استنطاق (الفتيت المبعثر)
عدنان حسين أحمد
ـ أمستردام ـ
عدنان حسين أحمد
ـ أمستردام ـ
يعتمد الاستقراء الفني العميق لأي عمل أدبي على وصف النص، واستنطاقه قبل تحليله وكشف شبكة العلاقات الداخلية التي تنتظمه، وحجم المُوجهات الخارجية التي ساهمت في صياغة المبنى والمعنى، أو الشكل والمضمون، وهل ينضوي هذا النص تحت عنوان "السردية العربية الخالصة" أم أنه يحمل بين طياته جينات خارجية تؤكد إمكانيته، وقدرة مبدعه في الانفتاح على الثقافة الأوروبية، والتلاقح مع منجزها السردي في الأقل؟.
المظهر التعبيري
يقتضي تصنيف رواية "الفتيت المبعثر" للكاتب محسن الرملي على تحديد مظهرها التعبيري أولاً، فقد عدّها الناقد والروائي سلام إبراهيم "كمسوّدة رواية كُتبت على عجل، وهي على كل حال تصلح كمادة خام أولية لكتابة عمل مهم عن حياة تلك القرية المنسية من قرى شمال العراق." وقد استوقفني حقاً توصيف الناقد للرواية بمجملها على أنها "مادة خام أولية"، وهذا الالتقاطة الدقيقة تفضي إلى القول بأن الروائي محسن الرملي لم يتأنَ في كتابة النص، ولم يشتغل عليه طويلاً، بل لم يمنحه الفرصة الكافية للاختمار، ولهذا خرج كمادة خام تحتاج إلى كثير من العناية والصقل والتشذيب على رغم من أن هذه الرواية تحديداً قد فازت بجائزة أفضل عمل بالعربية مُترجَم إلى الإنجليزية لعام 2002 والتي تمنحها جامعة "أركنسا" سنوياً للأعمال المُترجَمة وقد سبق أن فاز بها كتّاب كبار من طراز جبرا إبراهيم جبرا، وإلياس خوري، وغادة السمان وآخرين. ولتوضيح رؤية الكاتب محسن الرملي، وتسليط الضوء على منهجه في كتابة "الفتيت المبعثر" لا بد من استنطاق النص عبر قراءة نقدية لمتلقٍ يزعم أنه قادر على تفجير مضمرات النص ودلالاته العصية.
إسناد الروي
تبدأ "الفتيت المُبعثَر" بالمُفتتَح المعنون "صِفر الروي" بضمير المتكلم الذي ينطوي في وجهه الآخر على صوت المؤلف نفسه، كما يختتم الرواية بفصل "صفر اليدين" بضمير المتكلم أيضاً. ومن ميّزات هذا الضمير أنه يمثل شخصية من شخصيات الرواية التي لها مواقف وأفكار وميول، وتستطيع أن تقوم بالأفعال، وتتخذ القرارات الحاسمة، وقد تحجب بعض المعلومات على وفق رؤيتها للأحداث من أجل الإيحاء أو التمهيد لما سوف يحدث لاحقاً. هذه الشخصية التي تتكلم بضمير الأنا ممكن أن تكون قريبة جداً من البطل، أو تحمل الكثير من صفاته وخصائصه الذاتية. كما هو حال الراوي في "الفتيت المبعثر" وبطل الراوية "قاسم عجيل" فمن خلال الراوي نستطيع أن نعرف المرجعية الثقافية والفكرية لكاتب النص وخالقه.
كما يتجسد هذا الضمير بقوة في كتابة "السيرة الذاتية" و"أدب الرسائل" حيث يحيل الراوي إلى شخصية المؤلف مباشرة حتى وإن تغيرت بعض الأسماء والمسميات التي تُبعِد قليلاً ولأسباب فنية أوجه التطابق بين الراوي والمؤلف.
كما استعمل الكاتب محسن الرملي ضمير الراوي كلي العلم، والذي جاء بصيغة الشخص الثالث أو "ضمير الغائب"، وكما هو معروف فإن هذا الضمير متحرر من إسار النص، أي بمعنى أنه لا يقوم بأفعال محددة لأنه ليس لديه وجود فيزيقي داخل النص الروائي، لكنه يشهد على كل الأحداث التي تقع في النص، وربما لا تشهدها بعض الشخصيات الأخر.
كما يتكتم هذا الراوي العليم بكل شيء على أفكار شخصياته، ويتستر عليها كلما استدعت الضرورة إلى ذلك. وقد شبهه بعض النقاد بأنه "عين الطائر" التي تشاهد كل شيء من علوٍ شاهق، لذلك فليس مستغرباً أن يكون هذا الراوي مدعاة للثقة من جهة، ومشاركاً في تقديم أحكام معينة، واتخاذ قرارات محددة من جهة أخرى انطلاقاً من معرفته الكلية بأسرار شخصيات النص برمتها.
ويتجسد هذا الراوي كلي العلم، والذي جاء بصيغة الشخص الثالث الغائب في روايات معروفة تنتمي إلى القرن التاسع عشر مثل أعمال جين أوستين، ونيكولاي تولستوي، وجورج إليوت وغيرهم من الروائيين الذين أحبوا هذا النمط من الرواة.
هناك أنماط أخرى من الرواة لم يستعملهما محسن الرملي مثل الشخص الثالث الموضوعي الذي لا يدخل في أذهان الشخصيات، ولكنه يصوّر ويسجل ما يمكن رؤيته، وما يُتاح سماعه فقط، وقد شبهه النقاد والدارسون بـ "عين الكاميرا" أو "المراقِب غير المرئي".
يتجلى "الراوي المتماهي بمروّيه" في رواية "الفتيت المبعثر" فهو عارف بالأحداث التي تقع في متن النص، ومُدرِك للتفاصيل الصغيرة التي تؤثث فراغاته، أو الأجزاء غير المرئية منه.
ولهذا تماهى بالمادة المروية، وأدى وظيفته بوصفه جزءاً من "المسرود" حتى وإن اختفى وراء صيغة الشخص الثالث الغائب، وتجنب الإشارة إلى نفسه، أو تأكيد وجوده الفيزيقي.
النص التحريضي
تتمحور رواية "الفتيت المبعثر" لمحسن الرملي على أكثر من موضوع كالحب والحرب والقمع والسلطة الدكتاتورية والتحريض والسجن والإعدام إضافة إلى التقاليد الشعبية.
وقد أفضى تعدد الثيمات إلى صعوبة تصنيفها، فهناك من اعتبرها أنموذجاً مناهضاً لأدب الحرب الذي كان سائداً في العراق، بينما عدّها آخرون مثالاً لأدب ما بعد الحرب، وصنّفها فريق ثالث على أنها أدب منفى، في حين أبدى محسن الرملي انسجامه مع توصيف الدكتور أحمد خريس لها باعتبارها "رواية تحريضية"، فهناك منْ يهرب من جبهات القتال، ويؤلب الناس على السلطة مثل الفنان قاسم عجيل، وهناك منْ يريد الانتقام من "البعيد الغريب" ويجعله فتيتاً مبعثراً مثل "وردة" وإسماعيل، وهناك منْ هرب أصلاً إلى جهة مجهولة احتجاجاً على الأجواء القمعية السائدة في البلاد مثل محمود، والراوي العليم الذي غادر العراق إلى إسبانيا بحثاً عن ابن عمته محمود الذي يستحق الاحترام لأنه قاوم السلطة الفاشية في الأقل، ولم يمارس دور الضحية التي قد تتخلق لاحقاً بأخلاق الجلاد فتقمع أناساً آخرين.
وعلى الرغم من الجو المأساوي الذي هيمن على عائلة الحاج عجيل، والمصائر المفجعة التي مُني بها أولاده، وبقية أبناء هذه القرية النائية التي يمكن لها أن تكون صورة مصغّرة للوطن الكبير المُبتلى بشخص "بعيد غريب" عن عامة الناس، فإن هناك منْ يحث الناس على التمرد، ويحرضهم على كسر حاجز الخوف، وقول الحقيقة المكبوتة بالفم الملآن.
كما تحاول أبرز شخصيات الرواية التخلص من مختلف أشكال القهر الاجتماعي والسياسي والبطريركي الذي يجسد السلطة الفردية للشيخ والقائد والأب على رعيته ومرءوسيه وأبنائه. ومن المفيد هنا أن نشير إشارة عابرة إلى هذا الحس التسلطي لدى والد حسيبة الذي أوشك أن يذبح ابنته بالسكين كما يذبح أية دجاجة "أدارَ وجهها، ذات مرة، إلى القِبلة، ولوى ذراعيها خلفها، داسهما بجزمته، ومد السكين إلى رقبتها ليذبحها كما تُذبح الدجاجة لولا أن توسل به المفاوضون، ووقعوا على يده يقبلونها ليتخلى عن نية الذبح.“ (الفتيت المبعثر، ص 23).
كما أوشك الحاج عجيل أن يضرب ابنه قاسم بالعقال لولا توسلات زوجته، وقبلات ابنه المجنون عبود الذي حرّك في داخله مشاعر الأبوة الثاوية وأثناه عن الوقوع في سوْرة العصبية الانفعال اللذين لا تُحمد عقباهما.
ذهنية العقل القروي وإشكالية الولاء
تعد شخصية الحاج عجيل من الشخصيات الإشكالية في هذه الرواية كونها بسيطة، ولا تتوفر على بُعدٍ معرفي يؤهلها لملامسة الحقيقة، بل أنها كانت، بوصفها أنموذجاً لشريحة واسعة من المجتمع، سبباً من الأسباب التي ساهمت في دعم الدكتاتورية، ومساندتها من دون أن تدري لأنها انساقت وراء ذهنيتها الساذجة التي لم ترَ من السلطة القائمة سوى قشورها الخارجية الملونة التي استطاعت من خلالها إغراء الناس، وتلاعبت بمقدّراتهم الفكرية.
ولو مررنا مروراً سريعاً على شخصية الحاج عجيل لوجدنا أنه قروي يتفاخر بجده الذي قتل الضابط الإنكليزي، والذي لا يكف عنه نعته بـ "ابن الكلب"، كما أنه كان يردد كالببغاء "إني أعبد وطني… إني أعبد وطني"(الفتيت المبعثر،ص 25)، وكان لا يجد ضيراً في أن يقدّم أبناءه فداءً للوطن بحسب تصوّره من دون أن يُدرك بأنهم ليسوا أكثر من حطب لنيران الحروب العبثية التي افتعلها رأس النظام، والتي لم تتوقف على مدى ثلاثة عقود ونصف العقد من الزمان. فالحاج عجيل كان يرى في استشهاد زوج ابنته فوزي في الحرب العراقية ـ الإيرانية نوعاً من الدَيْن الذي يطوّق أعناق العراقيين جميعاً، بل أنه لم يستغرب أبداً حينما جُلبت جثة ابنه عبد الواحد الذي قُتل في نفس المعركة التي قُتل فيها فوزي، فكلاهما من وجهة نظره "استشهد في الحرب دفاعاً عن الوطن."(الفتيت المبعثر،ص65).
والأغرب من ذلك فقد كان هذا الأب المغفل عائداً من اللجنة الطبية في بغداد حاملاً ابنه المجنون عبود في كيس بعد أن تعرّض للصعق بالعصا الكهربائية، والضرب المبرّح من قبل أزلام السلطة خشية أن يكون مُدّعياً، ولم يُصَب بأي مس من الجنون، في حين كان عبود يحصي لهم بطريقة ساخرة، ومليئة بالمفارقة الأعداد المحصورة بين الواحد والعشرة في إجابة عفوية عن سؤال طرحه أحد أعضاء اللجنة الطبية لتحديد سلامته العقلية.
تعرضت عائلة الحاج عجيل إلى فجائع متلاحقة، فلقد ابتلعت حرب الدكتاتور ابنه عبد الواحد، وصهره فوزي في معركة واحدة، في حين تعرّض عبود المجنون إلى الضرب والصعق الكهربائي، فيما هرب الفنان قاسم من جبهات القتال لأنه غير مؤمن بالحرب التي يشنها النظام الدكتاتوري على الجارة المسلمة إيران، كما هرب سعدي، المنحرف جنسياً، من الجبهة أيضاً، ووَضَعَ هو وأخوه قاسم العائلة تحت رحمة عمليات دهم غير متوقعة. أما القاضي أحمد فلقد اتهمته السلطة بالرشوة بعد أن رتبت له الجهات الأمنية عملية مدبرة عززتها بالوثائق المصورة، وانتهى به المطاف إلى السجن، في حين هرب محمود عبر كردستان إلى جهة مجهولة. لم تكن وردة، ابنة عجيل الجميلة، أوفر حظاً من اخوتها الستة، فلقد تزوجت أول الأمر من فوزي الذي قضى في الحرب العراقية ـ الإيرانية ولم تكن تعرف إن كان رجلاً يستحق الاحترام أم لا يستحقه على وفق الرؤية الثاقبة لأخيها الفنان قاسم الذي كان يريد أن ينتقم من "البعيد الغريب" الذي عاث فساداً في الأرض، وأن الإجازات الدورية التي كان يأتي بها فوزي كل شهر لم تكن كافية لسبر أغواره، ومعرفة آرائه بالدكتاتور الذي حكم البلاد بالحديد والنار. وحينما تزوجت من عقيل، وأنجبت له طفلة أسمتها وردة أيضاً، أصرت على أن يطلّقها لأنها اكتشفت أنه رجل لا يستحق الاحترام أيضاً، وأنه لا يفكر بالخلاص من الدكتاتور. أما زواجها الثالث من إسماعيل "الكذّاب" فقد كان يحمل بين طياته نوعاً من الأمل لأنه وعدها بأن يجعل من "البعيد الغريب" فتيتاً مبعثراً.
ففي الوقت الذي كانت تمارس فيه وردة أشد أنواع التحريض للإطاحة بالدكتاتور كان إسماعيل يستجيب لهذه التحريضات وإن كان أوارها قد بدأ من فراش الزوجية الدافئ، ثم انتقل ليطيح بالدكتاتور وشعرائه حتى ولو في الحلم، ويجعل منهم فتيتاً مبعثراً.
شعر الحاج عجيل أكثر من مرة بالتقهقر والانكسار أمام الملا صالح الذي زجره وانتقده بشده أمام الملأ واصفاً ما يقوله ويدّعيه بالوثنية الجديدة التي لا تليق برجل طاعن في السن قد يفاجئه الموت في أية لحظة. "إخرس.. أعوذ بالله منك ومن وطنك الذي تعبد."(الفتيت المبعثر، ص25) كما أحس بالخيبة حينما هرب قاسم من جبهات القتال، بحجة أن الحرب التي شُنت ضد إيران غير عادلة، وشعر الحاج بمرارة كبيرة حينما أيقن أن قاسماً يكره القائد، ولا يحب الوطن، بحسب تصوره، ولذلك فقد فرّ من جبهة الرجال، ولاذ بحضن زوجته حسيبة! كما امتنع عن رسم صورة كبيرة للقائد أراد والده أن يعلقها في غرفة الاستقبال، ويتباهى بها أمام ضيوفه في حين أن قاسماً رسم أخته وردة مئات المرات، كما رسم كل حيوانات القرية تقريباً.
ومما زاد الطين بلّة أن ابنه سعدي اللوطي المنحرف قد فرّ هو الآخر من الجبهة لأن الحرب من وجهة نظره "ليست حلوة" وأنها تمنعه من تحقيق ملذاته الإيروسية في الأدغال المحيطة بالقرية.
نقطة التحوّل
تقتصر تجربة السجن الفعلي على ثلاث شخصيات في هذا النص الروائي وهي الفنان قاسم، واللوطي سعدي، والقاضي أحمد أولاد الحاج عجيل الذي يُعَّد أنموذجاً للذهنية القروية المُضَلَلة التي لا تكتشف الحقيقة إلا بعد فوات الأوان. فالحاج عجيل كان يقسّم أولاده إلى مدافعين عن الوطن، ومناوئين له.
فأحمد المتفوق دراسياً كان "نشنِن" وهو اللفظ المحرّف لكلمة "ناشينال" التي أطلقها على جده الذي قتل الإنجليزي، وعبد الواحد وطني أيضاً لأنه استشهد في سبيل الوطن، وفوزي لا يقل وطنية عن أحمد وعبد الواحد فقد ضحى هو الآخر بروحه الزكية ولم يُدِر ظهره لجبهات القتال، أما قاسم فهو غير وطني، لأنه لا يحب الوطن، ويكره القائد، ويهرب من المعارك المشتعلة، ويؤلب الناس على التمرد، ويحرضهم على الإطاحة بالقائد الوطني! كما أن سعدي المأبون، والذي جلب العار للعائلة، هو غير وطني أيضاً، وقد زُج به في السجن لمدة من الزمن، ولكنه خرج بعفو عام، وبدأ يتحدث عن ذكرياته الرومانسية السعيدة مع مدير السجن، كما سُجن لاحقاً القاضي أحمد بتهمة الرشوة.
وحقيقة الأمر، ليس قاسم وسعدي وأحمد هم السجناء الوحيدون في هذه العائلة، فأغلب أفراد الأسرة كانوا سجناء قناعاتهم، وربما يكون الحاج عجيل هو السجين الأكبر في العائلة برمتها، إذ اكتشف خطل موقفه حينما اقتادوا ابنه قاسم بعد عملية دهم، بحثاً عن الهاربين من الخدمة العسكرية، إلى ساحة القرية وأعدموه رمياً بالرصاص، وتركوا جثته لمدة ثلاثة أيام نهباً للذباب والكلاب في الساحة قبل أن يواروها الثرى. كان هذا المشهد الفاجع هو نقطة التحول الرئيسة في ذهنية الحاج عجيل الذي رفض أن يلّبي رغبة ابنه الكبير في أن يراه، وربما يقول له بعض الكلمات التي تعيد هذا الأب العنيد إلى رشده، أو تكشف له الحقيقة الناصعة التي ظلت مخبأة عليه على رغمٍ من تجاوزه سن السبعين من العمر. لقد أيقن الحاج عجيل في وقت متأخر جداً بأن ضابط الشرطة الذي جلب له نوط شجاعة عبد الواحد هو نفسه الذي سيستوفي منه ثمن الرصاصات التي مزقت جسد ابنه البكر قاسم. وأنه لم يكن أكثر من شخص واهمٍ، كرّس حياته الطويلة لحب قائدٍ لا يستحق ذرة من الحب والاحترام. ومنذ تلك اللحظة نزع الحاج عجيل عقاله، وغاب عن حضور جلسات المقهى التي كان يرتادها كل يوم ليتحدث عن مآثر أسلافه وبطولات أبنائه.
ومنذ انطلقت رصاصات الإعدام على وجه التحديد لتخترق جسد قاسم بدأت وخزة القنفذ تؤلمه، تلك الإبرة الملونة التي انغرست في حنجرته يوم كان طفلاً صغيراً يداعب القنفذ المكوّر، وأخذت تنزف دماً ما انفك يسيل حتى فارقت روحه جسده، ثم دفنوه إلى جوار ولديه.
أما عبود المجنون فقد ازداد عواؤه، ولم يهدأ له جنب إلا عندما حفروا له حفرة بين قبري أخويه ينام فيها آناء الليل بعد أن يغلقوا فوهة الحفرة بصفيحة معدنية خشية أن تفترسه الضواري ليلاً، وفي الصباح كانت تأتي وردة لترفع عنه الغطاء المعدني وتعود به إلى البيت المفجوع.
وربما يكون الناجي الوحيد من هذه الأسرة المفجوعة هو سعدي الذي أصبح واحداً من أزلام السلطة، فبين ليلة وضحاها تمكن هذا اللوطي من أن يترأس "رابطة أحباب القائد" ويقص أشرطة المعارض مُغطياً رأسه الذي يشكّل علامة فارقة فيه بالكوفية والعقال، أما وردة فهي الناجية الوحيدة التي ظلت ذاكرتها مفعمة بالأمل والرجاء، فقد تزوجت من إسماعيل، الرجل الذي يستحق الاحترام على رغمٍ من كذبه، والذي وعدها بأنه سينتقم من البعيد الغريب عبر خطته الجهنمية، ويجعله فتيتاً مبعثراً.
تنطوي شخصية إسماعيل على أسرار كثيرة، فهو مغنٍ، وعازف ربابة، ومتنبئ شأنه شأن أبيه الذي صدقت نبوءاته جميعاً باستثناء يوم القيامة، فقد توقع حدوث الفيضان، ونهاية الحرب، ومقتل قاسم، وهروب محمود إلى جهة مجهولة، ووصول سعدي أبو راس إلى موقع مهم في الدولة، كما توقع اندلاع حرب أخرى، والعثور على عبود المجنون، وعودة محمود، الشخص الذي وصفه الراوي العليم بأنه "آدمي بلا ظل، ولكنه رقم في تعداد السكان."(الفتيت المبعثر،ص40) ولم يجد هذا الراوي أو المؤلف نفسه أي تفسير حقيقي لتبرير حجة البحث عنه بعد غاب طوال مدة الزمن الروائي في الأقل، ولهذا فقد ترك مصيره إلى نبوءة العرّاف الذي حسم النص بنهاية مفتوحة، وبشّر بعودته المرتقبة إلى بلد لا يمجد الطغاة، ولا يؤلّه الكائنات الصغيرة التي تتلاشى ما إن تنطفئ فيها جذوة الحياة.
انزياح النص وفاعلية الإحالة
تؤدي الإحالات الثلاث دوراً مهماً في الكشف عن طبيعة العلاقة المتوترة بين المثقف والسلطة القمعية في العراق. فعنوان الرواية مُقتبس من قصيدة للشاعر والفلسطيني ماهر الأصفر حيث تتكرر عبارة "الفتيت المبعثر" مرتين ضمن جو تسوده الغربة والفراغ والشعور بالنأي عن الآخرين، تماماً مثل الشعور الذي ينتاب القروي حينما يصف شخصاً ما بأنه "بعيد وغريب" بالمعنى السلبي للكلمة.
أما إهداء الرواية إلى أخيه حسن مطلك فهو يحيلنا بكل تأكيد إلى شخصية قاسم التي تتطابق تماماً مع شخصية حسن مطلك التي لاقت المصير المفجع ذاته وإن استبدل الراوي حبل المشنقة بسيل الرصاص الذي انهمر على جسده في ساحة القرية.
وتبقى الإحالة الثالثة هي الأشد وقعاً حينما تقصد الكاتب أن يضعها في مُفتتَح النص، وفي مواجهة القارئ الذي لا يستغرب حينما يقرأ هذه المفارقة العجيبة التي ترد على لسان الشاعر البحريني قاسم حداد والذي سُجن ذات يوم لأسبابٍ سياسية وفكرية حينما قال: "يريدون إقناع الشعب، كم هو على خطأ، وأن نظرة القائد هي المُصيبة.. إنها مُصيبةٌ.. حقاً!" ولا شك في أن المفارقة تكمن في التورية واللعب على معنى مفردة "مُصيبة" حيث تعني الأولى "الصحيحة" بينما تعني الثانية "الكارثة" وهو المعنى الذي يذهب إليه الشاعر.
رؤية النص بعيون أوروبية
تعرضت رواية "الفتيت المبعثر" إلى انتقادات حادة تخص المعنى والمبنى، ولم تقتصر هذه الانتقادات على كتّاب عراقيين أو عرباً، وإنما تعدتها إلى كتّابٍ أجانب.
فقد أشار الناقد الأمريكي هارولد برازوَيل في مقالته الموسومة "قراءة أمريكية لرواية عراقية" إلى ضعف الفصل الأول "صِفر الروي" الذي افتتح به محسن الرملي روايته، بل أن الناقد سلام إبراهيم كان يرى في المفتتح والخاتمة فصلين زائدين، وأن حذفهما لا يؤثر في سياق النص، ولا يقلل من أهمية شكله الفني، حيث قال برازويل "تبدو البداية فقيرة، وغير مرسومة بشكل جيد وهو ما أشك بأنه سيدفع بعض القرّاء إلى تركها."(2)، غير أن برازويل وجد هذا الحُكم قاسياً بعض الشيء، فاستدرك مُخففاً من حدة رأيه، مُعترِفاً بأن حُكمه النقدي قد يكون "حُكماً متسرّعاً وغير مناسب بالتأكيد، لأن أغلب الكِتاب يتناول عائلة محمود خلال الحرب العراقية الإيرانية."(3) كما يشدد برازويل على أن الخلل الأكبر في هذه الرواية هو بحث الراوي عن ابن عمته "محمود" والذي وصفه بأنه بلا ذاكرة، وبلا انفعال، وبلا رأس، ولا يجد تفسيراً مٌقنعاً للبحث عنه.
ولا بد من الإشارة إلى أن برازويل قد لامس جوهر النص الروائي، وأمسك بكل مضمراته وتفاصيله الصغيرة، وأدرك أن مَوطن الخلل يكمن في عدم السيطرة على مسار الشخصيات، ونموها عبر تطور الأحداث، فثمة غموض غير مبرّر في الدور الذي يلعبه محمود على مدار الزمن الروائي، وليس هناك ما يستدعي وجوده، بل أن حضوره الحيادي لا يمثل شيئاً للراوي، مثلما أن حضوره لم يكن يمثل شيئاً بالنسبة لأفراد عائلته برمتها.
الدكتاتورية وتزييف الوعي
تمثل هذه الرواية بالنسبة لي كشفاً وتعرية لدور الدكتاتورية في تزييف الوعي الجمعي للناس، وربما تكون الشخصية القروية هي الضحية المرشّحة للسقوط في الفخاخ التي تنصبها الأنظمة الشمولية، ليس للمغفلين حسب، وإنما للمثقفين الذين نالوا قسطاً كبيراً من العلم والمعرفة.
كما استطاع الرملي أن يقدّم شخصيات حقيقية نابضة من لحم ودم على رغم التناقضات الكبيرة التي تنطوي عليها مثل الحاج عجيل الذي يُعّد أنموذجاً للشخصية الشوفينية، المغالية في وطنيتها الساذجة، وشخصية قاسم، الذي يعتبر مثالاً للرائي، والمثقف الحقيقي الذي دفع حياته ثمناً لقول الحقيقة، وتأكيدها على أرض الواقع، وإصراره على لعب دور المحرِّض في سياق النص، وهو الدور ذاته الذي لعبته أخته "وردة" وحفزّت الناس للإطاحة بالبعيد الغريب، رمز الحاكم الشمولي، وأيقونة النظام المُستَبِد في العراق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشرت في جريدة (الصباح الجديد) بتواريخ 4-7 أكتوبر 2006 بغداد.
**عدنان حسين أحمد: كاتب وناقد عراقي يقيم في هولندا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق