شهادة:
لمحات من سيرة أمي
(شريكتي في صياغة شخصيات الأمهات في قصصي)
د.محسن الرملي
أنا البطن التاسعة ضمن تسلسل إحدى عشر بطناً، كما يطيب لأمي أن تسميها حين تتحدث عن ولاداتنا، نحن أبنائها، بما فينا الذين ماتوا في المهد، وكثيراً ما وقفت عند هذه التسمية (بطن) التي تفتح شهيتي لتعدد التأويلات.. وكأن أمي تعني بأنها قد أفردت لكل منا بطناً خاصة به ولم نخرج جميعاً من بطنها الواحدة ذاتها، أم أنها أرادت اتباع العرب في تسمية العوائل والقبائل بالبطون مما يعني أنها تشير إلى أنه ستتفرع منا، من بعد، بطوناً: عوائل وقبائل.. أم أنها تهدف إلى تذكيرنا بأننا من بطنها.. أم أننا مجرد بطون بالنسبة لها!. وحين نسألها عن التواريخ الدقيقة لمواليدنا تقرنها لنا بظواهر الطبيعة البارزة وأحداث تاريخية عادة ما تكون الحروب أو الانقلابات في الحكم، ذلك أنها لا تعرف التواريخ وأرقام الأعوام والأيام، ولا تعرف القراءة والكتابة. لذا تجيب: أنت ولدتك سنة الفيضان، وأنت في موسم الحصاد، وأنت في عام القحط، وأنت في أيام حرب فلسطين (ولا نعرف أي حروب فلسطين تعني)، وأحياناً تقرن تواريخ ولاداتنا بمقتل أحد ما في القرية أو بتاريخ شراء أو ولادة إحدى أبقارنا، أو ذبح ثورنا الأسود أو يوم ماتت حمارتنا الرمادية بالجدري.. ولكنها وإن كانت تجهل دقة التواريخ إلا أنها تسهب في سرد ذكرياتها عن حادث ولادة كل منا سواء أكان الأمر ليلاً أم نهاراً، ومن كانت حاضرة من نساء الجيران، ومن كانت القابلة وحكاية الأسماء وأسبابها التي لا تتدخل فيها عادة، لأن هذا الأمر يقرره أبي وحده. فالزمن بالنسبة لأمي شيئ مجرد. لذا تعمد إلى قياسه بربطه بالأحداث والملموس، خاصة المكان، لذا تصف أماكن ولادتنا بدقة.. فكيف كانت ولادتي؟.
كوني البطن التاسعة فهذا يعني أنها صارت متمرسة بالولادات وتجاوزت مخاوفها وإشكالاتها وخبرت أوجاع الطلق، لذا كانت لا تغير من جدول عملها، والذي هو في الحقيقة ليس بجدول لأنها تعمل دائماً، ليلا نهارا، ما لم تكن نائمة. حينها كانت تساعد أبي وأخوتي بطلاء سقف دارنا الطيني بالطين بعد أن قشرته أمطار الأشهر السابقة. آذار والشمس دافئة. أبي على السطح وهي خائضة حتى ركبتيها في حوض الطين المجبول (الجبلة) رابطة بطنها بحزام صوفي ينتهي بثلاث شراشب كبيرة تشبه نحلات ملونة كانت قد حاكته لها جدتي في حملها الأول. أنا في بطنها مكملاً إقامتي لتسعة أشهر. السيجارة في فمها وأبي يمد لها بالحبل من الأعلى سطلاً تملأه له بالطين ويرفعه.. هناك.. هكذا.. تقول: سقطت مني في (جبلة) الطين. ثم تضيف ضاحكة: ألا ترى أنفك كبيراً مفروشاً.. لقد سقطت مني على وجهك في الطين.
لكن أنفي ـ في الحقيقة ـ قد أخذته منها، مثلما أخذت الكثير فيزيائياً ونفسياً؛ أشبهها أكثر مما أشبه أبي. حجم الأنف، سواد العينين، صلابة الأسنان.. ومنها أيضاً أخذت دروس الصبر والتسامح وكراهة العنف. الميل إلى البساطة، قدرة التأقلم، التصديق والتعويل على النوايا. حاولت أكثر من مرة حثها على تعلم القراءة والكتابة التي أعرف بأنها تتمناها قائلة: كي أقرأ القرآن وكتب أبيك. لكنها تعقب متعللة بفوات القطار (علماً بأنها لم تر قطاراً في حياتها) أو بالمَثَل: "بعد ما شاب أخذوه للكُتاب".. لذا كانت تعوض ذلك بإهداء خيرة طبخاتها وأفضل زبدة لوالدها الحاج فاضل وعمها الملا سلطان مقابل كل إتمام قراءة للقرآن باسمها. حاولت إقناعها من هذا الباب ولكي تنوع في السور التي تقرأها في صلاتها لأنها ظلت تردد ثلاث فقط من قصار السور، التي لا تعرف غيرها، في صلواتها اليومية الخمس طوال حياتها. فأجابت: المهم في أي عمل وخاصة في الصلاة هي النية، واسمع هذه الحكاية يا بني: كان يا ما كان رجل بسيط يعيش من صيد السمك على شاطئ النهر، جاهل (مثلي) لا يقرأ ولا يكتب، فاخترع لنفسه صلاته الخاصة، يتوضأ ويفترش الرمل متوجهاً إلى القبلة، ينظر إلى السماء ويقول:" وجهت وجهي إليك.. وكس أم الذي يكذب عليك"، ولأنه لا يحفظ حتى سورة الفاتحة فقد اخترع لنفسه فاتحته:"الفاتحة مفتوحة، والميجنة (الهراوة) ملكوحة (ملقاة)/ الميت راحت روحه، والطيب (الحيّ) يأكل رغفان (أرغفة)".. ثم يؤدي الحركات التي يعرفها.. وهكذا على مدى أعوام حتى مر ذات يوم وسط النهر زورقاً لصيادين غرباء فشاهدوه يصلي بحركات ركوع وسجود خاطئة. اقتربوا منه وراحوا يعلمونه الصلاة الصحيحة، أطالوا معه حتى تأكدوا من تعلمه لها فودعوه واتجهوا بزورقهم إلى وسط النهر. توجه هو سعيداً إلى صلاته، ولكنه ما أن وجه وجهه إلى القبلة حتى انتبه إلى أنه ـ كعادته ـ قد نسي ما علموه إياه، فالتفت خلفه إلى زورق الصيادين وسط النهر ثم انطلق منادياً راكضاً صوبهم ـ على الماء ـ حتى وصل إليهم فأخذتهم الدهشة. قال: لقد نسيت الصلاة التي علمتموني إياها. فقالوا له والدمع في أعينهم بعد أن رأوه يمشي على الماء: عُد إلى صلاتك السابقة فهي أصح من صلاتنا.
هكذا كانت أمي تعطي دروسها عبر الحكايات. حكايات قبل النوم، وحكايات الصحو وسهرات الشتاء حول الموقد.. ولكل حادث حكاية عندها ولكل درس حكاية.
رسومي الأولى قبل دخولي إلى المدرسة كانت محاولات في تقليد الوشم على جسدها. كنت أجبرها أن تثبت كفها على البساط واضعاً دفتري جوار الكف أنقل ما عليها من نقوش الوشم، كفها الأخرى فيها السيجارة فتراوح بين كفيها، قدميها، وحين يأتي دور نقل الوشم في وجهها أصيح بها لا تتلفتي. شفتها السفلى زرقاء تنزل منها زخارف على الحنك؛ نقاط وخطوط متداخلة وأزهار وشم صغيرة، أنزل مع العنق مسنداً دفتري على صدرها، وحين أريد النزول أكثر لمتابعة نقل خطوط الوشم النازلة محاولاً فك فتحة صدر ثوبها متوقعاً الوصول إلى بطنها. كانت تنتفض، تضرب كفي وتبعدها، فأصيح: أريد أن أنقل الباقي. وتجيب بحزم: والله لو تطلع روحك، أقول لك (ماكو) بعد وشم، لهنا وخلص. فأصر قائلاً: لا.. أكو.. دعيني أرى وإلا سـ (أخبص) الدنيا بالصياح. فتنهض: أقول لك ما كو.. يعني ماكو أنت زمال ما تفتهم؟.
كل الأمهات يتشابهن في عظمتهن فما الذي يمكن أن يكون خاصاً بأمي.. بالنسبة لي كل شيء هو فريد من نوعه في أمي، وإن لم أكن مصيباً في ذلك، لكنني سأحاول ألإشارة إلى ما أظن أنه خاص فعلاً وابدأ بالاسم، حيث لأمي اسم لم أسمع بأن غيرها يحمله في العالم، اسمها (طفلة) وكان أخي حسن يمزح معها دائماً: أما زلت طفلة؟.. متى تكبرين؟.. تضحك أمي وتقول: أنا أحب أسمي والاسم مجرد إشارة. أمي هي الابنة الوحيدة لجدتي (وضحة)، لذا فإن جدي لم يستطع الصبر حتى النهاية بلا أبناء آخرين فتزوج امرأة أخرى وانتقلت جدتي مع أمي بعد زواجها إلى بيتنا حتى وفاتها دون أن يخل ذلك بعلاقتها بجدي أو بامرأته الجديدة وأبنائه.. وأمي كذلك بحيث لم أعرف إلا متأخراً بأن أخوتها هم من أم أخرى لأنها كانت تتعامل معهم بحميمية فائقة. وأذكر أنها كانت تنادي زوجة أبيها الأخرى بأمي وعلمتنا مناداتها بجدتي ورعتها في كبرها قعيدة الفراش حتى وفاتها. لأمي سعة صدر مدهشة وصبر أيوبي. وإذا كانت مهمة إرضاء الجميع تكاد تكون مستحيلة أو هي مستحيلة فعلاً، فإن أمي قد حققت هذا المستحيل: أرضت أبي الرجل القوي الشخصية والمزاج والعصبية، أرضتنا على اختلاف عوالمنا، أرضت المجتمع بأدائها لكل تقاليده، أرضت والديها وأخوتها والجيران والضيوف وحيواناتها التي كانت تعاملها كما تعاملنا؛ تسميها، تطعمها ورأيتها أكثر من مرة تدثر بعباءتها الصوفية عجلاً يرتجف من البرد أو تبكي لفراقها نعجة.. وأعتقد أنها قد أرضت ربها أيضاً.
..الآن تدهشني هذه القدرة على نكران الذات فلم أعرف لها مشاريع خاصة وأهداف أو رغبات خاصة بها.. لقد انتصرت على (الأنا) في داخلها وهذا أصعب انتصار، فرغباتنا وأحلامنا وأهدافنا كانت هي ما تريد، تفرح لتحقيقنا إياها وتشاركنا انتكاساتنا.. يا إلهي.. ما أصعب وأعظم صوفية أمي في تمكنها من إذابة (الأنا). كم تأملت قدرتها على التوفيق بين حشد من الشخصيات المختلفة في بيت واحد! وكانت تدير كل ذلك بصبر ومحبة.. الآن وبعد معايشتي للديمقراطية في الغرب أميل لتسمية تلك القدرة والروحية بالديمقراطية.. وأقول: من رحابة روحية أمهاتنا يمكن أخذ المفهوم الديمقراطي وتعلم قبول الآخر ومحبته مهما اختلف. كانت تقول:" خير الأمور تلك التي تعجب أصحابها". وما زال الكثير من عبارتها حتى اليوم يصحبني ومنها تلك العبارة التي أكاد أتبناها بمثابة شعار لي في التعامل مع الآخرين والتي أجد فيها إنسانية عميقة: اسمع يا بني.. ابن آدم لا يُؤكَل ولا يُشرَب وإنما يُعاشَر.. أي لا تنظر إلى لونه أو شكله أو أصله أو دينه أو قبحه أو جماله فهو لا يؤكل ولا يُشرب، وإنما انظر إلى إمكانية التعايش معه.. وكل شيء هو خلق ربك..
.. إنها مقاييس غير مادية.
حين كنا، أخي حسن وأنا، نعتزل طويلاً في غرفنا منكبين على القراءة وسط أكداس الكتب كانت تتركنا لفترات إلى أن ينتابها القلق فتأتي ناصحة إيانا بالخروج واللعب مع أصحابنا أو التمتع مثل مجايلينا: سوف تفقدون نظركم لكثرة القراءة (راح تطلع عيونكم). سوف تصابون بالجنون مثل الملا إبراهيم.. وتعني شخصاً في قرية مجاورة كان يقرأ كتب السحر، قيل أنه قد أخطأ في تطبيقها فأصابه الجنون. تهددنا بتمزيق كتبنا أو حرقها أو رميها إلى المزبلة. ولكنها ما أن نغيب حتى ترتبها لنا وتمنع الصغار والكبار من مسها. كم تجادلت معها وكنا ننتهي بالضحك. أصر على مواقفي (أمر لا أجرؤ على فعله مع أبي) وبعد جدل طويل أغلبها فيه وأقول لها: أنا حُر. فتجيب على الفور: أنت كُر. فنضحك معاً وتحتضنني قائلة: هل أجلب لك شيئاً تأكله؟.. اليوم صنعتُ زبدة تخبل.
كانت أمي دائماً تقف إلى جانبي، إلى جانبنا وإذا ما انتقدتنا فبحكمة وهدوء وحنان.. ثمة شعور ما يوهمنا بأن الأم هي دائماً تابعة لنا ونحن تابعون لآبائنا.. ربما لأننا نجدها حاضرة دائماً كلما احتجنا إليها، ربما لأنها تطيعنا وتنفذ لنا رغباتنا وتأمن لنا حاجاتنا الحياتية من أكل وملبس وأمان.. لكن الحقيقة التي أكتشفها الآن هي أنني أنا الذي كان يتبعها وأثرت بي أكثر مما أثرت بها، أثرت في شخصي وكتابتي باستمرار، بحة صوتها، ملامح وجهها وبصماتها في كل شخصيات الأمهات التي كتبتها.. وحضورها، في نصوصي، دائماً يفوق حضور أبي على الرغم من أن أبي كان فريداً في قوة شخصيته.. أجدها تشاركني في صياغة كل شخصيات الأمهات في قصصي، في تذوقي للعيش والمرأة وفي تلمس الرؤية للحياة والوجود والتعامل مع أبناء آدم والرب.
حكايات أمي لا تنتهي وذكرياتي عنها جزء من تكويني.. بقية اللمحات من سيرتها مبثوثة في كل ما أكتبه.. تلك الزاهدة الرائعة الإنسانية المتواضعة البسيطة التي فتحت عيني على ثوبها الأسود.. لم أرها بثوب غير الأسود أبداً وعمامة سوداء.. وأشعر بنوع من الرضى الآن كلما تذكرت بأنني قد اشتريت لها عمامة من بغداد بثمن أول مبلغ أقبضه في حياتي من الكتابة.. وأنني كنت أنتقي لها خيرة أنواع التبغ من أربيل براتبي كجندي.. علمها أبي التدخين منذ أن تزوجها صغيرة، ربما في السادسة عشرة من عمرها، وحين تركه هو بعد أعوام لم تتركه أبداً، ننصحها نحن والأطباء بعد أن أصابها الربو وصارت " تشحد الهواء" كما تقول.. لكنها تجيب: لا.. كيف أتركه وقد رافقني طوال حياتي.. كيف أهجر رفيق عمري لمجرد أنني مهددة بالموت. لذا فأنا أجد الآن إجابة مبنية على إجابتها لمن ينصحني بترك التدخين: كيف اترك قاتل أمي؟ العربي لا يترك ثأره. بالنسبة لي الأمر مجرد إجابة، لأنني في الحقيقة حاولت مراراً ومازلت أتمنى تركه، لكن الأمر بالنسبة لأمي كان مختلفاً. فهو مسألة وفاء وإخلاص حقيقية كعادتها في تعاملها مع الأشياء والأماكن والناس والرب. وربما أنها أضرتني بتعليمها لي التعامل العاطفي مع الأشياء والأماكن والكائنات.
أيام قصة حبي لسناء، وهي معلمة من نينوى وظفت في مدرسة قريتنا. كنت أتسلل إلى بيتها ليلاً كي لا يرانا أحد في القرية وأبقى هناك حتى ساعة متأخرة من الليل، تاركاً لأمي القلق والخوف علي والدعاء لي. تحبني وتحب لي الحب حالمة بزواجي وتربية أولادي مثلما ربت أولاد أخوتي: "تزوج لأرى أولادك قبل أن أموت". لكنها كانت تخشى علي المخاطر والفضيحة لذا تحذرني من التأخر وتهددني بإغلاق أبواب البيت قائلة:" كي تنام في الخارج مثل الكلب". أعود أحياناً مع الفجر فأجدها قد أوصدت الأبواب ونامت بعد أن تعبت من انتظاري ولأنني أعرف موقع سريرها على السطح أرميها بالحصى حتى تستيقظ وتنزل. تفتح لي الباب مؤنبة ثم تتجه إلى صلاتها وحيواناتها وإعداد الفطور، فيما أغط أنا بنوم لذيذ مكتظ بأحلام الحب، لاعقاً طعم قبلات حبيبتي على شفتي. وحين ماتت سناء محترقة أغلقتُ على نفسي الباب ليومين رافضاً الأكل ودخول أحد إلا أمي كانت تأتيني، تحتضنني أبكي على صدرها وأقول: لقد ماتت سناء يا أمي.. وأنا أحبها . فتقول: أعرف يا ولدي ما تعانيه، فيشعرني قولها بالمشاركة أنها تفهم أوجاعي.
في الصبا، أول هوسي بالقراءة، كنت أحمل معي الروايات حين أذهب إلى البرية راعياً الأبقار ولأنني كنت أغرق في القراءة تحت ظل حماري ولا أنتبه فقد أضعت أبقارنا مرتين أذكر حتى الآن أنني في إحداهما كنت أقرأ رواية (مدام بوفاري)، وحين أنتبه لا أجد أبقاري فأهرول في الأودية القريبة وأطوف هلعاً دون جدوى، لذا أحمل كتابي وقربة مائي ثم أركب حماري عائداً إلى البيت مطأطئ الرأس، فتنفجر صرخات الجميع في وجهي وسخرياتهم إلا أمي التي كنت ألوذ بها، وفي المرتين تعود الأبقار وحدها إلى البيت بعد غروب الشمس، فيزداد الضحك من قبل أخي الكبير قائلاً: أنظر أنت تقرأ الكتب ومع ذلك فإن الأبقار أفهم منك؛ ها هي تعود وحدها إلى البيت. وألوذ بأمي.. فبمن ألوذ الآن من سخريات الآخرين وأنا أرى سنوات عمري تتسرب مني أعواماً/أبقاراً عجافاً وسمانا، تضيع مني بلا عودة ترتجى، فيما أنا مازلت منكباً على القراءة؟!..
أيام حرب 1991 كانت تودعني بالاحتضان والقبلات والأدعية والابتسامات حاثة قوتي وتصبري متظاهرة بالقوة.. لكن أختي تقول: أنها تبكي في غيابك ويزداد حرقها للسجائر. وحين أبلغتها بأنني أنوي الهرب إلى سوريا حين كانت وحدتي العسكرية على نهر الخابور في الشمال منعتني بكل السبل وهددتني بقتل نفسها: لا أحتمل أن أخسرك أنت الآخر بعد أن خسرت حسن. حينها كان حسن قد أعدم شنقاً ولأنهم أخذوه لستة أشهر دون أن نتمكن من معرفة شيء عنه اعتادت أمي أن تجلس أمام نافذة البيت، المطلة على الشارع العام، ليل نهار تدخن سيجارة من عقب أخرى بوجه راح يذبل، شديد الحزن وعينان لا ترمشان، تلمعان، كلما مرت أو توقفت سيارة، بانتظار إطلالته.. وبقيت على هذا الحال حتى بعد أن أعادوه لها جثة.. تزور قبره وتحدثه عن بناته وتعاتبه وتبكي وتتضرع إلى الله أن يحرق قلب قاتله على أبنائه كما حرق قلبها عليه، ثم تعود إلى البيت إلى نافذتها بانتظار عودته. أذكر أنني حين كنت أرافقها إلى المقبرة أتنافس معها على حجز مساحة لقبري جوار قبر حسن؛ أقول لي وتقول لي.. لقد سبقتني إلى المساحة الآن.. ولأن المقبرة امتلأت وآخر الأخبار أنهم قد بدأوا بمقبرة جديدة في البرية ذاتها التي كنت أضيع فيها الأبقار فهذا يعني أنني لن أجد لي فسحة قبر معهما.. إنها أمنية أخرى ضائعة.
بعد انتهاء الحرب وتسريحي من الخدمة العسكرية التي دامت ثلاثة أعوام مريرة. قالت: آن لك أن تستريح وتتزوج. عرضت أمامي أسماء أجمل بنات القرية قائلة اختر من تشاء وأنا كفيلة بالباقي. لكنني قلت لها: لا أحتمل البقاء هنا.. أريد الخروج من هذا البلد.. إنني أختنق..
بكت، توسلت وحاولت بكل السبل. لكنني خرجت إلى الأردن واعداً إياها بالعودة بأقل وقت بالمال كي أزوّج نفسي.. فكان صوتها وكلماتها تأتيني عبر رسائل أخوتي داعية إياي للعودة وأنا أؤجل وأؤجل.. الشهر القادم، وفي القادم أقول الشهر القادم.. لأنني حقيقة لم أكن أنوي الرجوع.. هكذا إلى أن ماتت في غيابي فطعنني موتها وترك في نفسي شيئاً شبيهاً بالشعور بالذنب لأنني لم أف بوعدي لها ولم أحقق لها آخر أمنياتها بأن تراني بعد أن خذلتها في عدم زواجي، أشعر بقسوتي عليها.. هي التي كانت تسعى لتحقيق ما أتمناه فيما أنا لم أحقق لها حتى أمنية رؤيتي للمرة الأخيرة.. أخبروني أنها كانت تريد رؤيتي وتصرح بشوقها حتى آخر يوم في حياتها.. ولأنها ماتت في غيابي ولم أر موتها بعيني مثلما رأيت موت أبي لذا أشعر دائماً بأنها هناك.. إنها غائبة فقط أو أنني أنا الغائب عنها فيما هي ما تزال موجودة.. وأنني سأراها حين أعود.. لا أشعر بموتها حقيقياً.. ولأنني كنت ومازلت بشوق إليها ظل هذا الشوق في تعاظمه لرؤيتها حتى اليوم.. وأشعر بأنه سيلازمني حتى موتي.. فأرجو أن أراها هناك في الماوراء.
تطاولت أعوام غربتي، بعد انتقالي من الأردن إلى إسبانيا، وعلى الرغم من أن موتها يشعرني أحياناً بالتحرر من شدها لي باعتبارها أهم ما كان يشدني إلى الوطن ويدفعني هذا لممارسة معايشتي مع الثقافات الأخرى بشكل أهدأ وأعمق.. إلا أنني كنت ومازلت أحتاجها دائماً في ساعات الأزمات والمرض وذبحات الحنين وقسوة الغربة.. كم بكيتها وشعرت بيتمي الحقيقي الذي لم اشعر به حين مات أبي قبلها بعقد من الزمان تقريباً.. لذا فالقصيدة الوحيدة التي أحفظها من الشعر العربي والعالمي (الآن) هي قصيدة السياب: "الباب تقرعه الرياح".. أفهمها تماماً، أفهم السياب ، أتداخل معه، أتوحد به وهو طريح الفراش في مستشفى لندني بعيداً عن الوطن، وحيداً متوجعاً يهب من رقدته كلما حركت الرياح الباب، ظاناً أن أمه قد جاءت لرؤيته.. ولكنه سرعان ما ينتبه إلى أنها الريح، وأن أمه قد ماتت منذ زمن بعيد في مكان بعيد فيبكي.. ومازلت أبكي معه مردداً لكلماته التي هي الآن كلماتي:
"الباب ما قرعته غير الريح في الليل العميق،
الباب ما قرعته كفُّكِ.
أين كفُّكِ والطريق
ناءٍ؟ بحار بيننا، مُدنٌ، صحارى من ظلام
الريح تحمل لي صدى القبلات منها كالحريق
من نخلةٍ يعدو إلى أخرى ويزهو في الغمام.
* * *
الباب ما قرعته غير الريح...
آه لعلّ روحاً في الرياح
هامت تمر على المرافئ أو محطات القطار
لتسأل الغرباء عني، عن غريب أمس راح
يمشي على قدمين، وهو اليوم يزحفُ في انكسار.
هي روح أمي هزها الحب العميق،
حب الأمومة فهي تبكي:
" آه يا ولدي البعيد عن الديار!
ويلاه! كيف تعود وحدك، لا دليل ولا رفيق؟"
أماه .. ليتكِ لم تغيبي خلف سور من حجار
لا باب فيه لكي أدق ولا نوافذ في الجدار!
(…………….)
الباب تقرعه الرياح لعل روحاً منكِ زار
هذا الغريب!! هو ابنكِ السهران يحرقه الحنين.
أماه ليتك ترجعين
شبحاً. وكيف أخاف منه وما امّحت رغم السنين
قسمات وجهك من خيالي؟
أين أنتِ؟.. أتسمعين
صرخات قلبي وهو يذبحه الحنين إلى العراق؟".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشرت في مجلة (ميزوبوتاميا) العدد المزدوج 2 و 3.
http://www.mesopotamia4374.com/adad2/serathatayia4.htm
هناك تعليقان (2):
الاخ الدكتور محسن الرملي
تحية طيبة
انا لا اعرفك كما انت لاتعرفني وقد بكيت لبكائك على امك رحمة الله امك ورحمة الله ام السياب والسياب ورجمة الله امواتنا جميعاً.
محمد
الاخ محسن دعني اكتب ما وردني في بريدي عن الام.
ما هو مقدار أمك لديك ؟؟؟
عندما كان عمرك سنة - قامت بتغذيتك وتغسيلك .
أنت شكرتها بالبكاء طوال الليل .
عندما كان عمرك سنتان - قامت بتدريبك على المشي ..
أنت شكرتها بالهروب عنها عندما تطلبك.
عندما كان عمرك ثلاث سنوات - قامت بعمل الوجبات اللذيذة لك .
أنت شكرتها يقذف الطبق على الأرض .
عندما كان عمرك أربع سنوات - قامت بإعطائك قلما لتتعلم الرسم .
أنت شكرتها بتلوين الجدران.
عندما كان عمرك خمس سنوات - قامت بإلباسك أحسن الملابس للعيد.
أنت شكرتها بتوسيخ الملابس .
عندما كان عمرك ست سنوات - قامت على تسجيلك في المدرسة.
أنت شكرتها بالصراخ لا أريد الذهاب.
عندما كان عمرك عشر سنوات - كانت تنتظر رجوعك من المدرسة لتعانقك أنت شكرتها بدخولك الى غرفتك سريعا .
عندما كان عمرك خمسة عشر سنة - كانت تبكي خلال نجاحك.
أنت شكرتها
بطلبك هدايا النجاح .
عندما كان عمرك عشرون سنة - كانت تتمنى ذهابك معها الى الأقارب
أنت شكرتها بالجلوس مع أصدقائك.
عندما كان عمرك خمس وعشرون سنة - ساعدتك في تكاليف زواجك .
أنت شكرتها بالسكن أبعد ما يمكن عنها أنت وزوجتك .
عندما كان عمرك ثلاثون سنة - قالت لك بعض النصائح حول الأطفال.
أنت شكرتها بقولك لا تتدخلين في شؤوننا.
عندما كان عمرك خمس وثلاثون سنة - اتصلت تدعوك للغداء عندها.
أنت شكرتها بقولك أنا مشغول هذه الأيام .
عندما كان
عمرك أربعون سنة - أخبرتك أنها مريضه وتحتاج لرعايتك.
أنت شكرتها بقولك عبء الوالدين ينتقل الى الأبناء.
وفي يوم من الأيام سترحل عن هذه الدنيا وحبها لك لم يفارق قلبها
إذا كانت والدتك لا تزال بقربك لا تتركها ولا تنسى حبها وأعمل على أرضائها .
لأنه لا يوجد لديك إلا أم واحدة في هذه الحياة وعندما تموت سوف تنادى
عليك الملائكة أن قد ماتت من كنت ترحم بسببها .
((اتقوا الله في الأمهات ))
هذه رسالة لكل إنسان محب لأمه.
إرسال تعليق