السبت، 28 فبراير 2009

قراءة / طاهر عبد مسلم



الوعي المأزوم في رواية (الفتيت المُبعثَر)

كاتب ينشغل بملفات سبعة أشقاء مأزومين

طاهر عبد مسلم

في قراءته للنص يذهب (بول ريكور) إلى أن بني النص ما هي إلا أطوار من المحاكاة المتصلة، محاكاة تبني أثرها في ذاكرة القارئ وهو يحيل ما يقرأ وما يشاهد إلى جذر وامتداد ما في واقع مفترض. ولذا ستؤول هذه المحاكاة إلي أطوار ما تلبث أن تلتقي عند خلاصات أرسطو في فن الشعر.
من المحاكاة انطلق في استقراء ما للوعي المأزوم استخلصه من رواية الكاتب محسن الرملي (الفتيت المبعثر)...
ومنه أشير إلى تلك الشبكة الكثيفة من العلاقات التي حشدها الرملي في نصه هذا.إذ انه يبني منظومته السردية علي قصدية في تفعيل الصور والتداعيات، وهو ينشغل تماما بالتركيز علي عزلة الكائنات الإنسانية في سياق السرد الروائي ودخول وعيها في دائرة الأزمة. فثنائية الوعي/ الأزمة هي التي تحرك الشخصيات وتحقق دافعيتها.بمثل هذا التأطير كنت أشاهد بترقب واهتمام فيلم (اسم الوردة) لأمبرتو ايكو وليس الرواية.. في الفيلم ذاك ينسحق الوعي هو الآخر في دائرة استلابية، البشر ينحشرون في بوتقة القلعة، ويتشظى وعيهم اشتاتا، ومنهم من هو ممسوخ أصلا و(محال) إلى شكل حيواني، ومنهم من تحولت (الفكرة) عنده إلى مرض اسمه وعي محتقن يكبل الذات والذاكرة. أناس طحنتهم الأزمات في قلعة مجهولة.. كأنه ماسادا غرائبية أو كأنه بيت (سايكو) المغيب المرعب.. أو كأنها مكانية الرفاق في 1984 لأرويل... كل هذه النماذج تلتقي في الوعي المأزوم وفي تحريف الذاكرة وتزييف الزمن والتاريخ وتشويه العلاقات البشرية. ففي وسط ــ اسم الوردة ــ الفيلم يكتشف الفتي المتسربل بذلك الدثار الذي يشبه دثار الشحاذين يكتشف كائنا اسمه المرأة، وكذا كان اكتشاف قاسم لحسيبة في رواية الرملي.. بالطبع أنا لست في واقع مقارنة أو إشارة إلى تناص أو تداخل لكني أقول أن الوعي المأزوم في الأشكال الإبداعية يلتقي في محاكاة دلالية متقاربة لكنها متنوعة زمانيا ومكانيا وإنسانيا.من هذا التقارب نستطلع هذا الجزء من الكون.. قرية الرملي التي يتشكل وعيها تحت محركات ثلاث: الحرب تطول / المقابر تكبر / الشرطة تقبض علي الهاربين.وفي وسط هذا (الفوبيا) الجاثمة علي الكائنات يبحث هو عن خيط يوصله لوعي ما اكثر إشراقا، وهو الراوي الباحث عن محمود.. خلاصا.. الهارب من قريته (ماسادا) المطحونة بالمحن.ووسط هذا أيضا احتشاد الأشقاء السبعة وغيرهم، هؤلاء الذين ينشغل (الروائي) بملفاتهم، ويذهب بهم أشتاتا لتقديم وعيه المأزوم: أنثوية سعدي/ شاعرية قاسم / رقة وردة / قسوة حسيبة / لهو إبراهيم... وهكذا.
وكأنه في سباق مع زمن السرد.. كأنه يريد الخروج من مأزق اسمه ذلك الوعي المختنق المأزوم ولذا فإنه يحشد حركات شخصياته ويغيب إحساسها بالتاريخ ويطمس جدلها الواقعي إلا في حدود انفعالاتها المنفلتة عن زمنها وأي قيد يحكمها ويكون نسيجا من الفولكلور والشجن العراقي والأحزان ورماد الحروب. وحتى وهو يرقب التنوير في ذات قاسم أو حسيبة فإنه ما يلبث أن يرقب شخصياته وهي تتنازل عن وعيها كما هو عجيل وهو ينسلخ من ذات إلى أخري أو كما هم جميعا وهم يشهدون قتل قاسم أو كما هي الأقوال الأقرب إلى الهلوسة والسلوكيات الحيوانية الشاذة لبعض الشخصيات (سعدي) مثلا..
كل هذا الوجود الممزق يحتشد في تلك الأرومة المتداخلة الحلقات.. لعبث في المزج بين تلاوين انطفاء الوعي وبين المستويات الرفيعة من الإحساس بالزمن والناس والتاريخ كما هي فلسفة قاسم وتجليات حسيبة ورؤى وردة..
وبسبب الوعي المثقل بالهزيمة والانكسار لا يتورع الروائي من أن يلبس شخصياته خطابا مباشرا حاميا محتشدا يردده أفراد الأزمة من الخارج، انهم هؤلاء وأولئك من البشر الذين عاشوا المحنة نفسها في شتي قري ومدن الوطن ولهذا فانه يفعل خطابا سياسيا مباشرا أحيانا وهو يلاحق شخصيات من أمثال سعدي لإدانة حالات النظام السياسي العراقي بشكل اقرب إلى المباشرة يخرج عن دوائر الوعي المأزوم إلى مقولات لا تخفي دلالاتها تتعلق بذاك الكائن الشاذ وقد اصبح ذا حظوة وسلطة.
ويكرس الروائي من جانب آخر شخصياته لتكون جوقة شاهدة على الأحداث، كالتعبير عن أفكار عجيل أو مسخ عبود او زواج وردة من رجل يستحق الاحترام.المؤكد أن النزيف العراقي الطويل يستحق جهودا روائية لا تكاد تنتهي.. وتأتي رواية الرملي شاهدة علي ذاك النزيف.. ومن المفرح أن تنال هذه الرواية جائزة من إحدى الجامعات الأمريكية.. ومن المفرح أيضا هذا الاهتمام الذي كرسته (ثقافية) الزمان لهذا المبدع الواعد بالمزيد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
AZZAMAN NEWSPAPER --- Issue 1433 --- Date 20/2/2003
*نشرت في جريدة (الزمان) --- العدد 1433 --- التاريخ 20/2/2003 لندن

ليست هناك تعليقات: