في ليالي القصف السعيدة ..
محسن الرملي يؤرخ وجع أرواحنا
زهير كاظم عبود
يتمكن القاص العراقي محسن الرملي من استثمار مفردات يوظفها لصالح نصوصه القصصية فيستغلها ويستنطقها ويأولها ويؤسس عليها الخطوات الأولى التي يقوم عليها البناء القصصي لمجموعته الجديدة (ليالي القصف السعيدة) الصادرة عن دار سنابل للنشر والتوزيع في القاهرة2003.
اللغة الجريئة التي يعتمدها القاص محسن الرملي وقدرته على الولوج الى عمق الصورة المنقولة في قصصه إضافة الى تمكنه من ألتقاط اللحظات الدقيقة في يوميات حياة الناس خلال الحرب والقصف، إضافة إلى تمكنه من التقاط المشاعر المتوزعة بين شخوص رواياته التقاطا فنياً متنوعاً، بالرغم من أن المحور العام للقصص المتوزعة في هذه المجموعة مؤسسة على نفس الثيمة.
ويكاد أن يكون لمفردة (القصف) معنى واحد ومفهوم واحد لكن جميع أهل العراق يشتركون في معرفتها أو ترقبها أو تخيلها فقد ذاقوا مزاراتها وتلوعوا في لحظات ترقبها، وأرعبهم لحظة تماسها مع بيوتهم أو أرواحهم وأجسادهم الوجلة والمترقبة في لحظة الخوف.
ومحسن الرملي الذي بدأ تجربته القصصية بمجموعته (هدية القرن القادم) الأردن 1995 و(أوراق بعيدة عن دجلة) أسبانيا 1998 و(الفتيت المبعثر) القاهرة 2000 والتي حازت على جائزة أركنسا الأمريكية باعتبارها أفضل عمل ادبي عربي مترجم الى الإنكليزية ، إضافة الى إصداراته المسرحية (البحث عن قلب حي)، قدم لنا هذه المرة ليالي مليئة بالشجن والإرهاصات والدقائق التي عرف كيف يدخل بها الى عقولنا، ونقلنا دون أن ندري الى قرية (فارة) و(سديرة) وفي محيط هذه الدائرة يحول أوجاعنا الى مفردات وسط المحنة العراقية واكتظاظ الناس المتجمعة في أماكن ضيقة بأنتظار قدرها وقصفها الوعود.
في مجموعته ليالي القصف السعيدة يقوم الكاتب بتقسيم مجموعته الى كتابين، الكتاب الأول كولاج سردي عن (كتاب القصف) ويتوزع فيها الكاتب بين المشاعر والمخاوف وتوظيف اللحظات الدقيقة لتاريخ القصف بين طفولة الدنيا حيث يسرد بشكل موجز ومختصر ورمزي كل التطور التاريخي للبشرية، وعلى مقولة الشهيد الراحل حسن مطلك يؤسس مراهقة الدنيا حيث يتكأ على كتاب سفن لند كفيست (تاريخ القصف) فيستل منه ما يفيد توظيف التاريخ لصالح اكتمال المشهد القصصي.
لكنه يعود إلى قريته وتحت أجواء الرعب والظلمة والخوف من القصف يستل كلمات قصته شيخوخة الدنيا، وعن القصف ومعانيه ومفردته وتنوع معانيها وخلطة تبديل الكلمات والأشعار والمفردات ويكلل هذا باستغلاله رسالة من صديقه الأديب الحقوقي محمد بن مكرم من مصر ليتحدث له بإسهاب طريف ودقيق عن تطرق الشعراء العراقيين الى هذه المفردة ومعاني الكلمة وتفكيكها في قواميس اللغة واستعمالاتها العربية المختلفة.
أما الكتاب الثاني والذي أستل القاص محسن الرملي عنوان المجموعة منه فيؤرخ القصف في غرفة أمه ثم تتسع دائرة القصة لتشمل سلطان والأستاذ موسى ومحنة الحمار الذي سكر تحت قصف التحالف.
وينجح الرملي في محاولته هذه من أن يجعل القارئ مشدوداً ومشدوها لمدخل قصصه ومن ثم متابعة أحداثها بتشوق وبمتابعة لاتقطعها كل أشغال المرء أو مواعيده، فهو يأخذ أنفاسك واهتمامك لتجد نفسك أنك تدور معه لتستمع له وهو يتحدث عن القصف ودار العدالة المائلة وحظ أم سلمان التي مال عليها جدار المحكمة في حين بقيت العدالة مائلة ليس في كركوك وحدها وأنما عمت البلاد.
في قصص محسن الرملي تشعر أنه استطاع أن يفتح لنا منافذ وحكايات يمكن أن نكون نحن أبطالها ويمكن أن نختلف معه لكنه يتحدث لنا عنها بحميمية متناهية وصدق المشاعر واعترافات البسطاء دون مواربة أو حياء تغلفه كلمات غيره من الكتاب الحذرين، محسن الرملي لم يزل يفتح لنا مجرى ذكرياته العذب والمنساب يسرد علينا ما كابده الناس وما أوجعهم من مجامر الروح العراقية المولعة بالقصف والحزن والانفجارات والتي لا تدري الى أين المفر؟؟.
في مجموعة القاص محسن الرملي تتلمس تطور اللغة والإمكانية التي ينتقل بها الرملي قفزاً الى الصدارة في مجال القصة القصيرة، فذاكرته لم تزل خزينا ثراً من القصص الممتلئة بأحاسيس الناس وحركة البسطاء الطيبين من أبناء العراق، ومن ثم نجاحه في توظيف معاناته الإنسانية وترحاله وابتعاده عن الوطن وحياته في بلاد الأسبان مما يشكل له خزينا معرفياً تم توظيفه كله لصالح النص القصصي، لذا فأننا نشعر بالتطور الفني والتقني وجمال اللغة المنسابة بين سطور قصصه وحيث تجد تأويلاً لمعنى ما في قصصه فثمة رمز يريد الرملي أن يؤشر عليه، وإذا كان يتحدث لك عن قريته (سديرة) فأنه يريد أن يختصر الوطن بحدودها، وحين تحاصره المحنه يرسم أسم الشهيد حسن مطلك كرمز متجسد لعطاء الروح في ظل الحاصب أو القاصف أو في ظل الرعد ودوي الانفجار والصعق والبريق فكلها تخشع منها الروح في بلد نائية مثل (سديرة).
وبين ثنايا القصص التي يؤرخ فيها القاص محسن الرملي محنة الناس تجد علامات كثيرة تشير الى الوجه الأخر من محنة الناس والوباء الذي ينخر أرواحهم، ومع هذا لا يترك أي إحساس أنساني يشعر به الناس دون أن يقوم بتوظيفة واستغلاله، وهذه مقدرة أن تستل من بين حفنة الأحاسيس ما تشترك به الناس في أدق تفاصيل أعمارها وأيامها فتفاصيل ما يدور في قصة (القصف في غرفة أمي) تفاصيل دقيقة لأحاسيس إنسانية نسمع فيها شهيق أنفاسهم ورائحة فساءهم وضحكاتهم وعبق بيوتهم الطيبة و وجعهم الآدمي بتحمل كل هذا العذاب دون أن يعرفوا أن الحرب انتهت مع أنهم لم يعرفوا لماذا بدأت أصلاً.
---------------------------------------------------
*نشرت صحيفة (الصباح) العدد 932 بتاريخ 11 أيلول/سبتمبر 2006 بغداد، في موقع مجلة (نصوص عراقية) العدد الثاني، تشرين أول 2003م وفي عدة مواقع ثقافية أخرى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق