من الزائدة الدودية أو الرعاف أو انسداد مجاري البول.. إنه يعالج أمراضاً لا تُعالج بالمشارط والعقاقير ووخز الإبر.. وإلا.. قل لي كيف تعالج شخصاً مصاباً بمرض الزيف، أو بمرض سُعار المال أو بمرض الكراهية والنفاق أو القسوة والاضطهاد أو..
أحمد:ـ (يقاطعها) وماذا لو كانت الدموع ذاتها مرضاً؟.. أماه لقد ضقنا ذرعاً بامتهانك الحزن.. طوال حياتنا ونحن نشعر بطعم دموعك أينما كنا وفي كل شيء نفعله.. حتى باتت تشكل لنا اختناقاً دائماً.
سارة:ـ كرهنا الدموع.. كرهناها لأننا لا نعرف غيرها.
الأم:ـ وهل نسيتم أن لحمكم هذا من ثمن الدموع وشهاداتكم وهذا البيت..؟ عشرون عاماً وأنا أندب في المآتم، وقد أندب في اليوم في أكثر من مأتم. أنتفُ شَعري وأدق على صدري، وألطم على خدودي وأنوح بأشعار الحزانى والمفجوعين لأجلب لكم لقمة العيش حتى أصبح يعرفني الجميع:.. أين النائحة أم أحمد؟ نادوا النائحة أم أحمد.. أكرموا النائحة أم أحمد..
أحمد:ـ وهذه هي المصيبة.
الأم:ـ أية مصيبة في ذلك؟.
سارة:ـ اقترنا أمامهم بشؤم الموت.. هذا الطبيب ابن النائحة، وهذه الموظفة في وزارة الثقافة ابنة النائحة.. ابتعدوا يسترنا الله. وكأننا نحن من يقبض الأرواح!.
الأم:ـ (بغضب) عجباً للناس! أليس النواح بأفضل من العُهر؟ أليس النواح بأفضل من السرقة والارتشاء؟ أليس النواح بأفضل من التملق؛ مسح الأكتاف وتقبيل الأحذية؟ أليس النواح عملاً شريفاً؟.. ثم إن الحزن ثقافة.. أجل ثقافة أصيلة، صدقيني وما الشعراء الذين ترينهم إلا نائحات مثلي وإن أبدلوا أسماءهم وأساليبهم، وإن علقوا أربطة العنق.. بل إن أكثرهم نائحات رخيصات..
سارة:ـ لقد رأيت فنانين على المسرح يُضحكون الناس في ليلة موت آبائهم.. يُضحكون الناس وأبنائهم في المستشفيات.
الأم:ـ يُضحكون الناس أم يَضحكون عليهم؟.. ثم أن الإضحاك حرفتهم.. فبإمكاني أيضاً أن أبكي الناس في ليلة زفافكِ مثلاً.
أحمد:ـ لقد تغير العالم يا أمي وتبدلت المفاهيم.
الأم:ـ أجل، أنا أكثر من يدرك هذا وهو ما يجعلني أواصل التمسك باحتراف النواح.
سارة:ـ كيف؟!.. كيف؟!.
الأم:ـ لقد تبدل الناس؛ إنهم يتشبهون بالحديد الذي يصنعونه:.. أصابعهم مفكات لوالب، قلوبهم مضخات، رؤوسهم أجهزة، عيونهم مصابيح، بطونهم مخازن، جيوبهم بنوك، بيوتهم فنادق وحبهم مصالح، آباؤهم مصالح، أبناؤهم مصالح، أزواجهم مصالح.. الحب ضمن خطة والعطف ضمن خطة والقتل ضمن خطة والشرف ضمن خطة، الاحترام والرحمة ضمن خطة.. ولكل شيء برنامج وخطة.. وفي كل شيء مصلحة. لقد أصبحوا قساة يا ابنتي لا يشفقون على بعضهم ولا حتى على أنفسهم.. سباق.. ركض.. لهاث وخوف في متاهة.. هَجر دائم لبعضهم ولأنفسهم.. ولهذا تجدينهم بأمس الحاجة إليّ.. إلى النائحة التي تخِز بقايا الحياة في قلوبهم بأشعارها وتُذكرهم بإنسانيتهم.. إنهم بأمس الحاجة إليّ.. لأنني أعلمهم دروس الحزن والبكاء التي نسوها أو تناسوها.. أساعدهم في التألم على حبيب مات.. وأُذكرهم بالموت أينما رأوني، أُذكرهم بالحقيقة الأبدية.. بالنتيجة النهائية التي سيحصلون عليها أينما ذهبوا ومهما يفعلون.. وأطمئنهم أيضاً: أن ثمة من سيبكي عليهم لأنهم يشكّون في بكاء بعضهم على بعض، وأن هناك من سيتألم لموتهم إذا ارتابوا في أن يتألم عليهم أحد ـ صدقوني إنهم مساكين جميعهم.. بحاجة إلى من يشفق عليهم ـ على الرغم من مكابراتهم بحاجة إلى من يحبهم، إلى من يمسح التقطيبة عن جباههم بكف حنون، ويطرد شبح الوحدة من أعماقهم.. بحاجة إلى من يساعدهم في تصريف حزنهم الذي يكافحونه بالهرَب واللهو والسُكر والنكات التافهة.
أحمد:ـ وحزنكِ أنتِ؟.
الأم:ـ (مُنشِدة) :
" أيتها الريح إليكِ المُشتكى
هجر الوصل زمان الفقراء.
ليس في خلجان عينيّ سوى رجع البكا
وعلى الصدر سوى لسع الدهماء "*
سارة:ـ ولكنكِ قضيتِ حياتك كلها بالبكاء يا أمي؟.
الأم:ـ يبكي الصغير عندما يأتي إلى الحياة ويبكي الكبير عندما يُودع الحياة. (وتُنشِد) :
" نولد مع ومضة برق
ويبقى وميض البرق مستمراً عندما
نموت
.. ألا ما أقصر الحياة!
المجد والحب اللذان نسعى إليهما..
هما شبحا حلم نلاحقه
والصحو .. هو الموت "**
أحمد:ـ (بتبرم) أماه.. ولكن مسألة النواح في هذا العصر..!.
الأم:ـ أعرف يا بني.. أعرف أنهم ينظرون إليها على أنها قديمة وشيء من التراث وأعرف ذلك لأن الصدق والإخلاص أصبحا من التراث أيضاً.
سارة:ـ ومن أين لكِ بكل هذه الدموع يا أمي؟!.
الأم:ـ من بحر أحزان العالم (صمت) لا أخفي عليكما أن بكائي في البداية كان على فراق أبيكم إثر موته ميتة بشعة، ولكن ـ بعد ذلك ـ وجدتُ أن كل شيء يستحق البكاء عليه.. كل شيء حتى الأشياء المنظَّمة، المقهورة في تنظيمها، وتلك الضائعة في متاهة الفوضى والتشتت أيضاً، ثم أخذتُ أكتشف أن حقيقة العالم قائمة على المأساة، حقيقة قاتمة مكفهرة حزينة، تستثير العطف والوجل. وأن الحزن ثقافة وطِب وفن وفلسفة وأخلاق.. أجل صدقوني.. بل حتى فيه مَسرّة سرية عميقة وفيه تَطهُر وغِنى وحب مجرد من المصالح والمظاهر.. وأن الحزن يعلمنا صداقة الموتى واستقبال الموت بألفة وبلا جزع.. الحزن أكثر أصالة من الفرح؛ فهو دائم والفرح طارئ وعابر ومزيَّف.. ثم أن الله لا يحب الفرحين.
سارة:ـ أماه علميني النواح.. علميني أن أرى الأشياء كما ترينها: على حزنها الحقيقي.
أحمد:ـ (ينتفض صارخاً) لا .. لا .. لا يا سارة لا تستسلمي مهما تكن حجج أمكِ مقنعة.
الأم:ـ هـه.. إنك بهذا تؤكد قناعتك أيضاً في حقيقة ما أقول وتعلن عن سذاجة تحذيرك لها في الوقت نفسه، فتبدو كمن يقول للمُبتَل بالماء: أحذر المطر، أو كمن يقول للميت: لا تخف من الموت.
أحمد:ـ أجل يا أمي فليس الحزن هو الذي يجعلنا لا نخاف الموت أو يجعلنا نلقاه بألفة كما تقولين.. بل على العكس من ذلك.. إن الحزن ما هو إلا خوفنا المرعب من الموت، وإننا حين نحزن نبدو كمن يتملق الموت أو يحاول مجاملته لكي لا يؤذيه أو يتحاشاه.. هناك أمور كثيرة ـ غير الحزن ـ تجعلنا لا نخاف الموت.
الأم:ـ (بسخرية) الرقص مثلاً؟.
أحمد:ـ ولمَ لا؟ الرقص وكل الفنون والإبداعات والأخلاقيات التي تريح ضمائرنا وتخلدنا وتحصننا من الموت حتى بعد موتنا..
الأم:ـ لا .. مُحال: إنكَ ميتٌ وإنهم ميتون.
أحمد:ـ وحتى الطب يعلمنا أن الموت شيء عادي وما هو إلا عطب بجهاز معين في جسد الإنسان.. بل حتى الموت نفسه يجعلنا لا نخاف من الموت.
سارة:ـ الموت؟!.
أحمد:ـ الموت من أجل قضية، وإلا بماذا تفسرين إقبال الأبطال على الموت بلا خوف؟ وبماذا تفسرين الابتسامة على شفاه الشهداء؟.. ألا يعني هذا أنهم لم يخافوا الموت في حياتهم ولم يُخِفهم بعد الحياة؟.. بل ثمة أشياء أخرى يومية تدعونا لأن نعيش حياتنا بعيداً عن ذكرى شبح الموت أو الخوف من الموت يا سارة.
الأم:ـ (بتهكم) الملابس مثلاً؟.. والشهادات والسيارات و..
أحمد:ـ (يقاطعها مكملاً) والأصدقاء والزواج والأبناء والعمل والسفر والحفلات والغناء والعِلم والناس والضحك والتعاون والحب والبناء والخير والأحلام و.. و.. و..
الأم:ـ لكنها جميعاً سوف تموت وأنتَ أيضاً..
أحمد:ـ وهل يدعونا هذا لأن نجلس فقط يثقلنا الحزن بانتظار أن نموت؟.. إنها قضية قديمة يا أمي.. قضية قديمة جداً؛ مشكلة ولدت مع أول إنسان ولكن يبدو أن البشرية قد اتخذت منها موقفاً بعد فيض من التجارب والمواقف.
الأم:ـ أتعني أن البشرية قد حلّت هذه المشكلة؟.
أحمد:ـ لقد اختارت أن تعيش بكل ما تعنيه هذه الكلمة: العيش.. تعيش بجدية إلى أن يأتيها الموت.. ثم أن عزاء الآباء هو امتداد أبنائهم لهم.
سارة:ـ أجل يا أمي.. ألا ترين في حياتنا امتداداً لحياتكِ؟.. فلماذا تريدين أن تجعلي من هذا الامتداد؛ امتداداً للحزن لا امتداداً للحياة؟!.
الأم:ـ لا.. صدقوني لم أفكر في أن أجعل الحزن يستولي على حياتكم، بل على العكس: إن كل ما أقوم به هو من أجل أن أبعدكم عنه.. صحيح أنني لا أرى من هذا العالم إلا وجهه الكالح، الحالك، ولكن هذا لا يكفي وحده لأن يجعلني أدق على صدري وألطم خدودي وأنتف شَعري وأسكب الدموع طوال العمر، لولا أن في ذلك أجراً أتقاضاه لأجعلكم تعيشون بعيداً عن الحاجة وإذلالها، ثم هل طالبت أحدكم بالنواح يوماً؟.. هل تركت أحدكم يبكي ولم أمسح له عينيه؟.. هل رأيتموني في البيت إلا مُشَجِّعَة، مُحِبة، مُبتَسِمة؟.. هل كلفتكم بما تكرهون؟.
أحمد:ـ نعم.
الأم:ـ متى؟.
أحمد:ـ أمس.. اليوم.. الآن.. إننا نكره أن تستمري بالنواح في المآتم، ولكنكِ تصرين على تكليفنا بتقبل ذلك..
الأم:ـ لا أريد أن أكرر ما قلناه مرة أخرى يا أحمد.. ولكن الذي عليكم أن تدركوه هو أنني مؤمنة بأن هذا العالم مأساوي وحزين.. لقد أطلعتني تجارب حياتي على حقائقه القاتمة.
أحمد:ـ ألِمُجَرد عدة صدمات قاسية تلتزمين المأساة حتى النهاية؟.
الأم:ـ تلك الصدمات كانت هي المفتاح للباب الذي دخلت عبره إلى عُري العالم الكئيب بعد أن تركتُ زينته الزائفة وستائره المزركشة وراء ظهري، فأخذتُ أرى كل شيء فيه يستحق الحزن والبكاء.
أحمد:ـ على العكس؛ فما دمنا لم ندفع شيئاً مقابل أن نحيا.. فما الذي سنخسره حين نُصدَم أو حين نموت؟.. إنني أرى كل شيء في هذا العالم هدية ويدعو للأمل والحياة..
الأم:ـ طبعاً نخسر؛ إننا..
سارة:ـ (تقاطعها) وأنا.. هل عليّ أن أعلن حيرتي أمام اقتناعي بما تقوله يا أحمد، وفي الوقت نفسه، قناعتي بما تقولينه يا أمي؟.. هل أجعل من حيرتي وحياتي حزناً أم أجعل من حزني حياة؟.. أم هل أدعوكما إلى ما أراه أنا بتردد؟.. فبكل بساطة.. أحزن لما يستحق الحزن وأفرح لما يستحق الفرح.
أحمد:ـ كلا.. بل تفرحين دائماً.. دائماً.
(طرقات على الباب)
سارة:ـ لنتَناول غداءنا إذاً.. لا بد أنه سامي قد عاد من المدرسة.
أحمد:ـ (يفتح الباب فيجد رجلاً أمامه).. تفضل.
الرجل:ـ (بعد أن يدخل خطوة واحدة) هل حضرتك هو السيد أحمد.. أخو سامي؟.
أحمد:ـ نعم.
الرجل:ـ يؤسفني إبلاغك بأن سامي قد صَدَمته سيارة إسعاف أمام باب المدرسة ومات في المستشفى.
(فيـشرع أحمد بالنواح)
--------------------------------------------------------
* شعر/ محمد علي شمي الدين/ (قصائد مهربة إلى حبيبتي آسيا).
** شعر/ أدولفو بيكر: شاعر إسباني ولد في أشبيلية (1836 ـ 1870).
------------------------------------------------
أو في
http://www.masraheon.com/481.htm

ليست هناك تعليقات: