الجمعة، 6 مارس 2009

قراءة / حمزة الحسن

حمزة الحسن

الروائي محسن الرملي وبورخيس وأنا

حمزة الحسن

هذا المقال سنكتبه نحن الثلاثة، محسن الرملي، والكاتب الأرجنتيني المتوفى بورخيس، وأنا، وعلى كل من لا يجيد لغة الطير أو الرمل أو الريح أن يترك قراءته ويمضي إلى موضوع آخر، لأننا يطيب لنا، نحن الكتاب الثلاثة، أن نلهو قليلا على هوانا، ونخلق متاهات ونؤلف كتبا لا وجود لها، أو ننقد كتبا وهمية، أو نبحث عن أشخاص لم يولدوا بعد، أو رحلات إلى عوالم خيالية ونكتشف في النهاية أن كل ما كنا نبحث عنه هو وجوهنا في المرآة.
فمحسن الرملي هو كائن خرافي( هل سمعتم بوجود مثل هذا الاسم في الجنوب العراقي؟!). لكن هناك شخصا تقمص روح آخر في إسبانيا وأسس دار نشر صغيرة مبهرة على صورته، وشرع يطبع الكتب ويشتم أصحابها على الأخطاء المطبعية أو اللغوية ويساعده في ذلك متقمص آخر هو عبدالهادي سعدون صاحب ديوان صغير يحمل اسما مهاجرا، كالرملي، هو: ليس سوى الريح!
وفي هذا الديوان يريد سعدون، مثل الرملي، الصعود إلى السماء، ليست هذه السماء التي فوقنا، بل سماء أخرى، وتهديد الآلهة أو طردهم نحو كون آخر، وتلك حكاية أخرى.
محسن الرملي، هذا المنتحل صفات الرمل، مثل صاحبه( لعبد الهادي سعدون مجموعة قصص قصيرة مدهشة اسمها: انتحالات عائلة!) يقول انه مؤلف كتاب( ليالي القصف السعيدة) ولا أدري كيف يقول ذلك، مع أنه يعرف أن كل كتاب هو تأليف آخر على كتاب سابق كما يقول بورخيس، أو كل نص هو تناص بتعبير رولان بارت، أو الأسد مجموعة خراف كما يقول الشاعر أليوت.
وكتاب( ليالي القصف السعيدة) الذي أحاول هنا إعادة كتابته مرة أخرى، عن طريق القراءة والنقد، وتأليفه من جديد، كما سأفعل مع كتاب المنشق( سيرة نيكوس كازنتزاكي بقلم زوجته أيليني) هو كتاب مكرس للكذب.
فهذا المؤلف المدعو محسن الرملي يكذب علنا، حين يقول أن العالم هو قصف دائم. من يدعي اليوم أن أمريكا تقصف العراق، أو أفغانستان أو الصومال أو غيرها، هو لا شك شخص يكذب. وكل كذب من هذا النوع هو إبداع.
ومتاهة الرملي( أصر على أن الاسم منتحل!) متاهة بورخيسية ومتاهة سفنية( نسبة إلى الكاتب السويدي سفن لندكفيست، مؤلف كتاب: تاريخ القصف). فالقصف في كل مكان:
ـ قصف في العراق.
ـ قصف في فلسطين
ـ قصف في أفغانستان.
ـ قصف في فيتنام.
ـ قصف في السرير.
ـ قصف فضائح/ حملات/ إعلانات.
ـ قصف....الخ.
ويمكن لأي واحد منكم أن يضيف ما يشاء من أنواع جديدة من القصف ويشارك معنا في تأليف هذا الكتاب في هذه الدقائق، لأن الكتب والمقالات تؤلف وتقرأ وتنقد من قبل الكاتب والقارئ والزمن. ألم يقل بورخيس نفسه أن الكتب الحقيقية تحتاج إلى زمن طويل كي تقرأ من جديد؟.
ومحسن الرملي كاتب ليس بريئا، مثله مثل بورخيس، مثلي، مثل أي كاتب من هذا الطراز مشدود نحو الفراغ( هل هناك فراغ حقا؟!) أو نحو الأفق أو نحو الريح أو نحو الرمل.
وليس بريئا هنا تعني أنه يحاول توريطنا في حكايات تبدو ساخرة، أو متوهمة، أو حقيقية، ويجعلنا نبكي، ليضحك هو خلسة.
لا تصدقوه أبدا!
وأفضل طريقة لفضحه وكشفه هو إعادة تأليف كتبه ورواياته وقصصه على نحو آخر كما افعل الآن.
هو يحاول بناء شبكة من الألغاز الصغيرة والكبيرة لنجد في النهاية أن هذه البراءة الماكرة هي نسيج عنكبوت ملتف حول أعناقنا.
وهو حين يتحدث عن تاريخ القصف بحزن أو سخرية، إنما يدخلنا في متاهة حياته السرية من الجنوب العراقي حتى مقهى في مدريد تحمل اسم الشاعر الإسباني رافائيل ألبرتي الذي يدعي الرملي أنه قال في المنفى: أنه يتمنى أن يكون زهرة في وطنه لكي تأكله بقرة، أو تقطفه طفلة، أو يحمله على أذنه فلاح من وطنه، أو يدفن في تراب وطنه.
والرملي في زمن تأليف هذا الكتاب ، قبل آخر قصف لوطنه في آذار هذا العام، كان يحلم أن يكون زهرة في وطنه لكي تأكله بقرة أو يدفن في تراب وطنه، مثل شقيقه الروائي حسن مطلك الذي أعدمه الفاشيست في نهار عراقي يحمل لون الجريمة المفتوحة.
لكن حسن مطلك ينام الآن سعيدا كطفل أعادوا له هداياه، خاصة وأن الذين أطلقوا عليه النار قد فروا من القصف( قصف الأيام) وهذه هي حكمة الأيام التي تحدث عنها بورخيس كثيرا.
وحسن مطلك مدفون في الجنوب العراقي وبورخيس في بوينيس آيرس كما أظن، وأنا أيضا أتمنى أن أكون زهرة في وطني لتأكلني بقرة أخرى، أو أدفن في تراب وطني، مع محسن الرملي الذي سيتخلى عن هذا الاسم المستعار في النهاية ويعود مثلي، مثل حسن، عاريا، إلى تلك العتمة الباردة التي وصفها سعد الله ونوس وهو يحتضر وألف كتابا عنها قبل الموت لكي ينتصر.
حسن مطلك قال قبل أن يزرع في تراب وطنه، ويصير بذرة قمح لكي يأكله طائر مغرد:
ـ ما من أحد يبتعد عن الطفولة بمسافة خطوة.
وهذا ما يؤكده محسن الرملي في كتابه( ليالي القصف السعيدة) الذي هو متاهة وفوضى مرتبة بعناية فائقة لكي نخدع وندخل ونتيه ونقصف في النهاية بواحدة من الغارات أو المدافع أو أساليب القصف الكثيرة التي برع بها الناس.
ونفس ادعاء بورخيس بأن كل كتاب هو تأليف على كتاب آخر، فإن الرملي يدخل عدة كتب في كتاب، فمن كتاب( تاريخ القصف) الذي أشرنا إليه، إلى رواية( دابادا) لحسن مطلك، إلى سيرة كازنتزاكي: تقرير إلى غريكو... الخ.
عدة كتب في كتاب مموه سرابي رملي ماكر. لا تظنوا انه يتحدث عن مذكرات شخصية أو عن احتجاجات سياسية، بل في صفحة أخرى سوف يروي لنا عن الجنس والجسد والسفر والحرب والحرية والهروب وعن أخته كاظمية مطلك.
تقول كاظمية في مستهل نص افتتاحي:
ـ شابت أركاني... وما ضيمي إلا الساكت.
ورغم أنني أظن أن كاظمية لم تقرأ كتابا واحدا، لكني أعتقد أنها هي الأخرى مؤلفة في هذا الكتاب من خلال هذا النص المعبأ بحكمة مرة، والذي يلخص ما نعجز نحن الكتاب عن قوله في عدة كتب ونحن نروي سيرتنا الذاتية.
ومحسن الرملي حين يستشهد بنص أو مؤلف أو صديق فليس بالضرورة أن يكون هذا النص حقيقيا، أو أن هذا الشخص موجود أو أن هذا الصديق حقيقي.
فهو يعمد مثل بورخيس أحيانا( مثلي في رواياتي) على توريطنا بحكايات أو أسماء أو نصوص مثلا أو بهوامش ينسبها للناشر لنكتشف كما يقول مترجم كتابه الرائع( المرايا والمتاهات) أن هذا الناشر لا وجود له، وان هذه الملاحظات صادرة من بورخيس نفسه.
ومع استمرارنا في قراءة ( ليالي القصف السعيدة) نكتشف أن الرملي قد أدخلنا في متاهة وضباب وخدعة كبيرة، فالقضية أكبر من القصف وابعد من الحرب: أنه كتاب عن المأزق الإنساني والبحث عن السعادة.
كتاب ساخر لكنه حزين.
كتاب بحث وتطلع وتأمل وتمويه.
كتاب كل نهاية فيه تصلح أو تكون بداية أو العكس.
إنه ليس بحثا عن القصف بل هو سعي نحو السعادة البشرية، تماما كما حصل في حكاية( منطق الطير) للشاعر الصوفي الفارسي فريد الدين العطار الذي يعشقه بورخيس واستشهد به في واحدة من قصصه وألف معه مرة أخرى تلك الحكاية المدهشة عن الأمل والبحث عن السعادة القريبة جدا:
هناك طائر وهمي أسمه ( السيمرغ) يبحث عنه ثلاثون طيرا تعود خائبة لتكتشف أنها هي هذا الطائر (السيمرغ) وهي ذهبت بعيدا في البحث.
أو حكاية ذلك الرسام الذي رسم العالم فيكتشف في النهاية، كما في مجموعة بورخيس( الصانع) أن العالم الذي رسمه هو صورته هو.
وأنا أدعو كل قارئ لهذا الكتاب الرملي أن يعيد تأليفه من خلال التأمل والقراءة أو الكتابة، ولا تبحثوا فيه عن طائر الأمل( السيمرغ) ففي كل واحد منا مثل هذا الطائر الذهبي الساكن في الأعماق الداخلية في ذات مهملة ومنسية مهشمة كما تقول المؤلفة كاظمية مطلك!.
-------------------------------------------------------------
*نشر هذا المقال في موقع (الحوار المتمدن) وفي موقع (كيكا) بتاريخ 1/6/2003م. وفي موقع الروائي حمزة الحسن.

ليست هناك تعليقات: