السبت، 21 سبتمبر 2019

عن رواية : الفتيت المبعثر/ حمدي العطار

التاريخ لا يسير في اتجاه واحد
في رواية (الفتيت المبعثر) للكاتب محسن الرملي 
زاوية الرؤية قدمت تحفة فنية أتقف فيها رسم الشخصيات 
وخلق علاقات بين الزمان والمكان والحدث
حمدي العطار
يرفض الرملي الاعتقاد السائد ان التاريخ يسير بإتجاه واحد، أو ان التاريخ يكتبه الأقوياء، فهو يقدم شخصيات لا تقبل الخضوع للنظام السائد مهما كانت التضحيات، والمفارقة عنده أن من يخضع مضطرا لنظام شامل وحتمي أيضا يقدم نفس الضريبة (الموت)، كما هو مصير من يرفض الانصياع ويتعاطى التمرد والرفض.
*تشظي السرد
في رواية (الفتيت المبعثر) وهي الرواية الحائزة على جائزة اركنسا الأمريكية، تشبه في الشكل روايات الجيب، وعلى الرغم من الحجم الصغير فإن القيمة الفنية لهذه الرواية مهمة جدا، والسرد فيها متشعب ولا يوجد فيها بطل واحد، لذلك يتصف المعمار السردي بالتشظي، وهناك تهشيم في وحدة الحكاية، حتى تبدو مجموعة من الحكايات لكن لا تخلو من رابط قوي بين الشخصيات والاحداث "الحكايات الحزينة مملة في العراق لكثرتها، فلكل إنسان هناك مصيبته التي كف عن حكيها لأن للسامع مصيبته أيضا" ص11
السردية عند محسن الرملي عابرة للحدث وتندمج فيها لغة التسجيل والتوثيق داخل البناء الفني للكتابة السردية "الأبواب في القرية مفتوحة والكلاب لا تنبح إلا على الغرباء. للأشياء هناك أسماء خاصة، الحيوانات والتلال والأواني والأحجار والغيوم. للناس أسماء كثيرة، منها ما يطلق بعد حادثة ويشتهر، أو يقال مزحة ويستمر.... ومن الناس من ينسى الناس اسمه حين يدمنون على مناداته بأبن فلان أو فلانة أو زوج فلانة العجانة" ص14
*الحبكة السردية
خطوط السرد عند السارد تبدو متشابكة وخضعت جميع الشخصيات لسلطة السارد (العارف) لكل شيء رغم تعدد مستويات السرد، وهناك تلاعب بالزمن يخلق المتعة لدى المتلقي، فحكاية عجيل مع أبرة القنفذ في بلعومه، وقصص ولده (قاسم) وأحفاده "إبراهيم، وإدريس وشيماء" وزوجته سليطة اللسان"حسيبة" أبنة عمه وحكاية (بياض ذراعها) ولا تخلو السردية من الاثارة الجنسية "في تلك اللحظة اندفعت حسيبة من مرحاضهم راكضة نحو باب الدار فطار شعرها في الهواء، ترجرج صدرها، التمعت ذراعها البيضاء وأوصدت الباب خلفها بعنف.. أيعقل أن يكون لون اللحم أبيض إلى هذا الحد؟! بضا إلى هذا الحد؟!.. أيكون الذي يجري تحت جلدها حليبا أو لبنا أو سما وليس دما؟"ص 22
*الغرائبية في الشخصيات
يركز الروائي على خلق شخصيات تملك روح الدعابة، شخصيات غرائبية عجيل ولازمته (نشنن)  "National  "فهو يصف كل شيء يستحسنه بهذه الكلمة، ولا يعجبه سلوك (قاسم وسعدي) "ليسا نشنن لأنهما هربا من الجيش عند اشتداد الحرب"!! لأن قاسم فنان وخياله واسع فقد (نسي نفسه يوما كاملا إثر رؤيته لذراع حسيبة) وله موقف من الحروب لذلك هرب من الجيش حتى تعرض الى الاعدام "أنه يرفض الحروب جملة وتفصيلا، إنها لا تنسجم وميوله الفنية، أنه لا يريد أن يقتل أو يقتل، وما يحدث مهزلة لا يستسيغها"ص31
*أساليب جديدة في السرد
السرد لدى الرملي لا يتفصل فيه الشكل عن المضمون فهو يجمع بين الاثنين في أسلوب نستطيع أن نطلق عليه "المعمار الفني للرواية" وهو دائما يستخدم الجديد في عملية السرد ليشد المتلقي معه من دون الاحساس بالملل" وإذا كان لكل فرد في العائلة، بل وفي القرية، كلمة ترتبط به بشكل ما: مثل نشئن، التي ارتبطت بوالده، و(أبو زاوية) بسعدي، و(لا شيء) بمحمود، و(مجنون) بعبود، و(تجنن) بوردة، و(فنان) بقاسم، و(دراسة) بأحمد، فإن كلمة (عيب) هي أكثر الكلمات استخداما في قاموس عبد الواحد"ص44
كما انه استخدم تصريف الافعال من اجل جعل المتلقي يركز على المواقف وااشخصيات فتكون عبارته كما يلي "أما محمود، فهذا الولد يحيره\ يحيرنا\ يحيركم.. لأنه غالبا ما ينساه\ ننساه\ تنسونه\ وينسى نفسه، ولعل أبلغ ما يقال فيه ما قاله والده: إنه لا شيء.. هذا الولد لا شيء على الاطلاق... إنه آدمي بلا ظل، ولكنه رقم في تعداد السكان" وكان يمكن ان يضع السارد كلمة واحدة تدل على (الجميع) حينما يستخدم الضمير لكنه متقصد ان يتلاعب باللغة فهو لا يقول (إنه بلا أهمية لأحد) ويكتفي بل يضيف، إنه بالنسبة لهم\ لنا\ لكم\ لنفسه\ للجميع كأي سمكة صغيرة لا نعرفها في ظلمات قاع المحيط الهادي"ص47
*الفن ليس للقائد
هنا تتوقف الرواية عند مفصل مهم وخطير يمثل موقف المثقف أو الفنان من السلطة، وبشخصية (قاسم) الرسام يدين الروائي كل من باع موهبته وانتاجه للسلطة في ظل النظام  السابق أو كان مضطرا بسبب الخوف، قاسم الذي يستطيع ان يرسم اشياء كثيرة يرفض رسم صورة صدام حسين "كائنان.. فقط. من فكر في رسمهما، حاول ولم يستطيع، أثنان لا غيرهما: شقيقه محمود و"القائد"... محمود لأنه لم يجد فيه ما يرسم، أما القائد فلأنه لا يعرف.. بل لا يطيق أن يرسم شيئا يشعر بالعداء تجاهه، فكيف إذا كانت مشاعره تتفجر كراهية له؟ لذلك رفض طلب أبيه أن يرسم صورة كبيرة للقائد؟ - ها.. متى ستكملها؟ لأنني أريد تعليقها هنا في واجهة غرفة الضيوف.أبتلع قاسم ريقه وتمتم:-أبي..لا..أستطيع\ صعدت الدهشة إلى وجه الأب:- ماذا..؟ طأطأ قاسم رأسه وأعاد تمتمته:- أبي لا استطيع... لقد حاولت ذلك أكثر من مرة وفشلت... ابنك يا أم .. قاسم.. يكره الوطن! فهبط قاسم إلى كف أبيه يقبلها – لا يا أبي.. لا تظلمني، أقسم لك.. أنني أحب بلدي مثل حبك ومثل حب جدي.. لكنني أكره هذا الرجل.وحينما أراد ان يرسم لأبيه شيئا يعبر عن حبه للوطن رسم لوحة (خارطة الوطن بالأحمر، أحطتها بدائرة قلب أخضر، ثم رسمت النهرين بالأبيض... الأب قال له :لكنك قلبت الألوان.. كان المفروض أن تجعل لون الوطن أخضر، ولون القلب أحمر، كما هما في الحقيقة والواقع"ص69... وبعد حين عندما يلقي القبض على قاسم ويعدم أمام أهالي القرية. يحزن عليه الأب كثيرا، وبعد أن يدفع ثمن الرصاصات التي أُعدم فيها ابنه قاسم، أصبح يفهم ألوان اللوحة "وطن أحمر وقلب أخضر".
*الخاتمة
زاوية الرؤية عند الرملي قدمت تحفة فنية، أتقن فيها رسم الشخصيات وخلق علاقات بين الزمان والمكان والحدث (الحرب) بحيث يمكن للمتلقي أن يستحضر تلك الأحداث التي تمر بالعراق، إذا كان قد عاش تلك المرحلة، ومن لم يكن موجودا، فهو يستطيع أن يتخيلها تجسدها الصور المؤثرة والأسلوب الراقي للوصف بما يملك من جواهر الكلمات المعبرة عن كل الانفعالات الإنسانية.
"هنا في الاصقاع القريبة من غرناطة، نتقاسم مع الفلسطينيين النحيب.. نبكي كالنساء على أوطان لم نعرف المحافظة عليها كالرجال...لا نجيد غير تسويد الصفحات بصرخات حزينة، فيراودني الشك بأن مصانع تكرير الورق ستكفي لفيض آبار الحكايات في وطني"
"لكنها الأرض \ بستان الخزف الأمثل \ الفتيت المبعثر" ص109 من قصيدة للشاعر ماهر الأصفر.
------------------------- 
*نشرت في صحيفة (البينة الجديدة)، العدد 3270 بتاريخ 26/9/2019 بغداد

*حمدي العطار: كاتب وإعلامي وناقد عراقي، آخر إصداراته: قراءات نقدية في الخطاب الروائي

ليست هناك تعليقات: