حياة محكومة بالقصف المؤبد
ولد جلال الأفغاني تحت القصف الإنكليزي وأحب فاطمة تحت القصف السوفيتي ومات معها في ليلة عرسهما تحت القصف الأمريكي.. لقد عرفت حكايته من ابن عمه هنا في مدريد حيث نعمل معاً في مخزن تاجر صيني.
* * *
شارك والد جلال الأفغاني بقية رجال القرية في حفر ملاجئ بين بيوتهم الطينية بعمق متر ونصف وبحجم غرفة، سقفوها بصفائح الزنكو وغطوها بالتراب وغرسوا فوقها بعض الأشواك ثم أمروا عائلاتهم باللجوء إليها عند سماعهم أزيز الطائرات، وغادروا إلى المغارات في الجبال كي يحاربوا الإنكليز.. وبعد أسبوعين من ذلك جاء جلال إلى هذا العالم، ولدته أمه في الملجأ المجاور للبيت حين كانت الطائرات تقصف معسكراً لتدريب المحاربين في أطراف القرية، ساعدتها نساء الجيران اللاتي كن معها في الملجأ على ضوء قنديل زيتي وسط التحديق الصامت للأطفال بين ساقيها حتى خرج جلال باكياً فبكوا لبكائه وهم يرونه مصبوغاً بالدم لكنهم ضحكوا بعد لحظات حين رأوا الفرح على وجوه النساء وابتسامة أمه التي كانت تتعذب قبل قليل فيما توزع عليهم الآن قطع حلوى من كيس سحبته من تحت وسادتها..(هنا توقف ابن عم جلال عن القراءة وقال لي: إنك تخلط بين مولد الابن ومولد أبيه، فوالد جلال هو الذي ولِد في الملجأ تحت القصف الإنكليزي وأن جده هو الذي حاربهم حتى الاستقلال، أما جلال فقد ولد في الملجأ نفسه ولكن تحت القصف السوفيتي) فحين صار جلال بارتفاع البندقية كان الإنكليز قد رحلوا وعاد والده كي يأخذه معه لرعي الأغنام، وهناك في البرية يحدثه عن تاريخ بلاده أفغانستان وأجداده المحاربين ويعلمه الصيد وفنون القتال، الاختفاء منبطحاً أو مقرفصاً في حفرة أو خلف صخرة أو وسط الدغل ثم التصويب على الهدف بإغلاق عين وفتح الأخرى الملتصقة بالبندقية والإطلاق. فكانت مؤخرة البندقية ترفس كتفه عند إطلاقها وتقلبه على ظهره إذا كان مقرفصاً.. بكى بعد رصاصته الأولى وشعر بأن كتفه قد خُلعت وصوت الإطلاقة صم أذنيه.. فأنبه والده لذلك (لأن الرجال لا يبكون) ثم صنع له بندقية من خشب لكنه كان يريد بندقية تطلق الرصاص يصيد بها الطيور والغزلان ويبعد الذئاب المغيرة على أغنامه ويتحداها بكتفه فأهداه والده ما أراد بعد أشهر.. حيث راح يرعى الأغنام بمفرده.. واختفى والده مرة أخرى كي يحارب السوفيتيين هذه المرة، وأعادت النساء تنظيف الملاجئ التي تحولت بعد رحيل الإنكليز إلى مخازن للأشياء القديمة ولعلف الحيوانات أو بيوتاً للدجاج.. غاب والده لأعوام طويلة كان جلال أثناءها يكبر ويحل محله بسيادة البيت ورعاية أمه وشقيقتيه والأغنام ويزداد دقة في إصابة الأهداف ببندقيته التي صارت لا تنفصل عنه حتى في نومه فيما راح مع أمه يؤثث البيت ويزينه مثل بقية أهالي القرية بمخلفات الأسلحة. في زوايا غرفة الضيوف تقف الأغلفة الأسطوانية الفارغة لقذائف المدافع والدبابات بلونها النحاسي وفيها باقات من الورد صنعتها أمه من الصوف ولونتها بعصير النباتات، وعلى الجدار، في الواجهة، صاروخان لم ينفجرا لقاذفة أر بي جي يحيطان بسيف الجد ودرعه على شكل يد بثلاثة أصابع تحمل صورة بالأسود والأبيض لوالده حاملاً على صدره شريطين متقاطعين من أحزمة الرصاص، وخلف الباب علقوا حقيبة عسكرية ليضع فيها الضيوف حاجياتهم قبل النوم فيما فرشوا من بوابة الحوش إلى باب الدار سرفة دبابة لتكون جسراً للعبور عليها وسط طين الفناء أيام المطر. وفي منتصف الغرفة أوقفوا سبطانة مدفع غليظة بمثابة عمود يحمل السقف وفي الوقت نفسه مدخنة لموقد الجمر.. لقد كبر جلال وبزغ أول الزغب في شاربيه ولم يرجع والده فيما لم ينقطع قصف الطائرات السوفيتية للجبال المجاورة وعبورها مخترقة ليالي القرية بالدوي والقذائف أحياناً فكان لذلك الفضل في عشقه لبنت الجيران فاطمة حيث دخلت مع أخوتها راكضة في ليلة حالكة والملجأ بلا قنديل فجلست في حضنه.. شعرها على وجهه ومؤخرتها على فخذيه، نسي لحظتها القصف ووالده وتدافُع الآخرين حوله وهو ينتبه إلى شساعة الفرق بين طراوة مؤخرة فاطمة وصلابة مؤخرة البندقية ومع ذلك يشتهيهما بالقوة نفسها، لكن فاطمة تململت سريعاً في محاولة منها للجلوس على الأرض فأعانها على ذلك بأن رفعها من خاصرتيها قابضاً على أعلى مؤخرتها شاعراً برعشة عذبة نصبت ما بين فخذيه مفتوناً بملمسها وسارعت من دقات قلبه، تماماً كما حدث له عند أول رصاصة أطلقها. وبعد أن جلست ملتصقة به وفخذها فوق فخذه لضيق المكان سألها هامساً: هل أنت وأخوتك بخير يا فاطمة؟ فجفلت وأجابت بارتباك: أوه.. نعم. تململت لكنها لم تغير من جلستها.. بل راحت في الليالي اللاحقة تتعمد الجلوس جواره وشيئاً فشيئاً أخذ كفيهما يتشابكان وتتسلل كفه الأخرى إلى خصرها وإلى نهديها وصارا ينتظران مرور الطائرات في سماء القرية كل ليلة وفي الصباحات ينظران إلى بعضهما خلسة من وراء الحائط الذي يفصل بين بيتيهما ويتعمد هو أخذ أغنامه كي تشرب من عين الماء التي تذهب إليها فاطمة لغسل الثياب.. وهكذا بقيا لأعوام على علاقتهما سراً حتى انسحب الجيش السوفيتي وتوقف القصف ومرور الطائرات، وعادت الملاجئ لتصبح مخازناً للأشياء القديمة ولعلف الحيوانات أو بيوتاً للدجاج ولم يرجع والده. حكم الطالبان البلاد وكبرت فاطمة فوضعت البرقع ولم يعد ير وجهها فقرر الزواج منها. حدث والدته بالأمر ففرحت وحدثت والدة فاطمة ففرحت وقررا أن يكون العرس في الصيف القادم فكان جلال وفاطمة يحصيان الليالي بانتظار ليلة عرسهما لذا لم يؤجلاه على الرغم من اجتياح قوات التحالف لأفغانستان محيلة البلاد إلى جحيم لإزاحة حكم الطالبان عنها، فكان عرسهما مناسبة لفرح القرية ونسيان الحرب قليلاً.. لذا اجتمع كل أهل القرية في الساحة الكبيرة خلف بيته وارتدوا أنظف ثيابهم وتعطروا بمساحيق الأعشاب والورود، أوقدوا الفوانيس في كل محيط دائرة الساحة ثم أضرموا ناراً كبيرة في المنتصف وراحوا يدبكون حولها على إيقاع الطبول والمزامير.. وفيما كان الأطفال يلعبون بجذل حول دائرة الراقصين والصبية ينظرون إلى البنات ويبتسمون كانت النساء تقذف حفنات قطع الحلوى عالياً فوق رؤوس الأطفال فيتلامع ورقها الملون على نور النار ويطلق الرجال كالعادة رصاص بنادقهم إلى السماء فيخترق قطع الحلوى وترافقها زغاريد الأمهات، حامت طائرتان أمريكيتان بي52 وسي130 مرتين فوقهم ثم عادتا ثالثة ورمتا قنابلهما عليهم فقتلت أربعين من بينهم العروسين جلال وفاطمة، وجرحت 120 آخرين أكثرهم من النساء والأطفال الذين اصطبغت قطع الحلوى التي في أكفهم بدمائهم دون أن يتركوها.. وفي الصباح قال العقيد الأمريكي روجيه كينغ لصحافة العالم:" لست أدري ما كان يجري في هذه القرية.. كل ما أعرفه أن أشخاصاً كانوا يطلقون النار".. ويقذفون طائراتنا بحفنات لامعة.
------------------------------
*من ضمن كتاب (ليالي القصف السعيدة).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق