الأحد، 22 ديسمبر 2024

فحوصات ثقافية/ سرد أقل، زمن الأقصوصة/ محسن الرملي

 

فُحوصات ثقافية

 

سَردٌ أقَل.. زَمن الأُقصوصة

 

بقلم: الدكتور محسن الرملي

يبدو وكأن الحلول، أو الأمور الوَسط، صارت تختفي تباعاً من عالمنا المعاصر، مثلما تضمحل تدريجياً ما تسمى بالطبقة الوسطى في المجتمعات، فالمشاكل السياسية الكبيرة تتم معالجتها إما بالحرب أو بالإهمال، والاقتصادية إما بقروض طائلة أو بإعلان الإفلاس، والنصوص الأدبية إما أن تكون طويلة أو قصيرة، فإذا كانت رواية، يحثك الناشر على أن تكون طويلة قدر الإمكان، وإذا كانت قصة فلتكن قصيرة جداَ أو حتى جداً جداً! حتماً؛ أن للأمر علاقة بطبيعة علاقتنا بالوقت، الذي صار مادة أولية علينا أخذ مسألة استثمارها بعين الاعتبار دائماً. وبالطبع فإن لتسارع هيمنة التطور التكنولوجي وعصرنا الاستهلاكي دوراً في ذلك.

أسوق هذا التقديم كنوع من التأمل والانتباه إلى ظاهرة عودة "الأقصوصة" بقوة، عالمياً. فإذا كانت القصة القصيرة قد تطورت وازدهرت سابقاً، مع تطور وازدهار الصحافة الورقية، بحكم ضيق المساحة، فها هي الأقصوصة تتطور وتزدهر بحكم ضيق الوقت. تعينها في ذلك سرعة التطور التكنولوجي، ففي العقد الأخير لاحظنا بجلاء؛ تزايد الإعلانات عن مسابقات للقصة القصيرة جداً، ونقرأ المزيد منها كل يوم، عبر الصحف والمواقع ووسائل التواصل، وأخرى نسمعها من الإذاعات وشركات الدعاية، التي تستخدمها في الإعلانات، وعبر رسائل الهاتف المحمول، فثمة مسابقات تقيمها بعض دور النشر والمجلات الثقافية، بالتعاون مع شركات الهواتف والاتصالات. شخصياً؛ اقتنيتُ، وما زلت أقتني، الكثير من أنطولوجيات الأقصوصة من مختلف البلدان، وخاصة الناطقة بالإسبانية.

تكاد الأقصوصة الجيّدة أن تكو قصيدة أو حكمة أو خبراً أو رسالة.. جُرعة فنيّة، هي مزيج من الفكرة والجمال، مُتقَنة الصُنع، ولا غرابة في ذلك، فقد عودتنا الفنون والآداب، على قدرتها الهائلة للتجدُّد والتكيُّف مع كل زمان ووسيلة، ابتداءً بألواح الطين وليس انتهاءً بالشاشات. هناك دراسات كثيرة عن فن الأقصوصة، تاريخياً وتقنياً وحداثة، ويمكن إجمال اشتراطاتها الفنية بكل ما تشترطه الطُرفة (النكتة)، باستثناء شرط أو هدف الإضحاك، وكلما كانت أقصر وأقوى حبكة؛ فهي أفضل. وعدا كون الأقصوصة موجودة أصلاً في ثنايا مختلف الأجناس الأخرى، بما في ذلك القصيدة، وفي تاريخنا السردي العربي، كما فيما كان يُسمى (أخبار)، فإنني أرى بأن من فوائد عودتها؛ أنها ستشكل اختباراً جيداً للقدرات الإبداعية والأسلوبية واللغوية في الكتابة، ولا سيما بعد أن شهدنا ترهلها مؤخراً بحكم ظاهرة استسهال الكتابة والنشر وتفشيها، كما هو حاصل في كتابة الرواية والشِعر، مما جعلنا نعاود التفكير مراراً بإجابة بورخيس عن سبب عدم كتابته للرواية، حين قال: إنها بلا شكل.

وفي رأيي؛ أن نسعى نحن أيضاً، لنبادر مبكراً إلى مواكبة عودة هذا الاهتمام الكبير بالأقصوصة، ولنبدأ على أقل تقدير، بألا نبقى حائرين بتسميتها، بين: قصة قصيرة جداً، قصة صغيرة، ميكرو قصة وأقصوصة. أميل إلى تسمية (أُقصُوصة).. هكذا؛ بكلمة واحدة، بدل اللجوء إلى تسميات وصفية في أكثر من كلمة.. ونُحيّي عودتها المُلفِتة، بمزيد من تسليط الضوء والنشر والمسابقات والمهرجانات والمؤتمرات والدراسات… تُرى هل أن مرحلة ما بعد "زمن الرواية"، ستكون مرحلة "زمن الأقصوصة"؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*نشرت في مجلة (الناشر الأسبوعي)، العدد 74، ديسمبر 2024م

https://www.sibf.com/ar/pwhardcover

 

ليست هناك تعليقات: