الأربعاء، 1 مارس 2023

عن رواية: حدائق الرئيس / لؤي غازي. يوتيوب

 حدائق الرئيس.. كتاب ملحمي ودرس عراقي في الإنسانية والطغيان

 

لؤي غازي

في اليوتيوب، للاستماع والمشاهدة

تحية طيبة للجميع، وكتاب آخر جديد من قناتي في اليوتيوب. كتاب أشبه بالملحمة، أو لنقل.. إنه (الحرب والسلام) معاصرة، وأقرب منها لنا في التاريخ، إنها رواية (حدائق الرئيس) للكاتب محسن الرملي، كان مرشّحاً لجائزة البوكر العربية. وهو وثيقة حيّة لعصره، وربما أحسن من وثائق تاريخية عديدة... عن ثلاثة أصدقاء، أولاد في إحدى القرى العراقية. سعادة، وضحك، ولعب ذكريات طفولة قادت إلى صداقة أعمق، حتى أصبحوا رجالا. إنهم عبدالله، إبراهيم، وطارق... 

نحن في عقد الثمانينات، يُستدعى المواليد للخدمة العسكري فيلتحق الثلاثة، إنه قدر السفر والالتحاق إلى الوحدات الآن. ترْك الحبيبة وفراش المسكن الوثير. نتذكر سماع الأغاني المسماة بالوطنية طوال الوقت، رغم انها تتغنى بشخص الرئيس، فيما يعيش الشعب حالة جديدة من الاستنفار؛ شهداء ومفقودين يعودون بعد سنوات، ليجدوا زوجاتهم متزوجات من آخرين. وعلى لسان الكاتب، هنا كانوا مثل الجميع يتوقعون ويتأملون انتهاء الحرب في أي لحظة، اليوم أو غدا، يستمعون إلى المذياع، ولكن طالت الأسابيع والأشهر وكرّت السنين... بينما يدخل طارق مدرسة دينية ويُسرّح من العسكرية، يقع عبدالله في الأسر، في الخطوط الأمامية، في حرب إيران، ويقضي سنين طويلة هناك، ويصبح الموت مشهداً يومياً. يُعلق أمله على منظمة الصليب الأحمر وزياراتهم، يذكر بعدما يرجع معسكر حفرة الموت في إيران، حيث يوجد مقابل عراقي لها، وهو حفرة السلمان التي لازال الشعب يتذكرها.. 

وكأنها حرب تلد أخرى، وعلى لسان إحدى الشخصيات في الرواية: إنها نذالة أن يغزو بلد جار له، ولكن ماذا كان بإمكاننا أن نفعل؟ أوامر عسكرية.. وأين المفر؟ إنها حرب الكويت الآن، ثلاثون دولة تتراصف للهجوم على العراق، وتبدأ حرب تحرير الكويت، وينسحب الجيش إلى الداخل، وهناك موجود إبراهيم ومعه صديقه أحمد، من محافظة كربلاء، الذي وعد عائلته بان يٌرجعه لهم بالسلامة! ولكن تبدأ الطائرات بالقصف، وشلالات الرمل تفور إلى السماء، دم وصراخ في كل مكان! يستشهد أحمد، ويذهب إبراهيم لمساعدته، يحس بحرارة في رجله ويغمى عليه، ينادي: أحمد! أحمد! يسمعه أحد الرعاة فيأخذه إلى مسكنه، حيث جدته وحدها فقط هناك، ويبقى إلى أن يصح، يستعمل عكاز الجد، يدير وجهه رجوعاً إلى بغداد... ومن الصور التي كانت معروفة حينها؛ ان المقطوعة أحد أطرافه، عندما يصل إلى نقاط السيطرة، يرفع طرفه المبتور إلى جنود السيطرة، كشهادة نزول، ليسمحوا له بالمرور بدلا من وثيقة النزول العسكرية الرسمية، وإبراهيم كذلك، نزولاً إلى بغداد فقريته، ليجد أن زوجته قد ولدت له ابنة جميلة، لم يعلم انها قادمة. بعد كل هذا الرعب، ينتعش بقدوم صديقه عبدالله من الأسر، مكوّم على نفسه، مكسور، نصف إنسان... يجلس الأصدقاء مع بعض مرّة أخرى، ولكن شيء ما اختلف! أو ان الكثير قد اختلف الآن... وحده طارق، تزوّج وخلّف العديد، وتزوج ثانية... وفي الرواية نعرف أن عبدالله، في الأصل، وجده أهله في حديقتهم ملفوفاً في قماطه، وكانوا لا يُرزقون بأطفال، مجهول النسب... تبدأ الخيوط تتفكك ونعلم بأصل الحكاية، لنتأكد من أن بعض العادات البدوية المتجذّرة، قد ساهمت بيتمه وماحلّ به، في صورة روائية لم أقرأ مثلها سابقاً في كتاب ما... مزيج من الرعب والحزن والإثارة، حادثة تشبه إحدى شخصيات دوستويفسكي! ولكن لما التعجّب! البشر يتشابهون من روسيا إلى ريف العراق. يفكر عبدالله، بعد رجوعه من الأسر؛ تُرى أين ستذهب أوجاع التعذيب بعد انتهائها؟ لماذا لا يشعر القاتل بأوجاع قتلاه؟ ما معنى كل هذا الألم؟ تتعد مصائر الأصدقاء بعد كل هذا الزمن، فينتقل إبراهيم إلى بغداد، بحثاً عن عمل، وبرسالة توصية، يجده بين القصور وحدائق الجنة والبحيرات الاصطناعية في حدائق قصور الرئيس ومملكة الخوف! وأحداث تشيب منها رؤوس الوِلدان... 

وهنا، أدعوكم إلى أن تقرؤوا الرواية، وتستمتعوا بأسلوب الكاتب، وموسيقى الكلمات التي رافقت الأحداث المؤلمة، وخففت من هولها، لأن جذب القارئ ليس سَهلاً، وخصوصاً في موضوع الحرب الحساس هذا... لا تتصورا انكم عرفتم الكتاب الآن، إذ هناك الكثير بين صفحاته التي ستتابعها عيونكم بنهم... أزيد أنا؛ إن من السهل إطلاق صيحات الحروب وزج شعب في محرقتها، ولكن ماذا يحدث بالشعب نفسه والجيش؟ هل فكروا بهول انفجار قنبلة في ساحة حرب، بأُم وأب فقدوا أبنائهم! زوجة بحاجة لزوجها الغائب! يجب أن تُنسب البلاد لشعوبها في كُتب التاريخ، وتقول إن شعبها فعل هذا وهذا، وليس قائدها...  

سيجد العراقي الكثير من ذكرياته عند قراءة هذه الرواية، وسيجد غير العراقي متعة في اكتشاف عالم ما بعد الحرب، وماذا يحدث للعوائل؟ نعم روح الآدمي غالية ولا يستطيع أخذها أحد، إلا خالقها. ليكون التاريخ العراقي المعاصر درساً في الإنسانية، عن الأنا المنتفخة إلى حد الفجور، عن التمادي في الاذلال لأطماع وشهوات السلطة.

نهاية عجيبة تنتهي (حدائق الرئيس)، وللرواية جزء ثاني بعنوان (بنت دجلة)، روايتان مغرقتان بعراقيتهما، مُترجَمتان إلى الإنكليزية والإسبانية، ومؤلفهما يعيش في مدريد منذ سنين طويلة ويُدرس في الجامعة، مما أتاح له هامشاً من الحرية، وهكذا نحس انه بمهارته لامس أحاسيسنا بقوة، بالرغم من شفافية النص وعدم الوقوع في فخ استدرار مشاعرنا بكلمات كثيرة، بل انه الموقف الذي يُظهرها إلى السطح.

إنه محسن الرملي، النجم الروائي الجديد.. على الأقل بالنسبة لي... تحياتي لكم، وإلى كتاب آخر ولقاء آخر.

ليست هناك تعليقات: