السبت، 21 ديسمبر 2019

قراءة في رواية: تمر الأصابع / إينانة الصالح


الثالوث يبقى محرَّماً في "تمر الأصابع"
 
إينانة الصالح
تمثلاً بما قاله فرانز كافكا "إنَّ الكتابة كالفأس الحاد تشقّ البحر المتجمد في داخلنا لتغرز بذور الحياة" ظهرت قيمة العمل الروائي في تقديم الثيمات بوعي جمالي عالي المستوى وبحنكة لم تكن فضفاضة على المعطيات حيث يأتي الشعر والأدب مثلاً في الأماكن التي لا تصلح لسواهما لننتقل من الواقع المادي الملموس إلى المجرد المحسوس في النفس البشرية. بفائض من الرؤيا ورئة بنفس ممتد لا متناهٍ وبشخصية مقنعة وعناصر فنية مكتملة بكيانها الواضح والخاص، أدت الرواية وظيفتها ضمن نظام مجتمعي خاص بل وتعدّته إلى فضاء المجتمع الأشمل، مخترقةً عالمها الأصلي نحو عالم أشد اتساعاً وأكثر عمقاً، وبتحولات لا تقبل الثبات هاجسها الأعظم هو "الحرية" لتغيير ماهية الوعي الجمعي "اللهم أدم علينا حبنا للحرية وكرامة ابن آدم".
تعددت الأصوات في رواية "تمر الأصابع" للروائي محسن الرملي (الصادرة عن دار المدى)، كما انتقلت أدوار البطولة بين عدة شخصيات بذكاء يجعل السرد منطوقاً من زاويته الأكمل والأوضح، كما تعددت الحقائق والعوائق التي تشكك في الحقائق ذاتها: البحث عن الحق عبر العودة إلى الرب ثم عبر حالة تمرد ثم فقدان الأمل ثم بصيص صغير يتكفل بجعل الأمر ممكناً، فكرة الجدوى واللاجدوى، الثبات أو التحول.
شخصيات معطوبة كل منها في زاوية ما، تحمل سكيناً وهمياً منغرزاً في كيانها النفسي، استخدمت الحكائية للكشف عبر جماليات المشهد مهما كان قاسياً، لتأتي التفاصيل الدقيقة كلسعات مضيئة على الشخصية فتبرزها وتبرر مستقبلها.
حكائية بحساسية روائية عالية غير رتيبة تبرز السلطة العليا(أبوية ومجتمعية وسياسية): فمن السلطة العليا إلى السلطة الأبوية ثم إلى الابن ثم الحفيد، نرى حالة ضياع وتفتت هذه السلطة بتحولات داخلية وخارجية، ولكنها ملطخة بأثر عالق في الذات كجزء منها تهيّئ لبؤرة التمرد وتنطلق في جذوتها على يد "نوح" الذي ملَّ الانصياع إلى أوامر والده وخشيته النَّظر في عينيه، لكنها تأخذ طابع الهدوء والوعي على يد "سليم" الشاب الذي هجرَ أرضه وناسه بعد موت الحبيبة غرقاً في النهر وموت جده المشكوك فيه مرتحلاً إلى إسبانيا، حاملاً معه ثقافته الخاصة التي ابتدأت بالشعر لتنتهي بسرد القصص، والتأقلم ضمن مبادئ ثابتة مع الواقع الجديد.
عبر المفارقات بين المجتمع العربي والغربي من حيث طبيعة الاهتمامات وأسلوب العيش، والفروقات بين المدنية والريف، بين الوطن والغربة عنه، بين قبول الشخصية ورفضها، يتشكَّل نصٌّ سرديٌّ فارق يدفع إلى الارتباك كردِّ فعل منطقيٍّ أوليّ، ثم إلى تجديد أدوات القراءة لفهم هذا الارتباك.
لم تكن الأجيال الثلاثة (الجد والابن والحفيد) المتمثلة بـ(مطلق ونوح وسليم) هي مجرد مراحل عمرية وذهنية مختلفة بل هي سياق منطقي للانتقال من الماضي إلى الحاضر دون فجوات أو بتر، وكل منها بطل في موقعه حسب المعطيات التي ترافقه، وعلى الرغم من التناقض في شخصية كل منهم إلا أنَّ هناك تشابهاً واضحاً يكمن في الصراع الداخلي بين ثنائيات الشخصية الواحدة، كما هو بين الماضي والحاضر، وبين المعتقدات والانفتاح على الآخر، لكأنَّ هذا الاختلاف تكامل.
الديكتاتوريات والفساد وما نتج عنهما من حالة الشتات العراقي مرمَّزاً بأهل قرية "الصبح" العراقية، جعلت السرد متلبّساً بالتراجيديا، وبصراع من نوع آخر هو صراع الهوية (تغيير لقب العائلة، التمسك بالعراق البلد الأم). إضافةً إلى مفهوم الانتقام والدين والقيم والأعراف والعشائرية، ثم الحب والفقد والاغتراب والحنين كلها أفكار استطاع الكاتب تضمينها في راويته التي لم تتجاوز المئة وثلاث وسبعين صفحة، في خطاب إنساني وسياسي يشكلّ مشرطاً لتشريح الواقع، ومعادلات موضوعية كثيرة لا تحتمل سوى المعنى ذاته كصور العراق المعلَّقة في شقة "سليم" بالأبيض والأسود كدليل على الذاكرة المتعلِّقة بالموطن والحنين إليه بعيوبه ومآسيه وعنفه.
البلد الذي شهِد فيه الراوي "سليم" سياسة انتقام خبيثة للنظام الحاكم من قريته "الصبح" سيق من خلالها شبّان القرية إلى حربٍ ليسوا طرفاً فيها، ليُقتل سبعة عشر شاباً منهم –عمداً- كعبرةٍ قاسية للبقية وللمتمردين على النظام، وتغيير لقب العائلة من المطلق إلى القشمر كإهانة واستخفاف واستهانة (القشمر: القصير، الغليظ المجتمع بعضه على بعض).
"إنَّ وطننا الحقيقي هو الذي نصوغه بأنفسنا كما نريد.. لا كما صاغه غيرنا، كما فعل الطاغية.. إنه على هذا النحو ليس الوطن الذي نريده.. ولهذا هجرناه، الوطن مثل الحب يكون اختياراً وليس فرضاً"
جسُد العمل الروائي يحمل أرواحاً متعددة، بعيداً عن التخييل ضمن حالات المونولوج الداخلية، واقتراباً منه في تجارب الحب المبتور. فالشخصيات النسائية في الرواية كانت تعطي الصورة الواحدة للمرأة الحقيقية على اختلاف خلفياتها وأصولها، المحِبة، الطيبة، العاشقة، المتسامحة: "استبرق" أخته القريبة منه وخزينة أسراره ومرساله إلى الحبيبة، الأم التي تأخذ دورها كسند وحماية وحافظة للأسرار، "عالية" ابنة عم "سليم" الحبيبة التي ماتت غرقاً في النهر الذي طالما أحبته، جارته الكوبية التي تشاركه مأساة الديكتاتوريات في بلدها، "بيلار" زميلة سليم في العمل، "روسا" المرأة الاسبانية حبيبة نوح، ثم "فاطمة" الفتاة المغربية التي أصبحت زوجة سليم في نهاية الرواية. لم تغِب المرأة عن الرواية بل كانت الشرارة التي صنعت حبكة السرد كاملاً، وبأدوارها المتعددة استطاعت أن تخلق حالة من التوازن الجمالي والعاطفي وتخفف من وطأة العنف الشرس على خط سير الرواية، رغم المآسي التي انتهت بها بين "صراط واستبرق" وبين "عالية وسليم" وبين "نوح وروسا"، انتهت علاقتان منهما بموت أحد العاشقَين واستمرت الثالثة حتى خسارة مؤجلة إلى ما بعد تنفيذ الانتقام (الوعد) من قبل "نوح".
على كثرة التعابير الجنسية والمشاهد التصويرية التي تعبق بالرغبة والاشتهاء، إلا أن الفعل الجنسي لم يكن مشاعاً أو مُحقَّقاً في الرواية بفعل التمسك بآخر حبال الالتزام الديني والأخلاقي، وقد كان "التمر" شريكاً كشخصية إضافية حاضرة دائماً في لبُّ هذه الحساسية الإنسانية الصادقة والعالية كنوع من الحلاوة المُضافة على اللحظة وخصوصيتها كما أنها الطَّعم العالق في الحلق من طِيبِ الوطن لا طينه.
كما كل التفاصيل في الرواية لم يكن اختيار الأسماء تبعاً للقرآن الكريم اعتباطياً دون دلالات: "استبرق" بنعومتها حدّ الهشاشة هي كالحرير المنسوج بخيوط الذهب، و"عالية" كانت عاليةً بصفاتها الجسدية والنفسية وحتى في غرقها، و"نوح" المنقذ الوحيد لشرف العائلة بوعد الانتقام والمحافظ على الانتقال من أصولية الجد إلى التمدّن في التعامل مع أفراد أسرته وهجرته معهم لأرضهم بقوارب توحي بسفينة النبي "نوح"، والجد "الملا مطلق" الذي كان رأيه فرضاً مطلقاً على كل من حوله رغم حنانه في حالات مرض أحد ذويه، و"صراط" الشاب الذي قُتل (استشهد) مع أنه كان ولداً شرساً شديد التعارك حيث ما من صراطٍ حي في طريق الحروب.
الخوف هو الشعور الحيّ المستمر الذي يرافق الشخصيات على اختلاف مصادره، فنرى نوحاً يخاف من الله ومن نكثِ عهده لوالده رغم عدم قناعته به ضمنياً، لكنَّه كان السبيل الوحيد ليثبتَ رجولته بعد أن فقدها تحت التعذيب فالرجل ابن كلمته حتى إذا فقد فحولته، لكأنَّ نوح كان يبحث عن هذه الرجولة المفقودة نفسياً أكثر من بحثه عن إرضاء رغبة والده. أما "سليم" فقد كان يخاف النسيان (نسيان أرضه وحبيبته) كما يخاف الاندفاع السريع خلف مشاعره "أنا الخائف من الله وجدي وعالية ومن احتمال فشلي وارتباكي وافتقاري إلى التجربة".
هكذا من تأثير رائحة الجثث العفنة على "سليم" إلى البحث عن الحرية ورمزية تعلق الأب بالألمان كإشارة تأتي دلالتها في آخر العمل، ومن العنف والفساد السياسي الذي دمر فكرة "المدينة الفاضلة" التي أراد "الملا مطلق" تحقيقها في قرية "الصبح" في العراق، إلى مرقص في إسبانيا تنهي فيه الرواية صفحاتها دون أن تموت أيُّ تفاصيل على حافة المألوف، وببنيات السردية تلبَّستِ الفعالية العالية وظيفياً وبنيوياً دون الانحراف عن المسار الروائي الكلي الذي يتقاطع مع حياة الكاتب في أكثر من مكان كسيرة ذاتية، وبعيداً عن التوثيق التاريخي بغياب الأعوام لكأنها حالة تصلح لكل الأزمنة: "هذا العالم جايف".
----------------------------
*إينانة الصالح: شاعرة وكاتبة سورية، من أعمالها: حينما تصبح المدينة نافذة.
إينانة الصالح

ليست هناك تعليقات: