الأربعاء، 25 فبراير 2009

لقاء 2001 / عبدالغفار سويريجي


الكاتب العراقي محسن الرملي:

نحن الكتاب العراقيون تشغلنا هموم الوطن أكثر من نرجسياتنا الذاتية

التقاه في مدريد: عبد الغفار سويريجي


يقيم الكاتب العراقي محسن الرملي في مدريد منذ موسم الهجرة الجديد. أرغمته متطلبات الحياة على أن يشتغل عاملاً كي يستطيع العيش والكتابة في مجتمع ولغة جديدين.. يقرأ ويكتب وسط ضجيج الهنود والبنغلادشيين والأفارقة والصينيين بوجوههم المتشابهة، حيث يغذي ذلك تجربته وينعش خياله وينسيه آلام الغربة أحياناً ويضاعف من اغترابه أحياناً أخرى.. من أعماله: (هدية القرن القادم) قصص 1995 الأردن/ (البحث عن قلب حي) مسرحيات 1997 إسبانيا/ (أوراق بعيدة عن دجلة) قصص 1998 عمان ـ مدريد.. ثم صدرت روايته (الفتيت المبعثَر) سنة 2000 في القاهرة. هذا إضافة إلى نتاجاته ومشاركاته الأخرى في الصحافة والتلفزيون والسينما والندوات، ومشاركته في تأسيس وإدارة مجلة ودار (ألـواح).. التقيناه في مدريد بمناسبة صدور روايته، وكان لنا معه هذا الحديث:
ـ لنبدأ حوارنا هذا بسؤال تقليدي عن بداياتك: لو سألك أحد أن تُقدم نفسك إلى القراء، ماذا تقول؟.
ـ منذ البداية كنت أتبع خطوات شقيقي الراحل حسن مطلك صاحب رواية (دابادا) الرائعة، ولأنه قد بدأ بالرسم ثم تحول إلى الكتابة، فقد بدأت أنا أيضاً بالرسم وتحولت إلى الكتابة، وأذكر أنه كان يمنحني هدية على كل نص أكتبه، كما كنا نناقش معاً الكتب التي نقرأها، وأحياناً يعطيني فكرة قصة ويمتحن كيفية كتابتي لها، أو نقترح معاً ثيمة قصة يروح كل منا بكتابتها لنقارن بعد ذلك كيف تناولها كل وفق رؤيته وأسلوبه. أما عن كيفية تقديم نفسي، فبما أن التقديم للقراء فإن الذي سيعرف بي هي كتاباتي بمختلف أشكالها، حيث تتوزع بين القصة القصيرة والمسرح والرواية والمقالة، كما أن لي تجربة في كتابة السيناريو، حيث أنجزت سيناريو طويل باللغة الإسبانية فاز مع عشرين سيناريو آخر بدعم من الاتحاد الأوربي لتطوير السيناريو من بين 350 سيناريو مقدمة، وما زال صديقي المخرج والمنتج الإسباني أنطونيو كونيسا يبحث عمن يساهم في إنتاج هذا الفلم، هذا إضافة إلى المحاضرات التي أقدمها بالعربية والإسبانية، ومازلت أواصل مع صديقي عبد الهادي سعدون مشروع إصدار مجلة (ألواح) ومنشوراتها، إضافة إلى الترجمة والدراسة في الجامعة.
ـ أسست أنت والعراقي عبد الهادي سعدون مجلة فكرية وأدبية في مدريد، كيف بدأت تجربة (ألواح) وما هي آفاقها؟.
ـ حين وصلنا إلى إسبانيا بحثنا عن مناخ أو نشاط ثقافي عربي نمارس من خلاله فعالياتنا، وبما أننا لم نجد، فقد قررنا خلق ذلك بأنفسنا وتأسيس مشروعنا الذي راح يتسع ليربط بين المبدعين الشباب بوجه خاص، بين كتاب الداخل والخارج من العراقيين، وبين مبدعي المشرق والمغرب من العرب، وبين العرب والمستعربين من الأسبان، إضافة إلى استيعابه لمختلف التجارب والأسماء بغض النظر عن توجهاتها السياسية أو مواقفها الشخصية التي هي خارج النص، فقد بدأنا وما زلنا نحتكم إلى النصوص أكثر من الاحتكام إلى الأسماء والأيديولوجيات.. ونعتقد بأن ألواح، وبعد أكثر من أربعة أعوام من مسيرتها، قد حققت الكثير عبر المجلة وسلسلة المنشورات.. بشكل فاق توقعاتنا وزاد من مسؤولياتنا وجهودنا أيضاً.. وما زلنا نطمح إلى فعل المزيد.
ـ كتبت القصة القصيرة والمسرح والمقالات، وها أنت تنشر روايتك الأولى (الفتيت المبعثَر)..؟.
ـ لاحظ بأنها كلها أجناس نثرية شديدة التقارب، ومادتها واحدة ألا وهي اللغة، أي مثل النجار الذي مادته الخشب يصنع منها أكثر من تجسيد مختلف. وعموماً فقد ساد الآن التوجه نحو النص المفتوح وتم تجاوز الكثير من الحدود بين الأجناس الأدبية، وتبقى الرواية هي أكثر هذه الأجناس مرونة وديمقراطية وأمومة وانفتاحاً وقدرة على ضم واحتضان مختلف الأجناس الأدبية وأكثر تقبلاً للتجريب، ولابد أنك قد لاحظت أيضاً في روايتي شيئاً من ذلك حيث وظفت فيها الشعر المعاصر والشعبي والحوار المسرحي والالتماعات القصصية وأحياناً حتى الخطاب الصحفي المباشر.. صحيح أنني أعشق القصة القصيرة ولكنني أزدحم بمناخات روائية يصعب على القصة القصيرة استيعابها. ولم تكن (الفتيت المبعثَر) هي محاولتي الروائية الأولى ولن تكون الأخيرة.
ـ كتبت العديد من القصص ثم انتقلت إلى الرواية، ويلاحظ بأن هذا الجنس (القص) الذي أقمت داخله لعدة سنوات، مازال (يحشر) نفسه في عالم الرواية.. ما رأيك؟.
ـ بالفعل يمكن ملاحظة النَفَس القصصي في روايتي هذه بشكل كبير، وذلك عبر التكثيف الشديد والإيجاز وطبيعة الجملة وإيقاعيتها، والاكتفاء بالعرض الجزئي أو التلميح في تقديم الشخوص.. إلخ. ولكن لا بأس في ذلك، وفق ما سبق وأن تحدثنا عنه حول ميل الأجناس إلى التمازج والتفاعل لا إلى الانفصال، وتقبُل الرواية لشتى التجارب. ويسرني أن تسجل هذه الرواية لنفسها بعض الملامح الخاصة.. حتى وإن كان ذلك بطبيعة قربها من القصة القصيرة أو حرصها على الإيجاز، وهذا عائد أيضاً لحسبان عدم ميل القارئ اليوم نحو قراءة الأعمال الطويلة، وإلى افتراض تقدم وعيه الذي لا يحتاج إلى إغراقه بالشرح والتفصيلات.
ـ يلاحظ أيضاً بأن اللغة تستعصي أحياناً على جمع شتات الذاكرة، أو تتعايش المفردة وأضدادها في الجملة الواحدة، فهل يعود ذلك إلى تجربة المنفى، أقصد نص الخارج؟.
ـ لا أعتقد بأن هذه السمة تنحصر على نصوص الخارج، وإنما نجدها في النصوص القادمة من داخل العراق أيضاً. وربما يعود ذلك إلى فداحة وهول الحال العراقي ومرارة الظروف التي مر بها العراق ومازال يعانيها، أي أن القضية التي يرغب الكاتب في التعبير عنها تفوق إمكانياته وأدواته اللغوية في أغلب الأحيان، مثلما يحدث عسر هضم في معدة تُحشى بما يفوق سعتها، إضافة إلى عدم توفر الاستقرار الحياتي والنفسي الحقيقي للكاتب العراقي، لا في الداخل ولا في الخارج. وكما تعلم فإن الرواية تحتاج إلى نوع من الاستقرار الذي يتيح التأمل واستجلاء الرؤية والمعالجة. وفي روايتي هذه تعمدت إيصال هذا الاحتباس بالصراخ وحيرة التعبير والتشتت، كما يدل على ذلك عنوان الرواية ويبرز في أسلوبها وفي شخصية الأدب.
ـ الشخوص مرايا لحياة الكاتب وحيوات المحيط.. ربما كان الكاتب محسن الرملي يتخفى تحت ظل الشخوص، نراه يحتمي حيناً بشخصية الفنان قاسم، وتارة يسكن طيف شخوص أخرى؟.
ـ على غير ما يمكن أن يُتوقع بأن تحمل الرواية أو الروايات الأولى السيرة الذاتية للكاتب أو أكبر قدر منها، فإن الهم العراقي لم يتح لنا الاعتكاف على ذواتنا والتمركز حولها، لأن قضية الوطن العراق بكل مكابداتها وأوجاعها قد هيمنت على النصوص العراقية الحالية، وهذا أمر طبيعي ويعين في محاولة الفهم ويخدم في التسجيل والأرشفة، إضافة إلى إيصال صرخات المرحلة إلى أبعد ما يمكن. وعموماً فنحن الكتاب العراقيون تشغلنا هموم الوطن أكثر من نرجسياتنا الذاتية. وفي روايتي هذه لم أكن إلا الراوي نفسه وهو يتحدث عن عائلة ترمز للعراق، مزقتها الحروب وفتتها بين الموت والمنفى والإقامة المُحاصَرة بالحزن والقهر والإحباط.. إلا أن الحلم بالخلاص سينفرد بالنهاية واضحاً. وعليه فإن المرايا التي أشرت إليها إنما وضعت لتعكس صوراً متعددة عن المحيط أكثر مما تعكس ذات الكاتب.
ـ تعد التجربة العراقية، أعني تجربة العيش تحت رحمة سلطة متحكمة، هي محور الرواية الأساسي. لقد دونت إلى جانب ذلك تجربة المعيش في فضاء مغاير لفضاء مكتوب عنه، أقصد فضاء عملية الكتابة في مدريد. ربما لأن هذا الفضاء قد شكل هامشاً من للحرية من أجل جمع فتيت العائلة/العراق.. المبعثَر؟.
ـ ما تزال الروايات العربية المكتوبة عن السلطة المستبِدة أو الدكتاتوريات قليلة، وخاصة إذا ما قارناها بروايات أمريكا اللاتينية عن هذا الموضوع والتي تتجاوز الثلاثة آلاف رواية. أما عن مسألة الحرية فإن الكاتب.. أي كاتب وفي أي مكان يستطيع أن يكتب بكل حرية ولكنه لن يستطيع أن ينشر كتابته بكل حرية في أماكن معينة وتحت ظروف معينة. وهنا فإن هامش الحرية الذي أتاحه لي الفضاء الجديد هو حرية نشر ما أكتبه إضافة إلى إتاحته لي فرصة النظر من الخارج بوضوح إلى ما كان معتماً في الداخل. وبالنسبة لروايتي هذه فيحضرني وصفاً أطلقه عليها الناقد الدكتور أحمد خريس، أجد فيه الكثير من الصحة، حيث قال بأنها " رواية تحريضية ". ومن هنا يمكن موافقتك ـ إلى حد ما ـ على القول بأنها تحاول في نهاية الأمر تجميع الفتيت المبعثَر.. وإن كانت غايتها الأولى هي وصفه أكثر من حرصها على لملمته، لأن هذا الأمر لا يتعدى كونه حلماً فيها، بينما تبقى مهمة توحيد الفتيت العراقي المبعثر لسبل ووسائل وجهود أخرى هي خارج مسؤولية الرواية.
ـ باعتبارك أحد الكتاب العراقيين الشباب، كيف ترى حال الثقافة العراقية الآن؟ وكيف يتعايش الكتاب الشباب داخل العراق وخارجه؟.
ـ وسط هذا الخراب العراقي الشامل في مختلف الميادين: الاقتصادية، السياسية، الاجتماعية، الصحية، النفسية والتعليم.. ربما تكون الثقافة، أو الأدب على وجه التحديد، هو الوحيد الذي ازداد غنى وثراء من حيث غزارة الإنتاج واتساع مساحته الجغرافية وترجمته، ومن حيث الغنى الإبداعي في الأجناس والتجريب وتنوع الثيمات والأساليب والتلاقح الثقافي.. على الرغم من خسارته لما يسمى بالتقاليد الثقافية، أي ما يتيحه الاستقرار من تتابع وتراكم وفرز إبداعي وتوالي متصل للأجيال والمراقبة النقدية.. إلا أنني أرى أن الإبداع أكثر حاجة إلى الحرية والانفتاح والانفلات من حاجته إلى التقليد أو التقاليد المؤسساتية. أما عن علاقة الكتاب الشباب في الداخل والخارج، فهي أفضل بكثير مما كانت عليه العلاقات بين مبدعي الأجيال السابقة، فهناك تفهم وتعاون متبادل بين الشباب المثقفين في الداخل والخارج، وكل طرف أصبح يتفهم ويقدر ظروف الآخر، فقد تجاوزت هذه العلاقة الكثير من حالات سابقة من الاتهامات والصراعات التي غالباً ما تكون أسبابها الحقيقية من خارج الميدان الإبداعي، أي قد تكون شخصية أو سياسية وما إلى ذلك. بينما يوجد الآن نوع من تفهم أوسع وتسامح وتقدير موضوعي لطبيعة الظروف، قادت إلى التخلي، إلى حد كبير، عن التصنيفات السياسية والمواقف الخاطئة والشخصية التي تضر بالأدب والثقافة.. ففي نهاية الأمر إن كل ما يُنتَج في الداخل أو في الخارج لكتاب صفقوا للحكومة أو صفقوا ضدها، كتابات سيئة أو جيدة.. هي كلها نتاج عراقي شئنا أم أبينا، وعلينا التعامل معها واستيعاب ظروفها وأهدافها ومرحلتها، ونقدها سلباً أو إيجاباً استناداً على النص ذاته مع الأخذ بعين الاعتبار زمان ومكان وظروف ولادته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نشر هذا اللقاء في مجلة (تموز) العدد 17 سنة 2001 في السويد. وفي موقع (نسابا).

ليست هناك تعليقات: