حدائق
الرئيس:
كيف
تُزهر الورود فوق المقابر… وتصفّق لها الشعوب
محمد هيثم
تبدأ الرواية بمشهدٍ
يكاد يُخنق القارئ من شدّته: "في بلدٍ لا يُزرع فيه الموز، استيقظت القرية
على تسعة صناديق موز، في كلٍّ منها رأسٌ مقطوع". بهذا المشهد
الافتتاحي/الختامي دائرة تغلق على وجع العراق، فالذي يبدأ هنا ينتهي كذلك..
إبراهيم قسمة، عبدالله كافكا، وطارق. تربّوا معًا في قرية ريفية، تخلّلت طفولتهم
الألعاب البريئة، الفقر، والجغرافيا المؤلمة للعراق. عبر حيواتهم يُفكّك محسن
الرملي عقود العقود التي مر بها العراق. - الحرب العراقية-الإيرانية، الأسر القاسي
في إيران، وغسيل الدماغ في المعتقلات. غزو الكويت، الحصار الطويل، وفوضى الاحتلال
الأمريكي التي استُبدل فيها الدم العراقي "الجسدي" بنسخته المفقودة،
فالحياة تاهت بين قصور الرئيس ومقابر بلا هُوية.
هل كان
"الرئيس" الذي قلب حدائقه إلى مقابر جماعية، يدرك أن القصص المؤرّخة
تفضحه أكثر من رصاصات "ثلاث طلقات"؟ أو أن شموع الإنسانية لن تُطفئها
أقفاله؟ هل كان يظنّ أنّ اسم رواية تبدو زهرية قادرٌ على تطييب صورته؟ لكن حين
تتحوّل الحدائق إلى مقابر بلا قبور، يُصبح "الرئيس" في أعيننا أشبه
بالسياف الذي لا يرى إلا رقمًا، فقط لأن الضحية ظنّت نفسها نبتة ورد. وكم غسلت
السلطة عقل الشعب، فأمسى يرى نفسها زهرة في حدائق، بينما هي نُبتة نحّتها فوهة
البندقية.
ونحن نتحدث عمن غيّر
حدائق العراق إلى جحيم مرصود، يبدو أن "الرئيس" -وتعلمون من هو الرئيس-
قد انتهى به المطاف أن يكون بيروقراطيًا متقنًا لابتسامة الرعب، فأيّ مساحات خضراء
دكتاتورية يُسدس فيها، فلتتحوّل عبر الأجيال إلى رواية تروي جرائمه بشفافيةٍ
وإزعاج. "الرئيس" الذي اجتهد في غسل أدمغة الشعب، حتى كادت الصحف
والمجلات تُطبع صوره كما لو أنه شاعر وطني وليس جلّادًا، لم يكن يعلم أنّ الرواية
-الأدب- سيكون كاشفًا مهينًا له: أن الثورة الثقافية قد تبدأ حين يكتب الضحايا،
وكل منهم "كتابٌ قائم بذاته". وأظنّ أن المتنكّرين لمآثره سيذوبون سخريةً
إن قرأوا: "حدائق الرئيس" واجبًا سياسيًا لتدريس "الرئيس"…
كدرسٍ في كيف يُجنّد الديكتاتور كل شيء حتى الموت، بينما الرواية تُعيد لكل رأسٍ
قصة، لكل ميت حياة، ولكل قاتل مراية بلا إنكار.
حدائق تزرع الموت وتحصد
الصمت:
الرواية تقول لك، بوقار
المآتم: في بلادٍ كان من المفترض أن تثمر فيها الحقول قمحًا وياسمينًا، قرر
"الرئيس" أن يزرع أشجارًا
خاصة… أشجارٌ تروى بالدم، وتثمر جماجم، وتظلّلها اللافتة الوطنية الكبيرة:
"من أجل الشعب". والشعب، كما في كل مسرحيات السلطة، صفق بحرارة. فمن
يعترض على مشروع بيئي "عظيم" يحوّل الأراضي الزراعية إلى مقابر منظمة؟
على الأقل، التنظيم كان ممتازًا. الرؤوس في صناديق، والأجساد في حفر، والموسيقى
الوطنية تعزف.
إبراهيم
"قسمة" كان يؤمن أن الحظ سيبتسم له، حتى أدرك أن ابتسامة الرئيس تبتلع
الحظ نفسه. عبدالله "كافكا" عاش فلسفة العبث، لكنه لم يتوقع أن عبثية
بغداد ستتفوق على عبث براغ. أما طارق "المندهش"، فقد ظل يندهش حتى آخر
رأس وُضع في آخر صندوق موز، قبل أن يتبخر اندهاشه مع أول رصاصة طائشة. كلهم كانوا
أبناء هذا التراب، لكن التراب في زمن "الحدائق" كان محجوزًا للموتى
أولًا، وللشعارات ثانيًا، وللمساكين… إذا تبقى شيء من المساحة.
من "حدائق
الرئيس" إلى حدائق هذا العصر:
الديكتاتور لا يرحل
حقًا، حتى لو دفنوه. يترك خلفه شبكة معقدة من القوانين الغبية، الاتفاقيات
الكارثية، والمشاريع نصف المنجزة التي لا يمكن إلغاؤها إلا بخسائر فادحة. وهكذا
تظل الشعوب رهينة حاكم رحل جسدًا وبقي أثره مثل عطر سيئ في غرفة مغلقة. من العراق
الأمس إلى دول اليوم، الحكاية واحدة: حاكم يعتبر نفسه فوق النقد، يتخذ قرارات بوزن
القهوة الصباحية، ثم يترك للأجيال القادمة مهمة دفع الثمن. أحيانًا الثمن يكون
أموالاً، وأحيانًا يكون شبابًا في حروب لا معنى لها، وأحيانًا يكون كرامة وطن
كاملة.
لكن المدهش أن الشعوب
–رغم التجارب المتكررة– ما زالت تسلم رقابها بنفس الحماس، وتفرش السجادة الحمراء
للقائد الجديد الذي يعدهم بـ"نهضة كبرى" تبدأ غالبًا بزيادة صورته على
الجدران.
وهكذا، وأنا أطوي الصفحة
الأخيرة من «حدائق الرئيس»، شعرت وكأنني أغلقت بابًا على مقبرة ما زالت تصرخ من
الداخل. "محسن الرملي" كتب هذه الرواية ليرينا وجوهنا ونحن نصفق للطغاة،
ونُدفن تحت عشب الحدائق التي باركنا افتتاحها. جعلني أضحك على المأساة وأبكي على
النكتة، وهو مزيج نادر لا يقدر عليه إلا كاتب يعرف أن السخرية سلاح، وأن الحزن قوة.
وبلا مبالغة، يمكنني أن
أقول إن هذه الرواية هي أعظم ما قرأت في هذه السنة. لأنها جرّدتني من وهم الحياد،
وأجبرتني أن أرى الخراب بوضوح، وأن أسمع صوت الضحايا وهم يروون حكاياتهم من تحت
تراب الحدائق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق