الجمعة، 7 أبريل 2023

قصة، حسين الجيزاني/ مهداة إلى الرملي

 

قصة

عِفريت مُرتَد 

مهداة إلى أُستاذي د. محسن الرملي

حسين الجيزاني

كان مستلقياً على الأرض ومخالب الظلام منقضة عليه في زنزانة السجن الكبير. كل نوافذ الأمل متداعية أمامه ولا يتوقع غير الموت، إما التراجع أو الموت... هكذا كان يرى حاله. لا أحد يستطع أن يثنيه؛ دهشة الحقيقة متلبسة في رأسه ونافذة نور مفتوحة في قلبه... سمع نَقر على الباب، وصوت أحب أصدقائه إليه، قائلاً: جئِتك مسرعاً وليس هناك متسعٌ من وقت.

عندما رآه.. فزّ ونهض، سال الدمع من عينيه، واستقبله بالأحضان. ربت على ظهره، وقال: صديقي الأقرب، الأوحد.. الذي لا شريك له في قلبي، كيف حالك؟

جاء صديقه لوسيفر لزيارته في السجن الانفرادي، وجده مرمياً خلف جدرانٍ سميكة معتمة، وهو منير باعتقاده الجديد: يعز عليّ أن أراك في هذا السجن القذر، السجن ليس مكانك، أنت شيطان مجتهد واستثنائي، لماذا هذا التمرد على الملك إبليس!

- لأنه بصق في وجهي، ولم يجبني على أسئلة تجول في رأسي يا لوسيفر.

صحوت، ونهض عن فراش الشر والخطيئة: أنا لا أحب التمرد، أُنفّذ ما يطلبه مني بدقة، وبلا أيّة مخالفة... وفي المهمة الأخيرة، نجحتُ نجاحاً باهراً، فأثنى عليّ ووعدني بجارية سمراء لها عين واحدة في المنتصف، سنشرب النبيذ الأحمر ونرقص معها على أنغام الطرب الأخاذ.

- إلى متى يا صديقي سنواصل تسللنا إلى أعماق الناس مثل حيّة تنساب بين الحشائش، نوسوس لهم، نحث صفاتهم السلبيّة ونوقظ قوى الشر المدفونة في أنفسهم، نجعلهم متشائمين على الدوام، مولعين بالظلام واليأس والحزن.. نجعل منهم شياطيناً يختبئون خلف وجوه ملائكية، يتخيلون كل الذين أمامهم عراة، غارقين في ملذات حيوانية شهوانية. لا يغادر حياتَهم نكد إلا إلى نكد آخر، نسبب لهم الاكتئاب والضيق الاجتماعي حتى يكونوا أكثر عرضة لارتكاب الجرائم، نجعلهم يشعرون بأقل تقدير لذواتهم، غرقى ولا يفهموا الجزء المظلم من شخصياتهم.. نُنمي النرجسية المتضخمة والكبرياء والأنانية والقسوة، وعدم الشعور بالآخر، والتلاعب واستغلال الآخرين. لا مكان للأخلاق، والتأنيب لا يطرق أبواب الضمير.. هكذا نحن الشياطين؛ نوسوس ونشيع ثقافة لا جدوى منها.. سوى لنرضِ غرور الملك وتحدياته الفارغة!

وقع كلماته يدب في رأسي وهي تزلزل كل ما تربيت عليه كشيطان، كان محسن الرملي نقطة تحول في حياتي، حفر صورته وروحه في نفسي بما لم يفعل أحد غيره. لا تمل مجالسته حتى لو طال الأمر لساعات. مرحه، ثقافته، ذوقه، تواضعه، فلسفته في الحياة. نعم، فلسفته في الحياة، اكتشفت أني أعاني من تصحّر فكري، أضجر من أي حديث عن المحبة والضوء والجمال والنفوس الصافية. لا أملك أدنى لياقات التفكير الإيجابي. أعيش على الهامش وأُمارس رغبات الملك التي تُملى عليّ، يثقفنا على الطاعة، طاعته أولاً وأخيراً، لا اجتهادات مقابل قناعاته. يردد دائمًا على مسامعنا: أنتم ظل لرغباتي واشباح بلا ملامح.

هذا ما جعلني أتساءل: ما الجدوى من وجود هذا التافه في حياتي. أدركت أن كل هذا الإرباك والجهل والرغبات الفجة والسخيفة سببها الملك. مسخت ما في راسي وبدأت طفولة جديدة، حياة أكثر عمقاً، تتسم بالمعرفة والطموح والأمل. تحوّلتُ من وسواس خناس إلى طالب يجلس في حضرة أستاذ استثنائي. قيل في الأثر، من ليس له شيخٌ فشيخه الشيطان. في الحقيقة كان هو شيخي. ربما أنا الوحيد من بين الشياطين الذي حظي بهكذا إنسان. أنا الآن ملاك متفائل مولع بالضوء، بصيرتي ترى نوراً، يا لوسيفر، أنا شكَّلت حياتي من جديد.

- ذلك الرملي لن ينفعك في شيء، صدقني.. إنه سحابة صيف تمر سريعاً، نفخَ في اوداجك وألّب فكرك حتى تصورت أنك دينصوراً... اِفهم؛ أنت شيطان. سأمزق خيال الرملي بمخالبي وأجعله يطوف شوارع مدريد وهو يكلّم أحجار الحيطان المتراصة.

جاء السجانون وصاحوا: هيا يا لوسيفر، أُخرج، انتهت المقابلة. الملك طلب منا جلب هذا الشيطان المرتد، هيا خُذوه.

جلبوه مقيداً ورموه بين أقدام الملك إبليس، رمقه بوابل من نظرات الغضب، ثم اتكأ على الكرسي المرصع بالعقد النفسية والنرجسية الجوفاء. أخذ نفساً عميقاً، وقال: هل راجعت نفسك؟ أريدك أن تعود إلى رشدك، وتكمل مسيرك الحافلة بالإنجازات، أنت شيطان محترم وذكي ولك صولات وجولات في ميدان الغواية. كيف تفكر بالتمرد عليّ يا صغيري! أنا أعاملك كإبني، هيا فكّوا الاصفاد من معصميه ليعود إلى ميدان الغواية من جديد.

- أيها الملك، منذ الآن، أوجت لنفسي حياة خاصة، وليس لأحد دخل فيها. أنت عرفت بكل ما يجول في داخلي من تفكير وتمرد على السائد. لم تحترم تطلعاتي. لم تحاول تفهم إشكالاتي المنطقية، ولا حتى تجيب عليها، إجابتك كانت بصاق غطى كل وجهي فقط، ثم رميتني خلف القضبان.

 فرد عليه الملك بغضب: أنا من جعلتك كائناً بائناً للعيان، بعدما كنتَ مجرد شبحاً من الجهل، صغت قالبك الفكري على مزاجي وجعلتك شيطاناً محترماً بين اقرانك.

اِستل السيف اللمّاع المتوهج من غمده، وقال: أيها الحقير، أنسيت أنك شيطان وليس ملاكاً، ربما نهايتك قريبة إذا لم تتب وتراجع نفسك.

فرد عليه الشيطان المتمرد: كفى يا إبليس، انفض رغباتك المتعجرفة. الله نور الحياة، فإذا عرفت أنك مجبول من النور، سوف تعود إلى النور...

بعد هذه الكلمات، تدحرج رأس الشيطان المرتد على الأرض، مثل كرة، والابتسامة على محياه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*حسين الجيزاني: كاتب من العراق.

ليست هناك تعليقات: