
الجمعة، 6 مارس 2009
نص / شيخوخة الدنيا
(المجلد الثالث)
شيخوخة الدنيا
"شابت أركاني.. وما ضيمي إلا الساكِت"
كاظمية مطلك
أختي الصغيرة تحب أكل البيض المسلوق، فكنت أحرك لها بيضة اليوم في صحن الماء فوق المدفأة، لذا كانت تفكر بالبيضة وليس بالدنيا حين استفاقت وسألت: ألم تنضج الدنيا؟.
قلت: لا.. فلو أنها نضجت لكفت عن التقاصف.
ما كان ينبغي لنا أن نحشو رأسها النظيف بمقابر ذاكرة الأرض، لأن ارتكاب حمل ذاكرة ثقيلة يعجل بالشيخوخة. أنا أقرأ لها تاريخ الحروب الذي دلني عليه أبي، وهو المدمن على سماع أشرطة خطب الشيخ عبدالحميد كشك كان يقربها إليه ويحفظها أشعاره. فكرتُ أن أجلب لها كتباً أخرى عن حكايات السندباد، الأميرات النائمات، حوريات البحر، القراصنة العشاق.. ولكن تلك أيضاً تعج بالمبارزات، فلأجلب لها إذاً كتباً نافعة تعلمها الطبخ.. لكن الطبخ سيقودها إلى لحم الحيوانات المذبوحة.. سأفكر إذاً بكتب أخرى كتاريخ الحياكة أو تنسيق المزهريات.. شيء آخر يبعدها عن أسئلتها الواسعة لنا.. عن أسئلتنا لبعضنا ولأنفسنا:
.. ماذا سيحدث غداً؟ هل سيظل الحال على ما هو عليه.. حيث يستمر تواصل قصف أهل الأرض بعضهم لبعض، يتحالف بعضهم ضد بعض، ويسكت آخرون على ظلم بعض لبعض؟. لم نكتف بالطائرات كحاملات للقذائف وإنما أجبرناها على الانتحار أيضاً نطحاً لرؤوس ناطحات السحاب.. هل سيواصلون تطوير أسلحة القصف لتصبح أكثر دقة وأشمل تدميراً، فبعد الفأس والسكين والخنجر والسيف والهراوة والرمح والقوس والنشاب والمسدس والبندقية والمدفع والدبابة والراجمة.. قنابل أخرى ثقيلة وأخرى مشعة وأخرى نابالم حارقة وأخرى مزدوجة وأخرى عنقودية، فراغية، ذكية، نووية، هيدروجينية، كيميائية، جرثومية وأخرى.. لمن؟ لماذا؟ على ماذا؟.. هل سيتمكن رجل مجنون من شراء إحداها من سوق الأحد ليقذف بها جاره؟. هل سيصبح القصف أكثر (إنسانية) وأكثر خبثاً؟.. حيث القنابل المسيلة للدموع والأخرى المسيلة للضحك والأخرى المعبأة بالغائط وبرائحة عفونة لا تطاق فتُخرج أشد المقاتلين الأفغان من جحورهم الغائرة في الجبال. والقنبلة المنوّمة التي ستجعل جنود جيش الأعداء يشخرون لساعات نتمكن فيها من القبض عليهم والتصرف بعدها بمصيرهم على هوانا.. دون قتل.. والقنبلة الألكترونية التي تعطل كل شيء.. بما في ذلك ساعة الحائط وساعة اليد التي جاءتك هدية في عيد ميلادك.. حروب نظيفة بلا جثث على الشاشة أثناء متابعتنا لها ونحن نتناول طعامنا.. هكذا بحيث تتحول الحروب إلى ألعاب سحرية غير مفهومة مثلما ابتدأت.. ماذا إذاً؟.. هل سيستمر القصف أم يتوقف؟. هل ستأتيك المتفجرات عبر أسلاك الهاتف والكهرباء وفايروسات الإنترنيت؟.
ربما قالت أختي: كفانا جَلداً لأمنا الأرض وتثقيباً لها بالصواريخ.. أشهد بأن القصف فعل جبان.. أما إذا كان حاجة، فكم من حاجة قضيناها بتركها!.. هل سيستمر السكوت على ارتكابات القصف أم ستتم مواجهته بقصف من الاحتجاجات الإنسانية؟.
ما كان لي أن أجيبها بما أعتقده فعلاً: لا يا أختي لن يتوقف القصف أبداً مادام ثمة أكثر من آدمي واحد على الأرض، فحين كانا أخوين فقط قتل أحدهما الآخر.. وسوف يستمر ذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. سيقصف الإنسان غيره دائماً مادامت لديه هناك رغبات.. الإنسان يريد دائماً وكلما ازداد عدد الأشياء التي يريدها كلما ازدادت شراسته وقلَّت سعادته، المشكلة هي دائماً في أنه يريد ويريد ويريد المزيد..
قالت: هذا ما يقوله أبي أيضاً وعلمني أبيات شعر جديدة، هل أقرأها لك؟.
قلت: لا.. كلي بيضتك، ها هي قد نضجت.
فقالت: دعها تبرد. ثم وقفت مستقيمة كأنها في ساحة المدرسة وراحت تردد ما لا أظن بأنها تفهمه:
صغيرٌ يطلب الكبرا وشيخٌ ود لو صغرا
وخالٍ يشتهي عملاً وذو عمل به ضجرا
ورب المال في تعب وفي تعب من افتقرا
فهل حاروا مع الأقدار أم هم حيروا القدرا
ماذا فعلت بنا أيها الحاج ملا مطلك؟ تحشو رؤوسنا بتاريخ الحروب وقصائد الأديان وتحملنا اشكاليات بني آدم الوجودية، ولا تكف عن ترديد عبارتك الدائمة على مسامعنا كأغنية:"كل مصائب الدنيا من تحت رأس الإنكليز".. حتى كانت هي آخر ما لفظت مع أنفاسك الأخيرة.
قلت لها: لا يعجبني هذا النوع من الشعر، اسمعي ما يقوله رجل طيب من بلاد بعيدة اسمه رسول حمزاتوف:
إن الحمير نفسها
لو حاولت قراءة الكتب
لما استطاع أحد أن يقول عنها
بهكذا بساطة: حميراً.
ليكن الخبز رخيصاً على الأرض
ولتكن الحياة الإنسانية أغلى.
فكلي بيضتك أيتها الغالية. وسأجلب لك كتباً أخرى مختلفة عن كل التي في بيتنا.
قالت: قشرها لي إذاً.. إنها ساخنة.
سمعنا طرقات على الباب، وصوت الطارق يقول: أنا عزيز افتح الباب، هذه رسالة لك من أوربا. قلت لها: افتحي له. فركضت ورفعها عزيز إلى صدره، قبلها، وكالعادة قال لها مداعباً: هاي.. كيفك يا مجنونة؟. وأجابته: أنت المجنون. عزيز جارنا الذي يستمد حياته من النظريات والأحلام واقتراح المشاريع الكبيرة التي ينساها في اليوم التالي. كان شيوعاً والآن يقول علينا أن نستفيد من أخطاء الماضي، أن نبدأ من حيث انتهينا، لقد أهملنا الإنسان الفرد.. لقد كان ذلك خطأً. تقلب عزيز بين الإسلاميين والقوميين والهيبيين والديمقراطيين والخضر و..
كففت عن تقشير البيضة ورحت أقشر الرسالة التي جاءت من صديقي المنفي في أوربا، فوجدتها معبأة بالخوف لأنه صار يرى كل ما في هذه الدنيا مخيفاً لذا يقول: لقد تجاوزت الأربعين، أنهيت رسالة الدكتوراه، وماذا بعد؟ فأنا لا أجد عملاً.. بحكم البطالة وكبر سني.. أمضيت حياتي أعد نفسي للحياة؛ دراسة وأوراق رسمية وتعلم لغات وقراءة كتب.. ها هي حياتي تتسرب من بين أصابعي بعد أن أكملت استعدادي لها.. أنا خائف من الغد.. أنا خائف من الخوف.. أنا خائف على ابني أيضاً لقد بلغ الرابعة من عمره الآن، وعلى الرغم من أنه ولد هنا فإن أصحابه في المدرسة يقولون له: أنت أجنبي.. عُد إلى بلدك. يُفضل مثلهم ألعاب الحرب الألكترونية وأفلام العنف.. كلما نظرت إليه ينقبض قلبي وأنا أسأل نفسي: ماذا عن مستقبله؟. فأشعر بأن شيخ المعرة كان على حق في أنه لم يجنِ على أحد. إلى أين يتجه هذا العالم؟. أمضيت حياتي خائفاً من كل شيء؛ من أبي وأمي والمعلم والمدير والفشل والشرطي والحرامي والحكومة والجوع والحروب والموت.. هربت من بلدي كي أبتعد عن الخوف، لكني أخاف هنا من أنانية الآخرين، من عنصريتهم، من أفلام الرعب والمخدرات وطغيان السوق وأزمة الوقت وصخب المراقص ونظرات العابرين.. فلماذا أنجبته؟.. لا تنجب يا صديقي أبداً.
ليست مشكلتي في أن أنجب أو لا.. أنا الآن خائف على أختي وهي تقول: البيضة مازالت ساخنة فافتحها للهواء. لكن جارنا عزيز يقول أن عالم غير هذا ممكن. عزيز يحب الاشتراك في المظاهرات، الاحتجاج ضد أي شيء.. فالمهم عنده هو عدم السكوت. لأن السكوت عجز، كما يقول. إنه مهووس بما يسميه النضال. حدثني قبل أيام عن ضرورة الانضمام إلى حركات وجمعيات إنسانية تعرف عليها مؤخراً. لم يكن خائفاً مثلنا بل مفعماً بالحماسة والثقة والأمل. أم أن هذا مجرد ستارة من وهم؟. قال: أريد قهوة. ثم راح يقصفنا بحديثه: السلاح انتهى فقد تم استخدامه على مدى قرون طويلة ولم يوصل إلى نتيجة..لقد فشل في أن يحل مشاكلنا. إذن يجب البحث عن أسلوب آخر ألا وهو الحوار وتبادل الاحترام. وعلينا الفصل بين التاريخ الذي لم يكن في خدمة الإنسان، أي العنيف. والتاريخ الآخر الذي خدمت عناصره الإنسانية. ففي كل ثقافة ثمة ما هو إنساني على مدى تاريخها، قد جاء على مراحل، ولكن الإنسانية كانت عمياء. بالمناسبة سأتزوج بعد شهر بامرأة عمياء على الرغم من اعتراض أمي. أريد القهوة بلا سُكر. عندما لا يعترض الذكاء ولا يتظاهر تضعف الدعوات إلى الإنسانية وتتراجع. علينا أن نبتعد عمن هم ضد الإنسانية، أي نترك بيننا وبينهم مسافة، ولكننا يجب ألا نفكر باستخدام السلاح أبداً في مواجهتهم.. أي نفصل بين من هم إنسانيين وغير إنسانيين.. لا تتواجه مع قوة كبيرة وإنما عليك بالصبر حتى تضعف وبعدها نقيم علاقة معها مبتدئين بالحوار. الشرطة مثلاً أو أمريكا هي الآن القوة ولكنها ستضعف مثل قوى أخرى كثيرة في التاريخ. الطبيعة؟.. هي بيت الإنسان ويجب أن يكون هناك انسجام مع الطبيعة أي لا يأخذ الإنسان منها أكثر من حاجته وهذا ليس لأجل الطبيعة ذاتها وإنما لأجل الإنسان نفسه، لأنها بيته، أي يجب أن تعاملها كما تعامل بيتك.. ويبقى الإنسان أهم من الطبيعة. نحترم اعتقاد الآخر بعمق ونميز بين ما يتوافق والدعوة الإنسانية في اعتقاده ونشخص ما يتعارض معها. عندما نتحدث عن المجتمع نتحدث عن المظاهر التي تدعم الإنساني فيه. فمثلاً إننا نحترم من يعتقد بالله ونعتبر قوله هو اعتقاده، علينا احترام ذلك، وكذلك نحترم الذي لا يعترف بالله لأن كل شخص هو مسؤول عن اعتقاده.. إذاً فالذي يهمنا في ذلك هي العناصر الإنسانية.
صنعت لعزيز قهوته، وضعتها أمامه على الطاولة وهو يدخن ويتحدث بشراهة كعادته: الفرق هو أن الإنسان ينفعل على العكس من الأشياء الجامدة. والعالم عالمين: الطبيعة والعالم الإنساني. من العالم الطبيعي تخرج الحيوانات والنباتات والأحجار والأشياء، والإنساني يمتلك عناصر إنسانية مثل: اللغة، الانفعال، القيم الأخلاقية وطبيعة استخدامه للأشياء.. فهو يُصلح ويعالج العالم ونفسه. أهم العناصر هو الاحترام.. كيفية التعامل مع الآخر.. عليّ أن أنظر إلى نفسي كيف أريد أن يعاملني الآخرون فأعاملهم.
يبدو أن عزيز لا ينتظر مني أية مداخلة، وهو يسحب علبة سجائره من يد أختي دون أن يتوقف عن الكلام: هاتي العلبة. علينا أن نستخدم السؤال دائماً: ماذا تريد؟ وعند الجواب نسأل لماذا؟ ثم لماذا؟ ثم لماذا؟ حتى نلاحظ بأننا نصل إلى أفق أوسع.. إنه توسيع الصدر الإنساني.. الاستمرار بالسؤال عن الجواب حتى نصل في نهاية الأمر كنتيجة حتمية إلى أشياء إنسانية. وهذا الذي سيظهر خلف كل ذلك نسميه (الشعور الديني) يسمى كذلك لأنه شعور أولاً وديني لأنه يتعلق بالعمل الإنساني.. ميكانيكية العمق الإنساني.
عزيز لم يذق قهوته، يتكلم وحده، يناقض دعوته ولا يتركني أسأله.. أصاب رأسي بالصداع، ولكن جل ما يوحي لي به دائماً هو أنه؛ مازالت هناك إمكانية لاستمداد القوة والحياة من الأحلام الطوباوية.. كأنه سكران، لكنه متقد بالحياة:
لا تقل لي ما يَقله الله.. دع الله يقول ما يريد في القلب الإنساني. لا أحد يتكلم باسم أحد، ولا يقل أنا أمثل المجموعة الفلانية.. الفكرية.. وإنما هي إنسانية شاملة لا نريد لها أن تتحول إلى أحزاب وتجمعات.. لأن ذلك في النهاية يعتم على الحركة ويعيدها إلى الخطأ ذاته.. نريد بقاء عالمية وإنسانية الفكرة كما هي.. يجب الفهم بأن الأشياء في أصلها هي ليست ملكاً لأحد.. يجب تغيير وجهة النظر إلى الملكية الخاصة، فمثلاً إذا كنت تحتاج إلى بيت واحد للعيش، فلماذا تمتلك أكثر من بيت؟ تحتاج إلى كأس ماء واحد فلماذا تحجز عشرة؟ إلى سرير واحد فلماذا تحتكر سبعة؟.
كان كمن يهذي، كمن يردد أقوال أصوات يسمعها في أذنيه وحده، كمن يحفظ مقاطع من خطابات طويلة، كمن يتدرب على الخطابة برأسي، كمن يريد الهروب من أشياء يخفيها، كمن يحاول ملء الصمت بأي صوت، كمن.. لم يمسس قهوته وظل يدخن، يسأل ويجيب:
الفلكلور؟.. كل إنسان يميل للتحزب أو الانفعال بشيء ما، اعتقاد أو تراث، ولكن الذي يهمنا من كل ذلك ـ ونحن نحترمه ـ هو نقطة علاقته بالإنسان والإنسانية. ودائماً علينا استخدام الحوار والمحادثة والسؤال المنطقي (كان عزيز يتحدث وحده ولا ينتظر مني محاورة أو يسألني عن رأيي).. يجب أنسنة الأشياء والفن والنتاج الآدمي، يجب النظر إليها بإعادتها وتقييمها حسب أهميتها للإنسان، لما يخدم الشعور والعناصر الإنسانية، العودة إلى إعادة النتاج وقياسه وفق خدمته للإنسان.. نقول إن الإنسان الآن يرى الأشياء معكوسة والتوجه الإنساني الذي ندعو إليه ونناضل من أجله هو أشبه بنظارات يضعها ليرى الأشياء كما هي. أوقد عزيز سيجارة أخرى دون أن ينتبه إلى السابقة بين إصبعيه.
الغالبية من الناس هم إنسانييون، لأنهم جميعاً في الأصل كذلك، ولكن يجب إعادة التذكير الدائم بالعناصر الإنسانية. والإنسان الفرد نفسه عليه، دائماً، أن يهدأ ويراجع ذاته، يترك تفاصيل الحياة اليومية قليلاً كي يقوم بمراجعة الذات، ودائماً وفق استحضار المشاعر الإنسانية الجيدة والتفكير فيها والتخطيط لفعلها حتى يتعود عليها. يخدم الأمر كذلك في تقوية وتطوير هذه العناصر الاجتماعية الأسبوعية مع أناس يحاولون تقوية المشاعر الإنسانية في أنفسهم حتى نصل إلى الشخصية الإنسانية.. على الإنسان أن يقرر ما يريده ووفق المشاعر الإنسانية ومتى؟.
ظل عزيز يمطرنا بانثيالاته، بمنطقه المفكك الصادق، باشتعالاته. يشعل سيجارة من عقب أخرى ولا يتوقف عن الحديث، زارعاً كلمة إنسان أو إنسانية بين كل العبارت. إنه يبدد ما كنا عليه من حذر في الكلام ويحول الأمر إلى احتفالية صاخبة بالكلمات:
علينا العناية بما تعتقده الناس بعمق. دائماً ثمة حوار حتى مع الإنسان الفرد حول ما هو عام وشامل إنساني. ومحاولة التأثير عليه حول أهمية علاقته برأي الآخر وبعدها..ماذا؟.. الاقتصاد؟ العلاقات الاقتصادية تقسم إلى قسمين: صاحب المال والعامل. نقول إنهم شركاء.. يعني الغني يعتني بماله لمستقبله والعامل يعمل من أجل مستقبله، هم شركاء ولكن الذي يحدث واقعاً أن صاحب المال يأمر ويحاول استغلال حياة الآخر. على الناس أن تعمل لتؤمن حاجياتها ولكن عن طريق العمل، لا عن طريق استغلال عمل الآخرين..
وما أن سمعت أختي بكلمة عمل حتى رددت مما حفظها إياه أبي نقلاً عن أشرطة كشك:
يا مَن بدنياه اشتغل وغَـرّه طـول الأمل
الموت يأتي بغـتةً والقبر صندوق العمل
قال عزيز: ماذا تقول هذه المجنونة؟. قالت هي: أنت المجنون. وقلت أنا: هذا ما جناه عليها أبي ولم تجنِ على أحد. اشرب قهوتك، لكنه لم يفعل وكان متقداً باسترساله:
طبعاً، فالذي لا يفهم من نظرة فلن يفهم شروحات طويلة. إننا لا نقول بتخزين المال وإنما بتأمين الحاجات. فما أفقر الشخص الذي لا يملك سوى المال. الغني ليس غنياً لأنه عمل ذلك. صاحب المال لم يصبح غنياً إلا بعمل الآخرين، إذاً صاحب المال الحقيقي بشكل عام هو الإنسان وليس هذا الشخص المحتكِر؛ باختصار الذي يجلب الغنى هو الإنسان وليس المال. يجب المراهنة على الإنسان دائماً وعلى مطاولته وخلوده.. يجب ألا نسكت لأن السكوت عجز.. البير كامو يقول: لنفرض أن عدداً من الأفراد قد عقدوا العزم على أن يضعوا إزاء القوة: القدوة الصالحة، وإزاء السلطة: الحث والنصح. وإزاء الإهانة: المنطق المسالم، وإزاء الخديعة: النبل والشرف.. أناس كهؤلاء يكونون حينئذ ممهدي المستقبل.. أنا، مثلاً، سأتزوج بعد شهر من امرأة عمياء.. لمَ لا؟.. أليست هي إنسان مثل بقية الناس؟.. أليس..
قلت له: يا عزيز اشرب قهوتك لقد صارت باردة.
وقلت لها: يا أختي كلي بيضتك لقد صارت باردة.

قراءة / صالح زامل



-1-
ينتمي الكولاج في الأصل إلى الفن التشكيلي حيث تدمج خامات في اللوحة من خارج مألوفها الذي يمثله القماش أو أنواع الورق واللون، عندما تضاف لها مواد صلبة أو رخوة تكون بارزة عن سطح اللوحة، وتلصق في مواضع منها، وقد تكون مواد اللوحة معتمدة كليا على المواد المستهلكة من النفايات، وفي متحف الفن الحديث (العراقي) قرب ساحة الطيران تشغل واحدة من هذه اللوحات مساحة كبيرة على أحد جدران المدخل من الداخل، إن هناك ثابتا مشتركا نسبيا بين الكولاج في الكتابة وفي الرسم هو عملية الإلصاق التي تجد لها قاسما مع الأصل الذي جذرناه في الفن التشكيلي.
و(الكولاج) في النص الخارج من منطقة الشعر المعروفة؛ هو إدخال معارف من غير منطقة الشعر ولا من لغته المبنينة، كالسرد القصصي، والواقعة التاريخية المقتبسة من المتن التاريخي بأسلوب المتن ولغته، لكنه مع ذلك لا يقف أسيرا لهذا التقعيد، فكونه (كولاج) يعني انفتاحا دونما حدود، كما أنه خروج على كل أغراء بالتأطير، وهو ما يؤكده محسن الرملي أيضا في كتابه (ليالي القصف السعيدة)، وإن وضعنا ـ كما أظن ـ في صورة الشكل الذي يريده لكتابته وحسب، وفي كتابه هذا تحديدا، فعندما تجاوز الاقتراح الذي أشار لوضعه في إطار حكائي، وهو عامد مسبقا في رغبته الخروج على الأطر المعروفة أو تجاوزها، لذا كان خياره أن يجعل كتابه ينضوي تحت اللا شكل حيث يقول:"يتمحور حول القصف، وسيضم نصوصا متباينة في طبيعة جنسها ولغتها وأحداثها، وتكون فيه نصوص معلوماتية وتاريخية اجمعها من الصحف والموسوعات والانترنيت؛ قصائد ونصوص انثيال لغوي. . هي بحد ذاتها صور من معرض القصف. . بل وإني سأعرض بأسلوب صحفي كتابا يتحدث عن القصف"(1)، وهذه الرغبة في الخروج عن الأطر المسبقة والتململ من هيمنتها طالما راودت المبدعين بدءا من عنترة في مطلع معلقته:
هل غادر الشعراء من متردم أم هل عرفت الدار بعد توهم
فالبحث عن الأشكال واجتراح الجديد منها جزء من انشعالات المبدع في بحثه عن حريته في ممارسة الكتابة هي التي تماهي الفعل لديه، وهذا البحث يبدأ بالخروج على قيود سابقة ليضع قيودا مع تكرار التجربة، وهذا التأطير للكولاج لا يمكن أن يسلم به على أنه تقعيد له، لأن الكولاج شكل أو إطار فضفاض يحتمل السعة والتنوع وعدم الانقياد لقاعدة معينة، والرملي إنما يحصر في قوله السابق الطريقة التي وضع بها مبناه لكولاج (ليالي القصف السعيدة) تحديدا، وعيّنه بأنه (كولاج سردي)، وقد يكتب كولاجا آخر لا يخضع للمبنى السابق، وهذا يقارب إلى حد بعيد نجاح السياب في القصيدة الحرة عندما استأثر بالتأثير في التالين والمعاصرين له دون نازك الملائكة، ويأتي جانب كبير من هذا النجاح من هذه الجهة حيث حاولت نازك الملائكة أن تنظّر للتجربة بدءا من بيانها في مقدمة مجموعتها (شظايا ورماد) إلى كتابها (قضايا الشعر المعاصر)، في حين جعل السياب تجربته غير مقرونة بالتنظير على الأقل في بدئها، وأعطى لها مساحة من الحرية والتجريب والاعتراف بكل إضافة وعدم احتكارها بوجهة ما.
وتجربة كتابة الكولاج لي فيها محاولات نشرت منها اثنتين هما (لعبة لمخاريق صبيان، وما يبعثره النسيان تنقذه الذاكرة)(2) وسميته (نص كولاج) وقد وظفت الواقعة التاريخية والمادة الفلكلورية والشعر القديم والحكم والأقوال المأثورة بسياقها وصيغتها في الأصل غالبا دون أن ألويها، وإذا حرفت أحيانا فليس لغرض اخضاعها لشكل كتابي ولكن لتوائم المضمون وهذا يقود إلى أن العناية في الكولاج إنما يأخذ جانب كبير منها المضمون، وذلك واضح في (ليالي القصف السعيدة) أيضا إذ هناك ثيمة إنسانية أو أنها لصيقة بالإنسان في الكثير من وجوهها هي التي استأثرت بالمضمون ليظهر معها الكتاب بهذه الصورة.
-2-
إن التباين في جنس ولغة النصوص التي يتمحور حولها الكولاج ـ إذا استعرنا تعبير الرملي ـ يجد صداه في قائمة المصادر والمراجع، حيث نلمح بشدة غلبة اتجاه من الكتب يلائم إلى حد بعيد هذه الوجهة؛ وهي كتب الموسوعات بدءا من (موسوعة دار إسابا)، ومعروف أن الموسوعة أية موسوعة تضم بين دفتيها التاريخ والجغرافيا والفلسفة والدين والسيرة والاجتماع . . إلخ، فضلا عن(لسان العرب) وهو موسوعة أيضا، ليس في المعارف اللغوية، وإنما في علوم مختلفة لها غالبا صلة باللغة، وكذا ما نجده في (المنجد في اللغة والأعلام)، وهذا ما لا يفارقه (القرآن الكريم) باعتباره موسوعة في الدين من القصص والفقه وشؤون عديدة من الحياة، وهذا التنوع والتباين نجده ضمنا في مصدر آخر هو ملحق جريدة (البيان) وهو (بيان الكتب) حيث يتضمن عروضا لكتب متباينة لا تنتمي لاختصاص واحد، وهو يقارب الجرائد الإلكترونية تماما التي كانت إحدى مصادر الكتاب، فتستحوذ وجهة ثلثي قائمة المصادر والمراجع التي نعدها (أحد عشر مصدرا) على مقاربة لشكل الكتابة الذي يعنى كما قلنا بالتباين والتنوع في المعارف المستقاة والمجتمعة في إطار من الكتابة.
-3-
في كتاب محسن الرملي هناك ظاهرة كرسها الكولاج على ما يبدو، لكني رأيتها تنسحب كذلك لبعض النصوص القصصية التي اجتمعت مع الكولاج في غلاف واحد، ومنها تحديدا (القصف والمراحيض)، وهذه الظاهرة هي المصادرة في الحوار إن واحدا يتحدث ويلغي الآخر، ففي كتاب القصف كان الراوي لتاريخ القصف في الجزء الأول (طفولة الدنيا) والثاني (مراهقة الدنيا) لا يمكن مقاطعته، والأخت المحاور المفترض كان امرأة أولا، وهي أخت صغرى ثانيا، ثم هي متعلم يدخل عالم القراءة توا، فعليه هي محكومة بالتلقي وحسب، وهو إذا استعان بالحوار فإنما يقتبس مقاطع من حوار الصحفية (صوفيا هاريسون) مع (سفن لندكفيست) صاحب كتاب (تاريخ القصف) الذي يقوم الكولاج بعرض صحفي له ويستعير عنوانه للكولاج السردي، وفي (شيخوخة الدنيا) وهي الجزء الثالث من الكولاج يصادر الجار (عزيز) كل الوجهات المفترضة للحوار، بما فيها الراوي السابق الذي يقع أيضا في إطار القمع، ويتجاهل بقسرية الأنثى المستمع السابق (ماذا تقول هذه المجنونة)(3)، هذا الإنسان المعزز بالإنسانية إلى حد الفخر بأنه سيتزوج امرأة عمياء لا يمكنه أن يكون إلا بهذه الحال من الازدواج*، فهل من غرابة بعد ذلك أن يكون الجناس بين الحوار(المحادثة) والحوار (ولد الناقة)(4) ـ الذي تسقط عليه قذيفة تجعله أشلاء ـ لا يقف عند حدود الجناس اللفظي ولكن الاشتراك في المصير، فهذا بالسيف وذاك باللسان وهو ما يعززه قولهم:
من لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد
يبدو أنها سنوات الإلغاء التي لا يمكن تجاوز تراكمها في مجتمع شرقي لا يرى الاختلاف إلا ندا، وقد تركت نحتها في الرؤية لكل ما هو مغاير، فضلا عن الوجود في الـ(هناك) كآخر ملغى غير معترف به يهيئ بشكل لا شعوري لهذا المد من التجاوز أو التخطي للمحاوَر، حيث توازي(الكتابة) ـ كما قلنا ـ (الفعل) لذا نمارس بشكل لا شعوري فيها حريتنا التي تبدأ من الخروج على كل القيود المحيطة بنا وقد نسحق حرية آخرين لنا.
إن الكتاب يمثل تجربة جدية للخروج من الأشكال والقوالب المسبقة إلى اجتراح شكل ينفتح كما هو العالم على عولمة حقيقية تحاول أن تحيط بكل شيء.
-----------------------------------------------------------------------
الهوامش:
* ليالي القصف السعيدة/ محسن الرملي- دار سنابل للنشر والتوزيع، مصر- ط1، 2003.
(1) ليالي القصف السعيدة/ ص15.
(2) الكولاجان نشرا في جريدة الزمان الأول في العدد/ 1206 بتاريخ 9 مايو 2002 وفي مجلة الثقافة العربية الصادرة بلندن العدد/1 حزيران 2002. والثاني في العدد/ 1424 بتاريخ 8 مايو 2003.
(3) ليالي القصف السعيدة ص67.
* وهذه الظاهرة لفتت انتباهي أيضا في مجموعة عبد الهادي سعدون(انتحالات عائلة) لكن البطل كان مقموعا تماما لا يحاور فهو أما مكمم فعلا أو يكلم ذاته تحت وطأة مصادرة الغالب وهو ما سأقوم بالحديث عنه في غير هذا الموضع.
(4) ليالي القصف السعيدة ص 115، الحوار سعيد في قصة(أنا وأنت والناقة مسعودة في عاصفة الصحراء).
قراءة / عبدالرزاق الربيعي

ليالي (محسن الرملي) السعيدة:
تداعيات حياة محكومة بالقصف المؤبد
عبدالرزاق الربيعي
"ما من حركة.. أية حركة في هذا الكون، إلا شكل من أشكال القصف".
بهذه النتيجة يفتتح القاص والباحث العراقي محسن الرملي قصفه (اللغوي) في كتابه الجديد (ليالي القصف السعيدة) الذي صدر قبل أيام عن دار (سنابل) في القاهرة التي يشرف عليها الدكتور طلعت شاهين، وجرى توزيعه بالتزامن مع نشوب الحرب العدوانية الأميركية البريطانية ضد بلدنا العراق (حيث وصلت نسختي في مساء اليوم السابع من الحرب) لتكون بادرة جميلة من الدار لتعميق الحدث عن طريق البحث في تاريخ الشر الدولي على الأرض، لاسيما أن الكاتب الذي حازت روايته (الفتيت المبعثر) على جائزة اركنسا الأمريكية باعتبارها افضل عمل أدبي عربي مترجم إلى الإنكليزية عام 2002م، عايش حربين طاحنتين قبل خروجه من بغداد ليقيم في مدريد، وقد وضح دواعي إقدامه على وضع هذا الكتاب الذي جمع السرد بالتاريخ مع النص القرآني واللغوي والشعري والرسائل الشخصية والفنتازيا بقوله :" لقد هيمنت علي رؤية القصف تماما لكثرة ما قرأت وما سألت وما سمعت عنه ولكثرة ما فكرت به أخذت أفسر كل حركة على أنها من أشكال القصف " ويعطي محسن الرملي أمثلة على ذلك راسما لوحة شعرية يعكس من خلالها رهافته وحساسيته المفرطة التي اعتدنا على مداراتها ـ نحن أصدقاؤه ـ" سقوط النور على رأسي من مصباح السقف قصف، دخان سجائر الآخرين قصف، نبضات القلب، رنين الهاتف، هبوب الهواء، هسيس الحصى، هبوط الليل، هطول المطر، هلاك النجوم، هوس كرة القدم،.. هفهفة الثياب وهمس البنات قصف قصف قصف".. هذه الرهافة تذكرني ببيت لشاعر اسمه فرج مكسيم يقول فيه (وأنا من كثرة ما عانيت النار / يجرحني ضوء المصباح) فلكثرة ما حفر القصف في ذاكرة محسن الرملي من آبار تنز دما، و ذاكرة كل عراقي أياً كان حتى لو لم يدخل الجيش ! ـ فالقصف يطال المدنيين أيضا ـ مليئة بضجيج القصف الذي جاء إليهم من الأمريكان والإيرانيين والبريطانيين والعرب أيضا، وحتى الحكومة وإسرائيل ـ حدث مرة واحدة بقصفها المفاعل النووي العراقي إبان الحرب العراقية الإيرانية وكنت حينها في زيارة لمحمد سيف وناظم فالح وعدنان علوان في القسم الداخلي لمعهد الفنون الجميلة في الكاظمية ـ فالذي يعيش على أرض العراق حفنة من السنين، لا يبرأ من هكذا خدوشات وحفر وجروح وتأوهات، ويصبح من الطبيعي أن يذكره كل شيء صائت بفعل القصف، وهكذا صار كل صوت مرتفع يسمعه الكاتب يتحول إلى حالة فزع، لأنه يسحبه إلى ليالي القصف في العراق، ولكي يتخلص محسن مطلك من حالة الفزع هذه لكي لا يورثها لأولاده الذين سينشأون من نصف عراقي وآخر إسباني، تقصى مفردة القصف في القران الكريم، ولسان العرب لابن منظور,والمنجد في اللغة والإعلام وأساطير بلاد ما بين النهرين وموسوعة دار اسباسا الإسبانية وكتاب تاريخ القصف لسفن لندكفيست ـ وقد أمده بمعلومات تاريخية مهمة ـ ورواية شقيقه الشهيد حسن مطلك الشهيرة (دابادا ) ومذكرات كازانتزاكي وعدد من دواوين الشعراء الأسبان والعراقيين كعدنان الصائغ وفضل خلف جبر وسعد جاسم وعبد الهادي سعدون وصلاح حسن وعلي ناصر كنانه.. وأخيرا بعض مواقع الشبكة المعلومات العالمية.
يتألف الكتاب من كولاج سردي حمل اسم كتاب القصف وفيه يضع محسن مقدمة لانبثاق فكرة كتابه بعد عودته من مظاهرة اشترك فيها مع اكثر من عشرة آلاف شخص في مدريد وعودته إلى البيت ثم خروجه إلى المكتبة وعثوره على كتاب سفن لندكفيست (تاريخ القصف) وما ساقه من ذكريات تضج بها الذاكرة عن ليالي القصف فيعود إلى البيت ليشرع بجمع مادة الكتاب، يعقب هذه المقدمة بثلاثة عناوين لمقالات هي (طفولة الدنيا) وتحدث فيه عبر حوار مع شقيقته (كاظمية) عن نشوء الحضارات القديمة عبر تسلسل تاريخي، ويعتمد في (مراهقة الدنيا) على ما جاء في كتاب (تاريخ القصف) الصادر سنة 2001 "في الساعة الثامنة و51 دقيقة و17 ثانية من صباح يوم 6 أغسطس 1945 أسقطت الطائرة الأمريكية المسماة (فرح) أول قنبلة نووية في العالم على مدينة هيروشيما اليابانية فهمس طيارها حين رأى فوران الجحيم تحته:أوه..يا الهي ما هذا الذي فعلناه؟ لقد انسلخت جلود الوجوه وتدلت مثل مناديل مهلهلة حتى الصدور" ويرى أن أول قصف جوي بالطائرات كان سنة 1911 حين شن الإيطاليون هجوما جويا بالقنابل على منطقة الواحات القريبة من طرابلس الليبية، ويضيف لتاريخ القصف أحداثا لم يذكرها سفن لندكفيست في كتابه مثل قصف حمص وحماه ومعان والنجف وكربلاء وحلبجة وملجا العامرية في13 شباط 1991 سوق الفلوجة في 17 شباط من العام نفسه. وفي( شيخوخة الدنيا) يتساءل الكاتب: ماذا سيحدث غدا؟ هل سيظل الحال على ما هو عليه.. حيث يستمر تواصل قصف أهل الأرض بعضهم لبعض؟ ليختم الفصل بقصف لغوي تضمن تتبعا معجميا لمفردة القصف ونصوصا قرآنية وشعرية واشارات شخصية ومعلومات صحفية.
وإذا كان الكاتب قد فرش الفصل الأول ببساط نظري حول القصف فقد خصص الفصل الثاني لحالات إنسانية تقف بمواجهة القصف من خلال نصوص قصصية للكاتب يقوم فيها الواقع بتنشيط الخيال، ويقوم الخيال بتحريك الواقع، والقاسم المشترك الأعظم للقصص هو: القصف، ففي النص الأول (القصف في غرفة أمي) يصور محسن مطلك بلغته الساخرة، الواخزة، الطفولية، حالة العزلة التي تعيشها قرية تقع في شمال العراق بعد أن قصفت الاتصالات في بغداد عام 1991 وانقطاع التيار الكهربائي..
وفي (ليلة قصف ضاحكة) يواصل بث خطابه الساخر من خلال تتبع حياة مُدرس في قرية يستغل جهل الناس فيشرب الخمرة مدعيا بأنها دواء ولايتم كشفه إلا بعد القصف الذي جعل جنديين هاربين من الجيش يمضيان ليلة نواسيه في غرفة (الإدارة) المليئة بالزجاجات والكتب والتي انتهت بان جعلوا جحوش القرية تقاسمهم الشراب ليختم قصته بصرخات ضاحكة بشكل هستيري ملأت ليل القرية لتعلو على صوت القصف، ويرى في (القصف ودار العدالة) ويعني به المبنى المصبوغ بالأبيض لدار العدالة في مدينة كركوك المائل منذ تشييده، أقول يرى "بعد أن طالت الحرب لأعوام لم تعد الأبقار تذعر من القصف مقتلعة أوتادها ولا تنفر الحمير رافسة أصحابها، ولا تفر الكلاب بعيدا في الآفاق، ولا يبكي الأطفال لأنهم صاروا يطورون ألعابهم الحربية عبر المراقبة ويحلمون بالطيران ". وفي (القصف والمراحيض) يواصل نشيده الساخر عبر حكاية مهاجر عراقي يقيم في مدريد يبني علاقة فلسفية مع المراحيض رغم انه كان قبل دخوله الجيش يكره المكوث بها، لكن حادث قصف جرى له في جبهة القتال جعله يعيد النظر بعلاقته بالمراحيض، ففي إحدى ليالي القصف (السعيدة) كان يختبئ في موضع عند الخطوط الأمامية من جبهة الحرب، فأحس بضرورة الخروج من الموضع لقضاء حاجته فنصحه أصدقاؤه الجنود بعدم المخاطرة والخروج فأشاروا عليه بقضائها في الملجأ ثم رفعها بالمجرفة في الصباح فرفض اقتراحهم وخاطر بحياته وخرج، وقبل أن يقضي حاجته سقطت قذيفة على الموضع لتهدمه وتقضي على من فيه.
ويخصص قصته (حياة محكومة بالقصف المؤبد) ليوسع دائرة القصف فيلتقط حكاية أفغاني "ولد تحت القصف الإنكليزي وأحب فاطمة تحت القصف السوفيتي ومات معها في ليلة عرسهما تحت القصف الأمريكي".
ليختتم كتابه بحكاية الناقة مسعودة في عاصفة الصحراء التي سقطت قذيفة على ولدها(سعيد) لتنثر أشلاءه، فبقيت" جاثية أمام أوصال ولدها والدمع يجري من عينيها رافضة الطعام، وفي ليلة شديدة القصف لاحظ الراوي مسعودة " تزحف فوق مدفن سعيد لتغطيه ببطنها تصك أسنانها يشتد رغاؤها وتهدر بالشقشقة ".
إن الكتاب الذي زين غلافه الأول بلوحة ذات دلالة لملوية سامراء في مشهد مثير تشب فيه بمنارتها الحرائق للفنان خالد كاكي وحملت عنوان (حزن من رأى) ليقلب معادلة السرور إلى حزن، منطلقا من الهم العراقي، فيما أظهر الغلاف الأخير الكاتب وتبدو خلفه شجرة الجورنيكا التي قصفت خلال الحرب العالمية الثانية..
أقول:إن الكتاب تجربة ناضجة في صياغة نص رؤيوي مفتوح تتداخل فيه الأجناس الأدبية من سرد وشعر ونصوص دينية وأساطير وصولا إلى إنتاج أدب حداثوي يتوازى مع حالة وحشية اسمها: القصف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشرت في جريدة (الزمان)/العدد 1473 بتاريخ 8/4/2003 لندن.

قراءة / د.مقداد رحيم

الدكتور مقداد رحيم
شابٌّ في جلباب فيلسوف...فيلسوف زاهد قليلاً في الحياة، طمّاعٌ كثيراً في المعرفة والعطاء. هكذا تراءى لي وأنا ألتقيه لأوّل مرة في يومٍ من أيام صيف العاصمة الإسبانية مدريد في العام 2001... ذلك الشاب الأسمر النحيف محسن الرملي.
وقد صدقَ ترائيه لي كما صدقَ هو في فنّه القصصي، إذ بدا وهو يبسّط موضوعات قصصه ويبسّط أحداثها ومجرياتها، حتى يبدو أحياناً وكأنه يبسّط أبطاله أنفسهم، لأنهم، كما يبدو، قريبون منه وكأنهم جزء منه، بل هو واحد منهم، أتراهُ يؤسّس لهذه الفلسفة، أعني فلسفة التبسيط؟.
إن محسن الرملي عاشَ في ظروف ثرة بالعطاء لفنّانٍ أو كاتب مثله، وهو أمر سهَّل عليه التقاط مأساته من جوف هذه الظروف ليُضفي عليها لمساته وتلويناته الخاصة به كقاص، ويهبها لمعانها الخاص، ومن هنا جاء صدقُه الفنّي في التعبير عن موضوعاته، وابتعاده عن الافتعال، دون أن يبعده ذلك عن أنْ يُضيف من عندياته ما للفنّ القصصي من مستلزمات في الحبكة والحوار وإدارة الأحداث واستجلائها واستبطان الشخوص واستكمال شروط القصّ، ثم أسلوبه هو.
وموضوعات الرملي تتراوح بين بيئتين أساسيتين هما القرية والمدينة، وقد عاشهما جميعاً بعمق، بل عشقهما. ولولا ذاك العشق ما رأيناه يتعلَّق بكل أسباب قريته التي عاش فيها، وما رأيناهُ يتعمَّق في توصيف كل ما فيها، ولولاه ما بقي يدور حولها وما رأيناها تلاحقه من قصة إلى أخرى ومن مجموعة قصصية إلى أخرى.. إنها مدينة كركوك العراقية وقرية قربها أو تتبعها من الناحية الجغرافية. وليس في ذلك من بأسٍ ما دام في هذه المدينة كل هذا الثراء، وما دامت المدينة مدينته، وحسناً يفعل فهو أدرى بشعابها، ولكن أليست هي رغبة الرملي في أن يكون قاص كركوك الأول؟ أفليست هي رغبته في أن يؤسّس لاتجاه المدن في الفن القصصي، فيكون رائده وأستاذه؟، وأنا هنا لا أعني انتماءه إلى كركوك بوصفه قاصّاً، وإنما جَعْـلَه إيّاها وكْدَهُ وموضوعه الأول.
وإذا كان لابد من الإشارة إلى نموذج يؤكّد هذا الاتجاه لدى القاص فيكفي أن أُشير إلى قصته القصيرة "القصف ودار العدالة المائلة" على سبيل المثال لا الحصر، إذْ يجد القارئ صورة كركوك بكثير من شواهدها ورموزها ماثلة أمام عينيه: "دار العدالة" بمبناها القديم المائل، و"الصوب الكبير" و"القلعة القديمة" و"سوق القيصرية" و"المصلَّى" و"لهيب النار الأزلية" و"الجسر الرابع" و "جسر النصر" أو "جسر الولادة" و"مستشفى الولادة" و"الصوب الصغير" و"منطقة قوريا" و"جسر الشهداء" و"نهر الخاصّة" و"شارع الأوقاف" و"سينما العلمين" و"محل باتا للأحذية" و"سوق أحمد أغا"، أما بقية ملامح كركوك فيوزعها الرملي على جملةٍ مِن قصصه الأخرى، سواء أكان ذلك في القرية أم في المدينة.
وفيما عدا هاتين البيئتين تسيطر على هذا الشاب الفيلسوف ثيمة الحرب وقد عاشها في الصميم، ولذلك استطاع أن يُلمَّ بالقدرة على توصيفها ببساطةٍ هي أيضاً، ومن هنا تأسست لديه ملامح مجموعته القصصية الجديدة "ليالي القصف السعيدة" التي ضمت ستَّ قصص قصيرة فقط، وصدرتْ عن دار سنابل للنشر والتوزيع في جمهورية مصر العربية هذا العام2003.
كيف يرى القاصُّ الحربَ؟، كيف يراها وقد هرب منها؟. لابدَّ من أنه رفضَ الحربَ وأهدافها ونتائجها مهما كانتْ رفضاً تاماً، أفليسَ في قصصه ما يُعزِّزُ ذلك؟ بلى، فأنتَ إذا قرأتَ قصته "القصف في غرفة أُمي"، أحسستَ بشكلٍ غير مباشرٍ بإشارات القاصّ إلى بؤس القرية التي يعيشُ فيها البطل مع أنها في بلدٍ غارق في الغنى مثل العراق، ولا أدلَّ على ذلك من عدم دخول البث التلفزيوني إلى القرية إلاّ "منذ أعوام حين أهدتْهُ الحكومة إلى الفلاّحين كي يواكبوا تعبئتها لسنوات الحرب مع إيران"، فأين كانتْ الحكومة من هذا الجهاز العظيم قبل الحرب، وقد غزا الإنترنيت آفاق العالم؟، ثم وصْف البطل لغرفة أمه وهي الجدّة الآن، وليس فيها من تقنيات ما يزيد على ما كانت عليه أيام زواجها، وللقارئ أن يتأمَّل، أفليس البناء خيراً من الحرب ـ الهدم؟.
أما في قصته "ليلة قصف ضاحكة"، فحسبهُ أنه يستهزئ بالحرب منذ العنوان، فأي ضحكٍ هذا الذي يُوحي به القصف...هذا الشيء الكارثيّ في تاريخ الحروب وفي حياة الشعوب، أما بطله فهو هاربٌ من الجيش زمن الحرب يتحدثُ عن نفسه بلغة الأنا وعن ابن عمه "سُلطان"، وكلاهما لم يذوقا خمراً أو جَعَةً من قبلُ، ولكنهما، ومع ذلك، يشربان حتى الثمالة، ولم يكن ذلك إلاّ تعبيراً عن رفضهما للحرب. وهما حين يجتمعان بمدير مدرسة الطين التي بناها أهل القرية التي "تعيش على بئر مالح يلف جوفه الطابوق وتسبحُ في قاعه ثعابين ملونة جميلة، لدغها عض خفيف كقرص أنامل الأم لخد طفلها، وإنْ لدغتْ لا تقتل، لا سُمَّ فيها ولا خير فيها أكثر من دقائق يلعب بها الصبية المتحلقون حول البئر"، كما يصف القاص، فإنما يلتقون برجلٍ يهتمُّ بأخبار الحرب ويهرب منها معهم حتّى الثمالة التي لم تنجُ منها حمير القرية جميعاً، إذ سعى هؤلاء الثلاثة إلى سقيهم الخمر ليرسموا من خلال ذلك مشهداً يجعلهم يبولون في سراويلهم من شدّة الضحك.
وإذا كان الضحك مرادفاً للسعادة، فإنه في قصص الرملي هذه ليس إلاّ تعبيراً عن شرّ البليّة الذي يُضحك من شدّة الأسى بدلاً من البكاء، وهذا هو الذي أراده القاصّ من العنوان الذي جعله غطاءً لهذه المجموعة. إنّ الإحساس بالأسى هنا هو إحساس مُضاعَف، بمعنى أنّ القاص يأسى لنتائج الحرب الفظيعة، ويأسى لأن هذه الحرب ما كان ينبغي أنْ تكون وهو بالتالي لم يؤمن بكينونتها، وهو بذلك ينضمّ إلى الأدباء الرافضين للحرب ليقفوا إزاء الأدباء الذين شكلوا صوتاً دعائياً لها في ظلّ الحاكم الجائر في العراق الذي صبغ الأدب العراقي على اختلاف فنونه بلون الدم، ووقع كثير من الأدباء تحت طائلته وسُلطانه.
ومن القرية ينتقل القاصّ إلى المدينة ليُدقق في ملمحٍ آخر من ملامح الحرب، حيث مبنى دار العدالة وإجراءات هذه الدار إزاء الشهداء والمفقودين في الحرب وعائلاتهم، وما تفعله أم سلمان بطلة القصّة من أجل ذلك، ولن يكون السياق، طبعاً، إيجابياً، فالخراب واسع الأنحاء متشعّب الاتجاهات. وقد اتخذَ القاص من ميل مبنى هذه الدار ثم تصدعها وسقوطها من خلال القصف معادلاً موضوعياً لذلك الخراب... لتصدع العدالة ذاتها وسقوطها.
ولم يكن رفض القاصّ للحرب مقتصراً على كونها حرباً يقف بلدُه العراق طرفاً فيها، بل لكونها حرباً وحسب، فقصته "حياة محكومة بالقصف المؤبّد" تدور أحداثها في أفغانستان خلال حرب أمريكا ضدّها، ويموت أبطالها جميعاً بسبب ذعر القوات الأمريكية من التماع ورق الحلوى الملوَّن خلال عُرس شعبي يُطلق فيه المحتفلون النار، وقصفها مكان العرس بكل ما فيه ومَن فيه. وفي قصته "أنا وأنت والناقة مسعودة في عاصفة الصحراء" يؤكّد القاص على أن الحرب لم ترحم حتّى الحيوانات الأليفة، إذْ يطالها قصف الأعداء ويؤدّي بها إلى الهلاك.... أيضاً.
ويستمرئ الرمليُّ القصَّ بأسلوب الأنا، على الرغم من تحذير النقاد، القدماء منهم خاصةً، من الإكثار من هذا الأسلوب، ولكنه لا يستبعد أسلوب الراوي العليم، وفي قصص مجموعته الأخيرة الستّ أربعٌ تنتمي إلى أسلوب الأنا، وقد سلمت قصتا "القصف ودار العدالة المائلة" و"حياة محكومة بالقصف المؤبد" من هذا الأسلوب، وما ذاك إلاّ لأنَّ القاص لم يستطع أنْ يجعل من نفسه بطلاً مُسهماً في الأحداث في هاتين القصتين، بسبب حرصه على أن يكون صادقاً، وقد أشرنا من قبلُ إلى قضية الصدق عنده.
كما أشرنا كذلك إلى قضية التبسيط في موضوعاته وما يتعلق بها من شخوص وأحداث، وقد بدا لنا في هذه المجموعة وكأنه يحاول أن يوسّع من رقعة التبسيط لتشمل تقنية السرد والحوار فيخلط بينهما خلطاً تضيع معه ملامح الحوار بوصفه شكلاً من أشكال القصة الحديثة، فتأخذ قصصه شكل المقالات. ماذا أراد أن يقول القاص محسن الرملي من خلال ذلك؟ هل أراد التجديد أم الرجوع إلى فنّ المقامة؟.
وقد وهبت الغربة وما فيها من الحريات المتاحة، وغياب الرقابة الرسمية المقيتة للرملي الكثير ليقوله دون حرجٍ ولا مبالاة في قَصّه، أو لنقلْ هو قد أحسن استغلال ذلك كما لم يُحسنه كثيرون غيره، ولذلك ولسواه حديثٌ آخر في متّسع من الكتابة آخر، فاسترسل يؤسس لما قلناه في حقّه.
إن محسن الرملي، كما يبدو لي، مازال يؤسّس، فلنرَ.
-------------------------------------------------
*نشرت في مجلة (أدب ونقد) السنة 21/العدد 224 أبريل-نيسان 2004م القاهرة.

قراءة / مصطفى محمد غريب
" ليالي القصف السعيدة "
مصطفى محمد غريب
*"تفسير التاريخ وحوادثه كأنه غير مؤكد ومشكوك فيه هو قفز على الوعي البشري وعلى حقيقة التاريخ نفسه الذي يصنعه البشر".
*"الحرب أكبر زانية في التاريخ لا يوجد أكثر منها نذالة وفسقاً وأجراماً".
مصطفى محمد غريب
أولــويـات
"لقد حددت الطائرات من بعد ست دقائق موقع مدينة (بارمن) أحد طرق مدينة (فوبرتال) باستخدام قنابل ذات إضاءة حمراء من ارتفاع 1000 متر من الهدف، هبطت القنابل متفرقة، وأطلق كل واحد منها 60 شمعة إضاءة، هبطت كلها كثيفة على الأرض توهجت كل شمعة من هذه الشموع لمدة عشر دقائق، بعدها جاءت طائرات أخرى، وحددت مدينة بارمن باللون الأخضر، بعد ذلك جاءت خمس وخمسون طائرة من قاذفات الحمم النارية ".
لماذا بدأت من مقطع في كتاب (الحريق Der Brand ) فصل قصف مدينة فوبرتال للكاتب الألماني يورغ فريدريش Jorg Friedch لمعاينة عمل الكاتب العراقي محسن الرملي " ليالي القصف السعيدة"؟.
لا يمكن الإجابة المباشرة على هذا السؤال، لأن هدف الكاتبين من الولوج في مفردة القصف في الحرب( مباشرة وغير مباشرة) واحد، لكن لكل طريقته وسرده وتناوله لهذه الموضوعة.
ان تناول قضايا الحرب المتنوعة، التي تعتبر أكبر زانية في التاريخ، لا يوجد مثلها أكثر نذالة وفسقاً وإجراماً، غاية نبيلة وإنسانية هدفها إغناء وعي الأجيال القادمة لتحديد الموقف الرافض لقيامها وبالوقوف ضد مشعليها.
مفردة القصف بمعناها الشامل وبتفاصيلها القاموسية التي أشار لها الرملي تعني في كل لحظة، حياة الإنسان وتبدو في الكثير من الأحيان خارج نطاق خارطة الحرب المباشرة، وعندما يجري تأطير الفكرة لكي تكون حاضرة بوجود التاريخ تتجسد فيها الرؤيا كونها تستطيع أن تدلنا على المدافع والقنابل المختلفة التي تبدو كأشكال فنية جميلة في بعض الأحيان ولكن لا تعرف نتائجها العملية إلا باستعمال مفردة القصف. ان قصفاً آخر قد يخطط له وتضبط حساباته ونتائجه وفق نسب عالية من النجاح والوصول إلى الهدف، وأقصد بهذا القصف غير الحربي المباشر، ففي جوهر مفردة القصف يَكمن التحفز لأمرٍ مبيتٍ مسبقاً.. في انبثاق الحرب المباشرة بالأسلحة أو القصف في مجالات أخرى (الحرب الكلامية وغيرها)، لكنها تعني في جميع الحالات الحرب.
وما جعلني ألتفت أكثر للكتابة حول (ليالي القصف السعيدة) فضول الترقب الكامن في ذاتي الكاره لهذا الغول الوحشي التي ابتلت به البشرية.. وقد استحضرني وأنا أقرأ في هذه المجموعة، الكاتب الألماني المعروف هايندش بول الحائز على جائزة نوبل للآداب.. كان هايندش جندياً في الجيش الألماني أثناء الحرب العالمية الثانية، كتب فيها أروع وأدق الرسائل التي ترجمها للعربية علي أحمد محمود، هذه الرسائل الموجهة إلى والدته تحتوي على وصف دقيق لمجريات حياته أثناء الحرب، فقد تناول قضايا صغيرة ليست على البال لكنها في الوقت نفسه تدفع أحاسيسك للإثارة والتفاعل معها، وصف الطبيعة، الناس، الجنود، رغباته ورغبات الآخرين، أفكاره وأفكارهم.. وهو يتطرق للقصف لكن دون أن يذكرها كمفردة، قصف متعدد الأشكال والجوانب والغايات، فشرائه طن من التفاح بثمانية ماركات قصف، والاختباء في ملجأ للهروب من القصف، والروسي الذي كان يقيم في فرنسا منذ الحرب العالمية الأولى والذي أهداه تبغاً هو قصف، وما جاء في إحدى رسائله لوالدته هو قصف: "تصوري أن روسياً في فرنسا يهديني تبغاً عام 1942، هذا بالفعل أشبه بمعجزة، بيد أنه الحقيقة! لذا سأقدم له غداً كل حصتي من الخبز، سأفعل ذلك، رغم أنني أتضور جوعاً، لتذكري فقط أن روسياً أهداني في 1942 تبغاً ".
قصف لكنه يحمل نفساً إنسانياً صافياً، قصف لوعي والدته ومعتقدات العنصر الأعلى الذي رسخ مفهوم الأمة الألمانية العظمى، صور هدية الروسي البسيطة العظيمة في زمنها قصفاً لأيديولوجية نازية، ثم معرياً تشويه الوعي أكثرية الشعب الألماني الذي قام به الحزب النازي وأيديولوجيته العنصرية الفاشية.
المساومة مع الراعي الفرنسي حول شراء أحد الخرفان من قطيعه "انتقينا خروفاً سميناً ـ كان معنا جزاراً ".
أكثر الكلمات التي أهداها إلى أمه هي قصف مختلف الجوانب والأهداف، لكل قصف حادثة ومدلول "منذ غادرت مخبأ قاذفات اللهب" ثم أثناء جرحه في أحد المعارك.
قد أكتفي بوصف هايندش بول حول الإذاعة والمذيع والذي مر عليها الرملي في إحدى قصصه "هراء المذيعين المعسول، ما هذه الافتراءات المرئية وعصابة الأوغاد! أصبح من الصعب بمكان، بالنظر إلى الأشياء كهذه، الاعتقاد بألمانيا".

المجموعة
يعيش محسن الرملي تلك المأساة، في كل عمل أو نص ثقافي، هاجسه ذلك الجزء من التاريخ الذي يتذكره مرة بمحاسنه وأخرى بجراحه المستمرة، ذلك الجزء الممطوط غير قابل للقطع أو التوقف عن المط. إلى أين سيصل محسن الرملي؟.. هذه مسألة إنسانية أخرى لا يستطيع المرء التكهن بها أو تحديد فترتها؟.. متى وأين؟.. لا يمكن الإجابة.
*العنوان الأول "ليلة كتابة ليالي القصف".. مباشرة يدخلنا الرملي بهدوء إلى صلب موضوعه (فكرته) الناشئة من مفردة القصف، بمعناها المتعدد، الحرب، اللغة، السياسة، الثقافة، التشاؤم، القليل من التفاؤل، السخرية، والجدية.
هذا المدخل من خلال (ليلة كتابة ليالي القصف) ـ هو العنوان الأول ـ حيث يقول: " كنت أرى كلّ شيء بمثابة قصف، الإعلانات وبرامج المسابقات وفضائح الممثلين وقُبل العشاق والهواء المتسلل من النافذة. جسدي.."ص11. " ثم يستمر مؤكداً " هكذا واصلت اجتراري لأخبار القصف، قراءتي وذكرياتي عنه، التاريخ والأرقام والموتى والأغاني والتبريرات وفراق الأحبة ودم ومدافن وحرائق ومنافي وحديد وكلمات ونار وتكسير العظام ونظرات شرهة وأخرى دامعة.. كل شيء هو قصف، أو تبادل قصف تبادل النظرات، وتبادل الكلمات/ الشتائم، الصراخ، النصائح، الصفع، الأبوة، الأخوة، المحبة، الحقد، الاغتصاب أو ممارسة الحب، وجهات النظر…".. الخ ص11 .. هذا الولوج السريع لا يكلفه الكثير من الشرح الطويل، يرفع عن كاهله هموم الإطالة والسرد الممل، يختصر كلّ الموضوعة لكي يُفهم القارئ بما يريده: "انتهبت إلى أنني لم أتناول عشائي حتى الآن، لكنني/ كأنني/ كنتُ سعيداً بمواجهتي لمفردة القصف"ص13. هو محق فيما يهدف إليه، وضع الفخ الخفي، " انتبهت" لنفسرها انتبهوا إلى ما سيأتي: " أكتب وأكتب وسأكتب.. حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر" ص13.
** العنوان الثاني " أول القصف" يختار الكاتب بعفوية، ولغة حزينة، التصورات الإنسانية وعلاقتها مع محيطها وغربتها عنه، يفسر العلاقة بالنطفة للوجود، قصف تلعب المصادفة في البداية كأنها تسلسل للخلق والنهاية، اختار الرحم المظلم، السكن الأول للإنسان، أو السجن الأول الذي ترتضيه الأم لإبنها، لا يمكن لأم طبيعية أن ترضى بسجن وليدها في مكان مظلم غير مرئي، إلا سجن الرحم، وعندما يفيق وتتلبسه الحركة يجاهد في القتال ليقصف هذا السجن من الداخل، وعندما يتنفس أول مرة يجد نفسه مطروداً من السجن الذي لا يفقه أسباب تواجده فيه، يقصفونه بدون إرادته، ثم يجد نفسه في سجن آخر أكبر ممتلئ هذه المرة بالضياء والظلام على حد سواء، من العتمة يبدأ النزوح إلى الضياء والعتمة، غربة جديدة لا يعرف أسبابها لكنه يقبل بها راضياً: " لكنك تدرك بأنها كانت أول وطن تطرد منه لتعيش المنفى الأول الذي يسمونه الوطن الأول"ص16.
الوطن الذي استقبلك بالشدّ والعرق والصراخ من الألم والصلوات.. وبالصفع أيضاً، أول صفعة على قفاك، بداية الفلقة والمطاردة.. وعليك أن تحتج بصوت عالي وكيف ما تريد: " استقبلوك بالقصف صفعاً على مؤخرتك وأنت تصرخ" ص16 .
ان محسن الرملي عندما يتابع النشوء الأول للجنين خلال العملية الجنسية، ثم مشهد الولادة يقرب من الأذهان قيمة الإنسان الفرد، يُذكّرُ الرحلة ليست بالسهلة، الربط بين تجربته ومشاهداته المرّة والحلوة.. في الحلوة إظهار العزلة مع الذات، في المرّة تعكير الذات بتعكير مزاجه في النظرة إلى التحولات المفاجئة، التحول لقضية غير محسومة ذاتياً تشكل قمة المأساة، قد يذهب إلى المبالغة في إخفاء هذه الفجيعة، لكنها تظهر في العديد من أعماله.. ضربكَ بأي طريقة، إعدامك.. البعض يضحك جذلاً وهو يراك على حافة الهاوية، وأنت في مخلب النسر معلقاً وفي قمة الحزن والألم تعد ثوانيك..
" في البدء كان الحزن.. ياه.. يالها من مكايدة!.. يا ابن قابيل"ص16. لماذا ابن قابيل القاتل في الرواية؟ أليس الأب آدم.. فهل يفسر هذه السخونة من الحزن؟ التعطل في الحركة في لحظة قتل آخ أخاه! بينما هو في الطرف الثاني من المعادلة. لو أعيد التاريخ لكان لديه الاستعداد ان يضحي بنفسه لحسن مطلك بدلاً من أن يقتله! كي ينقذه ويقصفُ قصفهِ لكي ينقذه من قصفِ خفافيش الليل! أليس هذا تصور لهذه المعاناة؟.
ان العلاقات الإنسانية التي شرخت بفعل الفكر الاستعلائي كانت متسلسلة عبر الحياة اليومية على ضفاف العفوية وصولاً للسذاجة مع الطبيعة المحيطة، لكن الاضطهاد المنظم للفكرِ، العنف المبرمج تقمص ظاهرة العقاب كرد فعل ضد التنوير.
طيبة إنسانية بعلاقات فطرية من الأم والأب، الصبية، مدير المدرسة.. المعلم، إلا أن هذا العقاب يتحول بفعل القانون الوضعي لخدمة نهج العنف، عقاب الدولة: " الحكومة بالسجن" ص18.
ان السجن الجديد ليس باختيارك كما كان سجنك الأول (الرحم) والسجن الثاني خارج عن إرادتك (الحياة على الأرض).. الفرق بينهما فرق طبيعي وفطري، الأول والثاني التعامل مع الطبيعة وتعامل الطبيعة معك، أما سجن الحكومة هو العنف القاسي، الاضطهاد التعسفي، بسبب الفكر ليس إلا!.
من أجل أن يستوعب أول ما يستوعب: "ما أنتَ في هذا العالم إلا قاصف أو مقصوف، وغالباً ما تكون مقصوفاً" ص18. حاكمٌ أو محكوم، لكن الحكام قلة، والمحكومين هم الأكثر وعليهم الخضوع لهذا القانون، قانون الأعلى في السلم الاجتماعي، فهم الغالب قاصفين وفي اسفل السلم الأكثرية مقصوفين.
التاريخ خير منهل لهذه الفكرة، تصفح بصفحات متنوعة، ملونة، أراد الرملي وإن لم يرد، شاء أم لم يشأ، أظهرها بملامسة حسية، جعلها محسوسة عند الآخرين.
** العنوان الثالث ( تاريخ القصف ــ المجلد الأول ــ طفولة الدنيا).. قدم الرملي له مقطع أو قولاً للروائي حسن مطلك (أخيه) اتصال شبه متسمر، الإنسان الضحية لقصف العنف " الإرهاب" ، قد يجوز أراد قصف الإرهاب بطريقته لكن " تسري الرياح بما لا تشتهي السفنُ" انعكست هذه العلاقة على محسن الرملي، فأخته مدخل الممر الذي ولج إلى داخل التفسيرات والاستفسارات عن أسباب استعمال القصف، فردي أو جماعي. ينقلك إلى العقل كبداية.. أليس العقل هو الأساس؟.. والأعضاء الباقية تابعة له بهذا الشكل أو ذاك، يريك محدودية العقل متزامناً مع شمولية المعرفة التي حصل عليها، يدخل عالم الأساطير للتحري عن ( القتل، القصف) اللذان رافقا مسيرة الإنسان، حتى في خلق الأساطير ونقلها إلى الواقع الذي يعيشه، لحظة أو لحظات، كثير من الوقت أو قليلة أثناء حياته، يتحفك بالسماء والأرض وآلهة متعددة تختلف من بلد إلى آخر، يسفرك إلى التاريخ الديني، مستنداً إلى الكتب السماوية.. القرآن الكريم بالذات.
منذ البداية يطرد " يقصف " الرب آدم من جنته، محاولة لمنح النفس فرصة لسرد الأفكار والمعتقدات، لكن تحت حدود شبكية لا يمكن تجاوزها، ظلّ الرملي أسيرها، يقترب من حدودها ويبتعد عنها.. أخته كاظمية " لعلها رمز" لم تتمكن نقله بتساؤلها:" تساءلت كاظمية: والرب؟"ص22. إلى الكشف عن ما يدور في ذهنه، حاول جهد الإمكان سرد الحوادث والأفعال في التاريخ عبر العديد من الأسماء الفردية والجماعية، استسقى أسماء وحوادث وحروب تاريخية ما بين الأسطورة والواقع، ليصل إلى قناعة: ان التصادم المستمر هو قصف دائم.
" قلتُ لأختي:ـ هل لاحظتِ؟ .. كل القرى والمدن قاصفة أو مقصوفة.. أما التي لا هذه ولا تلك فلا ذكر لها في التاريخ ولا أهمية، ثم نقلت سبابتي إلى آسيا بنيّة تعداد المذابح في إيران وأفغانستان والهند وباكستان وجنون جنكيز خان الذي وصل قصفه بكين، معارك المغول والروس والعثمانيين والمجازر في البلقان.."ص37.
هل رفعت كاظمية يدها مطالبة بالتوقف لتطلب بعد ذلك: " أريد الماء.. ماء.. بارد".ص37.
أم هذا الإلحاح نابع من داخل محسن الرملي؟ يريد به أن يخمد حريقه، أن يترك الهذيان بسبب هذه التناقضات، أي ماء يقصده؟.. ولماذا سقطت مغشياً عليها؟ لماذا داخت..
إسقاط الفكرة على ما يبدو على أخته طريقة لاستحواذ اهتمام القارئ، وإبعاده عن شكوى ذاتية.. لكن مأخذنا على الرملي أنه نسى العراق، كدولة في آسيا، نسى كم العراق بحكامه قصف وقف على مدى أربعة عقود عجاف.

** العنوان الرابع: ( تاريخ القصف ـ المجلد الثاني ـ مراهقة الدنيا ) كرر الرملي الحالة باستعارة قولاً له:" ما المراهقة إلا مطاردة لأسماء أشكال الغيوم على تضاريس الوقت"ص39.
ثم دلف الرملي هذه المرة إلى عالمٍ مسكون بالقلق والتوجس ، لكنه مع ذلك يمنح نوعاً من الثبات النسبي فيما يذهب إليه أو بالأحرى ما توصل إليه.. ليحط بين أيدينا كتاباً ( تاريخ القصف) الذي دوّنه (سفن لندكفيست) قصف منذ 762 إلى سنة 1999، لا يمل الرملي من متابعة الفكرة، بعد التسلسل في الأساطير وتاريخ الأديان توصل إلى القصف الحديث فسماه " بالاستعمار الأوروبي في القارة الأفريقية حيث قاذفات الانقضاض وصيحات ( أبيدو الوحوش)"ص39. توغل يفتش عن الوعي فينا ليرينا قصف هتلر وموسليني وفرانكو، وببطء مر على الطائرة الأمريكية التي قصفت أول " قنبلة نووية في العالم على مدينة هيروشيما اليابانية "فهمس طيارها حين رأى فوران الجحيم تحتهُ.. أواه.. يا إلهي.. ما هذا الذي فعلناه!" ص39 – 40، أليس هذا الفرح الرأسمالي الاستعماري الذي أطلق على تلك الطائرة فسموّها( فرح)، قصف عشرات الآلاف دفعة واحدة، لتمتلئ قلوبهم بالفرح.
يبدأ التاريخ الجديد بالقصف الفرح، عصرية حديثة، تختلف عما ذكر في التاريخ من حروب وغزوات وصراعات واستعباد وقتل، هنا الشكل الأمثل لجريمة القصف بمعناها الحضاري للرأسمال وعنفه وأخلاقياته المتدنية، القصف التكنيكي الحديث، تجلى بشكل حقيقي واختلافه في الشكل والجوهر، جمع مناطق واسعة ليرميها " بحجارة من سجيل ".
وعلى الرغم من التضليل بالمحافظة على حياة المدنيين جهد الإمكان يسقط الرملي هذه الإدعاء بمشاهدات السويدي (سفن لندكفيست) ووقوفه على حقيقة مجلس الأمن وقراره " الذي ينص على التدخل في الحرب الكورية ص42.
ان محسن الرملي عندما يستشهد بسفن السويدي يخترق وجدان الآخرين بصورة التاريخ وحلزونيته معتمداً على الوعي بالرغم من التراجعات، لكنه مع شديد الأسف يقع في خطأ سفن القاتل عندما يفصل حوادث التاريخ عن بعضها، التاريخ البشري ليس متاهات مثلما يصوّره البعض، لأن التاريخ الحقيقي يصنعه البشر، مجموعات وللفرد دور مهم فيه.
على سبيل المثال لو نضع معادلة " التاريخ وحده" بدون بشر لا يبقى شيء اسمه التاريخ، لأن البشر الذين يصنعون التاريخ وتكويناته قواعده وأسسه، حوادثه وإسقاطاته، التطورات الناتجة عن الفعل البشري، ثم تأرشفه. ان الأسلوب الذي يحاول تفسير التاريخ وحوادثه كأنه غير مؤكد ومشكوك فيه هو قفز على الوعي البشري وعلى حقيقة التاريخ نفسه وتمويه على المجتمع الطبقي وصراع الطبقات فيه. ولهذا احتاج الفن القصصي "السيرة" لكل شيء سيرة معينة، مفهوم البطولة، المدن، الشخصيات، العلاقة، الحوار، الذاكرة، الرؤيا، الطبيعة، الزمان والمكان، الإعلام، ثم التاريخ، حتى لو تحايل الكاتب عليه وعلى الوعي الاجتماعي والفردي ليصور عمله خارج المكان والزمان والتاريخ، لكنه مرتبط بهما بشكل ما مهما حاول التمويه على ذلك، هذه المجموعة لها موقع وسيرة طويلة أو قصيرة في أي عمل ثقافي أدبي ( قصصي، روائي، شعر وغيرهم ).
إلا أن الرملي يجتهد في اللغة للإعلان عن معاناته ومعاناة الآخرين، يريد أن يسود الهدوء على هذا الاعتقاد، ليدلنا على تخوم تاريخ الحروب بما إنها ثقيلة تبتغي تجفيف الذاكرة، كأنها منفصلة عن إرادتهم، وبشفافية يحاول أن يفسر سفينة البيض التي تشع النور كما هي لوحة رسمها الفنان ( خوليو بيرنة عام 1886) على أوروبا، بينما سفينتهم في أفريقيا " يقصف الموت على ( المجرمين) السود الذين أطلقوا عواءً مرعوباً وهم يحاولون النجاة من النار القاتلة"ص43.. العنف الساحق الدموي الذي استعملته أوروبا حضارياً، كانت هي بمنجى عن الاضطهاد والتعسف والقتل خلال حقبة استعمار البلدان الأخرى، هي المعادلة في انطلاق سفينة البيض بالمقارنة مع سفينة السود! أليس النبرة المتوجعة احتجاج على ما جرى ويجري؟ هل التاريخ وحوادثه منفصلا عن بعضه يصنع نفسه بنفسه كمتاهات ؟.. إنها الأدوار التاريخية التي مرت بها أوروبا، كانت تجنح للسلم والجمال والإبداع والألعاب النارية الملونة، تنير نهر السين في باريس، والراين، والدانوب وغيرها من أنهار أوروبا! على مُثِلٍ عاهرة في مقدمتها تجارة الرقيق التي سادت وراكمت الرأسمال الغول.. هل خرج الجميع من قصف الحرب العالمية الأولى والثانية سالمين بدون عاهات نفسية قبل العاهات الجسدية؟.
الرملي يتجاوز المشهد ليحتفل بمشهد آخر حيث التشابه، المهم الفكرة، يجب أن تبقى ناضجة في الذهن، لا عرضة للتدمير، كنتائج القصف المادي في الحرب، الاضطهاد، العنف، الخسائر البشرية والمادية، ثم النتائج اللاحقة، الجوع، الأمراض، الفساد.
فعلى الرغم من الصور الجمالية التي يناقش فيها سفن السويدي الصحفية (صوفيا هاريسون) نائبة رئيس تحرير مجلة (غرانتا) ويحاول بجدية لاستخلاص آرائه بأن التاريخ لا يعيد نفسه محاولاً التشبيه بميكانيكية بين قصف الطائرات الفرنسية لأحد المواقع في المغرب، وبعد عام من قبل الطائرات الأسبانية أيضاً، لكنه يتناسى أن التاريخ أعاد الحرب نفسها لكن بشكل آخر، والطائرات الحربية على الرغم من اختلاف أشكالها وحمولاتها من القنابل وطرق صناعتها، فهي طائرات حربية لها المهمة نفسها القصف، القتل، التدمير، القنابل التي استعملت إن كانت فرنسية الصنع أو ألمانية فلها الهدف نفسه، السيطرة والهيمنة والقتل والخراب وإلحاق الهزيمة بالطرف الآخر.. أليس إعادة المسرحية كهدف بنص آخر ولكن بشكل جديد؟..هل الطائرات والقنابل تُفرق بين الأسود والأسمر والأبيض والأصفر، وهنا يقع سفن السويدي على ما أعتقد بتناقض في أقواله حينما يمر على خراب المدن الألمانية وغيرها، أليس الحرب العالمية الأولى أعادها التاريخ بالحرب العالمية الثانية بطريقة جديدة مثلما يشير (هاينريش بول) في رسائله من الجبهة: " إنها الحرب، الحرب الثانية في وطننا، إنّ ما رأيناه من تدمير وتخريب خلال ساعات النهار القليلة التي سرنا فيها لا يصدق بالفعل".. أليس هذه الصورة موجودة في جميع الحروب التي حدثت؟.
ان أسئلة الرملي من خلال والده عن السيطرة والسبي والاحتلال تُقَرّبنا لجوهر الحرب، أهدافها، من هم أصحاب المصلحة في قيامها، من خلال الأسئلة نتوصل إلى الإعادة التي تتكرر مادامت الأسباب موجودة، لهذا يجب التخلص من هذه الأسباب التي تؤدي إلى القصف التعسفي بكل أشكاله.
العراق بالنتيجة يبرز بعد هذه الحوارات المتعددة، الداخلية والخارجية، التاريخ، الكتب، المقابلة الصحفية، المشاهدات المرئية، الأخبار، أراد منها الولوج معه إلى موضوعته (العراق)، نادراً ما يجد المرء كاتباً حاول واستطاع خداع القراء بما يريد الكاتب، عمل إبداعي ذو تكنيك غير معقد لا ينتمي إلى العمل القصصي أو الروائي فحسب، وإنما المشاهدة والتحولات المتقطعة التي تمر على الإنسان ويتعايشها خلال حقب حياته، لا ننتبه إليها إلا بعد فترة عندما تكون هذه التحولات قد أخذت منحى في تراكمها وفي لحظة معينة تفاجئنا بدون مقدمات، قد يمر على الذهن أن الكاتب كان قد اكتشف هذا الشيء من خلال أعماله أو عمله المعين:"ومع ذلك ففي العراق كان الأمر مختلفاً تماماً فقد أطلق البريطانيون شعار (سيطرة بلا احتلال)" ص48.
هل أعاد التاريخ نفسه عندما أطلق الأمريكيون وحلفائهم البريطانيون قبل وأثناء 19 / 3 / 2003 شعار تحرير العراق وليس الاحتلال؟! القصف إذن هو القصف! ان كان في براغ أو لندن أو برلين أو هوشي منة أو القاهرة أو أفريقيا أو أمريكا اللاتينية أو بغداد.. القصف يعني هنا الحرب، أو ما يساعد على الحرب ويقربها إلى الأذهان، في الحرب لا توجد مبادئ وقيم أخلاقية وأعراف ذات حدود يحدها القانون العرفي أو الوضعي، هي فنّ السيطرة والإخضاع للنهب والاستغلال، الحرب موجودة في الاقتصاد، جوهرها الاقتصاد، هذا ما جاء على لسان تشرشل رئيس وزراء بريطانيا عن الضحايا في بغداد:" إطلاق الرصاص على النساء والأطفال الذين يلوذون بمياه نهر أو بحيرة كملجأ لهم يعتبر فضيحة"ص50.. لم يخجل تشرشل، ولم يعتبرها فضيحة عندما أمر بإطلاق الرصاص وإعلان الحرب على بلد يبعد عن بلاده عشرات الآلاف من الكيلومترات، كان يهمه النتائج، لا بمن يقتل وأي بيوت ومساكن ومزارع وبساتين ستدمر وتخرب.
ان الرملي يعود ليسأل (سفن السويدي): " فهل على مدينة بأكملها أن تدفع ثمن جرائم رجل واحد، والثورة ليست جريمة يا سفن السويدي وبأي حق.."ص51.
يخرج الرملي من قمقم سفن بأن التأريخ لا يعيد نفسه، لأنه لا يتصور كيف عوقب الناس، مدن، بلدان عديدة على الرغم من براءتهم، وأمامه متسع من الوقت ليرى العقاب (القصف) مستمر مثقل بالهموم، ينساب في مضمونه على الرغم من الثرثرة عن الانقطاع بين الأشياء. الرملي في متابعته، تنقلاته، تقاطعاته ثم انقضاضه يحاول التركيز على قيمة الإنسان في الموضوعة، يسمو بمفردات اللغة ليحولها إلى موسيقى جنائزية في بعض الحالات، يطرح ظاهرة تكررت، فليس الطائرات الإيطالية وهي ترش السموم عبر غازات على البشر والطبيعة نزهة للإستطلاع، وليس عندما أعاد التاريخ نفسه في رش حلبجة الكردية ومناطق أخرى بالسموم الكيمياوية عبارة عن مشهد سينمائي، أو مسرحي ينتهي بإسدال الستارة. تبرز هنا في هذه اللحظة تلك الكليمات الاحتجاجية الصارخة، ما دام القهر والاستغلال يأخذان الصفة القانونية الرسمية والشرعية الحكومية التي وضعها بعض البشر لكثرة من البشر، تستخدم حسب مصالحهم:" أنهيت قراءة كتاب (تاريخ القصف) لسفن، ولم أجد تفاصيل عن قصف حكومتنا لنا"ص55.." آه.. حلبجة أيها الجرح الذي انفتح في الربيع 16 / آذار / 1988 ولن يندمل.." ص55.
نعم يربط الرملي حوادث التاريخ بدراية أو بدونها، يربطها كنتائج لأهداف مبتغاة بالرغم من الزمان والمكان، من قبل طغمة أو طاغية، إمبراطور، خليفة، ملكاً، رئيساً للجمهورية بـ 100% من الأصوات.
فما مر من حروب على العراق كانت وفق رغبة الحكام، وما مر من حروب منذ تشكيل الدولة العراقية الحديثة حتى 1963 رغبة الحكام، وما مر من حروب وقصف منذ مجيء حكم البعث العراقي وقيادة صدام حسين هي رغبة الفكر الشمولي المتعطش للاستعباد والدماء.. التاريخ يعيد الرغبة، بحجج مختلفة، ويعيد الشخصيات بأشكال غير متشابهة.
** العنوان الخامس .. (تاريخ القصف ـ المجلد الثالث ـ شيخوخة الدنيا) يتصدر الموضوع قول حسبما نقله الرملي لأخته كاظمية مطلك:" شابتْ أركاني.. وما ضيمي إلا الساكتْ" ص59، قيمة الضيم هو السكوت ليس غيره، لأنه العرفان بجميل القصف والعقاب والاضطهاد. السكوت المطلق هو جوهر الموت الأبدي، لأن الموت هو المطلق بالنسبة للحياة، التنفس، التفكير، القلب والأعضاء، يختار المرء السكوت أحياناً لأسباب شخصية أو أمنية، لكنه ليس المطلق، في حالته النسبية نسبية الوقت المعد سلفاً، أو ما يقال ( التقية أو الباطنية ).. ينقلب السكوت إلى نوع من التمويه، قد لا يرضى البعض به " الساكت عن الحق شيطان أخرس " هو تدمير للتقية والباطنية لأنهما يبدوان علة العلل، من يرى الحق ويسكت! لماذا سحبنا ولم يتركنا نحرك أجنحتنا في رومانسية خالية من هذا القصف المثل؟.. مثاقيل من الكآبة في قمة رونقها عند الصحوة، القصف له تاريخ أصبح بعداً لمعركة كلامية، أشمل وأوسع وأسهل.
" هل سيواصلون تطوير أسلحة القصف لتصبح أكثر دقة، وأشمل تدميراً، فبعد الفأس والسكين والخنجر والهراوة والرمح والقوس والنشاب والمسدس والبندقية والراجمة.. قنابل ثقيلة وأخرى مشعة وأخرى نابالم حارقة وأخرى مزدوجة وأخرى عنقودية، فراغية، ذكية، نووية، هيدروجينية، كيمياوية/ جرثومية وأخرى.. لمن ؟ لماذا ؟"ص60.
تسلسل للوصول إلى اختراعات أفظع وأوسع تدميراً للإنسان أولاً وآخراً.. اختراعات كوسيلة للتدمير، صور لنتائج سابقة وقادمة لا محال لهذه الأسلحة: "حرب نظيفة بلا جثث على الشاشة أثناء متابعاتنا لها"ص60.
انه اندثار القيم الإنسانية بواسطة ( الربح ) قد لا تظهر الفكرة مباشرة عند الرملي بعدما مسته (الباطنية) قليلاً، ربما بدون معرفة تتكون لديه أفكاراً هدامة!! التي تقول مصيبة الإنسان هو الاستغلال الرأسمالي، عذاب البشرية المزمن، الجميع لا يملكون إلا القليل القليل، والقلة القليلة تمتلك الأكثر، هذه الأفكار أمتدت عبر التاريخ، تكررت، ثورات العبيد، الزنج، الصعاليك، الثورة الفرنسية، ثورات أخرى متنوعة، كومونة باريس، ثورة أكتوبر في روسيا، ثورات في أسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، تتكرر تنجح وتفشل في التطبيق أو في بدايتها، لتعود بشكل آخر، وتستمر السلسلة، ضد القهر والاستغلال وعدم العدالة، لكن كيف؟.. وعن أي طريق؟ ذلك خاضع للحياة وللأجيال القادمة.
هل فكرة الإنسان (عزيز) هي حل لكل الإشكالات؟.. إذا كان ذلك ممكناً فهو جيد، لكن عزيز خائف كما هو الرملي خائف: " أنا خائف من الغد.. أنا خائف من الخوف"ص62.
لنهمل مقتنا للخوف هذا، جل ما نتمناه أن يفسر لنا خوفه على ولده الصغير من الغرب وتقاليده، قد لا أخطئ عندما أقول الخوف من الحرية الجنسية، إنها مشكلة أكثرية القادمين من الشرق وبخاصة المسلمين، فهل الشرق الباطني أطهر وأعف؟ والمباغي العلنية والسرية، والعلاقات الخفية، والخيانات الزوجية، لكن على ما يبدو البعض كالنعامة عندما تهب الريح يضع رأسه في الرمل رافعاً عجزه العاري للريح.
لنجعل عزيز يقوم بالحراسة، نلبسه زياً عسكرياً ونقلده مسدساً وخوذة عسكرية.. وماذا بعد؟ .. لنتفق مع عزيز! لن نسكت وهذا أمر حسن، وعندما نبدأ بفصل التاريخ الذي:" لم يكن في خدمة الإنسان" ص62. ماذا ستكون النتيجة؟ أنا مؤمن سوف نصل إلى المجتمع الطبقي الذي تتصارع فيه الطبقات مهما زين له مُنظّروا وأيديولوجي الرأسمالية، الأكثرية تريد تطبيق مفهوم الإنسانية للصالح العام، والأقلية تريد تطبيق مفهوم الإنسانية لصالح الربح الذاتي، في هذه المرحلة التاريخية من التطور تظهر الأحزاب السياسية ليس برغبة ( عزيز أو سفن السويدي، أو كاظمية أو مصطفى أو الرملي).. فأي إنسانية عندما يطلب أن لا " تتحول إلى أحزاب وتجمعات"ص65.. ترك الأغلبية المسحوقة تحت قصف الأقلية المتحزبة أساساً مع نفسها في أحزاب علنية أو سرية كتجمعات مهمتها الحفاظ على مصالحهم والتضامن فيما بينهم، وتمتلك أدوات القصف لكي تستمر في استعباد الأكثرية لأنه "صاحب المال والعامل" ص67. ليسوا شركاء في رأس المال ولا في المشروع المنتج، الاستغلال هو قانون الطلاق المؤبد بين المالك والمستخدم.. أية هراء وثرثرة عن المجتمعات الخالية من التناحرات الطبقية والاجتماعية تحت ظل الاستغلال؟.
الرملي يحملنا على جناحين رقيقين إلى مفهوم بسيط لكنه عميق، فقد أدرك الاستطراق بهذه الطريقة المتناقضة لموجودات الظاهرة وكأنها متفرقة وفي النهاية تتكون وحدتها، وحدة وتضاد، تضاد ووحدة "على الناس أن تعمل لتؤمن حاجياتها، ولكن عن طريق العمل، لا عن طريق استغلال الآخرين"ص67.
إذا لم يكن عن طريق الاستغلال فهو يعني ضد القيمة الزائدة ومشتقاتها، اكتشاف كارل ماركس للقيمة الزائدة كمثل الباحث عن الذهب، الذهب موجود فقط يحتاج الإنسان لاكتشافه!
بعد هذا العناء في الوصف للتاريخ والتناقضات ووحدتها تبرد عن الرملي السوائل والنطق، القهوة، البيضة، لكن في الحقيقة أفعمنا بتصوراته اللامتناهية بالرغم من بعض العتمة لكن المهم هو الهدف.
** العنوان السادس.. (القصف اللغوي) يتحول الرملي إلى قصف آخر "ما من حركة، أية حركة في هذا الكون، إلا شكل من أشكال القصف"ص69. القصف اللغوي لا يختلف عن القصف في الحروب، هو جزء لا يتجزأ منها، يتناول في هذا الفصل نبذاً من الأقوال والأفعال ليوظفها في عملية بحثه، لغة الشعر، وسائل الإعلام، رسائل (الايميل) الطبيعة، أحاديث مختلفة "هذا.. ونعم.. ان الكلام قصف أيضاً"ص80. وفي النهاية يحذر "فانتبه يا رملي لما تقصف به الناس من قذائف كلامك"ص81.
** العنوان السابع ..(ليالي القصف السعيدة ــ القصص )
1 – القصف في غرفة أمي، 2 – ليلة قصف ضاحكة، 3 - القصف ودار العدالة المائلة، 4 - القصف والمراحيض 5 – حياة محكومة بالقصف 6 – أنا وأنت والناقة مسعودة في عاصفة الصحراء.
القصص الست تصبُ في المجرى نفسه، تعلل القصف بطرق مختلفة، علاقة الأب الميت الحي، الأم، الأطفال، الزوجة، الخوف من القصف الكيمياوي .. الحرب، ثم انتفاض إنساني " هيا أخرجوا.. ذهب الخوف.. ذهب الخوف، فسألتها الجارة من ثقب البلاستك: هل انتهت الحرب؟ وأجابت أمي: لا.. ولكن أنتِ إنسانة ولست نعجة"ص90.
في ( ليلة قصف ضاحكة): لم يفارق الخوف أبطاله، عفوية حياتهم الخالية من تعقيدات المدن الكبيرة، الضجة في المذياع، وصورة الحمار الذي أسكروه وراح ينطح الجدار .. " نهضنا إليه وأمسكناه بقوة حتى غطسنا منخريه في الخمر، فكرع وانتفض، واهتاج ثم سكن"ص95... التجاوز على حمير القرية " فحملنا المذياع والدلو نطوف على حمير القرية واحداً واحداً نسقيه عنوة ثم نفك حبله ونطلقه، حتى اطلقناها كلها سكرانة تركض:طُربك.. طُربك.. طُربك، تنطح الجدران ط اااخ، والكلاب تنبح خلفها: طُربك.. عو عو عو.."ص96.
القصة الثالثة ( القصف ودار العدالة المائلة ) تتناول الموضوع بطريقة أخرى، استعمل الرملي شخوص أكثر خيالاً ، سحر العكازة التي اهدتها الغجرية، انتظار أم سلمان لأوراق ابنها، دار العدالة المائلة ( المحكمة) " فهل استقامت دار العدالة حقاً.. أين هي.. أين أم سلمان؟"ص109.
القصة الرابعة ( القصف و المراحيض ) يبدو العنوان غريباًـ يتخيل المرء قصفاً في المراحيض، أتذكر قولاً أثناء وجودي في سجن الرمادي القديم " المحجر" كانت هناك مشكلة في التواليت، حيث خط أحدهم داخلها ( يسقط مدير السجن.. يسقط مأمور السجن المفوض فهد الدليمي ) جمعوا السجناء العاديين وليس السياسيين وأعطوا لكل سجين ورقة وأملوهم تلك الشعارات.. بعدها قال العريف محمد مخففاً من غضب المدير والمفوض " صحيح قالوا المراحيض قرطاس المجانين ".. وأنا أقرأ هذه القصة سقطت أمامي كلمة يسقط، فقد رأيتها بعد ذلك في الكثير من المراحيض العامة..
القصة استنباط لفكرة رائعة، سرد عميق.. في التاريخ، العمارة، البشر، الفرق في الوعي الاجتماعي " قريتي في العراق تقع تماماً فوق آثار العاصمة الآشورية"ص105. بينما التاريخ كله ينتشر في القرية، من المراحيض إلى عتبة الدار " لقد ضاعت آثار العراق يا أخي، بعضها سرقها الإنكليز والألمان والفرنسيون وبعضها باعها رجال الحكومة"ص106.. هل بقت مشكلة سرقة الآثار مناطة بالمستعمرين؟ أم الوباء الأكبر رجال البلد الذين هم على أساس أحفاد أولئك الذين صنعوا هذا التاريخ لكن على ما يبدو أن انقلاب السيارة لم يكن كما هو انقلاب بلد على رأسه " فأجابه صديق صديقي، وهو عراقي أيضاً: إذا انقلبت بك السيارة فنحن قد انقلب بنا بلد بأكمله"ص106.
هل كان بطل القصة بعد ما أنقذ من قصف القنابل للمراحيض الذي لم يستطع دخوله بالمصادفة والذي أدى به إلى اتخاذ مكاناً أخر يريد أن يقبل غائطه لنجاته فعلاً؟ "من وين أبوسك"ص108.
القصة الخامسة ( حياة محكومة بالقصف المؤبد ) انتقال إلى مكان وزمان آخرين، إلى أفعانستان، احتلال هذا البلد، صور الحرب لا تختلف عن الحربين العالميتين، فيتنام، كوريا، حزيران 1965 وما بعدها، الحرب مع إيران، الحرب ضد الأكراد، في هذه القصة بدى الرملي ضيق النفس، لم يستطع توضيح أفكاره ولا توظيف لغته السردية،لآرائه كناقل، النقص كان منفعلاً وسريعاً، لقطات سريعة وأضواء أسرع ما كادت تشع لكي تنطفئ.
القصة السادسة والأخيرة ( أنا وأنت والناقة مسعودة في عاصفة الصحراء) هي بالنسبة لي أفضل قصص المجموعة، تناول فيها قضية في غاية الدقة.. الغربة داخل الوطن كما الغربة خارجه، الاغتراب الداخلي المتواصل، هذه المرة عن طريق اللجوء، الهرب من جحيم لا توجد ثغرة للحرية فيه، وجحيم يقوم على حرية الحركة والتفكير، ولكن التنقل بحدود معينة حتى في بلد اللجوء " أنا حر أخيراً، وان كنت لا أدري ماذا أفعل بحريتي"ص113.. الحقيقة هو لم يكن حراً، لأن الاجترار سجن من نوع آخر، هناك فرق بين التذكر والاجترار الذي عاشه مرتين، أثناء الحرب، وفي بلد اللجوء "تذكرت دموع الناقة مسعودة واختزلت كل ذكرياتي عن الحرب بصورتها جالسة أمام أشلاء ولدها رافضة الأكل على مدى ثلاثة أيام، ثم هديرها وسط الهجوم.."ص113. ثم "علينا أن ننام بأعين مفتوحة وأكثر من جندي خفر كي لا ينهار علينا الرمل ونحن نيام"ص114. وبما أنه كان منذ البدء يشعر بالاغتراب عن كل شيء فقد تجلت الكذبة، مفضوحة وعاهرة؛ " سيتمكن الراعي من أن يرى طائرة الشبح بعينيه ويلُحها بعصاه"ص114.. أي خدعة هذه للوعي العراقي التي أطلقها حاكم العراق السابق صدام حسين، بعد التشويه العام والخاص لدى الجماهير الواسعة.. عصا تسقط طائرة شبح، قمة الخداع، خلق قيم متدنية لإستيلاب إنسانية الفرد والجماعة.. لو كانت الكذبة " بندقية تسقط" لكان الشر أهون، لكنه الخداع والضحك على الذقون.
استطاع الرملي توظيف صور عديدة وضعها في إطار الناقة مسعودة( الأم) للدلالة، الجندي الهارب من واقعه مرتين، الأسير الذي يعاقبه عربي ملتحي "على أبناء جلدتهم أسود " بينما تعطف عليه وتساعده مجندة أجنبية.
لقد أتمّ محسن الرملي مجموعته بعدما أخذنا في سفر المفردة الواحدة (القصف) تركزت في عمله (ليالي القصف السعيدة) التي لم تكن سعيدة وهذه حلاوة الموضوعة، إنها محاولة جادة وجديدة، ولهذا أطلت في موضوعها، وربما من يسأل: انه عمل صغير لا يتجاوز الـ 117 صفحة!.. الإجابة بسيطة: نعم عمل بحجم صغير لكنه مهم وكبير في مضمونه، ولكونه جديد وجدت من الضروري منحه فسحة كتابية أكبر، لعلها تشجع الذين عاشوا حياة القصف من الكتاب العراقيين لكي يكتبوا فيه، عن تجاربهم التي عاشوها مع القصف الذي أستمر 35 عاماً.. هنا قصف متنوع وليس بالضرورة في الحرب.
ان محسن الرملي على الرغم من كل ما ذكرته، فقد ابتعد عن الأسباب لهذا القصف ومر على الفكر الشمولي مرور الكرام ولم يتعمق بهذه الظاهرة ليظهرها كظاهرة عمت العراق منذ 40 عاماً، هذا الحكم الشمولي الذي كان أحد ضحاياه شقيقه الروائي المرحوم حسن مطلك إضافة إلى عشرات الكتاب والمثقفين الذين قضوا حياتهم في الحرب أو السجون وهاربين من البلاد.. وعشرات الآلاف من الضحايا وأكبر شاهد في التاريخ وللتاريخ (القبور التي تم اكتشافها مثل اكتشافات الآثار العراقية).
بقى أن نقول ( ليالي القصف السعيدة) صدرت عن دار السنابل للنشر والتوزيع في مصر بـ 117 صفحة من الحجم المتوسط، لوحة الغلاف (حزن من رأى) للفنان العراقي خالد كاكي، صورة الغلاف الخلفي: الرملي أمام شجرة الجرنيكا..
للرملي عدداً من المجاميع ( هدية القرن القادم 1995 ، البحث عن قلب حي 1997 ، أوراق بعيدة عن دجلة 1998 ، حازت روايته (الفتيت المبعثر) على جائزة أركنسا الأمريكية باعتبارها أفضل عمل أدبي مترجم إلى الإنكليزية لعام 2002 ، إضافة إلى إصدارات في مجالات المسرح والقصة والترجمة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشرت في صحيفة (الاتجاه الآخر) العدد 126 السبت 19/7/2003م العراق. وفي (الحوار المتمدن) بتاريخ 4/7/2003م.

قراءة / مفيد عزيز البلداوي
مفيد عزيز البلداوي
إنه "استثمار أوسع للإمكانيات التي يتيحها فن القص" كما جاء في كلمة الغلاف الأخير.. وطاقة قصوى بتحولاتها من شكل لآخر لاستخدام اللغة ومدلولاتها في المفردة والتركيب.. والأهم من هذا هو تدوين للتاريخ المعاصر والمحاصر بطائرات ومدافع وبنادق كلها تقصف.. وألسنة تتقاصف، وسرد عراقي لا يقل تأثيره قصفاً على القارئ لأنه، كما قلت، سيكون في ساحة معركة وسيخرج منها خاسراً.. لا بدّ.
القصص الست في نهاية الكتاب أمثولة ناضجة للمجلدات الثلاث الأولى، لذا آليتُ أن أقف أمامها متدرعاً بورقة تستقرئ مناخها المفرط بالحقائق التي تصلح أن تكون الوجه الآخر والأبشع للحرب ومخلفاتها.
القاسم المشترك
لا يربط بين السرديات الست خيط رفيع.. بل قاسم مشترك أكبر، وإن كانت خمس منها تتحدث عن جو حرب واحدة لأزمنة مختلفة، والسادسة معها في طريق مليئة بالحفر التي خلفتها القنابل.. لكن في جغرافية أخرى. والقاسم المشترك الأكبر هذا مؤسس على وجود القاصف والمقصوف وآلية الاستجابات.
ففي القصة الأولى: لم تعد الأم ـ التي كانت مستعدة لسدّ الثقب الذي صنعته بنفسها في الشباك لمنع السموم الآتية من قنابل القصف وحماية أطفالها ـ لم تعد خائفة لأنها، وهم بشر وليس نعاجاً، استجابة قدرية..!.
وفي القصة الثانية:.. سكر أقرب إلى الصحوة وتمرير سريع لمفردة التحالف بسخرية باذخة: "حين اشتد القصف على بغداد قررنا أن نسكر.. نحن الهاربان من الجيش الداخل إلى الكويت" ص91.. استجابة ضاحكة.
وفي القصة الثالثة: "بعد أن طالت الحرب لأعوام.. لم تعد الأبقار تذعر من القصف مقتلعة أوتادها.. ولا تنفر الحمير رافسة أصحابها ولا تفر الكلاب بعيداً في الأفق.. ولا يبكي الأطفال لأنهم صاروا يطورون ألعابهم الحربية عبر المراقبة ويحلمون بالطيران" ص97.. استجابة مقنعة..!.
وفي القصة الرابعة: قاطع، يغير علاقته بالمراحيض نتيجة للقصف.. استجابة مبررة..!.
وفي الخامسة: جلال الأفغاني يولد تحت القصف ويحب تحت القصف ويموت هو وعروسه نتيجة للقصف.. استجابة.. إصرار على الحياة.
وفي القصة السادسة: "فكرتُ بأمي لو أن القذيفة تكون من نصيبي" ص116.. استجابة مقننة بحماية الموت من حياة مدمرة.
حـقـائـق
من صفات الحرب أنها كاذبة.. لا حقيقة فيها إلا الموت المباغت أو المُنتظَر، فثمة من يكون راكباً عربة الموت ولا يموت، وآخر أبعد ما يمكن عنه لكنه يموت.. تلك بداهة!.. والإعلام أكبر مفتعل للأكاذيب عن طريق الإذاعات والقنوات التلفزية والصحف، لأنها تجارة كلامية مسموعة مرئية، مقروءة تقوم على أنقاض الخبر هنا أو هناك..
يتعمد الرملي تمرير هذه التركيبات الكاذبة من خلال سرده.
القصة الأولى: كذب الحكومة أو أعدائها في حقيقة الكهوف المحفورة في المدينة الأثرية.. لا بد من وجود صادق وكاذب بين الجهتين، لكن النتيجة أن "ينفجر جبل مكحول.. وتهتز جدران الطين هنا، يرتجف سعف النخلات المتبقية" ص82.
القصة الثالثة: الأهالي يغيرون اسم الجسر الذي سمته الحكومة (جسر النصر) لأنهم ببساطة "لا يعرفون معنى النصر" ص98. فكل شيء فيه خسارة روح أو شيء بلا روح هو هزيمة.. وهنا حقيقة التمويه الذي تشيعه الأنظمة بين مواطنيها في مسميات لا تمت بصلة لواقع الناس.. وهذا كذب أيضاً.
والعالم الزائف والمزيف.. البعيد عن ادعاءاته حين يمارس أبشع أنواع التمييز العنصري ويهتم بشجرة (الجرنيكا) كأثر من آثار القصف لا يحول بصره إلى مكان آخر، لذا لا بد أن يوخز بمثل "أتخيل لو أننا نحن أيضاً، في العراق، أن نقيم متحفاً للمقصوفات، عندها لا بد أن نسوّر العراق بأكمله..!!.. هل رأيت في التلفزيون مشهد المليون نخلة في البصرة..؟.. بالنسبة لي فقد بكيت عندما رأيته" ص106.. هذا العالم لا تتحرك له قصبة وهو يراه.. وقد لا يعنيه إلا خوفه على مصالحه.
وفي أفغانستان كانت الحلوى قذائف والعيارات النارية المعبرة عن الفرح ربما مقاومة..!! لذا فقد برر العقيد الأمريكي الوسخ لصحافة العالم ـ ربما صدقوه ـ فعلتهم بـ "لست أدري ما كان يجري في تلك القرية.. كل ما أعرف أن أشخاصاً كانوا يطلقون النار.. ويقذفون طائراتنا بحفنات لامعة"ص112.
واللعبة في القصة الثالثة؛ قصة دار العدالة وجدارها المائل في أن جعل نهايتها باحتمالات شتى. فالميلان في دار العدالة أبعد من أن يكون مجرد جدران مللت عن وضعها المهندسة عليه لأسباب تخص التربة وإنما هو تقابل بين المفردتين (العدالة، الميلان) الرامزتين إلى بشاعة الإنسان عندما يضع ما يدمر به أحلامه وأحلام الآخرين ويفتعل الحرب.. الحرب التي تزهق الأرواح طاعة لمطامع شخصية ونزوات بشعة لمن يشيدون ناطحات سحاب لعدالة مائلة. الإنسان هو التربة والعدالة افتراض والميلان حقيقة. لذا سقطت العدالة كنتيجة حتمية لظرف غير طبيعي.. والاحتمالات في ما رُويَ عن الدار والعدالة ذيّلت القصة بالسؤال: "فهل استقامت دار العدالة؟"ص103.
مـصـيـريـات
إن المنلوج الثر في قصص الليالي مليء بما يتمنى الإنسان العراقي أن يقوله على مسامع الدنيا.. بعد أن مرت به مراحل سكوت مميتة. وهو الآن متمثل ببطل القصة الأخيرة عندما ينتابه الشعور بالحرية.. هذا الشعور الذي جاءه متأخراً فحيّر صاحبه: "أنا حُر أخيراً وإن كنت لا أدري ماذا أفعل بحريتي..!!"ص113. ربما لأنه لم يتعود عليها.. لم يلتقها مسبقاً.. لم تكن له تجربة بالتعامل معها.. وهو الآن منتقل ما بين صحراوين "صحراء من الثلج المنجمد في كندا.. صحراء من الرمل الملتهب في مخيم رفحاء"ص113.
"دائماً كان الآخرون هم الذين يتحكمون في مصيري منذ البداية، منذ أوامر أبي وأوامر المعلم ثم أوامر الحكومة والجيش والأمم المتحدة"ص113. وهذه ضربة لمواثيق الأمم التي فيها ما يخص الحق وينص على حق الفرد في تقرير مصيره.
وحقيقة الحرب البائسة تبدو أكثر بؤساً في هذا الواقع الممقوت الذي ينقله لنا المتحدث عن حريته: "كنا جنوداً نجاهد من أجل البقاء وسط تهديدات جيوش التحالف أمامنا ولجان الإعدام خلفنا والسماء المكتظة بالطائرات فوقنا والصحراء الحارقة تحتنا"ص113.. أيّ ثمن يدفع هذا الطامح إلى حريته.. ولماذا يكون محوراً في هذه اللوحة النارية؟!!.
و"طعامنا كُتل الخبز الجاف والتمر.. لذا أصابنا الإسهال فكان التمر يخرج دبساً أسود مخلوطاً بدم الأمعاء فيترك على الرمل خيوطاً تشبه علامات الاستفهام"ص114. في هذا تكامل واقعي مع الصورة أعلاه. فحين تكون الأفواه مغلقة بتهديدات الموت غير المسؤول، تكون في النفس تساؤلات ملحة ربما تخرج من الفم السفلي للإنسان المتكتم والمبركن بغضب الأحشاء الرافضة، لذا يكون الغائط مشابهاً لعلامات الاستفهام التي تحتم أن تكون هناك أسئلة بحاجة إلى أن تقال، ناهيك عن حاجتها إلى الأجوبة.. أبسطها: لماذا نموت؟!!.
وفي الفقرة الأخيرة يميل الرملي إلى تعرية الحقيقة المكتسبة بتوجع العربي من أخيه..!، وبيان ما يمكن أن يكون عليه تعامل الآخر مع هذين الأخوين، واحتمالات القصد من إنسانيته التي ربما كانت حقيقية.. مثلما كان التوجع بين الأخوين العربيين حقيقة.."وأسروني.. ضربني جندي عربي ملتح بأخمص البندقية على صدري. سقطتُ وقيّدني.. فتقدمت شقراء سقتني الماء"ص117.
كتاب "ليالي القصف السعيدة" يحتاج إلى أن يقال فيه أكثر من المستطاع وأن تعلق عباراته على جبين الحرب وتدق مساميره في قلبها لكي يتوقف عن نبضه المكروه.. يقول الرملي في الصفحة الأولى متذكراً المظاهرة التي شارك فيها احتجاجاً على القاعدة الأمريكية وكانت سبباً في كتابة هذا الكتاب: "سرنا من مقهى ألبرتي وسط قادش حتى قاعدة مورون الأمريكية على شاطئ البحر المتوسط، لكل جماعة أو حزب أسباب اعتراضه على وجودها وأنا العراقي الوحيد، وسط هذا الحشد، بلا حزب وبلا جماعة، واعتراضي أنها قاعدة انطلاق الطائرات التي قصفت بلدي.. فكنتُ أهتف بكل شعارات المظاهرة أكثر من غيري، لكنني أردد في قلبي شعاري الخاص وسؤالاً واحداً لإسبانيا، متذكراً ما قدمه لها زرياب العراقي: لماذا نمنحك الموسيقى وتمنحينا القذائف..!.. لماذا؟!!".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشرت في مجلة (ضفاف) العدد 12 / السنةالخامسة/ بتاريخ: مارس 2003 النمسا.
