الأحد، 27 نوفمبر 2016

الذكورية والسلطة في رواية محسن الرملي /د.جنيفر جاندلر

محسن الرملي.. كتابة عالقة بمعطف الحرب
تمثيلات الذكورية والسلطة في رواية (الفَتيت المُبَعثَر) لمحسن الرملي
د.جنيفر جاندلر
ترجمة: أحمد مختار المالكي
تقديم
نالت الباحثة البريطانية جنيفر جاندلرJennifer Chandler شهادة الدكتوراه من جامعة مانشستر سنة 2012 عن أطروحتها التي حملت عنوان: (الأرض الحرام: تمثيلات الذكورية في رواية الحرب الإيرانية-العراقية No Man's Land: Representations of Masculinities in Iran-Iraq War Fiction)، والتي قامت من خلالها بتقصي موضوعة الذكورية في بعض الروايات العراقية والإيرانية التي تناولت الحرب بين البلدين (1980-1988) كثيمة رئيسية. حيث بينت بأن تمثيلات الذكورية في رواية الحرب الإيرانية -العراقية تُظهر عرضاً عميقاً وأحياناً متناقضاً، فبينما يتمرد الجزء الأساسي من رواية الحرب على الهيمنة ويعيد تشكيل أنماطها القياسية للرجولة، فإنه ينسجم في بعض الأحيان مع أنماطها القومية المتطرفة (الشوفينية) وأحياناً لنماذجها القمعية لسلوك الذكور. وكان هدف الدراسة من ربط الأعمال الروائية بالسياق الاجتماعي والسياسي الأوسع هو لإدراك وتمييز الفرق في العلاقة بين تمثيلات الذكورية وبيان الوصف الأدبي للأمة في وقت الحرب.
ارتكزت نظرية هذه الدراسة على إعادة تشكيل مفهوم الهيمنة الذكورية، متأثرة بطروحات الباحث جوزيف مسعد، إضافة إلى محاولة تشكيل السياق لجزء كبير من الرواية التي وظفت تمثيلات الذكورية في قصص رمزية ذات بعد سياسي واجتماعي أوسع. وتعاملت هذه الأطروحة مع الذكورية كظاهرة معقدة مليئة بالتناقضات الثنائية تعمل ضمن سياق تاريخي وسياسي خاص والذي يمَكن أو يقمع شخصياته بمعيار متساو. وقد سعت، عبر ربط تمثيلات السياقات الاجتماعية الواسعة، إلى تمييز وإدراك الفروق في العلاقة بين تمثيلات الذكورية والدور الذي تلعبه الأمة في الأدب ولا سيما عندما تصبح الحرب هي الموضوع السائد والمسيطر. حيث نجد بأن سياق الحرب، الذي يُفترض أن يكون مفهوم الذكورية فيه سهلاً جداً، يصبح أكثر تعقيداً عندما تتداخل فيه عناصر العمر والطبقة الاجتماعية وكذلك الانتماءات السياسية التي تتحول إلى عوامل معرفة للهيمنة وبالتالي تشكل الهيمنة الذكورية.
وتكشف الدراسة، من خلال تحليل الأدب الوطني لأمتين شاركتا في الصراع نفسه، عن وجود حراك اجتماعي وسياسي بين الجنس والأدب تم تشكيله على أنه "واقع" الأمة المتوخى من الأدب تمثيلها. وبالتالي فإنها تعرض وتحلل جزءاً أساسياً من الأعمال التي تحدثت عن النظام الأدبي الأوسع، والذي تم تجاهله في دراسات الأدبين الفارسي والعربي. حيث تتناول السرديات الاجتماعية والسياسية للجنس تحت نظامي (حزب البعث) في العراق و(الجمهورية الإسلامية) في إيران، أزمة الذكورة وانتكاس الأمة في رواية الحرب الإيرانية–العراقية، وتستكشف التمثيلات الذكورية في السياقين العراقي والإيراني من خلال قراءة معمقة لثمانية أعمال روائية طُبعت ما بين 1982 و2003، وفي باب (تحدي الدولة الأبوية في رواية ما بعد الحرب) قامت بتحليل روايتين إيرانيتين هما: (السفر باتجاه 270 درجة) لأحمد دهقان و(فأل الدم) لداوود غفارزادهكان، وروايتين عراقيتين هما: (إعجام) لسنان أنطون ورواية (الفتيت المبعثر) لمحسن الرملي، ونحن هنا نقدم ترجمة لبعض أهم ما جاء في طرحها حول الأخيرة. 

تمثيلات الذكورية والسلطة في رواية (الفَتيت المُبعثَر)
تروي رواية (الفتيت المبعثر) لمحسن الرملي، والتي طبعتها دار مركز الحضارة العربية في القاهرة سنة 2000، سيرة عائلة فلاحية في قرية عراقية ابان الحرب بين إيران والعراق. وسارد الراوية المجهول (الراوي)، مِثل كاتب الرواية نفسه، يعيش كمغترب في إسبانيا حالياً. ويزعم السارد بأنه غادر العراق للبحث عن ابن عمته المفقود (محمود) والذي هرب من بلاده إلى مدريد، غير أن البحث عن ابن العمة لا يشكل، على أية حال، محور الرواية، وانما أفراد عائلة (محمود) المقربين أثناء الحرب بين إيران والعراق. حيث تتحول قراءات الخطاب الذكوري إلى حكاية رمزية وطنية ونقد سياسي، كما تركز نماذج الأبطال وخصومهم الذكور على ملامح فهم الذكورية. فتظهر الدولة مرتبطة بنمط ذكوري مفرط وشاذ يقابله ذكورية أخوية يمثلها إبداع وذكاء بطل الرواية (قاسم). وعلى الرغم من انتصار النمط الأبوي للدولة على النمط الذكوري الأخوي في النهاية، فإن الرواية توجه النقد للدولة ونمطها الذكوري وتسمح لظهور نقد قوي مبني على الجنس، ويتم إدراك انتصار الدولة أساساً كانتصار للسلطة الأبوية ولكنه مرتبط أيضاً بانتصار الجنسانية الذكورية المنحرفة والتي تظهر للقارىء من خلال الطبيعة اللاأخلاقية لنظام البعث وكيف أصبح بمقدوره تهديم النماذج الذكورية المثالية.
يدور محور الرواية حول العلاقة بين البطل (قاسم) وأبيه (عجيل) ذو المشاعر القومية المؤيدة للحرب والداعمة للنظام الحاكم، والذي يفشل في التمييز بين مفهوم الدولة الفاسدة ومفهوم أرض العراق كوطن، فيبدوا الأمر لأول وهلة وكأن مفاهيم الخطاب الأبوي للسلطة قد انتصرت على نموذج البديل الذكوري المثقف. بيد أن تخلي (عجيل)، وهو والد (قاسم) والداعم الكبير للدولة، عن سلطته الابوية عندما يقع في أزمة وينتكس بعد أن يدرك الطبيعة الفاسدة للدولة، مما يجعل الأمر يظهر وكأن الدولة قد انتصرت على كل الرجال في العراق.
والمأساة التي يكشف السرد عنها النقاب، هي أن الحرب التي كان (عجيل) يدعمها بحماس ودون بصيرة قد فككت شمل عائلته. حيث يُعدَم (قاسم) بسبب هروبه من الجيش ورفضه القتال في حرب لا يؤمن بها، وهو الحدث الذي يقود في النهاية إلى تبعثُر شمل العائلة، حيث يطلع القارىء في آخر الرواية على النهايات الحزينة والجزاء المجحف لشخصياتها. أي أن هذه الرواية المأساوية هي قصة الحرب والدكتاتورية المفروضة على المجتمعات الصغيرة. وكما اختصرت لين روجرز هذه الأحداث في تقريرها عن رواية (الفتيت المبعثر) : "تبدأ الرواية المختصرة كقصة ساخرة عن الحياة في قرية عراقية تحت طاغية غير معروف، ولكن من السهل تمييزه، فهي تقدم تشخيصاً ذاتياً وعميقاً للعجز الجنسي والمنفى. فالرواية، وعلى خلاف العديد من الروايات، تتعلق بالعجز في المنفى دون أن تغفل رواية (الفتيت المبعثر) تقديم صورة للأحوال المروعة في الوطن المسلوب".
وترتبط الرواية في الموضوع مع روايات أمريكا اللاتينية التي تناولت الدكتاتور كشخصية رئيسية. حيث تُظهر بأن الدكتاتور كشخص "موجود في كل مكان وقادرة بكل الوسائل على فرض سلطته والتحكم بكل شيء من خلال اسخدام الكلمات التي تبدو منشورة في كل مكان وبطرق مخفية ومعلنة." يعاقِب دكتاتور (الفتيت المبعثر) قيم الحضارة والحياة الطبيعية والوطنية ويكافىء الانحراف والجشع. حيث يسوق الرجال المحترمين إلى حتفهم تحت عنوان خدمة البلد، كما هو الحال في شخصية أحد الأخوة (عبد الواحد) الذي يُقتَل أثناء أدائه للخدمة العسكرية في الخطوط الأمامية للقتال. كما يعاقب أولئك الذين يتمسكون بمادئهم ويفضلون الموت على خيانة فكرهم مثل الفنان (قاسم). وهناك أيضاً شخصية (سعدي) المفتقد لأية مبادىء أخلاقية أو اجتماعية والذي يترقى إلى المناصب العليا في النظام. فتعرض الرواية في جوهرها عالماً مقلوباً رأساً على عقب، يموت فيه البطل وينتصر فيه الشرير.
تبرز التمثيلات الشاذة والمنحرفة للذكورية التي تروج لها الدولة في رواية (الفتيت المبعثر) جانباً مهماً من جوانب الأنظمة الجنسية والتي تتشكل في الرواية لتكون كحالة للرفض. حيث تعمل الرغبات المنحرفة والانماط الجنسية الشاذة في هذه الرواية، كحكاية رمزية وأخلاقية لإظهار المشاكل الاجتماعية والسياسية الأوسع. فالنموذج المرجعي للذكورية التي يمثلها (قاسم) على سبيل المثال تشير إلى نمط من ذكورية الطبقة الوسطى الموجودة في الأمم والدول الديمقراطية. وقد قابلت الرواية هذا النمط مع الذكورية الداعية للحروب والأبوية التي تروج لها الدولة. أي أن نمط الرموز الذكورية الأبوية مرتبط بالدكتاتورية ومرتكبي الظلم والاستعباد والتي تشكل دعوة حماية الدولة من خلال الحروب أحد أهم سماتها. وعلى الرغم من أن محسن الرملي يعارض وبوضوح الهيمنة السياسية والاجتماعية، وهي إشارة إلى رفضه للشكل الثاني من الذكورية، فإن هذا الأمر لم يتحقق دائماً من خلال نماذج الجنسانية التي يوظفها ويمثلها كمؤشر على الكارثة التي حلت بالوطن.
كما أن العلاقة المندمجة بين الغلبة والانحراف، وهما مصطلحان متناقضان تقريباً في أي سياق آخر، تسلط الضوء على الدولة المهيمنة والمنحرفة. وأحد سمات هذه الملامح هي أن سلطة الدولة والتهديد باغتصاب الذكور متلازمتان. فيهدف استخدام الدولة لاغتصاب الذكور ضمن مؤسساستها، وفي السجن على وجه التحديد، إلى ترميز ورسم الحدود الدقيقة للسلوك الاعتيادي والسلوك المنحرف والذي يتم إرجاع إشارته إلى الدولة لاحقاً. وتستخدم رواية (الفتيت المبعثر) تمثيلاً جنسانياً بهذا السياق لتوضيح نقاط سياسية أكبر. وكما لاحظ الباحث جوزف مسعد؛ فإن هذا الأمر لا يشكل مفاجأة، وذلك لأن الادب العربي بعد الثمانينات أصبح مليئاً بالتمثيل الجنساني ولاسيما الجنسانية المنحرفة، والتي تتجلى وتتحول إلى قصة رمزية ذات نتائج اجتماعية وسياسية واسعة عن نظام الحكم البغيض: "وقد أضافت الرغبات والأفعال الجنسية -ولاسيما العديد من النماذج المنحرفة التي كانت تعد ولحد نهاية الستينات مفقودة، في الرواية العربية، بشكل كبير مع وجود استثناءات بارزة- عمقاً وتفاصيلاً أكثر إلى السرد وتحولت إلى قصة رمزية اجتماعية مميزة تمثل حالة المجتمع في فترة التسعينات وبعدها".
تمثل شخصية مدير السجن في رواية (الفتيت المبعثر) الوجه الشرير للنظام، والذي يستخدمه ويتغاضى عما يقوم به من عمليات اغتصاب للذكور. وتفسد طريقة التحكم التي شرعتها الدولة لمواطنيها الأسوياء بإشغالهم بقضية مثلية جنسية مخالفة للفهم الحديث لما هو "طبيعي". فيستخدم عميل الدولة القضيب والمؤخرة كنقاط للتحكم عندما يتطلب الأمر فرض وانتزاع السلطة من الرجال.
فالدولة كمغتصِب ترمز إلى الخطر الجنسي الشاذ في الفضاء الذي تتحكم به وبالتالي فان الاغتصاب والمثلية الجنسية يصبحان مصطلحين مندمجين ومرتبطين بالدولة الوحشية. وتكشف تجربة شخصية قاسم في السجن في رواية (الفتيت المبعثر) عالماً تتحكم به الدولة، حيث لا يُمنح لقاسم فيه الخيار البديل عن التعذيب والموت إلا بسبب إقامة أخاه (سعدي) لعلاقة جنسية مع مدير السجن:"... وكان الحراس أول من يرسمهم قاسم وأول من يفترشوا سعدي. وحين علم المدير بالخبر، أمر قاسم بأن يرسم صورة لـ "القائد" فلم يستطع فعزله، وأمر سعدي بأن يكف عن تَسهير السجناء فلم يستطع فعزله، إلا أن سعدي كان يخلع سرواله ويصعد على صفيحة الفضلات في زنزانته، واضعا مؤخرته في النافذة الصغيرة، التي تفصل بينه وبين سجناء قاعته ليصعدوا هم بدورهم وينالونه من هناك.
حين علِم المدير بذلك، أظهَر غضباً عارما، ونقل سعدي إلى حجرة خاصة ملاصقة لمكتبه تتوفر فيها سبل الراحة!!".
تطلب الرواية من قرائها تحدي ومساءلة نظام القيم الذي تنشره الدولة وتقوم الرواية بتوضيح هذا الجدل من خلال قصص رمزية للاعتداء الجنسي وخطر المثلية الجنسية. كما تشرك الرواية الشخصيات الذكرية في نظام القيم والسعي لتوجيه النقد له من خلال تأكيد الذكورية المثالية المبنية على العلاقة الجنسية السوية. وعلى الرغم من أن الرجال، في هذه الرواية، يسعون الى تحرير أنفسهم من نظام الحكم المهيمن والقامع، فإن البديل لهذا النظام هو إعادة تأكيد النموذج الديمقراطي الوطني والحر والنمط الاعتيادي للعلاقات الذكورية كنمط مهيمن. وهذا يساعدنا في فهم عدم إعادة رسم تمثيلات النساء والذكورية الصامتة، ولاسيما تلك المتعلقة بهويات مثلية جنسية عندما يتوقف الاحتفاء والمباهاة بالنظام الأبوي. وتصبح هذه المجموعات التقليدية الخاضعة أكثر حرية ببساطة لشرعنة الهيمنة الذكورية الاعتيادية سوى في النصوص التي يكون فيها نمط الذكورية أخوياً بدلاً من النمط الأبوي، ويصبح شرف الذَكَر في هذه الحالة مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالجنسانية الفعالة والمتعلقة بالذكورية السوية (وبالتالي الرجوع إلى الثنائية التي تنص بأن من يخترق هو الذكر فيما يُؤنث من يتعرض للاختراق وبالنتيجة يُحتَقر).
إن الدولة في دورها كمغتصِب تنتهك المثال الجنسي السوي الذي تم تأسيسه كقيمة جوهرية للذكورية المهمينة. كما تستبعد الدولة بذلك من أي فهم أو تطلع لجهة كي تكون المهيمنة وتساهم بدلا من ذلك في تكوين فهم الهيمنة والغلبة، والذي ميزه آر دبليو كونل في كتابته عن الهيمنة الذكورية. حيث يوضح كونل: "إنه لمن الصعب رؤية كيف تكون الهيمنة ذات علاقة إذا كانت عناصر الفئة الغالبة هي الانتهاك والاعتداء والتعلق بالذات. حيث أن هذه الصفات قد تعني الغلبة  ولكنها بالكاد تشكل هيمنة وهي فكرة تتجسد في بعض مفاهيم القبول والمشاركة للمجموعات الكامنة والصامتة".
ولاتسعى الدولة، في هذه الرواية، إلى أن تستمد الشرعية من هؤلاء الذين تقمعهم، وإنما تسعى بدلاً عن ذلك إلى الغلبة أكثر من سلك السلوك الاعتيادي والتطلع الشرعي للهيمنة. وهذا هو جوهر الرسالة التي يحاول الكاتب توصيلها من خلال تصويره العراق أثناء الحرب بين إيران والعراق. يشكل قبول الدولة للانتهاك الجنسي وتحطيم القيم القياسية للسلوك الجنسي السوي مخالفة لمفهوم النص عن الذكورية الحديثة كنتاج للسلوك الجنسي السوي. ويتجلى خطر الجنس المثلي للدولة في شخصية سعدي في رواية (الفتيت المبعثر)، حيث يعمل سلوكه الجنسي المنحرف كمؤشر مهم على فساد نظام الحكم. وتم تعزيز هذه الجنسانية المنحرفة وتجريدها من الحسية الشبقية لجعلها محرمة (تابو). فميول سعدي التي تحطم الممارسة الجنسية السوية تتضمن دوراً سلبياً في عملية الجنس المثلي والاغتصاب والحيوانية وكذلك سفاح المحارم والولع الجنسي بالأطفال. وأعاد السارد ذكر تفاصيل التحرش الجنسي الذي مارسه سعدي معه:"كنت أصغر من سعدي، وألهاني اللعب معه عن النوم والشمس، حتى فاجأني بمد يده إلى خصيتيّ، فأجفلني الحدث وتراجعت حتى التصق ظهري بزير الماء المهمل في الركن المعتم، بينما ظل وجه سعدي بلا انفعال، صورة ثابتة. كما هي ابتسامة بلهاء وملامح ميتة... أخذ يقترب مني ببطء، فوددت لو أستطيع الصراخ كي أوقظ أهلي، أو أنبّه كلبنا اللاهث في الظل، لكنني كنت أشعر بالاختناق.. وحين فكرت في رفسه والانقضاض عليه ضربا، ثم الخلاص... تأكدت لحظتئذ أنه يكبرني كثيراً، فقد كان جسده يسدّ مربع ضوء الباب من ورائه.
وضع كفه على كتفي فارتعدتُ، ثم نفضتها عن كتفي حين تذكرت بأنني في بيتنا، وليس في بيتهم أو أي مكان آخر... همس لي: "لا تخف.. أريد أن نلعب لعبة الدجاجة والديك، العروسة والعريس، النعجة والكبش، الكلبة والكلب، الحمارة والحمار... وهكذا مثل كل شيء وسوف تكون أنتَ الديك والعريس والكبش والكلب والحمار".
ووجدتني أطرح عليه التساؤل الذي كان ينتابني حين أسمع عنه: "ولكن أنت حمار وأنا حمار... أقصد أنتَ ولَد وأنا ولَد؟" فأجاب بثقة: "لا عليك سأعرف كيف أكون حمارة."
كان صوته دبقاً، شهوانياً، مقززاً وأنفاسه تفعم جو المخزن رطوبة ولزوجة، فهززت رأسي رافضاً. قرّب فمه من أذني/ قَرَف/ وقال:
-"إن لم تفعل سأقول لخالتي أمك بأنك تريد أن تفعل بي مثل الحمار والحمارة."
يوحي الانطباع المتحصل من هذا المشهد باحتقار وازدراء الجنس الشرجي ولاسيما عند الذي يشارك به بأدوار جنسية خنثية، فبينما تستحوذ الإثارة الجنسية على (سعدي) يطرح عليه السارد خيار وضع اصبعه بدلاً عن القضيب. وعندما سحبه من مؤخرة (سعدي)، وكان مغطى بالغائط، فإنه يؤشر بوضوح ويجرده من أدوار الذَكَر الحسية السلبية من الشبق الجنسي. والتجربة في الحقيقة شنيعة إلى الحد الذي تجعل السارد ينهي المشهد بالتقيوء، حيث لا يمكن أن يتساءل المرء عنها: هل أن وصف التجربة بهذه الطريقة المثيرة للغثيان سيكون كذلك فيما لو كانت مع امرأة؟.
وعندما يُرقي نظام الحكم الدكتاتوري (سعدي) إلى أعلى المراتب الرسمية كرئيس لـ (رابطة أحباب القائد) فإن القارىء يدرك بأن سلوك (سعدي) يصبح ممثلاً لنظام الحكم. وأن (سعدي) مِثل نظام الحكم؛ منافق ومثير للاشمئزاز ولهذا فأنه يسعى إلى إضعاف الرجال برعاية النظام الشمولي ولاسيما "الرجال الذي يعارضون النظام المستبد أو يحاولون إظهار الفردية في وجه السلطة الدكتاتورية التي تهدف الى تحييد ومحو أي علامة تمرد، من خلال مصادرة الجسد". وبينما يُعدِم نظام الحكم (قاسم) لهروبه من الجيش، وهو القرار الذي التزم به ليحافظ على كرامته ونزاهته الشخصية، فإنه يَقبل (سعدي)، الهارب أيضاً، في كنفه. حيث يتم الصفح عن ذنوبه وجرائمه وكذلك هروبه من الجيش عندما يصبح جزءاً من نظام الحكم. كما يُظهر أن الناس الذين لا يكنون الحب للوطن، وهم في الحقيقة يسعون لإرضاء رغباتهم الشخصية، سواء الجنسية منها أو السياسية، يحصلون على السلطة لحكم الأمة من خلال دولة فاسدة. فسلطة الدولة، والتي تظهر بوضوح من خلال حب الأمة، مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بجنسانية الذَكَر. حيث تصبح غائية الدولة مرتبطة بنتاج الرغبة الذكورية. وتترك النهاية السعيدة لـ(سعدي)، في (الفَتيت المبعثَر)، القارىء يشعر بأن النتائج الجنسية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالنتائج الوطنية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشرت في مجلة (إبداع)المصرية، في فبراير/شباط 2015م، العدد رقم 32

ليست هناك تعليقات: