الاثنين، 15 مايو 2017

إشراقة الشِعر / أمير تاج السر

                                             إشراقة الشِعر
أمير تاج السر
التقيت منذ أيام في أبوظبي بالصديق الشاعر والروائي العراقي محسن الرملي، الذي يعتبر واحدا من أفضل الأصوات الشعرية والروائية في جيلنا، ومثلي بدأ شاعرا، لكنه لم يتخل عن الشعر أبدا، ويكتبه باستمتاع شديد، جنبا إلى جنب مع الرواية التي أبدع فيها أيضا. متحدثا عن بلده العراق تاريخا وحضارة وانتكاسا، وما زال هنا في قصيدة وهناك في رواية، يبدع، وقد حصلت روايته «حدائق الرئيس» التي صدرت بالعربية منذ سنوات، وكانت في القائمة الطويلة لجائزة البوكر، ومؤخرا بالإنكليزية، على أصداء كبيرة، في الغرب، وما تزال تحصد كثيرا من الأضواء، مؤكدة على عظمة الأدب العربي، حين يترجم بحياد، ويقرأ بعيدا عن عنصرية التلقي، التي دائما ما تطال آداب العالم الثالث، خاصة العالم العربي.
في ذلك اللقاء العابر، بسبب أنني كنت على موعد مع السفر، طلب مني محسن أن أعود إلى الشعر من جديد، وهو الطلب نفسه الذي حدثني به صديقي الشاعر محمد سليمان، منذ سنوات، مسجلا لوما لي بأنني تركت الشعر مبكرا جدا، وكان في إمكاني أن أجعله أخا للرواية، بدلا من هجره.
قال محسن إن الشعر الآن يستعيد مجدا مفقودا، بعد أن تكالبت الأقلام على كتابة الرواية وهدت حيلها، ليستيقظ ويبدأ في رسم خطوات جديدة على درب الإبداع، وتخطيط مستقبل مشرق في أسواق البيع الإبداعي، وأن أمريكا اللاتينـــــية، بسحـــريتها وغرائبيتها، تقيم سنويا مهرجانات حاشدة للشعر، يطوف فيها الشعراء المدن والقرى، ويحصدون جماهير، لن يحصدها كتاب الرواية، أيضا توجد حوافز كثيرة للشعراء، وتوجد جوائز، ويوجد التفات جيد، حتى في العالم العربي.
في الحقيقة كان الكلام جميلا، وهذا التغزل في الشعر لم يكن مجرد غزل عابر، إنما هو نتاج مشاهدات عن تجارب، خاضها ويخوضها محسن وغيره من الكتاب الشعراء، الذين أصروا على وجود الشعر في حياتهم، مزاحما للرواية، وأعتقد أن الحالات الطارئة المشحونة بسعرات عالية من التشنج، تكتب قصيدة والحالات الخامدة التي تتطلب وقتا من التفكير، ووقتا من الرسم والكتابة والحذف والإضافة،، تسعها الرواية. ويأتي وقت أحيانا أن يكتب الشاعر قصيدته، ويأتي الروائي داخله، ليحولها إلى ملحمة روائية، والمتتبع لروايات كثير من الروائيين العرب والغربيين، الذين كانوا شعراء وظلوا شعراء، أو هجروا الشعر، يجد تلك الإشراقات الشعرية دائما، يجد اللغة البسيطة المستوحاة من لحم القصائد، والعبارات الرنانة التي لن تخرج إلا من قلب شاعر، إضافة للمشاهد الحية التي يكتبها السرد، وعندي نموذج ممتاز لكتابة حداثية، في رواية «ابن القبطية» لوليد علاء الدين، الصادرة من عام تقريبا، هذه رواية حية، وإضافة بديعة للرواية، وكونها رواية أولى لشاعر كان مخلصا للشعر، أضاف لها الكثير من الجماليات.
وتأثرا بكلام الصديق محسن، بدأت أنفض الغبار عن مجموعات شعرية، لشعراء معاصرين، كنت قرأتها منذ زمن، ولم أعد إليها مؤخرا، وأيضا أدرجت في قراءاتي بعض القصائد الحداثية لشعراء شباب، وقد عثرت على تلك المعاني التي تلهم الشعوب، واضحة بلسان الشاعر وليس بلسان شخص بديل داخل رواية طويلة، ربما لن يكملها أحد..
القصيدة تتغنى بكل شيء وترقص أيضا، وممكن أن تلمع داخل نص روائي إن وضعها الروائي داخله، وقد اعتدت صياغة قصائد وأغنيات ووضعها داخل نصوص روائية، تحتاجها، مثل أن يكون أحد الشخوص شاعرا أو مادحا، أو مطربا يحتاج إلى أغنيات، وفوجئت مرة أن أحد المغنين انتزع واحدة من تلك القصائد، ورددها من دون أن يشير إلى أنها نص في رواية، كتبتها إحدى الشخصيات، لكني كنت سعيدا رغم ذلك.
الآن في رأيي كثرت الحاجة إلى الشعر، ذلك الذي يذكر الشعوب، وفي جمل قليلة مختصرة، بأنهم شعوب، لهم أوطان توشك على الضياع، وينبغي إنقاذها، ويذكر الإنسان، بتلك الصفات الغالية التي تساقطت من إنسانيته، ولم يهتم بلمها، فالحماس الذي ينتج من قصيدة مشتعلة، كان في الماضي كفيلا، بإشعال الدنيا، وأظنه الآن، إن عاد الشعر إلى عافيته الأولى، سيفعل ما كان يفعله، ودليل على ذلك أننا ما زلنا في مواقف كثيرة، نستعين بأبيات للشابي، والبارودي وأحمد شوقي، وحتى جيل عبد الصبور، وأمل دنقل، وكل الذين كتبوا قصيدة حداثية، فقط ترتدي ثياب الحماس الأولى التي كانت مفصلة للشعر، وشخصيا آردد فجأة وفي كثير من الأحيان، قصيدة عظيمة، لشاعر شاب، هي «ما لم تقله زرقاء اليمامة» لمحمد عبد الباري.
لنتحدث قليلا عن قصيدة النثر، تلك الصيغة الأخيرة التي وصل إليها الشعر، بعد تجارب كثيفة في شعر التفعيلة، وهي الصيغة المتعارف عليها الآن، حين نتحدث عن الشعر. هذه القصيدة، وأعني النثرية، تحتمل تعبئتها بالجماليات أكثر من غيرها، وفيها صور عظيمة، وتطرب حقيقة، ولا تحتاج إلى وضعها في قالب تقليدي، من أجل استيعابها والتفاعل معها، وقد لاحظت أن شعراء عديدين من أجيال متنوعة، وحتى من الذين كانوا يكتبون العامودي، والتفعيلة، الآن يكتبونها، وأحس بتجدد عظيم في كتاباتهم.
سؤال: هل يمكن لهذه القصيدة الحداثية، أن تثير الحماس إن تناولت مواضيع تهم الناس فعلا؟
نعم بالتأكيد، والذي يتابع ما ينشر الآن، متناولا حالات الشعوب العربية المختلفة، من حروب ودمار وتشتت، ومحاولات البحث عن أوطان بديلة، يدرك أن الشعر موجود، ويواكب الأحداث، بصورة عظيمة ومشرقة.
عموما، هي التفاتات تحدث فجأة، لأشياء جميلة في حياتنا قد نكون نسيناها وانشغلنا بغيرها. كنا نعشق الشعر، ونتبارى في كتابة القصة القصيرة، ثم جاءت الرواية لتشغلنا زمنا، والآن بدأ الشعر يشرق، وأيضا القصة القصيرة، التي رصدت لها مؤتمرات أيضا، ورصدت لها جوائز كبرى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشرت في صحيفة (القدس العربي)، العدد 8825 بتاريخ 15/5/2017 لندن.

ليست هناك تعليقات: