الاثنين، 8 سبتمبر 2025

عن محسن الرملي / د. عبدالكريم خليفة

 محسن الرملي ليس مجرد أديب عراقي

(روائي وقاص وشاعر ومترجم)

 

الدكتور عبدالكريم خليفة

اشكالية صورة المرأة متمثلة بالأم، وصورة الوطن متمثلة بالأخ الشهيد حسن مطلك.. هذا ما اكتشفته وحللته.

اليوم صباحا وأنا استمع لإذاعة (مونت كارلو الدولية) ولقاء مميز مع ابن الشرقاط الأديب محسن الرملي، اكتشفت ايضا انه مفكر كبير وباحث اجتماعي من الطراز الأول، وله رؤية خاصة وثاقبة بعدد من المواضيع الاجتماعية، وايضا لاحظت انه يعيش بمحنة رفض النظام السابق والصور الظلامية التي اختزنت بذاكرته، وايضا اشكالية النظام الحالي، ويعيش ايضا بين الغربة وحنينه لوطن تغيرت ملامحه وقيمه، وبالرغم من هذه الاشكاليات لكنه بقي اسمه يتردد كهمس في ذاكرة الأدب العراقي المعاصر، لا لأنه مجرد روائي أو شاعر أو مترجم، بل لأنه صار صوتًا للمنفى والوجع والحلم المؤجل، وصار نصه كالوطن البديل، يلمّ شتات العراقيين ودار النشر الذي يديره اسرة تجتمع على مائدة الثقافة ويمنحهم مرآة يرون فيها وجوههم المرهقة.

وُلد الرملي في أرض الشرگاط، أرض النخيل المائل على ضفاف دجلة، حيث يولد الأطفال وهم يحملون في عيونهم صدى التاريخ ورائحة الطين هذه الارض التي تورق في كل جمعة اديب او شاعر او باحث او عالم لكن هذا المولود، الذي شبّ وسط الطقوس الشعبية والأساطير المنقوشة على ذاكرة الريف، كان قدره أن يحمل العراق كله على كتفيه، وأن يرحل بعيدًا، مجبرا متعلق بأهداب وطن الذكريات ليكتب عنه من مكان آخر. المنفى بالنسبة له لم يكن مجرد إقامة في بلاد بعيدة، بل كان قدرًا يوسّع مساحة النظر، فيجعله يرى العراق كما لا يراه أحد، يراه كحلم يتسرب من بين الأصابع، وكأرض مشتهاة لكنها بعيدة، يراه كجرح يظل مفتوحًا مهما طال الزمن، تجاوز الثالوث الممنوع عن الادباء وهو السياسة والدين والجنس فمنح لقلمه ان يتجاوز هذه الخطوط.

في رواياته، يختلط الواقع بالأسطورة، ويذوب الحاضر في الماضي. نقرأ (حدائق الرئيس) فنشعر أن الشخوص الذين يسيرون في ظلال الدكتاتور ليسوا إلا انعكاسًا لجماعة بشرية كاملة عاشت في سجن مفتوح اسمه الوطن. نقرأ (تمر الأصابع) فنلمح بين السطور تلك اليد العراقية التي تريد أن تلمس الحياة، لكن الحرب تقطع أصابعها واحدًا تلو الآخر. نقرأ (ذئبة الحب والكتب) فنجد أن المعرفة والحب صارا شبيهين بذئب يتربص بالروح، لا يتركها تنام ولا يمنحها الطمأنينة. كل نص عند الرملي هو محاولة لالتقاط معنى العراقي: الإنسان الذي يحيا في الحروب كما يحيا في الغربة، الذي يحمل على كتفيه ذاكرة الموت لكنه لا يكف عن الحلم بالحب.

إنه يكتب بأسلوب يجمع بين البساطة والعمق، بين الحكاية الشعبية التي تختزن بذاكرته كشلال جارف والنَفَس الفلسفي. شخصياته ليست بطولية بالمعنى التقليدي، لكنها مقاومة بطريقتها الخاصة وكل شخصياته محركها الاساسي انثى، وان كان للرجل حضور رجل يزرع نخلة رغم القصف، امرأة تنتظر ابنها الأسير رغم استحالة عودته، شاعر يواصل الغناء رغم أن أحدًا لا يصغي. كل هؤلاء يتحركون في فضاء رمليّ يختلط فيه الغياب بالحضور، وكأنهم يصرخون في صمت نحن هنا، رغم كل شيء.

الغربة عنده ليست نزهة أدبية، بل امتحان للروح. هو يكتب بالإسبانية كما يكتب بالعربية، وكأن لغتين لا تكفيان كي تحملا كل ما في داخله من حنين، فهو سفير الانتقال الادبي بين العربية والاسبانية، يترجم ما يشعر انها تزيد من ثقافة ووعي ابناء جلدته، وفي كل نص، هناك ظل الأم، ظل الطفولة، ظل البيت الطيني، كأنها جميعًا أبواب يحاول أن يعود منها، لكنه كلما اقترب وجدها مغلقة بوجهه. المنفى يتحول عنده إلى قدر صوفي، إلى ابتلاء يعلّم الروح كيف ترى ما وراء المرئي.

محسن الرملي هو أيضًا شاعر، حتى حين يكتب الرواية فيكتب المسرح بلغة شعر وعنه النص قصة قصيرة يكتب الرواية بنفس شعري جُمله مشبعة بالإيقاع، كأنها مقاطع من نشيد قديم. وهو متصوف، حتى حين يتحدث عن الموت والسياسة، إذ ينسج من الخراب أفقًا من النور، ويجعل من الدم النازف مدادًا لكتابة جديدة. إن نصوصه ليست مجرد قراءة في التاريخ العراقي الحديث، بل هي محاولة لالتقاط جوهر الوجود الإنساني وهو يواجه العدم.

في زمن صار فيه الأدب مرآة للخذلان، يقدّم الرملي أدبًا يصرّ على أن يظل شهادة، شهادة على أن العراق لم يمت رغم الجراح، وأن المنفي يمكن أن يكون أكثر وطنية من المقيم، وأن الكلمة تستطيع أن تهزم الموت إذا كُتبت بصدق.

إنه يكتب العراق لا كما هو، بل كما ينبغي أن يكون: أرضًا تحيا في الذاكرة والخيال، أرضًا تستعصي على المحو، أرضًا تظلّ، مهما تهشمت، قادرة على أن تنبت من بين أنقاضها وردة برية، أو قصيدة، أو رواية جديدة.

بهذا المعنى، محسن الرملي ليس مجرد أديب عراقي، بل هو أحد حرّاس الذاكرة العراقية في زمن النسيان، وأحد الذين جعلوا من الأدب وطنًا بديلًا، ومن الكتابة صلاةً طويلة لا تنقطع.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*د. عبدالكريم خليفة: كاتب وأكاديمي عراقي.

https://www.facebook.com/d.bd.alkrym.khlyft

ليست هناك تعليقات: