السبت، 5 سبتمبر 2009

أقاصيص / محسن الرملي

أقاصيص

محسن الرملي

قصة قصص
مثل أي كاتب آخر تنتابني فترات سبات أعجز فيها عن الكتابة لذا أتبع نصائح الكبار وأحمل دفتراً صغيراً في جيبي أدون فيه الأفكار التي تطرأ لي أثناء دبيبي العبثي وسط استهلاك المعيشي لي، فأكتفي أحياناً بوضع عناوين لقصص، مجرد عناوين أظن بأنها ستكون كفيلة بتذكيري بالقصة التي أنوي كتابتها. أحياناً أخرى أدون العَظم الحكائي بأسطر قليلة (حلوة كلمة العَظم هذه!).. وأحياناً أخرى أجدني أكتب مقطعاً سردياً دون فكرة مسبقة أو حكاية معينة فتروح الكلمات المنثالة تجر بعضها البعض بخيوط علاقاتها اللغوية مُشَكلة مشاهد سردية أحار لاحقاً بكيفية تأطيرها. استطعت أن أنجز البعض من ذلك كنصوص: (برتقالات وشفرات حلاقة في بغداد) و(حب صيني) و(مختلسَات من رأسي الهذرام) فيما مر على غالب هذا الفتيت من المدونات أعواماً، ألقي عليها نظرة بين الحين والآخر ثم أطويها وأعيدها إلى الدرج.. حتى طرأت لي اليوم فكرة أن أتركها هكذا كما هي، أو أن أضعها أمام القارئ مع بعض الإشارات الصريحة لحالي معها ـ وإن كان في هذا الأمر فضحاً لكسلي. ولكن لماذا لا أقول للقارئ الحقيقة؟ (أية حقيقة تقصد؟.. فالحقائق كثيرة، هذا إذا كانت ثمة حقائق أصلاً!).. ثم إذا كان سيشاركني بالقراءة فلأجعله يتورط بالكتابة أيضاً.. أو كما يُقال؛ أرمي الكرة في ملعبه هو (هذه عبارة صارت مُستَهلَكَة) بدل أن أبقيها في ملعبي كبيضة عجزتُ عن منحها الدفء الكافي لتفقس وأخشى من أن يفسدها طوال الركود ـ يعني أن أتحدث عن قصة القصص، بصراحة (حقيقية!) كالتي نرتكبها أمام الأشخاص الحميمين إلى أذهاننا..


المركب اليَغرَق


رُز بالحليب مخلوطاً بالشيكولاتة في باخرة مهدَّدة بالغَرَق بعد أن ظن الراكبون فيها هرباً من حرائق الغابات المقتربة من بيوتهم في أطراف المدينة بأنهم سينجون بهذه الطريقة. وحده الطفل الواقف أمام النافذة، ناظراً إلى صخب البحر مثل لعبة مغرية، يأكل الرز بالحليب مخلوطاً بالشيكولاتة. كان حيادياً هادئاً غير مدرك لهول الخوف العاصف بالمحيطين به. الشيخ الجالس خلفه على كرسيه المتحرك وعكازه في يده يبتسم هو الآخر برضى وطمأنينة وهو ينظر إلى طمأنينة الطفل ويفكر بالتفسير؛ أن الأكثر حياة هم أولئك الأكثر خوفاً في الحياة أو أننا الطفل وأنا (الراوي) اللذان أقرب زمنياً من الموت: هو (الطفل) قادم منه أو من العدم قبل قليل وأنا الذاهب إليه بعد قليل، وحدنا ندرك صدفة الحياة ومجانيتها.. أو حتى عبئيتها، وهي المارقة بسرعة كطائفة من الإعلانات التلفزيونية الخادعة، سريعة، مؤقتة، براقة، مغرية.. لكنها خادعة في الأصل، فيما الموت أو العدم هو الأساس.. الأطول.. الأبدي أو الغامض الحقيقي.. أو النوم الذي لا يعني جريان الإعلانات أثناءه شيئاً.. فلماذا الخوف؟. وما الذي سيجنيه الخائفون؟.. التنافس، الحروب، مباريات كرة القدم، التكالب، توفير الأوراق الرسمية وزيادة الأرصدة وإشارات المرور.. النظام، الأنظمة.. ردد (الشيخ) الكلمتين الأخيرتين مرتين وانفجر بالضحك ملقياً برأسه إلى الخلف. التفتَ إليه الطفل، وحدق هو بالنوارس الحائمة وهي تبتعد.. فيما تواصِل الباخرة ترنحها والموج يلطم، يلطم.. ويلطم.


مُهاجِـر


ها هما الشرطيان ذاتهما: خوان السمين وخوسيه الضعيف، يأتيان به للمرة الرابعة خلال هذا الأسبوع. يُجلسانه أمامنا: المحقق وماريا المذهلة في سرعتها بصف الكلمات على الآلة الكاتبة وأنا المترجِم.
تعتعه السُكر فبدا مثل كيس محشو بالورق يؤرجحه التحرك حد السقوط، لذا وقفا خلفه يمسك كل منهما بأحد كتفيه مثبتاً إياه على زاوية الكرسي.. وهكذا رأيت كفيهما بمثابة قرّاصتين ضخمتين من مشابك حبل غسيل، وخالد التونسي كأنه قميص حريري يتمايل بسلاسة بينهما. منفوش الشعر. رأسه يتدلى على صدره وتنزل منه على ساقيه وعلى ما بينهما خيوط لعابه. يجاهد بين برهة وأخرى برفع رأسه، ويكلفه الجهد ذاته فتح عينيه والنظر إلينا بهما ثقيلتين. يتوقف أحياناً عند تحديقه بي فيلوك كلماته بصعوبة:
ـ أنا أعرفك.
فأبتسم قائلاً له:ـ وأنا، كذلك، أعرفك.. أنت خالد التونسي.
يقول:ـ نعم.. صحيح يا أخي.. وأنت عبدالرحمن.. من أين؟.. لا أدري.. غير مهم.. من بلاد الرحمن العربية.
دائماً يتكرر هذا المشهد بتفاصيله، هو من ذاته يسميني عبدالرحمن ولم أهتم بأمر التصحيح له.
يسأل المحقق الشرطيان:ـ ماذا فعل هذه المرة؟.
يجيب خوان السمين بروتينية وابتسامة:ـ مثل المرات السابقة سيدي.. قبضنا عليه في أحد المحلات وهو يحاول السرقة.
هز المحقق رأسه وقال قبل أن ينصرف: إذاً فقوموا بالإجراءات الروتينية.. مثل المرات السابقة.
وعندما أصبحنا لوحدنا اقتربت منه وقلت: لماذا تفعل ذلك بنفسك يا خالد؟.
قال: ماذا أفعل إذاً يا أخي؟.. أنا بلا عمل وجائع. لم أسرق في حياتي ولم أشرب خمراً لذا حين أفكر باللجوء للسرقة أرتعد وأخاف، فأشرب كي أتشجع.. لكنني أسكر.. فلا أدري ما الذي يحدث بعدها حتى أنتبه إلى نفسي هنا.. وهكذا..


رسالـة

وصلتني رسالة، ترجوني الرد بسرعة، من عنوان مجهول.. لذا لا أعرف كيف أجيب عليها، وهذا هو نصها كما جاءت:
أخي العزيز..
لدي مشكلة، وهي في والدة خطيبي، إنها إنسانة تعتقد أن أفكارها هي الصحيحة فقط، وان جميع الناس يتكلمون بالخطأ ولا يفهمون شيئا.. حتى أنها تقول عن نفسها: إنها والدة قليلة عقل!. لا أعرف لماذا؟. وهي تتهمني بأنني أريد أن أطلقها من زوجها، وذلك لأنني أتكلم مع ابنته من زوجته الأولى، على الرغم من أنني لم أر هذه الفتاه إلا مرتين فقط. ولكنها هي، والدة خطيبي، تحب أن تمسك أي نقطة ضعف على البني آدم، وتروح تُعيّره بها طوال الوقت، وتعيد عليه الموضوع الاسطوانة كل يوم، وهي، للعِلم، لا يوجد لديها صديقات ولا تذهب لأحد خوفا من أن أحداً سيأخذ زوجها منها، أو أن يظهر كلام ما أمام بناتها فيقلل من هيبة شخصيتها. وهي تزرع في قلب خطيبي ـ ابنها ـ الشَك بالتحدث عني بكلام يسيء لسمعتي.. ولا أعرف كيف أتصرف معها!. أريدها أن تهدأ قليلاً، ولكن بلا جدوى. والدليل على كلامي هذا، هو أنها تريد أن تُزوج أبنائها من جنسية آسيوية، أي من الفليبين، كي لا تفقه حديثهم، ولكي لا يعرف زوجها أو أية واحدة من بناتها سبيلاً للكلام معهم.. فهل هذه إنسانة سليمة العقل.. أم ماذا؟؟. ارجوا الرد، وهي اسمها عطيات واسم والدتها صبيحة واسم والدها عبدالعظيم.. فهل انتم تعالجون بالكرامة؟.. ارجوا مساعدتكم وبسرعة.


الولَد المُشاكس عِـراق

أهله يقولون: هو هكذا؛ يُتعبنا منذ ولادته ونحبه. يضرب أولاد الجيران ونحبه. يلقي بنفسه في المهالك ونحبه. يبني لنا قصور الرمال ويهدها علينا ونحبه. يُصلح العاطل من أجهزة البيت ثم يعطله ونحبه. تتكسر عظامه في المغامرات ونحبه.. لكنه في الأعوام الأخيرة صار حزيناً شاحباً يذبل..
ـ اهدأ يا ولد.. هل فيك دودة لتتسلق شجرة الثمار الممنوعة؟!. قالت ذلك إحدى العجائز الطيبات بعفوية، فتلقفوا قولها بمثابة اكتشاف. لقفوا الولد وانطلقوا به صوب القرى البعيدة بحثاً عن السَحَرَة والشيوخ الحكماء والصالحين من أصحاب الكرامات الذين يعالجون الأمراض العصية. فقد نفض الأطباء أيديهم عن علاج الولد المشاكس عراق، ليس لعجزهم ولكنهم كانوا يتحدثون جميعاً عن حسابات وتكاليف مالية باهظة حين يذكرون ضرورة إجراء عملية، فقال المهمومون من الأهل عنهم: إنهم حاسِبوا مصالح وحسب، لهذا كلما رأوا عبر أجهزتهم الحديثة الدودة في جوفه يكتفون بزم الشفاه قائلين: أنتم السبب لأنكم تأخرتم في معالجته حتى كبرت الدودة.
الدودة الخبيثة تأكل الولد من داخله يا جماعة. ونحن نتوجع.. نتوجع لأننا نحبه.
الصالحون من أصحاب الكرامات اكتفوا بقراءة الأدعية وتعليق القصائد كرقيّ في زنديه ورقبته. والدودة تكبر وتنهش دواخل الولد المشاكس الذي لا يهدأ: اهدأ يا ولد.. اهدأ يا بُني.
الشيوخ الحكماء سقوه حليب الحمارة الحساوية وعصير العلقم وجرعوه سم الأفاعي. والدودة تكبر وتنهش دواخل الولد المشاكس الذي لا يهدأ: اهدأ يا ولد.. اهدأ يا حبيبي.
فجاء السَحَرَة وقالوا؛ أن الدودة التي فيه هي عفريتاً لذا عليكم بضرب الولد حتى تطردونها من داخله. فانهال الجميع بكل قواهم ضاربين نحالة المشاكس باحتفالية قاسية، يبكي ويضربون، سالت دماءه ويضربون، تحطمت جسور عظامه ويضربون.. يضربون.. ويضربون حتى رأينا جميعاً الدودة شعثاء دامية تنتق منه وتفر إلى جحر فئران. فيما بقي الولد المشاكس عراق طريحاً يتلوى من شدة آلامه.
ـ اهدأ يا ولد.. اهدأ يا عراق.. اهدأ يا حبيبي.


دارمِـي

شفتُ الضوء من بعيد فقلت: احترَقنا.
ولما وصلتُ البيت وجدتُ حبيبي عندنا.

---------------------------------------------

*نشر بعضها في مجلة (النبأ) العراقية، العدد 76 .
http://www.annabaa.org/nbahome/nba76/aqasees.htm

هناك تعليق واحد:

Mohammed Arbouz يقول...

هذا شأننا حين تبرهن الكتابة لنا أن لا سلطان لنا عليها بل هي كالحورية الحسان المدللة تأتينا متى تفجرت الرغبة من عينيها.و لهذا نقرأ للكثير من الكتاب كيف أن رواية أو قصة قصيرة اتعبتهم سنين كثيرة.
وما أعتقده أستاذ محسن أن حتى القالب يفرض نفسه علينا في أحايين كثيرة. فحينما تبغي كتابة رواية تجد في الختام أن نصك انحصر في أقصوصةو العكس صحيح.
فما علينا إذا إلا بالرضا بقضاء الله.
تحية لك و لكأس الشاي المنعنع و إن كنت أنصحك بترك التدخين.
http://kissace.blogspot.com/