الثلاثاء، 16 أبريل 2019

عن رواية: أبناء وأحذية /علاء الدين شهاب


أبناء وأحذية
رواية مليئة بالصور المعبرة والمواضيع العميقة

مراجعة: علاء الدين شهاب
يقول الشاعر محمد إبراهيم الحريري: شفتاكِ نيسانُ وثغري آبُ = ضدان بينهما استوى العناب.
                                 عينان فينيقيتان ومرفأي = بهما هوىً سكرت بها الانخاب
                                    من أين أدخل فيهما ومراكبي = أرقٌ، ومجدافي القديمُ كتاب؟
                                 مازالتُ أنتظر السؤال تعيده = أنثى لعلي للسؤال جواب.
كأن الشاعر يختصر الحكاية بابيات قليلة طافحة بالصور والمعاني. من كل بيت يتدلى ميزان دقيق فيضع الشاعر على كفتيه أوجاع الحياة ومسراتها. آلآم الماضي في كفة وآمال المستقبل في كفة أخرى، فلمن ترجح كفة الميزان؟ وحده الإنسان كفيل برمي أثقال همومه أو أثقال تطلعاته وآماله على الكفة التي يريد فتطيش الحكاية وتتبعثر الصفحات وتتشابك الحروف لتنسج لنا رواية بلون الحزن تارة وبلون السعادة تارة أخرى.. والروائي (محسن الرملي) بعبقريته وذكائه الألمعي يفصل ما اختصره الشاعر ويفتح شبابيك الخيال على مصراعيه لتنفذ تيارات الإبداع في كل أركان الحكاية. ببساطة.. هو يدوزن الحياة بخياله الجامح والمتسرب إلى زوايا الحياة وخفايا النفس الإنسانية والعواطف البشرية الجياشة. هو الراوي الذي يسرد، مااختصره الشاعر، بعشرات ومئات صفحات التصوير الجميل والإبداع الأخاذ.. انه صراع العبقريات وتجلي الإبداع مرسوم على صفحات الرواية .
نبذة مختصرة :
أمير هو البطل المطلق في هذه الرواية ولا نستطيع ان نسمي البطلة على وجه التحديد هل هي زهراء زوجة أمير؟ زهراء التي خذلته وخذلها بعد قصة حب عاصف اطاحت رياحه بأعراف الزواج وتقاليده في مجتمعنا العراقي فحدث الزواج بدون موافقة الأهل ومباركتهم وهي ظاهرة بدت متكررة في تلك الحقبة من الزمن!! ام انضباط اخت البطل والذي يبدو ان كل خيوط الحكاية معلقة باطرافها فتحركها من بعيد بعاطفتها الجياشة ومشاعرها النبيلة ، ويبدو ان كل سنوات الغربة التي عاشها (أمير) لم تنسه عطفها وحنانها حتى في ديار الغربة التي عاشها البطل في اسبانيا وكولومبيا! ام ان البطلة هي أميرة الزهراء ابنة أمير والتي عاشت يوما واحداً فقط في الخدج ولكنها تركت في ذاكرة (أمير) حُفَراً عميقة وثقوباً سوداء لم تطمرها كل اتربة الايام و رمال السنين واعوامها المتصحرة! 
وهنا يبرز سؤال: هل ان عمر الانسان الحقيقي يقاس بأيامه وأعوامه وعقوده؟ أم يقاس بما ترك من أثر على الناس والحياة؟ وهل ترجح كفة ذلك اليوم المثقل بالذاكرة والألم على عشرات السنين المنصرمة بلا هدف ولا ألم ولا حلم؟؟ سنين وعقود مركونة على كفة الميزان ولكنها تطيش أمام ثقل ذلك اليوم في ميزان الذاكرة والحياة!! السؤال موجه للقارئ الكريم .
تتصاعد أحداث الرواية بعد وفاة الطفلة أميرة الزهراء ويحدث ان يهاجر أمير الى اسبانيا ثم الى كولومبيا بمساعدة ابن خاله منهل الرجل المشبوه واللعوب وهناك يعيش مغامراته النسائية الايروتكية الفاضحة والمتعددة والتي نتج عنها ثروة من الأطفال غير الشرعيين ماعدا ابنه الشرعي الوحيد جيفارا من زوجته الكولومبية ايراسيما الوسيمة ذات العينين الجميلتين (الأمازونيتين) ولا نستطيع أن نفصل أكثر كي لا نحرق أحداث الرواية .
الرواية لاتتجاوز المئتي صفحة ولكنها مليئة بالصور المعبرة والمواضيع العميقة والتي وقفت أمام بعضها متأملا ..


أوقاتنا ولحظاتنا :
يتحدث الكاتب عن أمير وزهراء وكيف كانوا يعيشون لحظاتهم بامتلاء. وهنا يبرز تساؤل: هل اننا نعيش اللحظة بامتلاء تام وبصدق مجرد ؟ ام أن اللحظات والساعات والأيام متشابهة كانها توائم زمانية معلقة على شريط الأبد لانكاد نميز اختلافاتها وفروقاتها لشدة الشبه فيما بينها. اذا قسمنا اللحظة التي نعيشها فكم جزءاً منها سيكون صادقاً وكم من هذه اللحظة سيكون وهماً وكذباً؟ هل لحظاتنا الصادقة والممتلئة هي كالارقام الفردية لاتقبل القسمة الا على نفسها او الواحد ام انها ازدواجية كالارقام الزوجية التي تكاد تقبل القسمة على كل شيء من ظنون واوهام وخوف وقلق ونفاق وغدر وتلون؟!! متى تشكل لحظاتنا الممتلئة رقما صادقاً لا وهماً ولا شبحاً رقمياً في عالم الرقميات والفرضيات الواهمة؟!! صورة وقفت امامها طويلا !!
الأحلام :
المسرح بالنسبة لأمير هو بيت احلامه وهنا تظهر ثيمة جديدة وهي ان تعيش في المكان الذي يوفر لك مساحة كافية لتحلم ولتحقق ذلك الحلم. فالمكان الذي يخنق احلامك ويقتلها عليك ان تغادره فوراً فالاحلام كالحياة تماماً فتارة تكون بلون رمادي قاتم وتارة تكون زاهية بكل الالوان بل هي التي تنجب الالوان من رحمها الدافئ الخصب. الاحلام السامية الصادقة الخالية من الغدرات والظلال القاتمة المخيفة . احلام صافية بلا ظل ولا شبح مخيف ترفرف عاليا فمن اراد الوصول اليها يلزمه اجنحة الصقور والشواهين لا أجنحة الفراشات الملونة التي تتكسر ما ان تلامسها الايدي العابثة. باختصار أجنحة الفراشات وجدت لتمدنا بالالوان الساحرة فقط وليس بالطيران الشاهق فوق مسرح الغمام .
الطفولة ... إلى أين :
يتحدث أمير عن طفولته فيقول "لم تكن طفولتي ملكي وانما ملك ابي".. ما أقسى العبارة وما أجملها في ذات الوقت! ويقول أيضا "ان سبب كل هذا الإرباك في تكوين نفسي هو أبي فما كنت أفعل شيئاً حتى وان كان مجرد تركيب لعبة أطفال تافهة إلا وتدخل قائلا لي بأن هذا الأمر ليس هكذا وإنما هو هكذا، يفكك ماركبته أنا ثم يركبها هو، ولايدعني أقوم بذلك بنفسي، مما جعل الثقة بنفسي مهزوزة حيال كل ما أفعله، ولطالما جعلني أشك بجدوى وجود الأب في حياة الأبناء".
طفولتنا هل هي ملكنا الحقيقي بملائكيتها الرائعة وهشاشتها المفعمة بالالوان تماماً كالوان الفراشات الزاهية الرقيقة؟؟ وهل هي انسيابية كمياه الانهار وركض السواقي ونبع العيون الصافية؟؟ ام هي الوان قاتمة وانعكاسات لظلال اهلينا وسواد الايام والنفوس المظلمة التي نفثت سمومها وحقنتها باوردة الطفولة الرقيقة؟!! سموم المدرسين والاهل والقائمين على التوجيه والتربية؟!! محاولة الاباء لزج ابناؤهم في مدارس وكليات بعيدة كل البعد عن طموحاتهم كما حدث للبطل أمير وزوجته زهراء ومواقف ذويهم منهم ومانتج عن ذلك من تمرد موجود في ثنايا السطور والصفحات ...
تعجبني مقولة الاستاذ عمار الثويني حيث يقول "بناء الرواية حول ثيمة بسيطة منذ الصفحات الأُول حتى النهاية يصيب القارئ بالملل لا التشويق ويتخم النص بتفاصيل حشوية " وهذا ما ابتعد عنه الدكتور الرملي في روايته، فهو ينثر الثيمات والمواضيع ويرصها رصاً جميلاً بين ثنايا الصفحات ويقحمها بذكاء شديد بين سطور الرواية فيعدد الثيمات بل ويمازجها ويزاوجها تماما كبطل روايته أمير ذي الزيجات المتعددة !!
الجندية والعسكرية :
فمثلاً يتعرض الكاتب الى الحياة العسكرية آنذاك والى انتقاد الدخل المحدود للجندي في تلك الحقبة بالرغم من ان عبء الجيش والدولة يقع على كاهله!! والى معاناة الجنود وانعكاسات ذلك على حياتهم وأسرهم كما حدث لأمير وماجرت عليه تلك الظروف من ويلات ومصاعب
الصداقة والأخلاق
ثيمة الصداقة والاخلاق تظهر جلية وواضحة من خلال علاقة أمير بصديقه هاني الرجل القبطي الذي التقاه في كولومبيا. استطاع أمير ان ينزع الحزن الثقيل والعميق من قلب صديقه ويزرع الضحكة على قسمات وجهه وكانت صداقتهما صافية خالية من الشوائب والاكدار. اما ثيمة الاخلاق ومفهومها وفلسفتها فهي بالنسبة لهاني قائمة على امرين اولهما هو عدم الظلم باي شكل من الاشكال وثانيهما هو ان يؤدي كل شخص واجباته بكل نزاهة وعلى افضل وجه يستطيعه.
يقفز بك الرملي الى مواضيع اخرى متعددة كالحب، الجنس، الحزن، الابوة، وروعة الطبيعة، السعادة، الدين وفلسفته في الحياة، وفلسفة القدر واجابته لشوارد الاسئلة وتقاطعات المصالح واختناق العبرات وانسكاب الدموع وارتجاف الافئدة التي في الصدور، بل واجابته على كثير من المواضيع العالقة في الحياة، كل ذلك وغيرها من المواضيع التي كتبت بتفرد كبير وبتمكن من أدوات الكتابة وفنون الإبداع وسرد الأحداث.
يبقى السؤال: لماذا جاء هذا الاسم الغريب عنواناً للرواية؟! لا يرغب قلمي بالاجابة، وانما يتركه للقارئ كي يبحث عنه في شوارع بغداد وأزقة برشلونة وغابات كولومبيا الساحرة ...

ليست هناك تعليقات: