الفن . . وطن بديل
قراءة في رواية "الفتيت المبعثر" لـ محسن الرملي
السيد نجم
تقع "المقاومة" بين "الحرية" و "العدوان".. ثلاث دوائر متدخلات، فلا حرية غير مدعمة بمفاهيم المقاومة، ولا مقاومة إلا بأفاعيل العدوان المعززة للحرية. وهى أما مقاومة "إيجابية" أو "سلبية".
أما المقاومة الإيجابية فهي المباشرة بإبراز العنف نحو الآخر العدواني، والمقاومة السلبية بإبراز العنف نحو الذات. ويعتبر "الهروب" بكل أشكاله وتجلياته ضمن عناصر المقاومة السلبية المشروعة.
والأدب العربي المقاومي معبأ بتلك الأعمال الإبداعية نثرا وشعرا. كما تعد رواية "الفتيت المبعثر" للكاتب العراقي "محسن الرملي" واحدة من ذلك النمط المقاومي، وقد نشرت عام 2000م وفازت كأحسن رواية عربية مترجمة عام 2002م. يقيم الروائي حاليا فى المنفى الاختياري له، وقد صدر له من قبل مجموعتين قصص، ورواية، فضلا عن مجموعة مسرحية واحدة.
الرواية بداية مهداه الى فتيت آخر مبعثر.. إلى: "روح شقيقي حسن مطلك لأنه بعض من هذا الفتيت..المبعثر"، وهو إهداء دال وعتبة للنص موحية.
كما رصد الروائي تحت عنوانين "متماثلين تقريبا" لرصد الرسالة التى حرص من أجلها على كتابة روايته. أولا: "صفر الروى" حيث يقول:"نحن المبعثرون فى المنافي لم نختر أماكننا الحالية، وإنما وصلنا إليها اثر انفجارات الدخان فى حجر النار الأزلية، والمترنحون اختناقا لا ينظرون:أية بقعة تطأ أقدامهم!!..". وفي الثانية: رصد الراوي أحواله بعد الخروج "الهروب المقاومى" الى حيث مجتمع تخلع فيه الفتاة الأسبانية بنطالها لتبول على قرب زجاج بوابة المترو ليلة السبت، من أثر السُكر. ثم كانت القصيدة التى ربما استوحى عنوان روايته منها (للشاعر ماهر الأصفر)، حيث تقول:
"بستان الخزف الأمثل
ـ الفتيت المبعثر ـ
آن خلخال نحاس
نحت أقراط نحاس
أن اسم المرأة المثلى
وجسم المرأة المثلى
والقماش.. شفيفين
أن من حولي بعيدون
وكفى معتمة.."
هذا المدخل الذي يعد التفاتاً إلى المناخ النفسي للعمل الروائي، غير منفصل عضويا عنه، بل قد يضيف فى الدلالة والمعنى.
تقع الرواية في عشرة فصول بأرقام من 1 الى 10، تسبقها كلمات الشاعر "قاسم حداد":
"يريدون إقناع الشعب
كم هو على خطأ
نظرة القائد هي المصيبة
إنها مصيبة ... حقاً ".
"قاسم" الفنان التشكيلي (ابن عمة الراوي)، وان كان يقتنص قوت أيامه من إصلاح الأجهزة الكهربية والإلكترونية (وهو جانب إصلاحي غير خاف عن القارئ دلالاتها)، هو واحد من عدد كبير من الأبناء لرجل قتل الضابط الإنجليزي فى شرخ شبابه، ويفهم الوطنية بطريقته، وان اختلف مع قاسم تحديدا فى دلالة الوطن.. فهما معا أبناء أخلصوا له.
الأب "عجيل" (زوج عمة الراوي) وطني بالمعنى الشائع، وربما بالصورة التى ترضى السلطة (أية سلطة). يقول فى جلساته: "أعبد وطني.. إني أعبد وطني" ص25
فيعلق الملا صالح: "إنها وثنية جديدة والعياذ بالله".. ومع ذلك فللرجل تجربته وأفكاره حول الوطنية، يكفي أنه قتل الإنجليزي "ابن الكلب". بل هو الذي قدم أسرته للوطن، وقودا للحرب فيما بعد. صحيح حدث أن ابتلع القنفذ ذات يوم وهو صغير، فتعلق القنفذ فى حنجرته وبح صوته، لكن لم تمنعه تلك الحادثة عن المشاركة، بل أكسبته خصوصية إذا ما تكلم استمع الجميع..(ويبقى لبح الصوت دلالته أيضا مع تلك الشخصية غير النمطية أو التقليدية).
أطرف ما خلص اليه الرجل أنه قسم العالم والأفعال والأشخاص الى قسمين، "نشنن" أو "غير نشنن"، تلك اللفظة التى نحتها عن نطقه الخاطئ لكلمة "ناشيونال". و"نشنن" تعنى الجيد والصحيح!
لذا فقاسم والابن الآخر "سعدي" ليسا "نشنن" لأنهما هربا من الجيش ومن الحرب. برر قاسم هروبه.. لأنها لا تنسجم وميوله الفنية، وانه لا يريد أن يَقتل أو يُـقتل، وأن الحرب التى بعث اليها تعتبر مهزلة.
أما سعدي فهو صاحب المقولة الموجزة: "شئ حلو .. شئ غير حلو"، والحرب وجدها شيئا غير حلو.. فهرب.
أما الابن "عبد الواحد" فهو "نشنن" أكيد، لأنه اشترك فى الحرب ولم يهرب، وان مات فيها، وحصل الأب على نيشان ووسام فخم، تسلمه مع تسلم جثته!. لقد التزم الابن "النشنن" طوال حياته بقوانين الحكومة، وخرج من أجل الدفاع عن الوطن والعزة والكرامة والسيادة والشرف والعزة والتراث.. خرج ولم يعد إلا جثة هامدة!
وحول محور "الوطن" و "الحرب" تدور أحداث الرواية وشخصياتها، تلك التي خاضتها العراق مع "إيران" الجيران. فقد جلس القائد أمام مجلس الأمة لأخذ موافقته الصورية على إعلان الحرب، إلا أن أحد الأعضاء البسطاء قالها ببساطة.. عندما نختلف مع جيراننا، نعلو بالسور بيننا وبينهم، وربما نضع قطع الزجاج فوقه، وربما أكثر من هذا وذاك.. لكننا لا نحاربهم. وافقه القائد، طلبه للمشاورة فى غرفة جانبية. سمع صوت طلقة رصاص، عاد بعدها الى لأخذ موافقة الأعضاء، ولم يعد الرجل !!.. لقد بدأت الحرب إذن!!!
تتوالى القتلى، ويتوالى توزيع الأوسمة مع جثثهم، والهروب من الحرب. ليتفرغ "قاسم" لفنه وعندما يرسم القلب وخريطة العراق.. يكون القلب باللون الأخضر، والوطن باللون الأحمر. وهو ما اعترض عليه الأب وبات بابا للخلاف بينه وبين ابنه، طوال الوقت. فالأب لا يرى منطق عنده يبرر أن يكون اللون الأحمر للوطن، بل هو للقلب.. أليس هو مضخة الدم؟. لكنه فى لحظة رضاء مع نفسه، يقر أن الولد قاسم وطني أيضاً.. أيا ما يكون لون ما رسمه، اكتفى بالقليل "أن أصبح –قاسم-وطنيا ويرسم الوطن"، وقال:"المهم أنها صورة للوطن"!
قبضت يد الموت زوج الابنة "وردة"، ويا لمأساة وردة الجميلة.عندما مات لم تكن تعرف إن كان زوجها رجلا يستحق الاحترام بحسب ما أخبرها به "قاسم"..أحبها أم أنه مأخوذا بالحرب، التي أخذته منها، حتى أخذته الى الأبد، لم تستطع الشابة الجميلة الصغيرة الحكم على رجولته!
أما "سعدي" الذي قبض عليه بتهمة الهروب من الحرب، ولأنه بين المختل عقليا والسوى عقليا، وضعوا تحت الفحص فى معسكر الهاربين. هناك مارس شذوذه الجنسي الذي أنقذه من المهالك!، بل أصبح من وجهاء القرية واقرانه عندما ذهب الى المدينة وأصبح رئيسا لرابطة أحباب القائد!!
..ويبقى "قاسم"/ "الفن" والحلم والأمل المجهض، يبقى حيا بين طيات الأحداث حتى تلك التى لا يشترك فيها مباشرة. كما يبقى حيا فى ذاكرة ووجدان أهل القرية كلهم، فقد تم إعدامه بعد أن حصلوا من أبيه ثمن الرصاصات النحاسية التى أطلقت عليه، وعلى مرأى ومسمع من الجميع، فوق فسحاية القرية. ولما حاول الملا صالح ستر الجثة الممزقة بعباءته، قبضوا عليه، واختفى لستة شهور.. عاد بعدها يدعو للقائد من فوق المنبر فى كل صلاة!!
كما عاد الأب "عجيل" الى نفسه، وفهم لماذا كان لون الوطن أحمر، بينما لون القلب أخضر، في اللوحة التي رسمها قاسم. قال:
" الآن فهمت اللوحة يا قاسم
نعم..نعم..فهمت يا قاسم" ص79
وتبقى "وردة" الأنثى الجميلة ليستنطقها الراوي جملتها الدالة الأخيرة، تدعو للانتقام:
"لقد جعلناه فتيتا مبعثر... سأجعله فتيتاً مبعثرا" ص89
وبعد.. ما أحوجنا إلى تلك الأعمال الفنية المقاومية الجادة !!.
-------------------------------------------
*نشرت في موقع ( ww.middle-east-online.com ) القاهرة/سنة 2003م.
*وضمن كتاب السيد نجم (المقاومة والحرب في الرواية العربية) الصادر عن سلسلة كتاب الجمهورية 2005 القاهرة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق