القاص محسن الرملي:
ثمة وقت للحياة ووقت آخر للشهادة على الحياة
حاوره في عَمّان: جواد الربيعي
بعد بضعة أيام من وصوله إلى عمان قادماً من مغتَربه في إسبانيا، ارتأت جماعة "الحافلة 97" التي أعيد تشكيلها في الأردن أن تقيم للقاص محسن الرملي أمسية احتفائية بمناسبة زيارته التي تزامنت مع صدور مجموعته القصصية الثانية عن "دار ألــواح" بالتعاون مع "دار أزمنة للنشر والتوزيع".. وكانت تحت عنوان:"أوراق بعيدة عن دجلة".
أقيمت الأمسية في رابطة الفنانين التشكيليين الأردنيين، وحضرها حشد من المثقفين العراقيين والأردنيين، وأدارها الشاعر سليمان جوني. وتحدث فيها القاص ورئيس تحرير مجلة "ألـواح" محسن الرملي، الصادرة في إسبانيا بالاشتراك مع القاص عبدالهادي سعدون، عن تجربة إصدار مجلة "ألـواح" الأدبية.
القاص محسن الرملي. ولد عام 1967 في قرية سُديرة شمال العراق. يدرس لنيل شهادة الدكتوراه في الأدب الإسباني. التقيناه بعد هذه الأمسية فكان لنا معه هذا الحوار:
*عن "قَشة الكتابة".. كما أسميتها، التي لم تنقذ الغريق، وتجربة إصدار مجموعتك الثانية.. هل الكتابة حقاً لم تنقذ الغرقى؟!.. إذن ما سبب الإصدار والتمسك بهذه القشة؟.
ـ لا شيء ينقذ الإنسان من الغياب والموت إطلاقاً رغم كل محاولاته، وعلى امتداد التاريخ، وقد اجتهد الإنسان كثيراً، ومنذ بدء الخليقة، في سبيل إيجاد إجابات عن أسئلته الوجودية أو القيام بفعل ينتصر به على الموت والفناء، ويبدو أن النتيجة دائماً واحدة؛ ألا وهي ما توصل إليه "كلكامش" في الاتجاه إلى العمل والبناء والتمتع بالحياة.
من هنا أجد أن الكتابة فيها الكثير من هذه الأشياء.. إنها إحدى الممارسات الجادة ضمن محاولات إعطاء معنى لغموض الوجود.. أو على الأقل لتسجيل مرورنا فيه وشهادتنا عليه. الكتابة محاولة لإعطاء معنى لحياة الكاتب ذاتها سواء على صعيد العيش أو تسجيل تجربة هذا العيش، وأذكر قول البير كامو:"ثمة وقت للحياة ووقت آخر للشهادة على الحياة".
هكذا أواصل أنا محاولات التمسك بالقشة/الكتابة، توثيقاً واستطراداً لتيار الوعي، وتجميلاً للجرح الغائر في الذات.. وكما ذكرت في الورقة التي تصدرت مجموعتي الجديدة:"الكتابة.. تلك القشة التي أوهمت الغريق بالإنقاذ"، ولكل منا قَشته.
*وعن واقع الكتابة واللعب على ذاكرة المفردة، ما مدى اشتغالك في والأسّلبة والتجديد في فن القص؟.. وهل ثمة تغير في الأسلوب الحكائي في مجموعتك الثانية "أوراق بعيدة.." عن مجموعتك الأولى "هدية القرن القادم؟.
ـ نعم هناك فرق كبير بين المجموعتين وعلى أكثر من صعيد، فالأولى كانت عراقية خالصة من حيث المضامين والمفردات وانعكاسات أوجاع الحرب.. وحتى تشوهات رؤيتي تجاه ما كان يدور حولي في الداخل. أما على صعيد الفن فالأولى كانت أكثر التزاماً بعناصر القص التقليدية مثل بداية ووسط ونهاية وغيرها.. ولهذا أعتبر "هدية القرن القادم" تجربة ضرورية في حينها قد تكون شبيهة بتلك الضرورة التي تحدث عنها البعض من أن على الشاعر أن يبدأ أولاً بمعرفة العروض والوزن والكتابة العمودية والقوافي قبل انتقاله إلى تجارب الشعر الحر أو القصيدة النثرية.. وهكذا فقد ارتكزت تجربتي الكتابية على أسس متينة وصلبة. أما فيما يتعلق بمجموعتي الثانية فقد استفدت كثيراً من تجاربي الحياتية بعد خروجي من الحرب بأعجوبة وبعد مواجهة لحظة الموت لأكثر من مرة، ثم رحيلي خارج الوطن وتنوع المدن أمامي وتعددت العواصم التي عشت فيها والثقافات التي عرفتها، وكان احتكاكي بها مباشراً، إضافة إلى ما قرأته بالإسبانية.. كل ذلك أغنى معرفتي بفن القصص وحررني من ربقة المفاهيم العتيقة السابقة. هذا بالإضافة إلى تمتعي بشيء بالغ الأهمية لكل مبدع ألا وهو "فضاء الحرية" الشرط الأساس للإبداع الصادق والتفوق والعطاء.
*إذن، ما مدى تحررك من المكان، حيث أرى المكان يلاحقك بذاكرة مشحونة بمناخات الوطن والحنين إلى الديار رغم محاولاتك في بعض النصوص لتشظية المكان في آفاق الهم الوجودي؟.. وكيف ترى تقبُّل الإنسان العربي والغربي لأسماء ومناخات ذاكرة المكان العراقي؟.
ـ لا خلاص من تركيبة الذاكرة المليئة بشظايا المكان، ولا يمكن التحرر ـ بشكل كامل ـ من عصف كوابيس الوطن. لقد عشقنا المكان وعشناه حتى اقتربنا إلى حافة الموت.. ثم كتبناه.
والذي أدهشني وأسعدني في تجربة مجموعتي الثانية أن القارئ العربي والأجنبي كان يتفاعل معها وتصل إليه تماماً رغم احتشاد القصص بمفردات وأسماء أماكن وشخصيات وعادات عراقية خالصة، وقد تلمست ذلك بوضوح لأنني كنت أترجم بعض قصصي إلى اللغة الإسبانية قبل نشرها، وأعرضها على أصدقائي الأسبان فكانت تصل إليهم كما أردتها، وكذلك الأمر بالنسبة للقارئ العربي تجاه إدخال المسميات والإشارات المتعلقة بخصوصيات إسبانية صرفة.. وأعتقد أن تفسير ذلك يعتمد على أن النصوص كانت تخلق مناخاً قصصياً داخلياً صادقاً، وأن ثمة ربط حميمي بين المشاعر والأماكن عبر طبيعة العلاقة بين الكلمة والتعبير، فأنا أعتقد بوجود علاقة قصصية بين مفردات القصة مثلما ثمة علاقة شعرية بين كلمات القصيدة.
*إسبانيا.. الفردوس المفقود، الأندلس، ما مدى ضغط التاريخ على ذاتك وأنت تجوب شوارعها وتحتك بالمواطنين الأسبان في مغتربك هناك؟.
ـ بالنسبة لي لا أزعم ما يزعمه البعض من العرب تجاه ضياع الأندلس كفردوس مفقود. صحيح أن الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس كانت حضارة راقية وما زالت معالمها شاخصة حتى الآن، ولكنني أرى أن نلتفت إلى إشكاليات قضايانا وواقعنا الحالي ونعمل على معالجته وإنمائه أكثر من الحلم بـ"فردوس مفقود!" لذلك تجدني في مطلع قصة "أوراق بعيدة عن دجلة" أقول:"قرفتُ غرناطة وسيل طنين الحنين العربي الزائف إليها". وأردد قول محمود درويش:".. ندعو لأندلسٍ إن حُوصرت حلب". وهكذا فأنا أتعامل مع الأماكن بموضوعية وواقعية وبحنين جارف تجاه الأماكن العراقية وليس سواها لأن العراق هو الذي يهمني وليس الأندلس، فالأندلس الآن إسبانيا، وهي تعيش الآن بخير وبحال أفضل من بلداننا العربية لذا لا أفهم كيف ينادي البعض باستعادة الأندلس وإنقاذ "الفردوس المفقود!".. فلننقُذ فلسطين أولاً أو العراق أو الجزائر.. وغيرها.
*تجربتك في مجلة "ألـواح" الأدبية التي تترأس تحريرها مع القاص عبدالهادي سعدون، هل لك أن تتحدث عنها وعن مديات تطورها؟.
ـ مجلة "ألـواح" كانت حاجة ماسة لعوامل عديدة، منها؛ خلو إسبانيا من مجلة ثقافية عربية جادة، إضافة إلى شعورنا بضرورة نقل ما يحدث في الساحة الثقافية الإسبانية إلى القارئ العربي، وكمحاولة أيضاً لإيجاد قناة تواصل بين الأدب في المغرب العربي والمشرق، وخاصة فيما يتعلق بإبداعات الشباب الجدد الذين يبحثون عن منافذ لإيصال أصواتهم. العامل المهم الآخر هو إيصال أصوات المبدعين الشباب من داخل العراق إلى الخارج، هؤلاء الذين تكاد أن تختفي أصواتهم بسبب ضخامة ضربات طبول الحروب والحصارات وغيرها. وكذلك لخلق حالة التفاعل بين أدباء الخارج مع أدباء الداخل.. كل ذلك وفق مبدأ التعامل النقي بعيداً عن إهدار الطاقات في تبادل الشتائم والتكتلات والتحزبات. إن "ألـواح" تشبه دعوة صادقة إلى إعادة الاهتمام بدور الثقافة الجادة لما لهذا الدور من أهمية كبيرة في إضاءة سبل متنوعة للخَلاصات والتعامل مع أزماتنا الحالية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشر في جريدة (الزمان) العدد 120/الثلاثاء 8/9/1998م ـ لندن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق