الجمعة، 11 سبتمبر 2009

قراءة / سلمان زين الدين


الروائي محسن الرملي ينتصر للتسامح في العراق

سلمان زين الدين

« ما كنت لأكتب قصة أهلي وأفضحهم لولا تشجيع أبي لي...». بهذه الكلمات تبدأ رواية «تمر الأصابع» الثانية بعد أولى هي «الفتيت المبعثر» للكاتب العراقي محسن الرملي (الدار العربية للعلــوم ناشـرون ومنشــورات الاختلاف).
وهو بهذه البداية التي يضعها على لسان السارد يعطف الفضيحة على الكتابة في نوعٍ من المعادلة الضمنية بينهما وفي ظل تحرّر من السلطة الأبوية بما هي معادل للقيم القمعية في المجتمع على أنواعها، وكأنّ الكاتب أراد أن يقول إن الكتابة لا تتحقق إلا في مناخٍ من الحرية تغدو معه نوعاً من الفضح والتعرية «والحفر» تحت طبقات الممنوع التي تتراكم عبر السنين، فهل يحقّق الكاتب في روايته تلك المعادلة الاستهلالية؟
قصة الأهل التي يتصدّى السارد لكتابتها تتناول حكاية أسرة عراقية على مدى ثلاثة من أجيالها، في علاقتها الملتبسة بالسلطة السابقة. وهي تمتد زمنياً من الجد الى الحفيد/ السارد، وتتوزع مكانياً بين العراق واسبانيا، ويتواكب هذين الامتداد والتوزع تطوّرات درامية للأحداث وتحولات في الشخصيات، وانقلابات مفاجئة في سلّم القيم، يصوغها الرملي بِحرفيّة واضحة وبكفاءة روائية ملحوظة.
تشكّل حادثة تحرّش ابن أحد المسؤولين ببنت إحدى الأسر بصفعها على مؤخرتها الشرارة الأولى للاصطدام بين قيم الأسرة/ العشيرة المحافظة وقيم السلطة المستهترة، المستبدة. ويتخذ هذا الاصطدام تمظهرات كثيرة في الرواية تدفع فيها الأسرة أثماناً غالية في ظل عدم تكافؤ القوى بين الطرفين، ويكون على الأسرة أن تتخلى عن بعض قيمها في نهاية المطاف خصوصاً قيمتي الثأر والانتقام، الأمر الذي يمكن رصده بتلمّس الاختلافات بين شخصيات الجد والأب والحفيد الذي يقوم بعملية السرد في الرواية متنقلاً بين زمن العراق أو زمن الجد/ الأب بما فيه من ذكريات وزمن اسبانيا أو زمن الأب/ الحفيد بما فيه من وقائع.
من خلال هذه العملية، يتبيّن أن الجد مطلق هو شخصية قوية، ذكورية، متديّنة. صاحب القول الفصل في شؤون الأسرة، أمره مطاع، وكلمته نافذة، يحيطه أفراد الأسرة بهالة من القداسة، فلا يجرؤ أحد على النظر في عينيه أو مناقشته، متطلّب في تربية أولاده، يتعالى عن الواقع ويدفع ثمن تطرّفه. ولذلك، عمد الى قطع سبابة زوجته الأولى حين شهرتها في وجهه، ورفض دفن جثث الأسرة قبل الثأر لها، وألزم ابنه القسم على الانتقام والثأر.
إزاء هذه الحدود القصوى في شخصية الجد، تتموضع شخصية الأب نوح في منطقة وسطى بين الجد والحفيد، الابن. فهي شخصية ازدواجية تعيش صراعاً داخلياً بين قيم الجد المتطرّفة بما فيها من صرامة وتزمّت وبين قيم الإنسان العادي بما فيها من ميل الى البساطة والواقعية: فالأب خلافاً للجد الذي كان موضع تأليه وتقديس من أسرته الكبيرة يبدو محايداً وبشرياً وصديقاً لأولاده. لذلك، يصارح ابنه بوسطيته وازدواجيته: «فقد كنت وما زلت يا سليم منقسماً الى اثنين في داخلي... واحد مقتنع مطيع مؤمن بالمقدس الذي يمثله أبي ومرتبط بالعمل للآخرة، وآخر مرتاب متمرد شكاك بشري ومرتبط بالدنيا، يحب الضحك والنساء والغناء والشعر والتمرد والخطيئة...» (ص 117)
هذا الاعتراف المتأخر أسهم في تبديد حيرة الابن/ السارد التي شكلت مادة أساسية في الرواية حيث شغلته تحوّلات الاب وراح يبحث عن تفسير لها. فالابن لم يعرف من شخصية أبيه في العراق سوى الجانب الأول المنتمي الى الجد، ولــذلك، شغــله أن يكتشف في أبيه في اسبــانيا جانباً آخر ينــتمي اليه هو.
وحين علم أن الأب موجود في اسبانيا للبرّ بقسمه والثأر من ذلك الصبي الذي أصبح ديبلوماسياً هاله الأمر وراح يعمل ليحرّر الأب من انتمائه للجد المتطرف والتزامه ازاءه ويدخله في الحقل المنتمي اليه هو يزاول حياته الطبيعية بعيداً من قيم الثأر والانتقام، فيقرر السفر مع صديقته الألمانية دوسا الى بلدها للزواج والإقامة فيه غير أن القدر يكون بالمرصاد فيتم نقل الديبلوماسي من مدريد الى برلين، فهل يفسد القدر ما أصلح الإنسان؟ الرواية تنتهي هنا ولات جواب.
هذه الحكاية كتبها محسن الرملي بلغة روائية سلسلة، طليّة، يطغى عليها السرد ويقطعها الوصف احياناً. ومارس فنّية واضحة في خطابه، فكسر خطية الزمن، وأطاح بالتدرج والتسلسل بين الأحداث، وراح ينتقل بسهولة ويسر بين الواقع والذكريات ولم يكن ليستنفد الواقعة أو الذكرى حين يأتي عليها بل يتناولها في غير مكان من النص على أن انتقاله لم يكن مجانياً ومن دون مبرر بغضّ النظر عن قوة المبرر، وبالتالي، هو انتقال تلقائي طبيعي على شكل تداعيات يأخذ بعضها برقاب بعض.
محسن الرملي ينثر خيوط الحكاية ببراعة واضحة ويترك لك تلمسها ونسج الشبكة الروائية. و(تمر الأصابع) نص روائي يمكنك أن تأكل «تمره» وأن تلحس «أصابعك» بعد الأكل/ القراءة.
------------------------------
*نشرت في صحيفة (الحياة) بتاريخ: الاربعاء، 02 سبتمبر 2009م لندن.

ليست هناك تعليقات: