السبت، 23 أبريل 2016

عن: الأدب الإسباني في عصره الذهبي/ علي حسن الفواز

الأدب الإسباني في عصره الذهبي 

ترجمة وإعداد وتقديم/ د. محسن الرملي

                                                                      قراءة/ علي حسن الفواز
إذا كان البعض يعدّ الأدب الإسباني جزءا من (الأدب الإستعماري) فأن الكثير من التجليات الإنسانية والجمالية لم تُقرأ بعد في هذا الأدب، وأن إخضاعه  لتوصيف عمومي سيخلّ حتما بقدرة القارىء والناقد على حيازة الكشف، وإستهواء  المتعة، لاسيما وأن هذا الإدب بموروثه المسيحي والثقافي والسياسي والرومانسي وحتى الفروسي قدّم للعالم ملاحم وأسفارا كثيرة تحولت الى إرث كبير والى تاريخ من الصعب تجاوز مدوناته وأثره.. 
كتاب(الأدب الإسباني في عصره الذهبي)/ ترجمة وإعداد وتقديم د. محسن الرملي والصادر حديثا عن دار المدى/2015 يضعنا أمام الوجه الآخر للأدب الإسباني في سطوعه التأريخي والجمالي، إذ يوفر الكتاب مجالا واسعا للتعرف على سرائر هذا الأدب، وعلى المنهجية التأريخية التي إعتمدها الباحث في قراءة هذا الأدب والتي يحددها بـ(المرحلة الذهبية) في عصريها (عصر النهضة) و(العصر الباروكي) وهما فضاءان للتعريف بأسماء وتجارب وحركات في الشعر والنثر والمسرح لم نسمع بها سابقا، فضلا عن تعريفه بالعديد من مظاهر إزدهار الفنون والآداب وكتب الرحلات والكتابة التأريخية والحركات الفكرية في إسبانيا، وبعيدا عن الحساسية التأريخية التي وضعت الأدب الإسباني في خانة واحدة اسمها (الدون كيخوته) لميغيل دي ثربانتس..
شمولية الكتاب تنتظم في السعة والجهد الذي بذله المترجم بحثا وتدقيقا، وفي موسوعيته لتقديم رؤية واضحة لحمولات هذا الأدب في القرنين السادس والسابع عشر، والتي يرصد من خلالها أهم التحولات والصراعات السياسية والفكرية التي عاشتها المملكة، لكن مايميز هذا الكتاب أيضا هو رصده لكتابات تُعني بالكثير من الهموم الإنسانية والقيم والجمالية والفكرية بعيدا عن المهيمنات السياسية ومظاهرها القامعة..
إحتوى الكتاب على أربعة أبواب كما يسميها الباحث والتي مهد لها بتقديم تعريفي لطبيعة الكتاب وأهميته في رصد مظاهر الإزدهار في الأدب الإسباني، إذ أن التحولات الكبرى في إسبانيا (تدين بهويتها الثقافية لأدبائها في القرنين السادس والسابع عشر)ص5 شمل الباب الأول دراسة نقدية لتأريخ الأدب الإسباني عبر قراءة سيرية لعتبات وتحولات مهمة في هذا التأريخ، والتي كشفت عن الكثير من العلائق والصراعات مابين طبقة النبلاء في المجتمع السياسي الإسباني والملوك، فضلا عن إرتباطه بمظاهر القوة وطبيعة الهيمنات السياسية والإقتصادية في المجتمع الثقافي والسياسي، وكذلك مؤثرات ذلك على الحمولات الرمزية والدينية والتجارية للغزوات وتأثيرها السياسي والثقافي، والتي كانت مظهرا للإستعمار الإسباني، لكنها أيضا مظهرا لإنتشار الثقافة واللغة الإسبانيتين..
تأثيرات المناخات السياسية والصراعات الداخلية إنعكست على الأشكال الثقافية، والتي حاول الباحث أن يقدّم من خلالها معالم مهمة في التاريخ الثقافي، والتعريف بالكثير من الكتّاب والشعراء والتعرّف على أفكارهم وأعمالهم، والتي وضعتنا أمام أفق واسع وصفي وتعريفي للثقافات الإسبانية في مراحل مهمة،  لاسيما الشعر بمرجعياته الإنسانية والغنائية والأخلاقية، والذي تحفل به البلاطات في المدن والبلاطات الإسبانية، فضلا عن ماكان يقدمه الشعراء الجوالون (التوربادو) وغيرهم من شعراء الجماعات الأخرى كالمورسيكيين  وغيرهم. كما قدّم الباحث شهادات على طبيعة التحولات الحادثة في(النثر) الإسباني في مجالات (القصة، الكتابة التأريخية، كتب الرحلات، الرواية) ولعل مايجمع هذه الفنون النثرية هو الإهتمام الأسلوبي، والإنفتاح على تحولات جديدة في الكتابة، وإستعادة الرموز المهمة في الموروث الشعبي، والإبانة عن مواصفات أسهمت في وضع الأساس للتحولات الكبرى التي حدثت فيما بعد في الثقافة الإسبانية..
الباب الثاني من الكتاب يُعني بالقصة عبر مراحلها التأسيسية وتنوع إشتغالاتها وأشكالها ومضامينها، إذ جمع الباحث (خمسين قصة قصيرة لأربعة عشر كاتبا إسبانياً من العصر الذهبي) تناولت العديد من الموضوعات والأفكار التي يشتبك فيها التأريخ والخرافة والحكمة وقصص المهرجين والرومانس والخيال في القرنين السادس عشر والسابع عشر، ومن أبرز الأسماء التي إختار لها الباحث بعض القصص والحكايات الخرافية والشعبية والحكم والأمثال- خوان دي تيمونيدا، خوان دي مال لارا، ميلتشور دي سانتا دي ونياس، لويس غراثيان دانتيسكو، لويس دي ثاباتا تشابيس، ميغا دي لونا، أوغسطين دي روخاس، سباستيان مي، أنطونيو لينيان إي بردوغو،  لوبه دي بيغا، خيروتيمو دي الكالا- وقصص هذا الباب المختارة تصبّ في إبراز هوية الأدب الإسباني بنزعاته التخيلية والإنسانية، وتمثله لروح المدن التي عاش فيها أغلب القصاصيين الذين إستلهموا فيها الكثير من الطرائف والحكايات العجائبية وذات السمة الوعظية الأخلاقية، والتي (في أغلبها ذات صلة وثيقة بالملاحم والسير الشعبية، وقد تم الحفاظ على هذه القصص والحكايات الشعبية بفضل التقاليد الشفاهية) ص258 الباب الثالث من الكتاب ضمّ المختارات الشعرية التي وجد فيها الباحث مرجعيته الموسوعية في الحفاظ على منهجية الكتاب، وإبراز التجارب والأسماء الشعرية التي تعّبر كتاباتها المتعددة عن الملامح التأسيسية للأدب الإسباني في عصره الذهبي، والذي أبرز الهيمنة المميزة للشعر الغناني وطبيعة تأثراته بالشعر الإيطالي، فضلا عن رصد تحولاته الفنية بدءا من المرحلة التي (إنطلق منها غارثيلا سو دي لابيغا لتبدأ النهضة الشعرية على يديه، وتواصل نموها متمخضة عن أروع تحف الشعر الإسباني، وتستمر مع ظهور الأسلوب المكتظ بالزخارف اللفظية والبلاغية، أي الباروكي لتنتهي من بعدها بإنتهائه)ص339 ومن أبرز الأسماء الشعرية  التي إختار الباحث قصائدهم- غارثيلا دي لابيغا، خوان بوسكان، كريستوبال دي كاستيو، هورتادو دي ميندوثا، سانتا تيريسا، هيرناندو دي آكوانيا، فرانثسكو دي تيراثاس، ميغيل دي ثربانتس، وغيرهم من شعراء قد تبدو أسماؤهم مجهولة للكثيرين، لكنها تعبّر في جوهرها عن الطبيعة الحيوية لحراك الشعراء الذي هيمنت مظاهره على ما سمي بـ(العصر الذهبي).
الفصل الرابع من الكتاب يضعنا أمام الفضاء المسرحي الذي تَمثّل أجواء هذا العصر بكل تجلياته، والذي أسبغ على كتابة المسرحيات مظاهر عبر من خلالها كتّاب المسرح عن وعيهم للتحولات في الأدب والفكر وفي العلاقات العامة، والتي تم توظيفها في صياغة أشكال متنوعة للمسرح الكوميدي ولمسرح المتعة ولمسرح الأقنعة، فضلا عن جرأة بعض المسرحيين في التعاطي مع موضوعات حساسة مثل ثربانتيس الذي (تناول ظاهرة التطهير العرقي وشعار"تنقية الدم" الذي رفعته محاكم التفتيش ضد المسلمين واليهود بعد سقوط غرناطة وإنتهاء الدولة الأندلسية) ص456 مثلت مسرحيات ثربانتيس- الذي لايعرف الكثيرون عن تأريخه سوى ماعلِق به من أثر كتابه الكبير دون كيخوته- وعيا تأريخيا ونقديا برصد مظاهر الواقع الإسباني وصراعاته، وطبيعة الأفكار التي كانت تحتاج الى رؤية عميقة (تسخر بشفافية مطعمة بمرارة وعدم رضا عن الواقع) ص455 وتضع هذه المسرحيات  في سياق أخلاقي ومعارض، فضلا عن صياغة شخصياتها على أساس ماتحوزه من عمق نفسي وأجتماعي..
هذا الكتاب الأنطولوجي أغنانا كثيرا بكثافة المعلومات عن عصر مهم وزاخر في التأريخ الثقافي الإسباني، ووفر لنا أيضا تصورات عن طبيعة التحولات التي شهدها هذا التأريخ، والذي ماكان له أن يكون لولا هذا الإرث العميق الحافل بشغف الروح الإنسانية والجرأة في معالجة الكثير من مظاهر الحياة والصراع الذي تعيشه، حتى لوكان ميدان هذا الصراع حياة الملوك والنبلاء وعوالمهم السرية..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشرت في ملحق (أوراق) الثقافي التابع لصحيفة (المدى)، العدد 3469 بتاريخ 4/10/2015م.

ليست هناك تعليقات: