الأربعاء، 5 يونيو 2013

زمن السيد الرئيس.. وحدائقه / عدنان حسين أحمد

زمن السيد الرئيس.. وحدائقه

تبدأ أحداثها من بغداد وتمتد إلى الكويت وإيران
 
لندن: عدنان حسين أحمد
تتوفر الرواية الثالثة لمحسن الرملي على أنساق سردية واضحة ودقيقة تتوزع على ثلاثة أجيال، ف«حدائق الرئيس» لا تقتصر على الشخصيات الرئيسة الثلاث عبد الله كافكا، طارق المندهش وإبراهيم قسمة، بل تتوغل زمكانيا في تاريخ الآباء والأجداد من جهة، كما أنها تمتد إلى أبنائهم وأحفادهم من جهة أخرى، وأخص بالذكر منهم ابن قسمة التي ستطلب من طارق أن يغير اسم ابنها من صدام إلى إبراهيم، نسبة إلى نبينا إبراهيم (عليه السلام) الذي «ألقوه في النار فكانت عليه بردا وسلاما». وإذا كانت روايته الأولى «الفتيت المبعثر» هي رواية قروية بامتياز، أي أنها تتخذ من القرية مكانا لها، فإن رواية «حدائق الرئيس» هي رواية مدينية تدور أحداثها في عدد من المدن العراقية، وتتجاوزها إلى الفضاء الكوزموبوليتاني حيث تمتد إلى الكويت وإيران، بينما يتوارى المغتصب جلال في أكثر من دولة محتملة قد تكون روسيا أو إيران أو البرازيل أو هولندا. تتوفر هذه الرواية على ثيمات وأفكار كثيرة لا يمكن حصرها، غير أن الثيمة المهيمنة فيها بامتياز هي الجملة التي كانت تتردد على لساني قسمة وأبيها إبراهيم: «هذه هي الحياة، كل شيء فيها قسمة ونصيب». وكأن محسن الرملي يحاول أن يغلف روايته بوشاح قدري، غير أن هذه المحاولة لا تمنعه من البوح بأسئلته الفلسفية والوجودية حينما يتناول فكرة الموت في الحياة أو يناقش غريزتي الحب والموت أو يتطرق إلى أدب السجون والمعتقلات وما يتخللهما من ألم وعذاب حقيقيين.

* المشهد الاستهلالي
ابتدأ الرملي روايته بمشهد الرؤوس التسعة المقطوعة التي وضعت في صناديق الموز وبينهم رأس إبراهيم قسمة، وسوف ينهي الرواية بالبحث عن جثة هذه الضحية التي لم تأخذ التحذيرات على محمل الجد فأصبحت هدفا للإرهاب الأسود الذي كان يجتاح العراق عام 2006 على وجه التحديد. إذن، يمكننا القول إن هيكل الرواية العام يقوم في جوهره على ثلاث شخصيات رئيسة وهم «عبد الله، طارق وإبراهيم»، لكن قسمة، البنت الوحيدة لإبراهيم سوف تلعب دورا محوريا يحرف الرواية إلى مسارات لم يكن يتوقعها القارئ حتى إنها تنازع الشخصيات الرئيسة الثلاث على دور البطولة لأنها سوف تلعب لاحقا دورا صيانيا تحاول فيه أن تجمع أشلاء الأب المبعثرة الذي بدأ يمثل لها العراق برمته لأسباب كثيرة لعل أبرزها أنه كان يوثق أسماء الضحايا الذين كان يفتك بهم النظام السابق، ويعذبهم، ويشوه ملامحهم قبل أن يضع حدا لحياتهم. فيما كان أزلام النظام القمعي يمارسون دورا تدميريا لا يختلف كثيرا عما يمارسه الإرهاب وبعض المجموعات المسلحة التي روعت العراقيين منذ عام 2003 وحتى الوقت الراهن. وهنا تكمن أهمية البنيتين الصيانية والتدميرية اللتين تتوزعان على مدار النص.

* الشخصيات الإشكالية
لم يستطع عبد الله أن يتستر على مجهولية أبيه، ولم يفلح في أن يتخلص من «العار» الذي لحق به، لذلك أحب كافكا، وتعلق برواياته، وتماهى حتى مع عالمه الشخصي الذي يشترك معه في الأقل بمجهولية الأب على الرغم من أننا، كقراء، سنكتشف لاحقا أن جلالا، ابن المختار هو الذي اغتصب «زكية» البلهاء فأنجبت منه عبد الله كافكا الذي سيتحول إلى إنسان كئيب ومتشائم وكسول ولا يحب العمل، لكنه سيكرس نفسه للقراءة فتتعزز علاقته بطارق المندهش وإبراهيم قسمة، لكنه يساق إلى الخدمة فيقع في الأسر عام 1982 ولم يعد منه إلا بعد عشرين عاما فيشعر أنه ميت في الحياة، خصوصا بعد أن رفض صديقه طارق أن يزوجه من أخته «سميحة» التي أحبها، لكنهم زوجوها عنوة لأحد أبناء عمومتها فهربت منه بعد أربعين يوما من الزواج. لا يختلف مصير إبراهيم قسمة عن عبد الله كافكا كثيرا، فلقد فقد ساقه في الحرب، وأصيب بالعقم، ورأى الفظائع والأهوال في حدائق الرئيس، ومات في الحياة أيضا، لكنه انتهى نهاية مفجعة على يد الإرهابيين الذين فصلوا رأسه عن جسده، حيث وصل الرأس المقطوع إلى قريته، فيما ظل الجسد ضائعا في بغداد. أما طارق المندهش فلقد أفلت من خدمة العلم لأنه كان معلما وإماما بأحد الجوامع، كما أنه الأوفر حظا بين أصدقائه الثلاثة، فهو يحب «فهدة» البدوية من جهة، ولديه علاقات عاطفية مع أكثر من امرأة من جهة أخرى، وفي خاتمة المطاف يعقد قرانه على قسمة ويذهب معها للبحث عن جثة أبيها المغدورة في بغداد. نخلص إلى القول إن هذه الشخصيات الثلاث هي شخصيات إشكالية وينطوي بعضها على جوانب إيجابية على الرغم من يأسها وقنوطها نتيجة للظروف الشاذة التي تحيط بها.

* الشخصية الصيانية
أشرنا قبل قليل إلى أن «قسمة» هي الشخصية الصيانية في هذا النص الروائي، فهي التي كانت تحاول دائما أن تلملم أطراف عائلتها المبعثرة. فقد ولدت في أسرة فقيرة، لكنها كانت طموحة جدا، وقد بدأ تباشير هذا الطموح يلوح في مخيلتها منذ كانت صبية يافعة حيث كانت تتطلع إلى طارق المندهش بمحبة وإعجاب كبيرين، وحينما انتقلت إلى بغداد أحبت ضابطا طموحا جدا، لكن طموحه سيقتله على الرغم من أنه كان يحب رأس النظام السابق حيث وشم اسمه على ذراعه الأيسر، ومع ذلك عذب وقتل ودفن في حدائق الرئيس التي كان يعمل فيها إبراهيم قسمة ويوثق كل المعلومات المتاحة عن المغدورين. وعلى الرغم من أن «قسمة» كانت تشعر بنوع من البرود تجاه والدها بعد أن فقد ساقه في الحرب، إلا أنها أعادت له اعتباره ومكانته الحقيقية التي تليق به حينما قررت البحث عنه لأنه أصبح رمزا للعراق، بل إنها أحيته من جديد حينما غيرت اسم ابنها من صدام إلى إبراهيم. لقد تغيرت «قسمة» تغيرا جذريا بعد المحن التي عاشتها، والفجائع التي حلت عليها من حيث لا تحتسب، فلا غرابة أن تفهم الدنيا بطريقة أعمق من ذي قبل لأن الحياة قد علمتها أشياء كثيرة وجعلتها في خاتمة المطاف تطرح كثيرا من التساؤلات المؤرقة بصدد ابنها إبراهيم الذي لا تدري إن كان سيحمل ملامح أبيه المغدور، أم سيكون مثل الرئيس المخلوع الذي اغتصب قسمة، أم مثل أبيها إبراهيم الذي تحول إلى رمز كبير، أم مثل طارق المندهش الذي يتوفر على روح إيجابية على الرغم من تصيده للفرص، وترتيب أوضاعه المستقبلية مع النظام الجديد. لا شك في أن تساؤلات قسمة المقلقة قد تحولت إلى خليط غير متجانس في جوفها، الأمر الذي جعلها تشعر بالقرف والغثيان فأحست برغبة عارمة في التقيؤ والتخلص من هذا القيح الساخن الذي يغلي في داخلها لتترك القارئ في مواجهة النص المفتوح على مصير إبراهيم الابن الذي سيمشي على أرض الرافدين ويطأها كما وطأها مئات الآلاف من الأشخاص الذين يحملون هذا الاسم الذي ينطوي على دلالة مجازية واضحة.
تنطوي هذه الرواية على ثيمات فرعية كثيرة من بينها الحب، والحرب، والاغتصاب، والرجم، والسجون، والمعتقلات، ومعسكرات الأسر، والمقابر الجماعية، والتعذيب الوحشي في العراق وإيران. كما أنها تسلط الضوء على حياة الرئيس السابق وعوالمه الخاصة التي لم نطلع عليها بهذه الدقة، حيث يأخذنا الرملي في جولة مثيرة ومرعبة في قصوره وحدائقه ويخوته الرئاسية التي تقذف المتلقي في عالم عجائبي غريب ومدهش حقا. أصدر الرملي روايتين أخريين وهما «الفتيت المبعثر» و«تمر الأصابع» وسبعة كتب أخرى تتوزع بين القصة والمسرحية والشعر ترجم معظمها إلى الإسبانية وبعضها إلى الإنجليزية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشرت في صحيفة (الشرق الأوسط) اللندنية، العدد 12608 بتاريخ 5/6/2013م
عدنان حسين ومحسن الرملي/لندن 2013 

ليست هناك تعليقات: