حوار مع الروائي العراقي محسن الرملي
أجراه الناقد البحريني: فهد حسين
أولاً: محور المدخل العام لفهم الرواية
*من المتعارف عليه، بل من البديهيات أن المبدع حين يبدع عملاً وينغمس في إنتاجه يسعى جاهداً إلى معرفة أبعاد هذا النوع الإبداعي. وأنت بوصفك روائياً، فما مفهومك إلى الرواية؟.
ـ الرواية (كتاب) يَمنَح المتعة والمعرفة، المتعة سواء أكانت عن طريق الخيال أو اللغة والعناصر الفنية الأخرى، والمعرفة سواء فيما يتعلق بمعرفة مرحلة تاريخية بعينها، قضية ما، ثقافة ما، التعرف على التقنيات الأخرى بالنسبة لمن يهمه أمر الفن الكتابي.. أو معرفة الإنسان بذاته وبالآخر، بل حتى معرفة الكاتب بنفسه أكثر عند الكتابة. وكلاهما المتعة والمعرفة متداخلتان. أقول إن الرواية (كتاب)، لأنها ببساطة هي كذلك من حيث فيزيائيتها ومن ثم من حيث الجنس الفني، ونلاحظ مؤخراً أن الكتاب والناشرين الغربيين قد تخلى أغلبهم عن وضع كلمة (رواية) على الغلاف، وأن المؤلفين أو القراء صاروا يقولون كتابي الأخير أو كتابه الأخير. وأرى هذه الصفة أصح وخاصة أن الرواية قابلة لاستيعاب كل أجناس الكتابة الأخرى.. بل وعلى استيعاب كل شيء.. وهذا أساسي في دوامها حية.
*الرواية نص مفتوح كأي نص إبداعي أو معرفي آخر، فأين تضع المتلقي الذي يتلقى عملك الروائي حينما تشرع في كتابة الرواية؟.
ـ بالتأكيد أضعه أمامي وليس خلفي أو ألغي وجوده، فأنا أكتب لآخر ولست ممن يدعون بأنهم يكتبون لأنفسهم. وحين أتحدث إليه؛ عادة ما أتصوره قارئاً يشبهني إلى حد كبير، أو صديق، بمستواي من حيث ثقافته الأدبية أو يفوقني، وإن لم يكن كذلك فعلى الأقل يفهمني أو يهمه معرفة ما أود قوله. وعلى هذا النحو فأنا أكتب الأعمال التي أود لو أنها موجودة على هذا النحو من حيث موضوعها أو من حيث شخصياتها ومناخاتها ولغتها.. لأقرأها ويشاركني الآخر في قراءتها.
*كل إنسان يحمل بين دفتي معرفته وثقافته البعد الأيديولوجي سواء أظهره أم أخفاه، وأنت حينما تكتب الرواية فهل تنطلق من أطر أبستمولوجيـة أو أيديولوجية، أو تكتب بحسب قراءتك إلى الواقع بعيداً عن هذا وذاك؟ أي إذا كان الروائي محكوماً بأيديولوجيا معينة، وتشكل هذه الأيديولوجيا إحدى روافده الفكرية التي يرتكز عليها، فهل الروائي هنا يقدم بعض التنازلات الفنية من أجل تضمين عمله بعض أفكار الأيديولوجيا إلى المتلقي؟.
ـ بشكل عام، أو الأصح، بشكل جوهري؛ أنا لستُ أيديولوجياً، بل تضايقني الأيدلوجيات أو شبه الأيدلوجيات وخاصة فيما يتعلق بعلاقتها بالإبداع، كونها تضر بحرية الاشتغال والتفكير، بل أعترف بأنها تسبب لي الخوف أحياناً فلا أشعر بحرية مطلقة في قول كل ما أريد قوله، وهنا أشير إلى تلك النظم الثقافية المؤطَّرة والمؤطِّرة التي تشبه الأيدلوجيات كالدين والتقاليد الاجتماعية والمفاهيم التي تصنف على أنها أخلاقية أو وطنية أو حتى حضارية أو أدبية أحياناً. أريد أن أكون حراً تماماً في التفكير والكتابة، أن أقول وأفعل ما أفكر به بكل عريه.. إلا أنني لا أستطيع الزعم حتى الآن بأنني قد توصلت إلى ممارسة هذا الطموح فما زالت أشباح الأيدلوجيات أو شبيهاتها تخيفني وتضطرني للتحاشي والحذر. أقول أتحاشاها وأحذرها ولا أعني قناعتي بها أو استجابتي لمغرياتها أو لمصالحها.
*لكل كاتب نهج معين في حياته الإبداعية، فهل لك طقوس معينة تمارسها قبل الانهماك في العمل الإبداعي؟.
ـ أفضل ألا نسميها نهج أو طقوس، فهذه مفردات توحي بالانضباط والثبات والقدسية أحياناً، والمقدس يحاصرك في زاوية إما أن تمارسه كما هو أو تعرض عنه. لذا أرى أن نسميها عادات، بل وعادات شخصية يمكنها أن تتغير وفق تغير الأحوال. وهكذا فمن عاداتي في الكتابة إنني أكتب النصوص الصحفية والدراسات أو لنقل ما هو عقلي على جهاز الكمبيوتر مباشرة، أما النصوص الإبداعية والتي يتعلق جزء كبير منها بالحس والعاطفة فمازلت أكتبها بالقلم على دفاتر مدرسية منبطحاً على بطني، كما كنت أفعل في تحضير دروسي في الطفولة، فعلى هذا النحو استشعرها بشكل أعمق وأكاد ألمسها وأعيشها، أحياناً عندما تستعصي علي فكرة أو تعبير أنتبه إلى قدمي مرتفعتان في الهواء ومجدولتان على بعضهما، شيء شبيه بتشابك أصابع اليدين عند شخص قلق، وعند إيجاد الحل ينفك اشتباكهما ويسقطان براحة. وبعد أن أترك النص لفترة، أقوم بنقله على الجهاز وهناك أقوم بمراجعات عديدة له حيث أشعر بحيادية معينة تجاهه ومساحة نفسية وذهنية ما تفصلني عنه. قبل الشروع أقرأ أكثر من المعتاد، كما أكون كثير الشرود غائصاً في داخلي مع العمل الذي أفكر به، وعند الكتابة لا أشترط سوى أمر واحد ألا وهو الوقت، أي أن أشعر بأن لدي متسع من الوقت يكفيني لأخذ راحتي بالتفكير والكتابة دون توقع شيء قد يقطع ذلك في أية لحظة.
ثانياً : محور تقنيات العمل الروائي
*عندما تُشكل المكان فهل تبني خريطة مكانية للشخوص، وحركتها، أو تترك الشخصية تحدد مسارها البنائي؟ بمعنى هل تتدخل بوصفك كاتباً في بناء الشخصية بعد رسمها في أثناء نمو الحدث؟.
ـ بالتأكيد إن الكاتب هو من يقوم برسم أو خلق شخصياته ثم يختار المكان أو المحيط الذي يضعها فيه. لاحقاً وعند نموها ونضجها سيضطر للالتزام باشتراطاتها ويستجيب لها في مواضع كثيرة. الأمر يشبه ابتكار لعبة ثم الالتزام بشروطها.. علماً بأنه لن يكف عن محاولاته بالتحايل والالتفاف على هذه الشروط نفسها أحياناً.
*للمكان فعل رئيس لرسم الشخصيات، ونمو الأحداث المتنوعة والمختلفة، فهل يعني المكان الذي تأخذه له علاقة اتصالية بالهوية والانتماء والتفاعل الثقافي والإنساني؟.
ـ بلا شك أن تحديد وتشخيص المكان هو جزء كبير من توصيف الهوية، فأحياناً تكفي الإشارة إلى البلد الذي تنتمي إليه شخصية ما لتتكون صورة واسعة عن الشخصية ذاتها. بعد ذلك يأتي دور الرؤية المراد طرحها عبر تفرد وخصوصية الشخصية وطبيعة تركيبها الإنسانية. وفي كل الأحوال فأنا شخصياً أرى أن الزمان أهم من المكان سواء تعلق ذلك بالحياة أو بالكتابة.
*حين تشكل المكان وتخطط لأزمنة الأحداث أين تقف أنت من هذا العمل؟ هل خلف العمل تراقب أحداثه ونموها؟ أو تتمركز فيه؟ ولماذا؟.
ـ أتمركز فيه، لأنني لست حيادياً بالأصل كي أكتفي بالمراقبة، وأي فعل أو قول إنما هو انحياز لمفهوم ما. بالنسبة لي فعادة ما أكتب عن أحداث وأماكن وأزمنة أعرفها، عايشتها وتأثرت بها، لذا فإنني أكون داخل العمل بكل ما أعرف وبكل ما أشعر وحسب ما أفهم.
*ما العلاقة التي تربط الكاتب بالشخصية الروائية؟.
ـ علاقة شاهد، والشاهد أحياناً يكون متعاطف أو غير متعاطف، عارف أو غير عارف، صادق أو كاذب.. وهكذا، إلا أنه في كل الأحوال يقوم بالوصف، ولكل شاهد طريقته وأسلوبه بالوصف. وعلى طبيعة الوصف هذه ستُبنى الأحكام والتقييمات حول هذه الشهادة، سلباً أو إيجاباً، قبولاً أو رفضاً.. وبالطبع سيكون لنوعية المتلقي دوراً في ذلك أيضاً.
*أيهما أجدى في العمل الروائي أن يكون الكاتب هو السارد نفسه أم يكون واحداً من داخل العمل؟ أم من الأفضل تعدد السرّاد ومستوياتهم؟.
ـ من فضائل العمل الروائي أنه مطواع وإمكانياته وآفاقه بلا حدود، وهنا للكاتب حرية اختيار زاوية نظره وتناوله، وما يراه الأنسب لكل عمل من أعماله.. أما بالنسبة لي فحتى الآن قد أخذت دور السارد المشارك كإحدى الشخصيات في أغلب نصوصي. وبالطبع فهذا لا يعني بأنني على يقين من أنها الأفضل أو الأصح أو بأنني سألتزم هذه الصيغة دائماً.
*كيف يتشكل المكان والزمان في عملك الروائي؟.
ـ يتشكلان من طبيعة ما أريد طرحه في الثيمة، ومن ثم بما ينسجم وخصائص الشخصيات. حتى الآن لجأت إلى ما عرفته وما خبرته والذي هو واقعي في الجزء الأكبر منه. علماً بأنني أحلم أحياناً بكتابة عمل يتمرد على كل ذلك.
*ما أجدى التقنيات السردية حتى يستطيع الروائي إيصال فكرته؟.
ـ المهم أن يتمكن الروائي من إيصال فكرته بشكل جميل وأن تَمنح روايته المتعة والمعرفة. أما عن التقنيات فهي كثيرة جداً وله أن يختار منها ما يشاء.. بل والرائع في الأمر أن أمامه حرية ابتكار تقنياته الخاصة والجديدة أيضاً. وعليه فإن أجدى التقنيات هي تلك التي تناسب عمل ما أكثر من غيرها والتي تكون هي الأفضل في إيصال الفكرة على أجمل وأكمل ما يمكن.
*يقال هناك زمن الحدث في الواقع المعيش، وزمن الحدث داخل العمل الروائي، وزمن الكتابة الروائية، وزمن القراءة. فأين يكمن دورك في كل هذه الأزمنة الأربعة؟.
ـ دوري هو السعي إلى إيجاد الصيغة الأسلوبية والتقنية الأفضل بحيث أتمكن من وصف وتقديم هذه الأزمنة معاً بشكل مقبول ومنسجم ومُقنِع.. صيغة تجعل من مسألة تعايشها معاً حالة متناغمة وتكاملية تعزز وحدة العمل أكثر مما تبرز انفصال أحداثه ومقاطِعه. وأذكر هنا عبارة لغابربيل غارثيا ماركيز يقول فيها أن الرواية هي فن التَلصيق.
ثالثاً: محور اللغة:
*يحاول الشاعر أن يبتعد عن المفردة بدلالتها المعجمية كلما أمكن ذلك، وهذا قد يختلف عما يحاوله الروائي، فهل الروائي يتأمل في المفردة معجمياً ودلالياً؟ وهل يسعى لأن يعطي هذه المفردة دلالة أخرى؟ وكيف يتم هذا؟.
ـ نعم؛ الروائي يهتم ويراجع دلالة المفردة معجمياً وذلك لأنه يتوخى الدقة في الوصف والتشخيص، أما عن سعيه لإعطائها دلالة أخرى فذلك يأتي لاحقاً عبر وضعها ضمن سياق تعبيري معين بقصد إيحاء ما أو ترميز أو إغناء إمكانيات التأويل. وعندما نقول يتوخى الدقة في الوصف لا نقصد الدقة الواقعية وإنما نقصد الدقة اللغوية فيما يريد وصفه حتى لو كان الموصوف شيئاً فنطازياً ابتكره هو.
*حينما تكتب رواية لابد من تفكير في لغتها المتداولة بين الشخوص، فأية لغة تفضل التعامل بها في عملك الروائي؟ وهل تفرق في استخدام اللغة حين ترسم الشخصية؟ أي أيهما يفرض اللغة أنت بوصفك روائياً أم الشخصية بوصفها عنصراً من عناصر العمل؟.
ـ بالنسبة لي فأنا أحاول التقليل من صيغة الحوار المباشر قدر الإمكان، لذا أفضل أن أضع على لسان الراوي أو ضمن سياق لغة وأسلوب السرد كل ما يمكن وضعه، أما الذي يفرض وجوده من الحوار فبالتأكيد لا بد أن آخذ بنظر الاعتبار طبيعة الشخصية التي تقوله، وهذا لا يمنع أيضاً من المبالغة أو إحداث افتراق مقصود أحياناً بين مستوى وعي الشخصية ومستوى ما تقوله، ذلك أن من سمات الفن المبالغة أيضاً والاختلاف في فهمه وطرحه لما هو منطقي أو واقعي.
*في أي عمل إبداعي تبرز الضمائر: ضمير الغائب، ضمير المخاطب، ضمير المتكلم، فأي الضمائر تتعامل في السرد والوصف والحوار؟.
ـ لقد استخدمت كل هذه الضمائر بصيغ وبنسب مختلفة، لكنني حتى الآن قد استخدمت ضمير المتكلم أكثر من غيره، وأعتقد بأن غلبة استخدام هذا الضمير هي من السمات التي طبعت أغلب نتاج الأدب المعاصر عالمياً، بينما كان ضمير الغائب هو الأكثر استعمالاً في مراحل سابقة كما عرفناه في القرن التاسع عشر وفي أوائل القرن العشرين. ولابد أن لتغير مفاهيم وأهمية الفرد والجماعة والآخر والحاضر والغائب أثراً في ذلك.
*في الخطاب الروائي هنـاك تباين بين لغة الوصف ولغة الحوار ولغـة السرد، فإلى إي حد وفق الروائي العراقي في هذه المعرفة المتباينة؟.
ـ من بين هذه اللغات الثلاث المذكورة، أعتقد بأن الروائي العراقي، بشكل عام، كان موفقاً في لغة السرد أكثر من غيرها. ولهذا الأمر أسبابه طبعاً.
*في العمل الروائي يتعامل الروائي بلغة مباشرة، ولغة غير مباشرة، فمتى يقبل الروائي اللغة المباشرة، ومتى يرفضها؟.
ـ اللغة المباشرة عندما يريد أن يملي على المتلقي معطياته وقوله وما يريده هو، أما غير المباشرة فعندما يريد من المتلقي أن يشاركه. وفي رأيي إن الاعتماد على واحدة منهما سيضر بالعمل، والأفضل هو استخدامهما معاً وفي المواقع التي يرتأيها الروائي بأنها الأنسب في كل موضع من المواضع.
رابعاً : محور المرأة
*قلما تجد رواية تخلو من شخصية المرأة، ولكن تختلف وظيفتها من عمل لآخر بحسب ما يرسمه الكاتب، فهل حضورها في عملك حضور وظيفي تقتضيه تقنيات السرد أم أنه حضور تكويني ضروري لخلق البناء العام لعالم الرواية؟.
ـ مادامت الرواية هي عمل ينطلق من الإنسان وعنه وله، فبالتأكيد لن يخلو من وجود المرأة.. مما يعني أن وجودها ضروري دائماً بغض النظر عن كيفية ونسبة دورها في كل عمل. يمكننا التحدث عن الرواية بأكملها على أنها ذات قصد وظيفي، إلا أن وجود المرأة فيها فأراه ضروري دائماً حتى لو كانت شخصيتها مجرد عابرة في رواية ما.. بل وحتى إن حاولت رواية معينة أن تخلو من أي وجود للمرأة، فإن هذا التغييب المتعمد سيكون بحد ذاته وجهاً آخر من وجوه قوة حضورها.
*يقال أن جسد المرأة ليس رخيصاً ولا شريراً ولا مغرياً فسيولوجياً، ولكن احتياجات الثقافة الذكورية هي التي أوجدت هذا الإغراء، بحيث وضعت جسد المرأة طيّعاً مسالماً ضعيفاً. فهل توافق على هذا القول، وكيف تجسد المرأة في عملك؟.
ـ شخصياً لا أتفق مع هذا القول، لأنني أعتقد بأن إحساس المرأة العالي بجسدها هو أمر موجود ضمن جوهر تركيبة كينونتها الفطرية، لذا لا أتخيلها بدون هذا الإحساس العالي بجسدها حتى لو كانت في جزيرة منقطعة وخالية من الرجال. أما عن كيفية تجسيدي لها؛ فليست لدي صورة نمطية واحدة لأن كل امرأة (فرد) تكاد تكون عالماً قائماً بذاته.
*في الرواية بشكل عام أدوار متعددة للمرأة، فهناك المرأة الأم / المناضلة / الفتاة المتحررة الداعية للتغيير السياسي أو الاجتماعي / المرأة المومس / المرأة الغنية / الفقيرة 0000 وغيرها من هذه الصور. فما هي علامات شخصية المرأة التي تحب أن تكون موجودة في أعمالك؟.
ـ الذي يهمني أولاً هو وجودها كإنسان وكل ما يتعلق بهذا النوع من الوجود من ذهنية وأحاسيس وهموم وغيرها، ثم تأتي في المقام الثاني مسألة اشتراطاتها وتصنيفاتها وأدوارها الاجتماعية، والتي، بالطبع، سيكون لها تأثيرها الكبير في طبيعة صياغة شخصيتها وسلوكها.
*هناك فرق في المصطلح حين نقول ونقصد المرأة، الأنوثة التي تقابل الذكورة، والنساء التي تقابل الرجال. فمتى تتعامل مع شخصية المرأة بوصفها أنثى أي النظر إلى كونهـا عنصراً مثيـراً للجنس والرغبـات الجنسية، ومتى تتعامل معها بوصفها امرأة؟.
ـ حتى مسألة الأنوثة لا أراها تقتصر في دلالتها على الجنس والشهوة وحسب، وإنما أرى لها أبعاد أوسع من ذلك تمس ما هو فكري وشعوري وجمالي وأخلاقي. أما عن طبيعة التعامل معها، فكما قلت سابقاً؛ كإنسان أولاً، ومن ثم تأتي المواصفات الأخرى، وهنا سيعتمد الأمر على الرائي أو المتحدث عن امرأة ما، لأن الابن مثلاً لن يرى أو يتحدث عن أمه كما يرى ويتحدث عن حبيبته، والزوجة سترى وتتحدث عن زوجها وعن ابنها بشكل مختلف.. وهكذا.
*مهما حاول الرجل الوقوف بجانب المرأة، ويسعى إلى تحررها، يظل الهاجس أنها في مأساة وحرمان اجتماعي وعاطفي. كيف استطاع الروائي العراقي مناقشة هذه القضية؟.
ـ أعتقد بأن أغلب وأهم الشخصيات الروائية النسائية العراقية قد كانت شخصيات قوية وعلى سبيل المثال ما نجده منها في روايات غائب طعمة فرمان وحسن مطلك وفؤاد التكرلي وعبدالرحمن الربيعي، بل وحتى في الروايات العربية التي جسدت شخصيات نسائية عراقية كالتي نجدها في روايات جبرا إبراهيم جبرا مثلاً، وأعتقد أن الأمر عائداً لكون شخصية المرأة العراقية هي قوية أصلاً في الواقع بشكل عام، وفي الوقت نفسه ليكون الأمر على هذا النحو وقوفاً إلى جانب المرأة وتحررها وقضيتها كما أشرت في سؤالك.
خامساً: محور المحلية والتراث
*عادة ينطلق الكاتب في أعماله الإبداعية من معاناة محلية أو من خلال ظروف معينة يحاول سبر أغوارها، ولكن عن طريق المحلية. فهل الأعمال الروائية العراقية تعالج قضايانا المحلية الماضية والراهنة؟ وهل يطرح ما تستشرفه من رؤية تجاه المحلية في العمل والواقع؟.
ـ الرواية العراقية عموماً انشغلت بطرح المحلي الراهن دائماً، باستثناء روايات قليلة جداً تناولت الماضي، وذلك لأن التحولات الكبيرة والمتتالية والمتسارعة التي يعيشها العراق منذ وجوده كدولة حديثة في القرن العشرين وحتى اليوم لم تمنح الروائي فرصة كافية من الاستقرار ليعود للتقليب والتأمل في مراحل ماضية، بل أنه لم يأخذ فرصته الكافية حتى للتعبير عن تحولات وأحداث كبيرة عاشها، لأنه ما أن يشرع في ذلك حتى يأتي حدث أكبر وأشد وجعاً من السابق فيشغله عنه.
*للعمل الروائي مميزات في ضوء المحلية، فما مميزات الرواية العراقية وهي تستقي من منبع المحلية؟.
ـ لأن أغلب التحولات في العراق هي ذات أسباب سياسية فإن أبرز مميزات الرواية العراقية من حيث موضوعاتها هو تأثرها بالهم السياسي وتبعاته بشكل أو بآخر، أما من حيث المميزات الفنية فأبرزها اللغة، وربما يعود ذلك لكون الثقافة والأدب العراقي غنيان جداً بالشعر أكثر من بقية الفنون.
*هل الروائي العراقي مهووس بقضايا مجتمعه؟ وإلى أي مدى استطاعت الرواية العراقية نقل ملامح الواقع الاجتماعي والسياسي؟.
ـ أفضل أن نقول موجوع بدل مهووس، فالهوس فيه نوع من الإيحاء بالترف والاختيار أما الوجع فشيء مختلف تماماً، وهذا ما نلمسه ونستشعره في كل عمل روائي عراقي.. بل في كل أجناس نتاجاته الفنية والتعبيرية. أما عن مدى تمكن الرواية العراقية من نقل الواقع العراقي، فأعتقد بأن الأعمال التي ظهرت حتى الآن قد تمكنت من وصف ملامح الشرائح أو الحالات التي تناولتها.. لكن الواقع العراقي بمجمله لا يزال أكبر من قدرة وإمكانيات الكاتب العراقي على استيعابه أو إعطائه حقه، وخاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار قلة عدد الروائيين والروايات العراقية قياساً إلى ما تحتاجه شساعة هذا الواقع العراقي الثري والشائك.
سادساً : الرؤية والتأمل
*من خلال متابعتك للمنتج الروائي المحلي (العراقي) والإقليمي والعربي والدولي، كيف تصنف الرواية العراقية؟.
ـ من حيث الكم أرى بأن الإنتاج الروائي العراقي لا يزال قليلاً، أما من حيث النوعية فهناك أعمال ترقى إلى العالمية، وإن لم تأخذ حقها من الترويج والوصول بسبب طبيعة الظروف العراقية عموماً.
*الرواج والانتشار للمنتج الإبداعي عملية مهمة بالنسبة للمبدع، ولكن العمل الأدبي بأجناسه وأنواعه لا يحظى بالرواج والانتشار، فماذا يعنى هذا إلى الكاتب؟ وهل هناك أزمة ثقافة أو أزمة قراءة أو أزمة متعلم00 إلخ؟.
ـ الوصول إلى القارئ هو هدف الكاتب طبعاً، باستثناء أولئك الذين يقولون بأنهم يكتبون لأنفسهم، والذين لا أدري لماذا ينشرون نصوصهم إذا كانت موجهة لأنفسهم!؟. عموماً؛ إذا كان المقصود بالرواج والانتشار للأدب على صعيد العالم، فبالعكس إنه رائج ومنتشر وحيوي وفعال في ثقافات الشعوب وخاصة المتقدمة منها والمستقرة، أما إذا كان المقصود على صعيد العالم العربي، فأزمة ذلك هي جزء من الأزمة العامة على كل الأصعدة الأخرى.
*هل يصل بالروائي أن يرسم شخصياته، ويتعلق بها في أثناء الكتابة، وسرعان ما يلبث أن يكون شبيهاً بها أو إحداها؟.
ـ نعم؛ فقد شهدتُ ذلك شخصياً عند بعض الروائيين الذين عرفتهم، ومنهم من وجدته يتقمص الشخصية ويقلدها ويعيشها قبل وأثناء الكتابة، وحتى بعدها ولكن ليس إلى وقت طويل. أما بالنسبة لي فقد أحببت أو أُعجبت أثناء الكتابة ببعض الشخصيات، ولكن ليس إلى درجة التعلق أو التشبه بها، لأنها في الأصل هي التي تقلد جانب من شخصيتي أنا، وليس العكس.
*يقال الإبداع ليس إدهاش المتلقي، وإنما هو التجسيد الصادق والحقيقة والعفوية في الكلمة. أين يقف الروائي العراقي من هذا القول؟.
ـ الإدهاش مهم لأننا نتحدث هنا عن فن وإبداع وليس عن معطيات حيادية جامدة. ولا أتفق مع القول بأن الإبداع هو تجسيد للحقيقة والعفوية، فكلتاهما نسبيتان وقصديتان. أما عن الصدق فنعم أرى فيه شرطاً أساسياً لنجاح الإبداع، وبالطبع لا أعني صدق وواقعية الأحداث المروية، وإنما الصدق في عملية الروي ذاتها. وضمن هذا السياق فالأمر ينطبق على الروائي العراقي كما على أي روائي سواه.
*قيل أن الأدب الواقعي هو الأدب الأكثر انتشاراً، ويقوم بدغدغة الفئة الأوسع في المجتمع، أي أنه أدب القاعدة الشعبية أو هو الأدب الذي يتطرق إلى معالجة الهامش من المجتمع. إلى أي مدى يتوافق هذا الرأي والرواية العراقية؟.
ـ لا يوجد أي أدب على الإطلاق خالي تماماً من لمسات الواقعية، ولذا نجد أن المدارس والتصنيفات والمسميات الواقعية قد تشعبت كثيراً. فحتى الذي نعتقد بأنه فنطازي أو خيالي أو ميتافيزيقي أو سريالي إنما هو في الأصل يعتمد على معطيات وصور ومفاهيم ودلالات واقعية في تكوينه، لذا فأرى أن كل شيء هو واقعي بشكل من الأشكال، حتى وإن كانت طبيعة وجوده واقعياً ليست إلا على الورق أو فقط في مخيلة إنسان، فهذا أيضاً شكل من أشكال الوجود الواقعي. ففي النهاية لا يوجد شيء من لاشيء وما هو غير موجود فهو غير موجود، أما الموجود فوجوده واقعي بشكل ما.. حتى لو كانت طبيعة وجوده على شكل خيال محض. وفيما يتعلق بالرواية العراقية فإن الغالب عليها هو الواقع الواقعي لأنها لم تصل بعد إلى مرحلة الترف الذي يجعلها تبتعد عنه كثيراً، فحتى تلك الأعمال التي لجأت إلى الفنطازيا مثلاً، إنما فعلت ذلك للتعبير بشكل أكبر عن واقع فاق قدرتها على الوصف أو للتعبير بشكل آخر لأنها وجدت نفسها ممنوعة من التعبير المباشر عنه.
*من المعروف أن النقد له دور بارز وفاعل في عملية الإنتاج الإبداعي. فأين يقف النقد العراقي إن كان هناك نقد تجاه الرواية؟.
ـ حال النقد العراقي شبيه بحال الرواية العراقية، أي أنه قليل من حيث الكم وجيد من حيث النوعية. لذا فإن النقد العراقي الذي تناول الرواية العراقية هو نقد جيد، إلا أنه لا يزال قليلاً.
*الكاتب يحتاج إلى الحرية في الكتابة، والحرية في الأدوات والوسائل، ولكن ما الذي يحد من الكاتب ويكون رقيباً على نتاجه الإبداعي سواء في صياغة الأفكار أو نقل المشاعر أو طرح الرؤية؟.
ـ محددات الكاتب كثيرة، وهو خلال قيامه بفعل الكتابة ذاته، إنما يعمل في الوقت نفسه على تحدي أو تجاوز أو على الأقل التحايل على هذه المحددات. فحتى في الأدوات التي يعتقد الكاتب أن له فيها مطلق الحرية تكمن ثمة قيود معينة، ومن ذلك على سبيل المثال اللغة نفسها. تلي ذلك بالطبع الرقابات أو القيود الأخرى سواء ما يتعلق منها بخصائص العمل ذاته أو ما هي من خارجه سواء أكانت منظومات فكرية أو اجتماعية بل وحتى حدود القدرة الإنسانية.. لذا تكون عملية الكتابة نفسها بمثابة جهد يحاول توسيع آفاق الحرية دائماً.
*إذا آمنا أن العمل الإبداعي هو نوع متمرد على الشكل واللغة والرؤية أيضاً، فهل نجح الروائي العراقي في تمرده هذا؟.
ـ حتى الآن لم يصل الإرث الروائي العراقي الخاص، من حيث الكم، إلى درجة تجعل منه يشكل تقاليدً ثقيلة توجب التمرد عليها، فهو بشكل عام مرتبط بحال الرواية العالمية إجمالاً، ومواكب واعي لها، لذا فإن محاولاته في التمرد ـ وهي دائمة وتكاد تشكل هاجساً عند المبدع العراقي ـ إنما تأتي ضمن الإطار الإجمالي لحال الرواية عموماً في كل مرحلة. وأمثلة على ذلك يمكننا أن نشير إلى رواية (كائنات فاضل العزاوي الجميلة) لفاضل العزاوي في الستينات، ورواية (دابادا) لحسن مطلك في الثمانينات، و(أنفي يطلق الفراشات) لمحمد الحمراني في التسعينات.. وغيرها.
*من الملاحظ أن الناقد حين يكتب نقداً ولم يعجب المبدع يتهمه بعدم المعرفة أو الجهل، وإذا أعجب بالنقد يثني عليه ويمدحه، فما الخيط الرفيع بين المبدع والناقد؟ ولم هذه الحساسية الكتابية بينهما؟.
ـ مسألة المدح أو الذم والسخط أو الشُكر، لا يمكن أخذها على أنها مقياس لطبيعة العمل أو لطبيعة النقد، فهي تدخل في إطار العلاقات والحساسيات الشخصية أكثر من كونها موضوعية، وإذا كان هناك (خيط رفيع بين المبدع والناقد) كما تقول، فإن هذا الخيط هو المتعلق بهذا المقياس والمزاج الشخصي. أما العلاقة الأهم والأجدر بالأخذ فهي تلك التي تتعامل ـ سواء مع النص أو مع النقد الذي يتناوله ـ بموضوعية ووعي وجدية تتوخى الهدف المعرفي من قِبل الطرفين.
*بوصفك أحد المثقفين العراقيين، والمتابع للمشهد الثقافي العراقي بالداخل والخارج، فمن يصنع هذا المشهد؟ الجهاز الرسمي؟ أم مؤسسات المجتمع المدني؟ وكيف تقيمون هذا المشهد؟.
ـ المشهد الثقافي العراقي الحقيقي سواء أكان في الداخل أو في الخارج لم يصنعه الجهاز الرسمي ولا مؤسسات المجتمع المدني ـ التي أشك بوجودها ـ، وإنما صنعه ويصنعه المثقفون العراقيون أنفسهم وبجهودهم الذاتية. وإذا كان ثمة تأثير لما هو رسمي ومؤسساتي فإنه قد كان تأثيراً سلبياً في أغلبه. الثقافة في العراق، وخاصة الأدبية، ربما هي المرفق الوحيد الذي لم يكف عن الحياة والعطاء والتجدد حتى في أقسى الظروف، بينما نجد مختلف الميادين الأخرى من حوله تعاني من الخراب أو حتى الانهيار.
*الكاتب والمبدع العراقي هل يقوم بتثقيف السياسة أم تسييس الثقافة؟.
ـ فيما يتعلق بهذا الشأن، إن الكاتب أو المبدع العراقي لا يختلف عن سواه كثيراً، وإن كانت همومه السياسية، الآن، أكبر من غيره ـ وهي هموم ليست من اختياره وإنما فرضها الواقع العراقي عليه ـ. السياسي عموماً لا يكترث كثيراً بالثقافي، وخاصة بالأدب، فهو لا يتخذه مصدراً أساسياً في ثقافته. مع ذلك فالمبدع لا يكف عن الحلم بتثقيف السياسي ومعارضة تسييس الثقافي. وبالمقابل فإن السياسي بدوره لا يكف عن الحلم بتسييس الثقافي. وهنا يمكن القول ـ على نحو أدق إلى حد ما ـ بأن من بين بعض ما يحاوله المبدع هو التثقيف السياسي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*فهد حسين: ناقد وكاتب من البحرين. mfahad@batelco.com.bh
*أجري في شهر آب/أغسطس سنة 2005م.
*نشر بعضه في صحافة البحرين أولاً، مثل صحيفة (الوطن) في عددها 63 بتاريخ 11/2/2006 ومن ثم في كتاب يحمل عنوان (امام القنديل.. حوارات في الكتابة الروائية) صدر في أواخر 2008 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر بالاشتراك مع وزارة الإعلام البحرينية.. وهو عبارة عن حوار عن بعد بين تسعة روائيين وروائيات من دول عربية مختلفة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق