السبت، 2 نوفمبر 2019

محسن الرملي يهزأ بالحروب ليهزمها/ إنتصار عبدالمنعم

ليالي القصف السعيدة و حدائق الرئيس...

محسن الرملي "يهزأ بالحروب ليهزمها!"

 

إنتصار عبدالمنعم

محسن الرملي روائي ومترجم وشاعر عراقي يقيم في إسبانيا. من أعماله المتميزة "ليالي القصف السعيدة" و"حدائق الرئيس". ورغم أنه يتحدث عن الحرب في العملين، إلا أننا لا نستطيع أن نقول أن الكاتب يكرر نفسه، بل نجد أنفسنا أمام عملين مختلفين تماما، هذا الاختلاف الذي ينتج من قدرة الكاتب على مغايرة نفسه، ومقدرته على التنوع في طرائق السرد، حتى لو كان يتناول نفس الموضوع..

    كتاب "ليالي القصف السعيدة" للدكتور "محسن الرملي" صدر عام 2003، تناول فيه القصف الأمريكي على العراق، و مارس فيه التجريب في الشكل والأسلوب واستخدام الشخصيات الحقيقية كأبطال تتوالى من خلالهم الأحداث عبر أسلوب التهكم والسخرية للتخفيف من وقع مشاهد الدمار، والتحايل على الواقع المؤلم الذي لا يستطيع تغييره. ومن اللافت أننا لا نجد على الغلاف الخارجي أو الداخلي تصنيفا للكتاب سواء إلى رواية أو مجموعة قصصية، ولكننا نجد  في الصفحة رقم (5) بيانا بالمحتوى يشتمل على: كتاب القصف (كولاج سردي) متضمنا: ليلة كتابة ليالي القصف،  أول القصف، تاريخ القصف. المجلد الأول، طفولة الدنيا، وتاريخ القصف. المجلد الثاني، مراهقة الدنيا، وتاريخ القصف. المجلد الثالث، شيخوخة الدنيا، ثم قصف لغوي .
    يبدأ الرملي  بمشهد اشتراكه في مظاهرة ضد قاعدة مورون العسكرية الأمريكية في قادش/ إسبانيا، اشترك  فيها أكثر من عشرة آلاف شخص، لكل حزب أو جماعة منهم أسباب اعتراضه على وجودها ..."وأنا العراقي الوحيد وسط هذا الحشد، بلا حزب وبلا جماعة، واعتراضي أنها قاعدة انطلاق الطائرات التي تقصف بلدي، فكنت أهتف بكل شعارات المظاهرة أكثر من غيري، لكني أردد في قلبي شعاري الخاص وسؤالا واحدا لإسبانيا، متذكرا ما قدمه لها زرياب العراقي: لماذا نمنحك الموسيقى وتمنحينا القذائف؟ لماذا؟
  كان يردد الهتافات وينظر إلى الطائرات الجاثمة بأحجامها الضخمة كديناصورات.."هذه طائرات قد وصلت إلى بلدي وحطمت جسورا ومتاحف وحدائق ومدارس وبيوتا، وقتلت جنودا كان بعضهم أصدقائي، وأطفالا مختبئين مع أمهاتهم في الملاجىء.. هذه طائرات قصفت بغداد وعادت لتحط هنا بطمأنينة على ساحل البحر." ثم يحكي كيف توالت عليه أخبار"القصف" في كل مكان، في العراق وفلسطين وأفغانستان ووو.... حتى قرر أن يتتبع مفردة "القصف" في الحياة والكتب وفي حديثه مع صديقه، لتتجلى قدرة "الرملي" المعرفية وهو يعرج من مشهد إلى آخر، ويصبح لدينا حكاية داخل الحكاية في لعبة تجريبية في السرد تتوازى فيها الأصوات لتنتهي بالحدث الرئيسي ألا وهو قصف العراق وتدميره. "كنت أرى كلَّ شيء بمثابة قصف، الإعلانات وبرامج المسابقات وفضائح الممثلين وقُبل العشاق والهواء المتسلل من النافذة...هكذا واصلت اجتراري لأخبار القصف، قراءتي وذكرياتي عنه، التاريخ والأرقام والموتى والأغاني والتبريرات وفراق الأحبة ودم ومدافن وحرائق ومنافي وحديد وكلمات ونار وتكسير العظام ونظرات شرهة وأخرى دامعة.. كل شيء هو قصف، أو تبادل قصف، تبادل النظرات، وتبادل الكلمات/ الشتائم، الصراخ، النصائح، الصفع، الأبوة، الأخوة، المحبة، الحقد، الإغتصاب او ممارسة الحب، وجهات النظر... الخ ". ثم يأتي القسم الثاني تحت عنوان (ليالي القصف السعيدة) وهي: القصف في غرفة أمي، ليلة قصف ضاحكة، القصف ودار العدالة المائلة، القصف والمراحيض، حياة محكومة بالقصف المؤبد، أنا وأنت والناقة مسعودة في عاصفة الصحراء. وتحت هذه العناوين تختلط المأساة بالملهاة، الفظائع بالنكات والمزاح.. يصف حياة الناس في أيام الحرب، الجنود، الرغبات الصغيرة التي قد لا تتعدى الحصول على سيجارة أو قضاء الحاجة في الصحراء دون أن تسقط عليه قذيفة.
     أما في رواية " حدائق الرئيس" نجد الحرب دون محسنات بديعية، بعيدا عن حس الفكاهة الذي لجأ إليه في "ليالي القصف السعيدة" متوهما أنه بالسخرية سيهزم الحرب التي هزمت الجميع. تجيء الرواية بكل الأحداث كما هي بفظائعها التي ارتكبها الإنسان في أخيه الانسان سواء بالحرب مع الدول المجاورة أو بالسجن والتعذيب لأقل شبهة في عدم الولاء للحاكم حتى لو كان أقرب الأقرباء، وطرائق التعذيب التي لا يصدقها عقل بشري. لم يكن "الرملي" في حاجة لأن يخفف من وقع حوادث القتل والتعذيب، أو أن يقوم بتجميلها وقد خبرها عن قرب عندما أعدم النظام شقيقه الفنان والشاعر "حسن مطلك" عام 1990 بتهمة محاولة قلب نظام الحكم، واعتبر "حسن مطلك" فيما بعد "لوركا العراق، ولو لم يفر هو نفسه "الرملي" إلى إسبانيا ربما كان ضحية جديدة من ضحايا النظام، ويختفي مثل هؤلاء الذين يواريهم "ابراهيم" الثرى في روايته "حدائق الرئيس". ولم يكن هناك ضرورة للجوء إلى الحيل السردية في "حدائق الرئيس" لتجميل الواقع أو التخفيف من بشاعته بعد أن فاق الواقع الخيال.
       تبدأ "حدائق الرئيس" بمشهد فيه قدر من التهكم رغم فظاعته: في بلد لا موز فيه، استيقظت القرية على تسعة صناديق موز، في كل واحد منها رأس مقطوع لأحد أبنائها، ومع كل رأس بطاقته الشخصية التي تدل عليه لأن بعض الوجوه تشوهت تماما بفعل تعذيب سابق لقطعها، أو بسبب تمثيل بها بعد الذبح، فلم تعد ملامحها التي عرفت بها على مدى أعوام حياتها المنتهية، كافية للدلالة عليها". ثم تتوالى الأحداث لتنتهي الرواية بالمشهد نفسه. اتخذت الرواية الشكل الدائري، فهي تبدأ وتنتهي بالمقطع نفسه، مشهد صناديق الموز هذه والرؤوس المقطوعة التي تحتويها يفتتح بها الرملي الرواية ثم تتوالد القصص داخل الرواية لترسم مشهد العراق الدامي على اتساعه وعلى مختلف الجبهات.. تحكي الرواية قصة ثلاثة من أبناء القرية جمعتهم الصداقة منذ الطفولة، عبد الله كافكا وإبراهيم قسمة وطارق المندهش، أسماء لكل منها مدلول تخص الشخصية المعنية .. ومن خلال تتابع أحداث حياتهم، نتابع تاريخ العراق نفسه، خلال النصف قرن الأخير الذي شهد حروبا وخرابا للبشر والأرض على السواء. الحرب العراقية الايرانية، غزو الكويت، طرد الجيش العراقي من الكويت، الحصار الغربي للعراق، وقصفه، وتمزيقه طوائف وجماعات.. كل ذلك من منظور الإنسان الذي يجد نفسه طرفا مشاركا في كل هذا رغما عن أنفه. ثم ينتهي به الحال العبثي مقعدا أو سجينا أو مطاردا من طرف تلو طرف آخر يغايره في المسمى  ويوافقه في التفنن في طرائق التعذيب، فلا حرمة لجسد أو لروح تحت التعذيب.
    يستفيض "الرملي" في وصف فظائع النظام وطرائقه الممنهجة في التعذيب، فعندما أتيحت الفرصة لإحدى الشخصيات "إبراهيم" للعمل في حدائق الرئيس، ظن أنه سيكون أفضل لأنه أصبح قريبا من دائرة من المفترض أن تكون أفضل حالا من غيرها من فئات الشعب، لكنه يفاجأ بأن مهمته ليست غرس الأشجار والزهور كما ظن، ولكن كان عليه دفن الجثث التي تموت تحت التعذيب، في مشاهد متوالية تصيب القارئ بالقشعريرة دهشة من اعتياد مشاهد التعذيب وطمر الجثث، ليتخذ ابراهيم قرار التوثيق لهذه الجثث في سجلات تحوي دلائل وعلامات كافية لمعرفة أصحابها لو وجدت من يبحث عنها يوما ما.
    نلمس الاختلاف الواضح بين "ليالي القصف السعيدة" و "حدائق الرئيس" في طرائق السرد، ولكن قدر العراق الذي أصبح مرتهنا بالحروب وحدهما. وفي العملين، نجح الرملي فيما اختار من طرائق للسرد متكئا على فكرته الأساسية أنه على مدى نصف قرن، لم تتبدل حياة الناس البسطاء، الحروب، الحصار، المقابر الجماعية وفوضى الاحتلال، ويصبح دم إبراهيم، رمزا للدم العراقي، الذي تفرق ما بين نظام يرحل وآخر يأتي، بين حرب تنتهي وأخرى تبدأ، بين أعداء من الخارج، وأعداء من الداخل.. والموت هو القدر الواحد...
-----------------------------------
*انتصار عبدالمنعم: كاتبة مصرية، حائزة على جائزة الدولة التشجيعية، من أعمالها: المجبرون على الصمت، نوبة رجوع، كبرياء الموج.
**نشرت في (ميدل إيست أونلاين)، بتاريخ 2/11/2019م
انتصار عبدالمنعم

ليست هناك تعليقات: