الثلاثاء، 24 فبراير 2009

مقال / حمزة الحسن


الروائي محسن الرملي ـ الحرب والفتيت المبعثر

حمزة الحسن

يثير فوز الكاتب والروائي العراقي محسن الرملي بجائزة جامعة أركنسا لهذا العام على روايته(الفتيت المبعثر) أكثر من قضية أدبية في آن واحد.
أول هذه القضايا وأهمها هو التكريم القادم من الخارج للروائي العراقي أو العربي، وعادة ما يأتي من قارئ لم تكن هذه الروايات موجهة إليه أصلا عند لحظة الكتابة، بل إلى قارئ محلي ظهر بالتجربة انه لا يقرأ شيئا، وإذا قرأ فإنه يقرأ بناءً على خبرته القديمة في الرواية التقليدية والتي لا يعرف أن الزمن تجاوزها بكثير وان هناك تيارات جديدة في هذا الفن لم يعد باستطاعة حتى الروائي المحترف اللحاق بها أو بمدارسها النقدية.
وثاني هذه القضايا هي علاقة الكاتب ـ أي كاتب ـ بجائزة، أية جائزة. هل تضيف هذه الجوائز أو تحذف شيئا من الكاتب أو الروائي؟ والجواب يتوقف على نوعية الجائزة والأهداف، ونوعية الكاتب ونصه الروائي.
والقضية الثالثة تتعلق بقدرة النص الروائي العراقي على تجاوز حدوده الوطنية وخلق فضاءات أوسع للقراءة من جمهور تشغله وتتحكم به هموم وانشغالات أخرى مختلفة.
والقضية الرابعة التي أثارتها هذه الجائزة هي إلى أي حد يشكل هذا الفوز إدانة أو صفعة أو لطمة للجمهور المحلي أو نخبه الثقافية أو ما يفترض أنها نخب فعلا وحقا وليست شيئا آخر، حين تتعامل هذه النخب أو هذا الجمهور مع الأدب الروائي العراقي بطريقة تتسم بالصبينة أو الغوغأة أو في أحسن الأحوال بالصمت أو التجاهل كأن هذا النص الروائي لا جمهور له في هذه الزمن غير حفنة من البلداء والعاطلين عن الوعي والأميين، مع أن جمهور الروائي العراقي يمتد إلى العالم العربي وهو بحكم اللغة قادر على تجاوز حدود القراءات الهامشية والضيقة إلى جمهور واسع وكبير ومؤثر، وبالتالي فإن فكرة حصار روائي يكتب باللغة العربية هي فكرة لا تصدر إلا من حشاش أو أثول.
هناك جوائز تعرّف بكتّاب، وهناك جوائز تشرّف كتّابا، وجوائز تكشف كتابا، وجوائز تخلق كتابا آخرين. لكن في حالة الكاتب محسن الرملي فإن جامعة أركنسا الأمريكية هي التي فازت به، وهو الذي شرفها، وهو الذي عرف بها، ومحسن الرملي هو الذي كشف عن هذه الجائزة في الوسط العراقي في الأقل.
وإذا كانت هذه الجائزة قد ربحت محسن الرملي، فلا شك أن هذا الكاتب كان قد قدم تضحية ما بقبوله بها خاصة في هذا الوقت بالذات، كما أن الرملي من خلال دار نشر (ألواح) التي يشرف عليها مع الأديب المبدع عبد الهادي سعدون قد قدم خدمات إلى الأدب العراقي والعربي اكبر بما لا يقارن من كل ما قدمته هذه الجامعة وهو قليل جدا ولا يتجاوز ترجمة عدة روايات لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة.
لكن ما هي رواية ( الفتيت المبعثر)؟
هنا محاولة لمعرفة طريقة تكون الخطاب الروائي باعتباره هو حامل كل المضامين الأخرى في النص وهذه محاولة لا شك غير مكتملة لأن هذه الرواية تحتاج إلى دراسة أعمق ومن جوانبها الكثيرة وفي حيز أوسع. الفتيت هو كسرات الشيء، كسرات الخبز، أو كسرات الأيام، أي الأجزاء الصغيرة من الشيء الواحد وقد تفتت. وإذا كان هذا الشيء فتيتا، فماذا يحصل لو تبعثر الفتيت؟!
هذا هو عقد القراءة الأول الذي يقول ضمنا أو تلميحا ومن خلال عنوان يشكل هو الآخر جزءا عضويا من بنية النص وليس ملصقا خارجيا، إننا بصدد قراءة رواية تتحدث عن فتيت تبعثر في كل مكان، وبلغة الرواية في نصها الداخلي تشرد هذا الفتيت.
إننا إذن أمام نص روائي عن التشرد وهذا التشرد ليس مرهونا بالخارج، أي خروج الفتيت إلى الخارج، بل نحن أمام تشرد داخل الوطن، والعائلة والقرية والحقل، والدليل هو هروب شخصيات كثيرة من الحرب في هذه الرواية داخل حدود وطنها وتشردها في الأدغال والمغاور والقبور.
ومقابل هذا الهروب الداخلي، هناك الهروب إلى الخارج حيث الراوي الذي يروي لنا هذه الحكاية عن الحرب والموت والصداقة المقتولة والحب الذي تحتل (وردة) جانبا كبيرا منه في قلوب سكان هذه القرية النائمة على ضفاف دجلة، حتى يمكن القول إن وردة هذه أكبر من امرأة وقد تفسر على أنها وطن حسب التأويل النقدي. يحاول الرملي من خلال مكون لغة شعرية روائية صافية نظيفة إحياء قرية عراقية في زمن حرب الخليج الأولى، وهذه القرية التي يتحدث عنها الراوي الهارب في إسبانيا هي كما في النص كانت الأبواب فيها قبل الحرب(مفتوحة والكلاب لا تنبح إلا على الغرباء. للأشياء هناك أسماء خاصة، الحيوانات والتلال والأواني والأحجار والغيوم..)
وهذه العذرية والبراءة والوداعة تكسرها الحرب وتحطم تلك العلاقات الحميمية التي تشكل هذا العالم النقي والنظيف. إنها ليست رواية عن الحرب، فلا مدافع، ولا قتلى، ولا هجوم أو هجوم مقابل، ولا خنادق حرب، بل أن هذه الرواية تتحدث عن انعكاسات الحرب على قرية وادعة آمنة والتدمير الخطير الذي حصل لها خلال وبعد الحرب.رغم القناع الذي حاول الرملي ان يلبسه وهو يروي هذه الأحداث، إلا أن صوت المؤلف محسن الرملي وحياته كانت موجودة في النص الروائي على نحو خفي أحيانا، جعل منه راويا للأحداث ومشاركا فيها، لكن هذا القناع لا يخفي في كل الأوقات خاصة في محطات عاطفية، وعلى سبيل المثل، إعدام الفنان قاسم في داخل القرية، وهو يذكر بإعدام شقيق محسن الرملي الروائي الشهيد حسن مطلك مؤلف رواية( دابادا) الذي أعدمه النظام خلال الحرب وكان أول روائي عراقي يطرز صدره الفاشيست بالرصاص في حين كانت صدور كثيرة تطرز بالنياشين والأوسمة.
وقناع الراوي هو أحد أساليب الحكي الروائي التي يلجأ إليها الكاتب حين لا يريد أن يكشف عن مدى التطابق بين حياته الخاصة وحياته داخل النص. لذلك لجأ روائيون عرب كثيرون إلى تقنية التخفي أو القناع وفي الوقت نفسه تحدثوا عن حياتهم الشخصية مثل جبرا إبراهيم جبرا وحيدر حيدر وهاني الراهب وغالب هلسا وسليم بركات في روايته(عبور البشروش) وحليم بركات في روايته(طائر الحوم) ونجيب محفوظ في كثير من رواياته.
وظاهرة القرين في النص الروائي إحدى تقنيات القص التي مارسها كتاب كثيرون في العالم خاصة بعد تقدم العلوم النفسية ومن بين الكتاب الذين تخفوا خلف (قرين) هم شارلز ديكنز وديستوفكسي وجوزيف كونراد وإدغار آلان بو، وغيرهم، ومن كتاب الرواية العراقيين الذين استخدموا تقنية القرين هو الكاتب سليم مطر في الرواية التي تحمل عنوان(التوأم المفقود)والتوأم هو القرين حصرا،ورواية سليم مطر في رأيي لا تتوفر حتى على شروط الكتابة الروائية وحماسة البعض لها هي حماسة ليست أدبية بل سياسية أو حزبية في أضيق نطاق.
تقنية القرين أو التوأم أو القناع هي وسيلة من وسائل الكتابة عن الذات من منطقة تختلف عن منطقة السيرة الذاتية التي يهرب منها ويتحاشاها كثير من كتاب الرواية نظرا لكونها تتحدث بلغة مكشوفة وعارية عن أكثر المواقع حساسية في المجتمع والجنس والسلطة وهي انبثاق للأنا المطمورة تحت قواعد وركام وقوانين وعقائد ومحرمات لا حصر لها، خاصة وان النقد التقليدي يركز على حياة المؤلف، في حين يركز النقد الحداثي على حياة النص من داخله بصرف النظر عن كاتبه حتى لو كان مجهولا.
إن نقد الشخص أو المؤلف لا يحتاج إلى موهبة أو كفاءة أو ثقافة أو حس نقدي أو معرفي، بل يحتاج إلى عقل فارغ، أما نقد النص فيحتاج إلى وعي نقدي ومعرفي وحس أخلاقي لذلك يتهرب كثيرون من نقد النص باللجوء إلى تقنية نقد الشخص وهو تعبير عن عجز معرفي ونقص أخلاقي لا يخفى.
السيرة الذاتية ليست إعادة صياغة حرفية للأحداث كما يتوقع بعض القراء العرب خاصة بل هي إعادة صياغة للذات من خلال ذاكرة مستعادة، أي بناء ذاكرة نصية في موازاة أحداث مضت وانتهت. وهذه السيرة تبنى بالتخيل. وكل تخيل هو لعب وخلق وإعادة بناء، وجان بول سارتر في سيرت الذاتية(الكلمات) قال قولا شهيرا عن هذه السيرة (لقد حان الوقت لكي أقول الحقيقة، أخيرا، لكن لا يمكن أن أقولها إلا في عمل تخييلي).
يختار الروائي محسن الرملي أن يروي لنا الأحداث مرة عن طريق الاعترافات الشخصية سواء عن رحلة هروبه أو عن ذكرياته في القرية، وأحيانا عن طريق فسح المجال للشخصيات الأخرى لكي تروي حياتها هي . لكن أسئلة المثقف حول العالم والمصير والخوف والموت والحب تبقى هي أسئلة الكاتب مما يجعل الشخصيات الأخرى صدى لمؤلفها، وهذا يقلص من حرية الشخصية داخل النص التي يفترض إنها تتجاوز حرية المؤلف الذي تحكمه ظروف وأوضاع وحالات.يهيمن السياسي على كل ماعداه(وهذا أمر مفهوم) سوى حكايات عن الحب والأمل والجنس تأتي بصورة عرضية دون أن تضيء المشهد كثيرا، وهذا العرض السياسي للأحداث يقلص هو الآخر من مدى عمق الرؤيا في النص الروائي. لقد قال الروائي ميلان كونديرا عن رواية (1984) لجورج أورويل ـ واسمه الحقيقي أريك بلير ـ رأيا يتسم بالحدة. قال في كتابه خيانة الوصايا (يكمن التأثير السيئ لرواية 1984في تقليصها المهول للواقع وجعله مقتصرا على البعد السياسي فقط، ثم في تقليص البعد السياسي إلى ما هو سلبي. أنا ارفض أن أسامح تقليصا من هذا النوع بحجة انه كان دعاية مفيدة ضد شرور الأنظمة الاستبدادية. إذ أن اكبر الشرور هو تقليص الواقع في الرواية إلى سياسة. إنها تقلص ـ وتدفع الآخرين لتقليص ـ حياة المجتمع إلى قائمة بسيطة من الجرائم).
إن جميع شخصيات الفتيت المبعثر انتهوا نهايات مأساوية محزنة حتى من فر إلى الخارج أو اختفى في الداخل.(إعدام قاسم /غاب أحمد/ غاب عبد الواحد في المقبرة ثم قتل في الحرب/ سفر واختفاء محمود/ مقتل فوزي في الحرب...الخ..).
تنتهي الرواية نهاية عبثية أقرب ما تكون إلى نهايات مسرحية صموئيل بيكت حين يعود الراوي أو المؤلف إلى واقعه الجديد في إسبانيا وهو يخرج من المترو ليشاهد عند زاوية الدرج فتاة يرنحها الإدمان وهي تنزل بنطالها وتبول، وعلى زجاج بوابة يقف شاب بأقراط فضية يوزع عنوان مرقص للتعرية.
إن أحد أساليب الحكي في هذه الرواية هو أسلوب التداعي، أي التذكر، وهو أمر طبيعي لشخص يعيش في منفى لا تبقى بينه وبين الأمكنة الأولى غير الذاكرة، ومن خلالها يحاول استعادة بعض جوانب تلك التجربة التي تختزن في الغالب على ما يخرب الذاكرة ويمنعها من التواصل مع المكان الجديد، وفي هذا التداعي يلجأ الرملي إلى أسلوب التداعي الطويل الأمد.
إن أسلوب التداعي يصنف استنادا إلى طوله، وحسب الروائية الأمريكية نانسي كريس، فإن أصناف التداعي ثلاثة وهي:
أولا: الطويل الأمد.
ثانيا: التداعي المتوسط الطول.
ثالثا: التداعي القصير.
الأول، أي الطويل، حسب الكاتبة، هو الذي يستمر على مدى القصة والرواية ويسمى أيضا بإطار القصة. الثاني، المتوسط، هو اكثر الأشكال شيوعا، يستمر على مدى مشهد واحد أو مشهدين أو عدة فصول. أما الثالث، القصير، فيستفاد منه لإعطاء عمق على الشخصية وتوضيح الوضع.
في رواية الفتيت المبعثر كان التداعي المستعمل هو الطويل الأمد الذي لم ينته إلا في الصفحة الأخيرة تلك النهاية العبثية. وهذه التقنية مناسبة تماما لرواية تدور عن المكان المبعد والمقصي والمستعاد من خلال الذاكرة والكلمات. إن اللعبة الأساسية هنا هي التخيل. والتخيل ليس استعادة حرفية للأحداث والشخوص والوقائع والأماكن، بل هي محاولة لإعادة بناء ذات وقرية خربتهما الحرب والسياسة من خلال ذاكرة رجل منفي، وكل ما وقع للقرية من دمار وقع في نفس الوقت لذات الراوي الهارب. أي أن الخراب يمشي بالتوازي.
لكن هذا الراوي الهارب لم يهرب من الأمكنة القديمة لأنها تعيش في داخله في كل مكان وتحذف من كثافة حضور المكان الجديد الذي يظهر كصورة أو ديكور لحياة رجل كتب عليه أن لا ينجو أبدا من فتيت الذاكرة المبعثر.
يقول اندريه جيد عن خطورة الإقامة في المكان الواحد (ليس هناك شيء اكثر خطورة عليك من عائلتك، من غرفتك،من ماضيك...عليك أن تتركها). لكن اندريه جيد لم يكن هاربا من هذه الأمكنة، ولم ينتزع منها بالقوة، بل تركها بنفسه ولم يأخذ هذا الفراق شكل الحرج أو الإهانة.
هل تستطيع هذه الرواية الجميلة والممتعة أن تعيد بناء وجمع القرية وفتيتها الذي توزع بين المقابر والمنافي والسجون؟.
هل يستطيع الرملي أن يكتب لنا رواية أخرى عن عودة هذه الفتيت إلى مدن وشوارع وقرى محرومة من النوم والخبز والحرية والضحك وزمن الأراجيح؟.
وأخيرا، مبروك لجامعة أركنسا الأمريكية، بفوزها بالروائي محسن الرملي!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*حمزة الحسن: روائي عراقي يقيم في النرويج. http://www.hamza.ws
*نشرت في موقع (الحوار المتمدن) بتاريخ 2003 / 1 / 24

ليست هناك تعليقات: