الأحد، 12 يوليو 2020

قراءة في رواية: تمر الأصابع / صباح هرمز


تمر الأصابع لمحسن الرملي..
شخصيات تتقاطع وتتشابه بعضها مع البعض، ومع نفسها 

صباح هرمز
ذا كان علي بدر، قد كتب ثلاث روايات، تعبر كل واحدة منها عن مرحلة معينة، مر بها العراق، تربو عدد صفحات كل رواية عن مائتي صفحة وهي رواية (بابا سارتر) التي تتصدى لجيل نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات، و(أساتذة الوهم) للثمانينيات، و(الكافرة) لما بعد عام 2003، فإن محسن الرملي، يختزل المراحل الثلاث في رواية واحدة، لا تتعدى عدد صفحاتها مئة وسبعين صفحة، في روايته الموسومة (تمر الأصابع).
تدور حوادثها، أو كما يرتأي الراوي أن يطلق عليها (الحكاية) حول والد السارد (نوح) الذي أدخل رصاصتين من بين ثلاثا في مؤخرة أبن أخت سكرتير نائب الرئيس، وأحتفظ بالثالثة لوقت آخر، نتيجة مد أبن أخت نائب السكرتير يده من نافذة السيارة إلى مؤخرة أبنته (أستبرق) وهي شقيقة السارد (سليم)، وأثر ذلك يعتقل نوح، وينتفض أبوه، بوصفه رئيس العشيرة، ويعتزم بعد أن يجمع أولاده التسعة وأحفاده وأولاد عمه وأولادهم وأحفادهم الهجوم على مركز شرطة تكريت لإطلاق سراح أبنه نوح، ظنا منه أن (سكوتهم على البعصة سيركبوهم).1 إلا أن القوة المهاجمة سرعان ما تتقهقر أمام زحف مدرعات الحكومة وقصف الطائرات، ويقتل ثلاثة من أفرادها، وتتلقى البقية الصفعات والركلات والسياط والشتائم، وتبدل ألقاب كل أفراد القوة المهاجمة من (المطلق) وهو اسم العشيرة إلى (القشمر).
يذكرني حدث بعبصة الفتاة في الشارع، وتحويله من حدث عادي إلى حدث كبير، من خلال الهجوم على مركز الشرطة برواية (آخر الملائكة) لفاضل العزاوي الذي يعمد في روايته هذه إلى إثارة حدث صغير تتفرع منه وتتفجر أحداثا كبيرة، كما حدث لحميد نايلون عندما فصل من وظيفته كسائق في شركة نفط كركوك، أن تحول هذا الحدث العادي إلى خروج أهالي محلة (جقور) في مظاهرة احتجاجية كبيرة، وتطوره إلى خروجهم إلى أطراف المدينة طلبا لهطول المطر. وفي هذه الرواية يتطور الحدث من الهجوم على مركز الشرطة إلى مغادرة كل أهالي القرية إلى مكان آخر، والتحاق نوح بالدبلوماسي الذي تجاوز على أبنته إلى إسبانيا، ومن ثم ألمانيا في نهاية الرواية، أثر نقله إلى هذه الدولة، بإتباع المؤلف منحى أقرب إلى الإيحاء منه إلى المنحى المباشر، في إبلاغ المتلقي بالتحاق نوح بالدبلوماسي بهدف الثأر منه وتحقيق العهد الذي قطعه على نفسه في إدخال الرصاصة الثالثة في مؤخرته:
بعد ثلاثة أيام سلمني أبي المفاتيح.. بلا رصاصة.
بعد ثلاثة أيام أخرى، غادر أبي وروسا إلى ألمانيا.
بعد ثلاثة أيام أخر، علمت بأن ذلك الدبلوماسي قد نقل إلى السفارة العراقية في برلين منذ أسبوع.
ورغم ما حل بأهالي القرية من مذلة وإحباط، حاول الجد الهجوم مرة أخرى على مركز الشرطة، في سعي منه للاتصال برؤساء العشائر الذين تربطه بهم بعلاقة وطيدة، ولكن مناداة أطفال هذه العشائر على أطفال عشيرة المطلق بالقشامر، أثنته عن قراره، وأضطر أن يتخذ قرار الرحيل إلى مكان آخر مع كل أهالي القرية الذين لا يتجاوز عددهم على المئة. وبموازاة قرار الجد، يلجأ سليم الهجرة إلى إسبانيا، بفعل الأحداث السريعة التي استجدت في القرية، وبالأخص وفاة أبنة عمه (عالية) غرقا التي أحبها وأحبته حبا جارفا، بالإضافة إلى تعفن جثث شباب القرية الذين استشهدوا في الحرب العراقية الإيرانية، بسبب امتناع جده عن دفنهم، حيث يلتقي سليم هناك بوالده بعد عشر سنوات من الفراق عنه، في المرقص الذي يديره و قد أطلق عليه أسم (القشمر)، بمدريد، تيمنا وتذكيرا لإحباطه بالقضاء على الطاغية، وقد جاء لينتقم من الشاب الذي بعبص أبنته، بعد أن أصبح هذا الشاب دبلوماسيا للعراق في إسبانيا، ويضع في مؤخرته العهد الذي قطعه على نفسه وأمام والده وأهالي القرية، الرصاصة الوحيدة المتبقية من (مخزن) مسدس الشاب.
ثيمة الحكاية يستمدها السارد (سليم) من حادثة، وقعت لجده، أثناء هجوم أحد الكلاب الشرسة عليه وهو في طريقه إلى دروس الملا عبدالحميد، ليخرج عنها بالحكمة التالية التي أشتهر بها منذ طفولته: (إذا نبح الكلب عليك فلا تنبح عليه، أما إذا عضك فعضه). ومختصر الحادثة التي وقعت لجده، يرويها سليم وهو السارد كما يلي: (ذات مرة أعترضه كلب في طريقه إلى المسجد. نبح الكلب عليه فهرول، وهرول الكلب خلفه، ركض فركض، ثم توقف ليلتقط حجرا، لكن الكلب أعتلى ظهره، فأستدار إليه وتصارع معه على الأرض. خمش الكلب رقبته وعض ساقه، وأزداد نباحا وشراسة على وقع الضربات، وفي فورة العراك وجد مطلق رقبة الكلب أمام وجهه فعضها بقوة أسكنت الكلب وأسكتته سوى من صوت خفيض خجول: (عووو.. عووو) وأنصرف سابلا ذيله دون أن يلتفت...)1. لتمتد تأثيرات هذه الحكمة على كل أهالي القرية، ولكنها كانت أشد تأثيرا على أبنه نوح.
تقوم تقنية هذه الرواية على مفهوم الاختلاف والتشابه القائمين بين الشخصيات الرئيسة الثلاث وهم الجد (مطلق)، الأب (نوح)، والأبن (سليم) والتناقض القائم في كل شخصية من شخصياتها، في سعي للإجابة من خلال التزاوج بين هذين المنحين، منحى الاختلاف والتشابه، عن أرجحية كفة الاختلاف على التشابه، أو بالعكس أرجحية كفة التشابه على الاختلاف، لبلوغ مديات التناقض القائم في كل شخصية من الشخصيات الثلاث، وبالتالي استقلال كينوناتها بعضها عن البعض، أو كونها في الأصل شخص واحد، بانتمائها للمفهوم الأول في حالة اختلافها، وللمفهوم الثاني في حالة تشابهها، تاركا المؤلف الإجابة على هذا السؤال للمتلقي، ليجعل من النص مفتوحا، وقابلا لتأويلات قد تتعدى حدود التأويلين آنفي الذكر.
من السطر الأول لمطلع الرواية، يكشف مؤلفها محسن الرملي، عن اختلاف موقف سليم عن موقف أبيه وجده في عدم قناعته ورضاه، لتصرفهما المشين، بالهجوم على مركز الشرطة لمجرد صفع مؤخرة (أستبرق) شقيقته، وذلك من خلال تأكيده على هذه الجملة: (ما كنت لأكتب قصة أهلي وأفضحهم لو لا تشجيع أبي لي وهو يحلق رأسي في مرقصه المدريدي قائلا: أكتب ما تشاء فلن يحدث أسوأ مما حدث... هذا العالم جايف)2. ويتضح هذا أكثر، أي استيائه من سلوك والده وجده، عندما يتخذ قرار مغادرة القرية بالمرة، قاصدا إسبانيا.
إن موقف سليم المناهض لتمرد جده ووالده على الحكومة، إن دل على شيء، فإنما يدل على شخصيته الميالة إلى الاستقرار وهدوء البال، وهما صفتان يتعارضان مع شخصية الجد والأب، وفي الوقت نفسه تتشابهان معهما، مع شخصية جده ووالده، في خلق أجواء متوترة، من حيث تمرده مثلهما، ولكن ليس على الحكومة، وإنما عليهما. ولعل هذا النمط من الشخصية لا تتجلى في شخصية سليم من خلال التزاوج بين هذين الموقفين المتناقضين فحسب، بل تمتد إلى شخصيتي الجد والأب أيضا، (وهذا ما سنتناوله لاحقا)، ويتضح هذا أكثر، في ميله للاستقرار في إسبانيا، عبر انجذابه للعزلة، ولكنه في الوقت نفسه يقوم بإثارة المشاكل مع ساكني العمارة التي يسكن في إحدى شققها، عبر عدم دفع أجور رمي أوساخ الزبالة مرة، ومحاولته تخريب أعشاش الحمائم تارة ثانية، ورفضه الاجتماع مع مجلس الجيران لإصلاح قفل الباب تارة ثالثة.
مثلما ينطوي موقف سليم المعارض لتمرد جده وأبيه على كلا صفتي التشابه والاختلاف، كذلك فإن موقفه أزاء عدم دفع أجرة رمي أوساخ الزبالة، ورفضه الاجتماع مع مجلس الجيران لمناقشة قضية إصلاح قفل الباب، ينطوي على نفس الصفتين. فإذا كان الموقف الأول بمسوغ، أن المؤجرين يدفع عنهم صاحب العمارة، والثاني لعدم إضاعة الوقت، فإنه في كلا الموقفين يثير المشاكل، وإن كان محقا إلى حد ما في الأول، إلا أنه لم يكن كذلك في الثاني. أي بقدر تشابه الأول مع الحرية التي ينشد اليها جده، يختلف معه في الثاني، وولد الاستياء منه، وبعبارة أوضح، أن سليما متشابه ومختلف مع جده في آن، ومع نفسه، قياسا بتمرده على جده وأبيه، في عدم دفع أجور الزبالة، ومتشابه في عدم الاجتماع مع العجائز.
إن محاولة تخريب أعشاش الحمائم، كما تحاول صديقته الكوبية أن تعلمه اصطيادها عن طريق القطط، يعرض سليما إلى المسائلة أمام قوانين الدولة، وهذا السلوك ينسجم مع تمرد جده ووالده على الدولة، ويتعارض مع سلوكه الرافض للتمرد على الدولة، والميال إلى العزلة. وهو بهذا أي المؤلف، يقلب الطاولة على رأس سليم، ويعيده إلى أصله المتمثل (بالشرق المتخلف). ولكنه في الوقت ذاته، ومن خلال منعه لوالده، بإعادة فضيحة إدخال الرصاصة المتبقية في مؤخرة الدبلوماسي، يعيد الاعتبار إليه واضعا إياه في خانة الغرب المتحضر.
تمتد التشابهات والتقاطعات القائمة في شخصية سليم إلى العلاقة الروحية التي تربطه بأبنة عمه (عالية)، كمكان بوصفه من أقوى الغرائز التي تبعث على الحنين عند الإنسان، برح سليم هذا المكان بعد وفاة حبيبته، قاصدا إسبانيا دون أن يقدر اقتلاع جذور عالية عن روحه، بل زادته هذه الهجرة حنينا لعالية وحيث دفنت. فإذا كانت هذه الهجرة تنسجم وطبيعته الميالة إلى الطمأنينة والاستقرار، فإنها في الوقت نفسه توحي إلى عدم الوفاء لحب عالية، وهي بهذا تختلف مع جنوحه إلى الطمأنينة، وتتشابه مع تمرده. كما تتشابه وتتقاطع مع المدينة الفاضلة التي يحلم بها جده ووالده، وتتشابه مع تمردهما، لانتقاله من القرية إلى المدينة، ومن الهدوء إلى الصخب، ومن البراءة إلى الخبث. . .
ليس بوسع كل راوي، أن ينشأ من السرد، شخصيات تتقاطع وتتطابق وتتشابه بعضها مع البعض، ومع نفسها في الوقت ذاته. ذلك أن التشكيل المعماري لبناء هكذا شخصيات، يتطلب حذاقة وتركيزا في ترتيب الأفكار، وصياغتها بما يجنب المؤلف انفلات نسيج خيوطها من بين يديه، لذلك فليس من السهل على الراوي غير المتمرس الخوض في تجربة صعبة كهذه، قد تؤدي به إلى الفشل الذريع، بيد أن محسن الرملي أستطاع أن يخوض غمار هذه التجربة، في رسم بنية شخصيات روايته بطريقة، تمكن فيها بتحويل مسارات فهمها من الصعب إلى السهل، وهنا في هذا التحول، أو الوضوح المتحول من الغموض، يكمن سر لذة قراءة هذه الرواية، ليجعل منها رواية الشخصيات بامتياز.
بينما الجد الذي عض في صغره رقبة كلب، وقطع في شبابه أحد أصابع زوجته، لأنها رفعت صوتها بوجهه، بغض النظر عن سطوته على الآخرين، لا بد أن تجعل منه هذه الصفات التي تعبر عن روح الإقدام والشجاعة اللتين يتحليان بهما، إنسانا مغامرا وشرسا، غير أن هذه الصفات، بقدر ما تجنح لغير صالحه، بالقدر ذاته، تجنح بعكس ذلك لصالحه، ذلك أن صفتي الإقدام والشجاعة، لم يأتيا عن فراغ، وإنما عن جذور التربة التي نما وترعرع عليها، وهاتان الصفتان هما من أنبل صفات القروي الشجاع.
إن إيعاز الجد إلى أهالي القرية بالانتقال إلى مكان آخر، أثر الهزيمة التي يتعرض لها من قبل الحكومة، يعد هذا الإيعاز، بغض النظر عما ينطوي عليه من العزلة، ويتسم بالتخلف، لرفضه المطلق لكل ما له صلة بالحضارة، يعد من أكثر المواقف المعبرة عن التوق اللامحدود للحرية، والعيش في أحضان الطبيعة بلا قيود وفروض، وللتأكيد على ذلك فقد تكررت مفردة (الحرية) في الرواية أربع مرات.
قال جدي: (إلى هناك. فجمعنا حوائجنا ووضعناها في الزورق ليلا. وحين صرنا وسط النهر صاح بنا: ارموا لكل راديو وتلفزيون ومزقوا كل أوراق الحكومة وألقوها في النهر. ففعلنا شاعرين بخلاصنا من عبء غامض كان يخنقنا...)3.
وبموازاة المنحى الأول، إن الجد المطلع على كتابات غوته، وهو القارئ النهم، قد تناقض شخصيته، مع شخصية حضه أهالي القرية إلى عدم التعامل مع وسائل الاتصالات المتوفرة والمتاحة. وهذا التناقض يتجلى في كلا المنحين، إذ كلاهما، الطبيعة وعدم الاتصال بوسائل الإعلام يفضيان إلى العزلة. ولكن هذا التناقض بين قراءاته وحضه أهالي القرية على الهجرة، هو الذي أهداه إلى الوضوح، وأبلغه بالمدينة الفاضلة التي كان يتأملها (اليوتوبيا). ومثل هذه الشخصيات أقرب إلى النبوة، أو هي هكذا، منه إلى الإنسان الاعتيادي.
وبقدر ما يذكرنا هذا المشهد، مشهد الرحلة، برحلة النبي نوح، وهو يسعى بسفينته إنقاذ ملته من الطوفان، مع ما تستوعب من الحيوانات، وبهجرة الرسول من يثرب إلى المدينة المنورة، بالقدر ذاته يذكرنا بدكتاتورية صدام وأغلال قيوده الحديدية تكبل على الرقاب: (كنا أقل من مائة إنسان وبضع قطط وكلاب ودجاجات وحمير وحصان واحد)4. فالهجرة هنا ثورة وخلاص وتحرر من نظام الطاغية في العراق. إن القرية رمز للعراق كله، وساكنوها المائة فردا، هم الشعب العراقي كله أيضا: (كان حلم جدي تشييد ما يمكن تسميته بالمدينة الفاضلة، أو القرية الفاضلة، لذا فإن الاصطدام بالحكومة كان بمثابة فرصة مواتية لتنفيذ هذا الحلم..)5
أي أن مشهد الرحلة، في الوقت الذي يتسم فيه المضمون الفكري والجمالي، متمثلا الفكري في المدينة الفاضلة، والجمالي بالرحلة ذاتها، ينطوي في الوقت ذاته على التناقض المبني على الصراع القائم بين اهالي القرية والحكومة أيضا.
مقارنة بجده، يكاد سليم أن يخلو من الصفات الإيجابية والسلبية التي يتحلى بها الجد، ما عدا اشتراكهما في صفة واحدة، ولكن كل واحد منهما على طريقته الخاصة، وهي الحرية، الجد بكل الطرق، وسليم عن طريق السلام فقط.
أما الأب نوح، أبن الجد مطلق، ووالد السارد سليم، يشترك في أكثر من صفة مع والده، كالشجاعة والتمرد والتقرب إلى الله، عبر الصوم والصلاة، ويختلف معه فقط في ما حرمه الله على المسلمين في مقارعة الخمر، وإن كان نوح لا يمارس عادة شرب الكحول في القرية، وإنما أدمن عليها في إسبانيا، وكان والده وقتذاك متوفيا، إلا أنه بحكم تكيف طبيعته مع المجتمع الذي يعيش فيه، من المحتمل أنه قد مارسها أثناء عمله في شركة نفط كركوك مع صديقه ومرؤوسه الألماني.
ولكن الغريب، إذ بالرغم من أن نوح لم يرفض أمرا أو طلبا لوالده، ويخجل حتى من النظر إلى وجهه، فقد قتله بصرخة قوية، في محاولة منه للحد من سوق أهل القرية نحو الهلاك، عبر مطالبتهم بأداء ما يفوق قدراتهم، مخاطبا إياه بجمل وعبارات، أقرب ما تكون إلى مونولوجات، تصد رعن حنجرة مبحوحة، منها إلى حوار عابر: (... أبي إني أحبك بشكل يفوق محبتي لنفسي أحيانا، لكنني في أحيان أخرى أتمنى عدم وجودك.. أبي أحدثك في الظلام لأنني لا أستطيع رؤيتك. لم أنظر إلى عينيك في حياتي ومع ذلك فهما أشد حضورا من عيني ذاتهما. أرى بعينيك أنت اللتين لم أرهما فيما عيناي تتوقان للممارسة وجودهما قبل التعفن.. جثثا تتعفن يا أبي فأرحم ضعفنا.. إنك تقودنا إلى الهلاك)6.
ويكاد ألا يشترك مع أبنه سليم بأية صفة من صفاته، ما عدا في مغادرة كلاهما لقريتهما، لذلك فالاختلافات القائمة بينهما كثيرة، وأبرزها نزعة الثأر الموجودة عند الأب، والاختلاف الثاني الأبرز، هو تأقلم الأب مع المجتمع الذي يعيش فيه، وافتقار الأبن إلى هذه الميزة، بدليل أن الأب عندما كان يعيش مع أفراد اسرته في قرية القشامر، كان يؤدي العبء الأكبر من أعمال المنزل، متخذا من تربية الجد الصارمة، سبيلا إلى الطاعة العمياء للوالدين، وذلك من خلال السلام على أبيه ومصافحة أمه وتقبيل أطفاله والتواصل مع أهالي القرية، بعد أن يعود منهكا من عمله في شركة النفط. وفي إسبانيا أيضا، لم تثنه الأجواء الجديدة التي تعامل معها، أن يحتك مع الناس على اختلاف دياناتهم وعقائدهم وثقافاتهم متحولا من رجل متدين وقروي وثائر وملتزم بواجبات العائلة وتقاليد العشيرة إلى رجل: (حليق الشاربين. صلع خفيف فوق الجبهة. طويل الشعر مربوط إلى الخلف وخصلتان صغيرتان منه مصبوغتين بالأحمر والأخضر. ثلاث حلقات فضية تتدلى من أذنه اليسرى، قراط)7 .(أفكر بأن أبي في داخله أثنان، هناك كان يخفي الذي كان يمارسه هنا، وهنا يخفي الذي كان يمارسه هناك.. دون أن يتخلى عن أحدهما نهائيا، وأحيانا يطعم أحدهما بالآخر..)8.
تذكرني شخصية الأب في تناقضها في هذا الجانب بشخصية (بونتيلا) في مسرحية (بونتيلا وتابعه ماتي) لبريشت، عبر تقمصها لشخصيتين، شخصية ودودة أثناء سكرها لخادمها ماتي، وعدوانية في صحوها منه.
إن شخصية الأب تتناقض مع نفسها حتى في الهدف الذي جاء من أجل تحقيقه في إسبانيا، ذلك أن نيل الحرية لا تأتي من خلال عبثية طالبها، أو كما يصف السارد الجملة التي يطلقها الأب تجلط الأذن خلف أذني، وهو يقول: (هذا العالم جايف)، وتتكرر خمس مرات على لسانه على امتداد الرواية. كما أن الحرية لا تأخذ من خلال موقفه المناهض للحنين إلى الوطن، والمتمثل بتمزيق الصور المعروضة على جدرن غرفة أبنه، المعبرة عن هذا الحنين إلى العراق. أي بالتعدي على الحرية الفردية.
يعمد المؤلف إلى تصوير شخصيات رواياته، في تناقض بعضها مع البعض، لكيلا تبدو ضعيفة ومهزوزة، ويمنحها هذا التناقض القوة والصلابة، ذلك أن الشخصية التقليدية لا تثير المتلقي، ولا تستفزه، بعكس الشخصية غير التقليدية، فضلا عن نأيها في تلقيها بصورة جاهزة، وطريقة سهلة وهينة، ما يدفعه إلى ضخها بهذه التقنية، المعززة بتداخل الأحداث، وعدم التعويل على تسلسلها، لتكسب قدرا من الغموض. باختصار أن الهدف الأساس من التناقض القائم بين الأبن والأب والجد، ما هو الا تعبير عن الصراع بين ثلاثة أجيال. الستيني والثمانيني والحالي.
قد لا تبدو الغرابة في تغيير الأب بكامل قيافته وسحنته إلى حد ما، وإنما تبدو بصفع مؤخرة فاطمة التي تعمل كنادلة في مرقصه، كلما مرت بقربه، بينما هو ترك زوجته وأولاده وأبناء قريته، قاصدا مدريد، ثأرا من الدبلوماسي الذي مد يده إلى مؤخرة أبنته، والأغرب أنه شغل فاطمة في مرقصه، شريطة أن تحفظ سورة البقرة، أي أنه من جهة يدعو إلى التقرب إلى الله وتحقيق العدالة، ومن جهة أخرى يمارس الرذيلة ويسعى إلى الانتقام والثأر. وبعبارة أوضح أن نوح، برغم التغيرات التي طرأت في سلوكه وعلى ومظهره الخارجي، ظل متمسكا بالتقاليد والأعراف التي أكتسبها من المحيط الذي عاش فيه في القرية.
إن هذه الرواية، عبر رسم معالم وأبعاد شخصياتها الثلاث، قابلة للتأويل في المنحى السلبي والمنحى الإيجابي في آن، من خلال سعي البلوغ عن قصدية المؤلف سواء كان في دفع الجد أهالي قريته في مواجهة الحكومة، أو في سعي سليم القضاء على الحمائم، بتأويل هذين المسعين في كلا الاتجاهين، الإيجابي والسلبي كما نوهنا عنهما سابقا. والجملة التي يطلقها سليم وهو بصدد الحديث عن والده تدخل ضمن نفس السياق التأويلي أيضا: (مع أبي بدأت قرية القشامر، وعلى يديه تم إنقاذها من الدخول إلى سراديب الأمن العام ثانية، وبموت (أو ربما قتل) جدي أنهاها، وعلى يديه تبدأ من جديد، هنا في مرقص مدريدي مظلم كتب على بابه، وتحتها بخط أصغر: (في البدء كانت الحرية ونريدها أن تكون حتى النهاية). وتحتها بحجم الخط نفسه لكن بلون أزرق (سنرحب بك أكثر كلما تحررت).
إن القصد من جملة (مع أبي بدأت قرية القشامر) مغزاها واضح، وهو أن تهور والده في إدخال رصاصتين من بين ثلاثا في مؤخرة أبن أخت نائب الرئيس، كان سببا في إطلاق هذه التسمية على قريتهم، وإدخال أهلها في مشاكل مع الحكومة، ومعنى الجملة التي تليها: (وعلى يديه تم إنقاذها من الدخول في سراديب الأمن العام) هو الضغط على والده لدفن جثث شهداء القرية في الحرب الإيرانية العراقية، وموت والده أثر هذا الضغط عليه ورفع صوته في وجهه. أما الجملة الأخرى التي تنص: (وعلى يديه تبدأ من جديد هنا في مرقص مدريدي مظلم...)، توحي اقترانا بجملة: (مع أبي بدأت قرية القشامر) والمشابهة لها، إلى أنه من خلال إدخال الرصاصة المتبقية في مؤخرة الدبلوماسي، سيخلق الأب المشاكل في هذه المدينة، سيما ومرقصها مظلم، بالإشارة إلى مدريد وبالتالي إلى كل الدول الأوروبية، معززا هذه الإشارة بكلمة الحرية، كأنما تفتقد مدريد وبمرقصها المظلم وكل أوروبا إلى الحرية، وأنه هو السوبرمان القادم من الشرق، سينير ظلام المرقص المدريدي، وينشر الحرية في عموم أوروبا. ولكن تعزيز هذه الجملة بجملة :( سنرحب بك أكثر كلما تحررت أكثر)، تمنح انطباعا مغايرا للانطباع السابق، ويلتقي مع منحى التناقضات القائمة.
وإذا كان الرملي قد أكسب الشخصيات الثلاث لروايته هذه من الأهمية في الجانب المتناقض منها، فإنه منح بنفس المستوى من الأهمية للعملية الجنسية المقرونة بمادة التمر، لإبراز الدور الذي لعبه الدين في تأصيل مفهوم الخطيئة لدى الأبن، وفي فحولة الأب والجد، بدليل أن الجد تزوج ثلاث مرات، والأبن رغم تعطيل ذكره وخصيته لتعذيبه من قبل الحكومة العراقية أثناء إلقاء القبض عليه في هجومه مع عشيرته على مركز الشرطة، ما زال يمارس الجنس مع (بروسا)، وكون هذه الشخصيات بفعل هذه المادة، رغم تشابهها واختلافها، في أشياء كثيرة، هي في الأصل من شخص واحد، انطلاقا من ربما لأرجحية كفة تشابهها على اختلافها، أو كما يطرح سليم هذه الأسئلة: ترى هل أن ما يتشابه فينا أكثر مما يختلف؟ . . هل نحن حقا ثلاثة مستقلون في كينونتنا عن بعضنا تماما؟ وما هذا المناخ الخاص في علاقتنا الذي تتخفى فيه رغبة كل واحد منا بتربية أو إعادة تربية الآخر؟
يقرن المؤلف مادة التمر بالجنس، لأن سليم لاحظ بأن والده، يتبع نفس الأساليب التي يتبعها هو مع التمر من حيث وفرتها في شقته وشقة بروسا، وإصرار الجد على توافره في بيت أبنه نوح في القرية. ولكن اللافت في توظيف التمر، أنه لا يستخدم للفحولة، بقدر استخدامه لجلب المتعة الروحية، وذلك من خلال تمرير هذه المادة على راحة اليد والأصابع والصدر، ومص الأعضاء المدهونة. ليبرز هنا، في هذا الجانب، توظيفه الميتافيزيقي، ولعل هذا يتعمق ويغدو أكثر وضوحا، بربطه في مخاوف الدين، ويتكرر توظيفه بحدود أربع إلى خمس مرات.
في المرة الأولى، عبر قرار سليم بعدم مضاجعة بيلار، لخوفه من الله وجده وعالية ومن احتمال فشله وارتباكه وافتقاره إلى التجربة، مكتفيا بالملامسات والقبلات. قد يكون لكل هذه المبررات قدرا من الصحة، باستثناء مبرر عالية الذي ينطوي على قدر كبير من الصحة، لأن كل الذي حدث بينه وبين بيلار، أعاده إلى عالية، وهو العائد إليها دوما، باعتبارها قصة حبه الوحيدة، وذكرياتها غذاء رغباته الأشهى. وفي المرة الثانية، خائف من الله أيضا ومن الجحيم، أثر تناول عالية كفها له وراح يمص أصابعها وتناولت بدورها أصابعه تمصها.
وإذا كان المبرر الأول الحقيقي هو العودة إلى عالية، فإن المبرر الثاني الحقيقي هو الشعور بالذنب والخطيئة، جراء تقبيل شفتي عالية، ليرى في حلمه نفسه في الجحيم، وزبانية جهنم يسخنون الحديد ويكوون به شفتيه، ويتصاعد مع دخانهما رائحة الشواء. وتزداد جمالية هذا الحلم تعزيزه بالدخان المرتفع مع رائحة خبز أمه، أثر نهوضه من نومه: (دفعت الدثار ونظرت حولي، كان الدخان يرتفع مع رائحة خبز أمي الصباحي من التنور في طرف الحوش. نهضت قفزا وركضت أروي ظمئي من الجرة التي تتركها قرب الباب، شربت كثيرا من الماء ولم أرتو. كنت أشعر بجفاف ووخز فيهما)9.
أما المرة الثالثة في توظيف الجنس، والثانية للقاء سليم بعالية، ولأن جهنم مازالت ماثلة أمامه ، وصوت جده يخيفه، ونظرات الله تخرزه، فقد تردد كثيرا في تقبيلها، ولكن بالرغم من ذلك، لم يستطع مقاومة اللذة التي ذاقها في المرة الأولى، لذلك فلم يتوان أن يجد لنفسه من المسوغات التي بوسعها أن تخفف من الخطيئة التي يقترفها، لكي يقوم بإعادة عذوبة التجربة السابقة.
من العودة إلى عالية إلى رائحة خبز أمه، فإن التردد في هذا المشهد، يتحول إلى مص أصابعها التي تمنحها له، بعد أن تمرر عليها التمر.
وفي المرة الرابعة يتحول إلى بكاء، أثر اهتزازاته السرية على عالية، وهي ميتة في النهر، لشعوره بالفراغ والخجل والذنب على ما فعله وهي ميتة. لكنه كان قد كررها مع بيلار، عندما نامت في فراشه، وبكى مرة أخرى نادما على فعلته مع عالية، وهي ميتة.
إن متعة قراءة هذه الرواية لا تأتي فقط من خلال التناقضات القائمة في شخصياتها التي تفضي إلى الوضوح، وإنما أيضا في سرد أحداثها بسلاسة، وبصيغة أقرب إلى الحكاية. وباستثناء الفصل الأول والأخير، لم يتقيد المؤلف بتسلسل وقوع أحداث الرواية، أي شرع ببداية ونهاية تقليدية في تسلسل الأحداث، وأنحسر التسلسل اللا تقليدي في الوسط، لتتداخل الأحداث بعضها مع البعض. ولعل هذا التداخل بين الأحداث وانتقالها من موضوع إلى موضوع آخر، كان سببا بظهور التناقض في شخصيات الرواية، هذا التناقض الذي يؤدي إلى الغموض. ويمكن ملاحظة ذلك في وصول الأب في الفصل الثاني إلى مدريد، بعد تواجد الأبن فيها لعشر سنوات، بدون أن يخبر المؤلف المتلقي بأن سليم أثر منع جده من دفن جثث شهداء قريته، غادرها إلى إسبانيا، إلا في الفصل الثامن، تحديدا في الصفحة (101)، أي بعد مرور سبعين صفحة من معرفة المتلقي بتواجد الأب والأبن في إسبانيا في الصفحة التاسعة عشرة.
ص19: (وجدت أبي صدفة ليلة السبت الفائت في مدريد، حيث يدب الضجر إلى نفسي نهايات الأسابيع فأدب في الشوارع والأزقة المظلمة بلا هدف، أدخل أي مرقص أو بار، فلم أصدق نفسي
ولم أصدق ما رأيت في مرقص يغص بمختلف الجنسيات من مهاجرين وسائحين و...)10
ص101: (نهضت ووضعت في حقيبتي من أشيائي ما استطعت، ثم سارعت بالتسلسل إلى سرير إستبرق المريضة حزنا على فقدها لصراط، في الغرفة المجاورة وهمست لها : إستبرق لم أعد أحتمل البقاء هنا، سأغادر القرية، سأغادر البلد كله، سأهاجر كل شيء هنا ولا أدري إلى أين سأذهب ولا كيف. . سأذهب إلى أي مكان آخر ولا أدري متى سأعود.. لكن الذي أعرفه هو أنني لم أعد أحتمل البقاء هنا لحظة واحدة.. إنني أختنق إنني أختنق حد الموت)11.
مثلما أكتفى المؤلف بالتلميح إلى تواجد الأب والأبن في إسبانيا، مانحا تفاصيل مغادرتهما قريتهما لاحقا، كذلك فقد ألمح للمتلقي بقتل الجد من قبل الأب في الصفحة (19)، وكيفية قتله في الصفحة (100)، أي يعد مرور ثمانين صفحة.
ص19: (وأود أسأله الآن: فكيف قتله إذا؟)12.
ص100: (ما أن مررت قرب النافذة حتى سمعت صوته يجادل حانقا. توقفت ونظرت من النافذة فلم أر شيئا بحكم الظلام، لكنني بقيت متسمرا في مكاني وأنا أقشعر لسماع صوت أبي بهذه النبرة الغريبة لأول مرة في حياتي. كان صوته قويا واثقا وفيه تفجر احتباس ومعاتبة مريرة.. يتوجه به إلى جدي الذي لم أسمع له إجابة..)13
ويتكرر الشيء نفسه ليتذكر سليم صدر عالية، من خلال نظره إلى صدر فاطمة، في الصفحة (25) ولأول مرة، ولا يعرف المتلقي نوعية وتفاصيل العلاقة التي تربط بين سليم وعالية، إلا بعد مرور(22) صفحة، أي في الصفحة(47).
ص25: (وحاولت النظر إلى صدرها فهو أشد ما يشدني إلى النساء منذ عشقي لأبنة عمي عالية التي كانت ندهن لي نهديها بالتمر كي أمصهما)14.
ص48: (لكن ما حدث أعادني إلى عالية. أنا العائد اليها دائما، قصة حبي الوحيدة، الأولى منذ كنا صبية في قرية الصبح. هي أبنة عمي..)15.
وشأن عدم تسلسل الأحداث الثلاثة السابقة، فقد ألمح المؤلف على لسان الجد، في الصفحة (33) بأخذ أستبرق المريضة لعلاجها إلى شيخ كردي، يسكن في قرية قرب شقلاوة، وعاد إلى هذا الحدث بعد عشرين صفحة.
--------------------------------------
*نشرت في (الناقد العراقي) بتاريخ 12/7/2020م
*وفي (مركز الدراسات والأبحاث العلمانية) بتاريخ 8/10/2019م.

ليست هناك تعليقات: